مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

ولاية الفقيه: رؤية فقهية
 رباب زغيب[*]


أكّد الإسلام على أهمية الحكم ووجود السلطة في الأمة، فالإسلام دين سياسة، واجتماع... وهذا الأمر هو مقتضى شمولية وعالمية الإسلام، وكما في الحديث الشريف: "الدين والسلطان توأمان فهما معاً لا يصلح أحدهما مع عدم الآخر"[1].
وهذا الربط بين الدين والسلطة ينتج عن أهمية من سيمسك بزمام الأمور، ومن هو المؤهل لهذه المسؤولية العظمى؟
وتأتي نظرية ولاية الفقيه حلاً لهذا التساؤل، ولكن هل ولاية الفقيه نظرية مستجدة على الساحة الإسلامية أم أن لها جذوراً تاريخية؟ وما مدى أهمية وجود الولي الفقيه؟ وهل ولاية الفقيه حاجة اجتماعية تقتضيها طبيعة المجتمع وكيانه؟ وهل العقل حاكم بوجوبها أم لا؟ وهل توجد أدلة عقلية على وجوبها؟
وإذا كان الشرع يؤكدها، ما هي الأدلة الشرعية التي تثبت ولاية الفقيه؟ إلى غيرها من الأسئلة التي نرجو أن نتناولها في هذه المقالة عبر تمهيد تاريخي مختصر حول النظرية، ثم طرح الأدلة العقلية التي تثبت أهمية ولاية الفقيه ولزومها في عصر الغيبة، ثم ذكر أدلتها الشرعية من الكتاب والسنة المطهرة.
ولاية الفقيه بين التجديد والأصالة:
إن المتتبع لسيرة أعلام فقهاء الإمامية، يجد جذوراً وامتدادات لنظرية ولاية الفقيه، متجلية من سيرتهم الطاهرة، ومن أشدِّ من برزت في سيرتهم الشريفة من العلماء ملامح هذه النظرية ومعالمها، هو الشهيد الأول (محمد بن مكي الجزيني) فكان (رضوان الله عليه) مجسداً لولاية الفقيه في كل خصائصها البارزة في هذا العصر، فكان المحرك للوجود الشيعي والمزوِّد الفكري والسياسي والاقتصادي له. بعد الخمود الذي أصاب هذه الحركة، تحت وطأة الظلم والاضطهاد، وغياب الحضور العلني للأئمة (عليهم السلام).
فولاية الفقيه ليست نظرية جديدة واختراع حديث على الساحة الإسلامية، بل لها جذور تاريخية منذ تغيّب الإمام (عجل الله فرجه الشريف). ونجد ملامحها بارزة في سيرة الشهيد الأول، ولكن لم تكن واضحة المعالم كنظرية متكاملة؛ ليطلق عليها مصطلح خاص "كنظرية ولاية الفقيه" كما في عصرنا الحاضر، بل نجدها متجسدة في الفتاوى والأحكام التي تشكل بمجموعها الآن نظرية ولاية الفقيه[2].
بعض الأدلة العقلية على ولاية الفقيه:
أولاً: عندما خلق الله تعالى الإنسان، أمّن له جميع حاجاته، ومن أهمها، حاجته إلى وسيلة الهداية الربانية التي تقرِّبه من الله تعالى، وهذا مقتضى لطفه سبحانه، فيلزم بمقتضى اللطف أن يؤمن له طريق الهداية، وبعث الأنبياء (عليهم السلام) لتحقيق هذا الهدف، فوجود النبي لطف، وكذلك إتمامه بوجود الإمام (عليه السلام) لطف أيضاً، والناس فأثناء الغيبة محتاجة إلى الهداية، فلا بد من وجود شخص يقوم مقام الإمام وينوب عنه، ولا يليق بهذا المنصب سوى أعلم الناس بأحكام الله، وما أتى به النبي والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) من بعده، وهذا لا نجده إلاَّ عند الفقيه الجامع للشرائط، يقول آية الله جوادي آملي: "إنَّ الله الحكيم على نحو الحتم والضرورة لا يترك الناس خلال عصر الغيبة المتمادي، الذي لا نعلم نهايته بدون أولياء يديرون القوانين والأحكام التي شرعها لهم وكلفهم بها"[3].
وفي الحديث عن عبد الله العامري عن أبي عبد الله (عليهم السلام) قال: "ما زالت الأرض إلاّ ولله فيها الحجة يعرّف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله"[4].
وهذا الأمر لا يتحقق اليوم إلاَّ بوجود الولي الفقيه، فالإمام (عجل الله فرجه الشريف) في غيبة، والذي يمكنه تنظيم حياة الناس وأمورهم هو الفقيه الذي ينوب عنه(عجل الله فرجه الشريف).
ثانياً: من المعلوم: أنّه لا بد من وجود سلطة تحكم البلاد والعباد، حيث أن الناس لا تصلح أمورهم إلا بوجود حاكم وقائد يضبط أمورهم، ويؤدي الحقوق فيما بينهم، ويمنع الظلم والفساد، وهذا أمرٌ متسالم عليه، إذ إنَّه حاجة اجتماعية، لا يتقوم المجتمع إلا بها، ولا تقوم له قائمة بدونها، وتمامية الشريعة المقدسة لا تغني عن وجود القيادة التي تقوم برعاية القوانين وتنفيذها، عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: "فرض الله الإمامة نظاماً للأمة والطاعة تعظيماً للإمامة".
ويقول آية الله آملي: "إن وصول التشريع إلى كماله، لا يغني عن ضرورة وجود شخص عارف بالأحكام والقوانين، كي يطبقها بأمانة ويجريها بدقة، وهذا هو الذي يثبت ضرورة ولاية الفقيه الجامع لشرائط العلم والعدالة والتدبير..."[5].
وحيث إن التطبيق الدقيق والأمانة في تنفيذ الأحكام، لا تتسنى إلا لمن يكون عالماً وعارفاً بهذه الأحكام، متبصراً بها متقناً لها، وإلا فلن يستطيع أن يطبقها بطريقة منسجمة مع الشرع كما يريدها الله تعالى.
وعليه فالدليل على ضرورة ولاية الفقيه هو الدليل نفسه على ضرورة النبوة والإمامة، عدا أن النبي(صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) تكون الحاجة إليهما من جهتين:
1ـ تشريع الأحكام وتبيينها.
2ـ تنفيذها وتطبيقها على الواقع.
أما الفقيه فمهمته الحكم؛ أي تطبيق الأحكام ورعايتها، وهذه هي الجهة الثانية لضرورة وجود الإمام.
يقول آية الله آملي: "ضرورة ولاية الفقيه تثبت بنفس البرهان الذي يثبت ضرورة النبوة والإمامة مع اختلافٍ هو: أنَّ ذلك البرهان يثبت ضرورة النبوة والولاية من جهتين أما ثبوت ضرورة ولاية الفقيه في عصر الغيبة فإنَّه يكون من جهة واحدة"[6].
أي من جهة تطبيق الأحكام وتنفيذها، وليس تشريعها، أما التبيين فهو مقدمة للتنفيذ والتطبيق.
ثالثاً: إن الحكومة التي يفترض أن تمارس سلطتها على الأرض، لا بد أن تكون إلهية تحكم بما يريده الله، فعلى عاتقها تنفيذ الأحكام وبسط العدالة، وهذا ما جعلت الحكومة من أجله في الإسلام، وحتى تتمكن الحكومة من ذلك لا بد أن يتوفر فيها أمران أساسيان:
1ـ العدالة.
2ـ العلم.
فهما الركيزة الأساسية لشخص الحاكم فإذا توفر كلا الشرطين كانت الحكومة إلهية، وإلا فلن تكون كذلك.
يقول الإمام الخميني (قدس سره) في هذا الصدد: "لا بد للوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونية ولا يعقل تحققها إلا بهما: إحداها: العلم بالقانون، وثانيتهما: العدالة..."[7] حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): "لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة"[8].
رابعاً: من الثابت أنَّ الله اللطيف لا بد أن ينصِّب حاكماً ومتولياً لأمور المسلمين، يرعاهم ويحكم بينهم، والمفروض عدم الدليل على ولاية أحد بعينه أو جماعة، فيدخل الفقيه ضمن من يجوز أن يكون حاكماً ومتولياً، وبما أنَّه يتميز عن غيره بما له من خصائص وأوصاف تؤهله للقيادة، وهو الأفضل والأعلم بعد الأنبياء (عليهم السلام)، مما يدل على كونه منصّباً من قبلهم، فهو أفضل الخلق بعدهم، فإذا ثبتت له الولاية دون غيره، يبقى أن الآخرين مشكوك في ولايتهم، والأصل في المسألة عدم ولاية أحد على أحد فتثبت ولاية الفقيه وتسقط ولاية غيره لعدم الدليل.
يقول العلامة النراقي (قدس سره): "المفروض عدم الدليل على نصب معين... أما الفقيه فقد ورد بحقه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة وهي كافية في دلالتها على كونه منصوباً منه (أي الشارع)... وأن كل من يمكن أن يكون ولياً ويحتمل ثبوت الولاية له يدخل فيه الفقيه قطعاً من المسلمين أو العدول أو الثقات لا عكس"[9]. وهذا يعد دليلاً عقلياً غير مستقل لأن بعض مقدماته شرعية وليست عقلية.
خامساً: إن البحث في تاريخ المجتمعات السالفة والحالية، يكشف عن حاجة دائمة ومستمرة لوجود سلطة تمثل المجتمع بعقيدته ومبناه الثقافي والفلسفي، حتى المجتمعات الشيوعية والعلمانية، فالسلطة فيها تمثل هذه العقائد، وإنما تنال السلطة رضا المجتمع إذا كانت تمثله فعلاً، وحتى يتحقق هذا التمثيل والتطبيق، لا بد أن تكون السلطة أعلم الناس وأفقههم بهذه العقيدة.
وكذلك الحال في المجتمعات المسلمة، فالسلطة فيها إن لم تمثل الإسلام والعقيدة الإسلامية فلن تنال رضا هذه التجمعات، وهذا جوهر الرسالة الإسلامية (التطبيق العملي)، فعن الرسول (صلى الله عليه وآله): "السلطان والإسلام توأمان لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فالإسلام أسّ والسلطان حارس وما لا حارس له ضائع"[10].
يقول المحامي أحمد يعقوب: "هنالك إجماع بين أصحاب المذاهب السياسية بحتمية وحاجة التجمعات والجماعات إلى سلطة تدبر شؤون الجماعة ولا بد لهذه السلطة من أساس تعتمد وتستند عليه، وأساس السلطة هو العقيدة والفلسفة والفكر التي تستمد السلطة مشروعيتها منه.."[11].
وكذلك الأمر في الإسلام، فالسلطة في مجتمعاته لا بد أن تمثل هذه العقيدة ولتكون السلطة هي المثلى والقدوة والأصلح للمجتمع لا بد أن تتوفر على شرطين:
1- "أن تكون هذه القيادة هي الأعلم والأفقه بالعقيدة التي تؤمن بها الجماعة، بل الأكثر إيماناً بها وإخلاصاً لها.
3- أن تقبل الجماعة بهذه القيادة، وترضى بها وتعترف لها بأنَّها الأكثر علماً وفقهاً، وإيماناً بالعقيدة وإخلاصاً لها، أي تقر لها الجماعة بأنها المرجع العقائدي"[12].
ومما يؤكد ما أسلفنا ذكره، ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ضمن احتجاجاتهم على الآخرين في لزوم الإمامة وضرورة جعل أولي الأمر، فعن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام): "فإن قال: فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل لعلل كثيرة... فجعل عليهم قيماً يمنعهم من الفساد ويقيم الحدود والأحكام ومنها: إننا لا نجد فرقة من الفرق أو ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بِقيِّمٍ ورئيس لما لا بد منه في أمر الدين والدنيا..."[13].
بعض الأدلة الشرعية على ولاية الفقيه:
من الجدير بالذكر أنَّ ولاية الفقيه قد ثبتت عقلاً، ومن المرتكز عند العلماء، أن ما يقوم الدليل العقلي عليه، ليس بحاجة إلى إثبات من الشرع. حيث يكون العقل وحده كافياً للاستدلال عليه، أما الدليل الشرعي فيكون مرشداً ومؤيداً لحكم العقل، وعليه:
"إن ولاية الفقيه ثابتة عقلاً، وعليه فالأدلة الشرعية المتكفلة لإثباتها مؤكدة لحكم العقل وليست متناولة جعلاً جديداً"[14].
أولاً: الآيات التي يمكن الاستفادة منها في مقام الاستدلال على ولاية الفقيه:
الآية الأولى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر ذلك خير لكم وأحسن تأويلاً بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً}[15].
يقول السيوطي: "طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنة {وأولي الأمر منكم}.
قال: أولي الفقه والعلم... وفي سند آخر: وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فأوجب الله طاعتهم على العباد"[16].
ويقول صاحب (تفسير الأمثل) مفسراً هذه الآية:
"ذهب كل مفسري الشيعة بالاتفاق إلى أنَّ المراد من (أولي الأمر) هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، الذين أنيطت إليهم قيادة الأمة الإسلامية المادية والمعنوية... ولا تشمل غيرهم، اللهم إلا الذي يتقلد منصباً من قبلهم.. فإنَّه تجب طاعته أيضاً إذا توفرت فيه شروط معينة، ولا تجب طاعته لكونه من أولي الأمر، بل لكونه منصوباً منهم"[17].
فالفقيه لكونه منصوباً منهم (عليهم السلام) تجب طاعته مما يجعل له ولاية وحق طاعة.
وقد ذكر الشيخ منتظري عدة احتمالات لأولي الأمر فقال:
"والمحتملات في أولي الأمر ثلاثة:
1ـ أن يراد جميع الأفراد مطلقاً.
2ـ أن يراد بهم خصوص الأئمة(عليهم السلام).
3ـ أن يراد بهم مناسبة الحكم والموضوع؛ لكل من له حق الأمر والحكم شرعاً، وحق الأمر والحكم لا ينحصر في الإمام المعصوم (عليه السلام) بل يثبت لكل من كانت له حكومة مشروعة بالنصب أو الانتخاب"[18].
هذا كله فضلاً عن أنّه طاعة الفقيه هي طاعة للإمام (عليه السلام) لكونه منصوباً منه ويقوم مقامه كما ثبتت لنا الروايات.
الآية الثانية: {وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}[19].
ورد في تفسير الأمثل: "أولي الأمر في هذه الآية هم المحيطون بالأمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقياً منها(...) وهؤلاء هم النبي (صلى الله عليه وآله) وخلفاؤه من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالدرجة الأولى، ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل"[20].
أرجعت هذه الآية الأمور الهامة والخطيرة إلى الدولة والحكم، معللة الرجوع إليهم كونهم الأعلم، والأقدر على الحكم على الأمور، واستنباط الأحكام. وقد تقدم أن أولي الأمر في المصطلح القرآني يشمل الفقيه؛ فالعلماء منصّبون من الأئمة، ينوبون عنهم، فهم ولاة الأمر في عصر الغيبة نيابة عن الإمام (عجل الله فرجه الشريف).
الآية الثالثة: {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}[21].
ـ إن التمكين في الأرض كناية عن الحكم والتسلط، فالذين إن تملكوا زمام الأمور، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة (تطبيق الأحكام بتفاصيلها الدقيقة)، وقاموا بعملية الهداية الربانية، وهذا بالتأكيد يستدعي من القائم به العلم بسنة الرسول(صلى الله عليه وآله) ومنهج أهل البيت (عليهم السلام) والتفقه، وإلاّ فكيف يطبقّها ويقيمها في الأرض وهو جاهل بها مما يدل على شرط العلم والفقه بالحاكم.
يقول السيد الطباطبائي (قدس سره): "إنَّ من صفتهم إن تمكّنوا في الأرض وأُعطوا الحرية في اختيار ما يستحبونه من نحو الحياة، عقدوا مجتمعاً صالحاً تقام فيه الصلاة وتؤتى فيه الزكاة ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر"[22].
الآية الرابعة: {أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون}[23].
قد وضَّح تفسير الأمثل عن الهداية في هذه الآية: "الإيصال إلى المقصد وهذا الأمر بيد الله(...) وأما غيره من الأنبياء والمرشدين فإنهم يطّلعون على طريق الهداية عن طريقه وهدايته ويصبحون علماء بتعليمه"[24].
فالذي يهدي إلى الحق هو الذي يقود الناس إلى الرضا الإلهي ويقود الأمة ليوصلها للهداية الربانية وبما أن رائد هذه المهمة هو الفقيه والعلماء فلا بد من اتباعهم والاقتداء بهم حيث هم من بيدهم صلاح ورشاد الأمة، وحق التبعية يدل على أهمية الطاعة ووجوبها لمن يهدي إلى الحق والفقهاء في عصر الغيبة هم ولاة الأمر والهداة ومن لهم حق هذه الطاعة.
الأدلة من السنة (الروايات):
ـ نورد بعض الروايات التي يمكن من خلالها أن نستدل على ولاية الفقيه ونؤكدها. وأقواها دلالةً هي:
1ـ مقبولة عمر بن حنظلة:
"عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعةً في دَيْن أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال من تحاكم إليهم في حقٍ أو باطل فإنَّما تحاكم إلى الطاغوت...
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً.."[25].
وقد اشتهرت هذه الرواية بالمقبولة؛ لتلقي العلماء لها بالقبول، والعمل فيها بعدة موارد: كالقضاء، والتعارض بين الأحاديث، والولاية العامة للفقيه. أما من ناحية الدلالة: فتدل على وجوب الرجوع إلى الفقهاء في القضاء وعدم جواز الرجوع إلى السلطة غير الشرعية، واصفة الرجوع إليهم والتحاكم عندهم بالتحاكم عند الطاغوت.
وذكر الدين والميراث من باب المثال وكذلك الرجوع إلى القضاة، بقرينة ذكره (عليه السلام) "للسلطان" مما يفهم منه مطلق الرجوع إلى السلطة، وليس خصوص التحكم والقضاء.
وهناك جعل واحد من الإمام (عليه السلام) في الرواية، وهو جعل الحاكمية للفقيه، وليس جعل القضاء فحسب، ويستفاد هذا من إطلاق لفظ حاكم، حيث يدل على الحكومة والولاية العامة للفقيه، أما التحاكم والقضاء فهما من شؤون الملكية والولاية.
2ـ مشهورة أبي خديجة:
عن أبي خديجة قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم:
"إياكم إن وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيءٍ من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحدٍ من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"[26].
"إنّ المقصود من الفساق هم القضاة المعينون من قبل سلاطين ذلك الوقت والحكام غير الشرعيين، ويقول (عليه السلام) في ذيل الحديث (وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر) أي لا ترجعوا في الأمور ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية. والجملة الأخيرة بالطبع ليست تكراراً للكلام السابق، أي النهي عن الرجوع إلى القضاة الفساق"[27].
3ـ صحيحة القدَّاح:
عن القداح عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "قال: رسول الله(صلى الله عليه وآله): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً... وإن العلماء ورثة الأنبياء"[28].
تدل الرواية على وراثة العلماء للأنبياء (عليهم السلام)، ولا يضر بدلالتها على عموم الوراثة قرينية ما تقدم فيها من مدح للعلم والعلماء في حصر الوراثة بالعلم فقط، وعليه نحملها على إطلاق الوراثة، وتأتي الولاية من ضمن ما يرثه العالم عن الأنبياء (عليهم السلام).
4 ـ ورد في كتاب (رسالة) موقع من مولى الزمان الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف):
"عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل قد أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان(عجل الله فرجه الشريف): أما سألت منه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا(..) وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم"[29].
يقول الشيخ الأعظم (مرتضى الأنصاري) (قدس سره): "إنَّ المراد بالحوادث ظاهراً مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس(...) وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه(...) والحاصل أن الظاهر أن لفظ الحوادث ليس مختصاً بما اشتبه حكمه ولا المنازعات"[30].
إذاً، فالرواية مفادها وجوب الرجوع إلى الفقهاء في الأمور، وقد علل الإمام(عجل الله فرجه الشريف) الرجوع إليهم في كونهم الحجة المنصّبة منه على الناس. وهذا يدل دلالةً واضحة على الولاية العامة للفقهاء.
5 ـ عن أحمد بن إسحاق: عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: "سألته وقلت: من أعامل؟ وعمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي، فما أدَّى إليك فعني يؤدي، وما قال لك، فعني يقول، فاسمع له، وأطع، فإنّه الثقة المأمون"[31].
إنَّ أمر الإمام (عليه السلام) بالطاعة للعمري، يدل على ولايته. فالطاعة ليست مأموراً بها في مورد الحديث، والنقل، فإنّه تحصيل حاصل، فالطاعة في هذا المورد للإمام وليست للعمري، وعليه فالرواية تدل على ولاية وحق إطاعة للعلماء حيث أنّ العمري مثال ومصداق.
ـ ما أوردناه قليلٌ من الروايات التي تفيض بها كتب الأحاديث، تدل على منزلة الفقهاء، وأهمية وجودهم ووجوب طاعتهم مثل:
"مجاري الأمور والأحكام بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه"[32].
"العلماء حكام على الناس"[33].
"المؤمنون الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها"[34].
"الفقهاء أمناء الرسل"[35].
"العلماء حكام على الملوك"[36] وغيرها...
وأخيراً وليس آخراً، إنّ ولاية الفقيه ثابتة عقلاً وشرعاً، ولها أهمية كبرى في المجتمع والأمة، وأهميتها تبرز في ضرورة وحدة الأمة ووضوح مواقفها.
________________________
[*] متخرجة من معهد الزهراء العالي للشريعة والدراسات الإسلامية.
[1] الهندي، علاء الدين المتقي: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، (د.ط)، مؤسسة الرسالة، بيروت، (1413هـ). ج6، ص10، ح14613.
[2] انظر، المهاجر، جعفر (شيخ): ستة فقهاء أبطال. ط1، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، مركز الدراسات والتوثيق والنشر، بيروت، (1415هـ-1994م)، ص88.
[3] آملي، جوادي (آية الله): ولاية الفقيه. ط1، دار المداد للطباعة والنشر، بيروت، (1413هـ 1993م)، ص101.
[4] الكليني، محمد بن يعقوب (قدس سره): الأصول من الكافي. ط1، دار الأضواء، بيروت، (1413هـ 1992)، مج1، ص178، كتاب الحجة، حديث 3.
[5] م. س، آملي، ص 102.
[6] م. س، آملي، ص 100.
[7] الخميني، روح الله (قدس سره): ولاية الفقيه. (ط1)، الدار الإسلامية، بيروت، (2000م)، ص15.
[8] الإمام علي بن أبي طالب: نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه. ط1، دار التعارف، بيروت، 1410هـ-1990م. خ131، ص134.
[9] النراقي، أحمد بن محمد بن مهدي (قدس سره): ولاية الفقيه. (د.ط)، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، (1410هـ 1990م)، ص 74.
[10] م.س، الهندي، ص10.
[11] يعقوب، أحمد حسين: مرتكزات الفكر السياسي. (ط1)، شركة شمس المشرق للخدمات الثقافية، بيروت، (1993م- 1413هـ)، ص196.
[12] م.ن، ص218.
[13] الصدوق، محمد بن علي بن الحسين القمي (قدس سره): علل الشرائع. (ط2)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (1385هـ)، ص151، الباب 182، ح9. وعيون أخبار الرضا (عليه السلام). ط1، دار ومؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، (1404هـ)، حج 1، الباب 34، ح1، ص127.
[14] مهنا , عبد المنعم :الدولة الإسلامية. ط1، الدار الإسلامية، بيروت، 1407هـ-1993م، ص19.
[15] سورة النساء، آية 59-60.
[16] السيوطي، جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر: الدر المنثور. ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، (1412هـ- 2000م)، مج2، ص314-315.
[17] الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل. (ط1)، مؤسسة البعثة، بيروت (1413هـ- 1992م)، مج3، ص256.
[18] منتظري، محمد حسين: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية• ط2، الدار الإسلامية، بيروت، (1409هـ- 1988م) ج1، ص437.
[19] سورة النساء، آية 83.
[20] الشيرازي، م.س، مج3، ص310.
[21] سورة الحج، آية 41.
[22] الطباطبائي، محمد حسين (قدس سره): الميزان في تفسير القرآن. ط2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1392هـ- 1972م، ج 14، ص 386.
[23] سورة يونس، الآية 35.
[24] الشيرازي، م.س، مج6، ص325.
[25] الكليني، م.س، مج7، ص412، كتاب القضاء والأحكام.
[26] الكليني، م.س، مج1، ص81، باب صفة العلم وفضل العلماء، ح2.
[27] الخميني، روح الله: الحكومة الإسلامية. ط1، مركز بقية الله الأعظم(عجل الله فرجه الشريف)، بيروت، (1418هـ- 1998م)، ص130.
[28] الكليني، م.س، مج1، ص81، باب صفة العلم وفضل العلماء.
[29] الحر العاملي، محمد بن الحسن (قدس سره): تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. ط1، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، بيروت،(1413هـ- 1993م)، ج27، باب 11، ص140.
[30] الأنصاري، مرتضى(قدس سره): كتاب المكاسب. ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، (1415هـ- 1995م)، ص411.
[31] الحر العاملي، م.س، ج27، ص138.
[32] الطبرسي، حسن النوري: مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. ط3، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، بيروت (1991م)، ص316، باب صفات القاضي، ح16.
[33] م.ن، ص316، ح17.
[34] الكليني، م.س، ج1، ص87، باب فقد العلماء.
[35] الطبرسي، م.س، ج5، ص312.
[36] م.ن، ج17، ص316 .

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية