مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

مبدأ وحدة الأمة الإسلامية في الفقه السياسي الإسلامي
السيد عبد الأمير علي خان


الوحدة التي فرضها الله «سبحانه» على المسلمين أشمل وأوسع وأعلى درجة متصورة لمفهوم الوحدة المتصور قيامها بين الناس، حيث تمتد أفقياً لتشمل جميع المسلمين وتمتد طولياً في التاريخ لتشمل جميع المسلمين من بداية البعثة إلى يوم القيامة. فقد جعل الله المسلمين إخوة بجعل شرعي ثابت، كأبناء أم وأب واحد، بل أقوى من هذه الإخوة النسبية، وتكون حاكمة عليها، أي إذا تعارضت الإخوة في النسب مع الإخوة في الدين يجب تقديم الإخوة الدينية على النسبيه[1].. بل المسلمون في قانون الإسلام كالجسد الواحد. والوحدة الإسلامية تشمل جميع جوانب الحياة، ولا يستثنى جانب منها، فالمسلمون وحدة اجتماعية واحدة، وهم كذلك اقتصادياً وعبادياً وفي أحكام النكاح والأسرة وفي القضاء وفي السياسة والتبعات العسكرية ..
وخلافاً لما يتوهم بعضهم فإنّ الجانب السياسي غير مستثنى من مبدأ الوحدة بل على العكس، فإنّ أكثر الآيات والأحاديث التي تحدثت في الوحدة كانت ذات طابع سياسي صارخ[2]، وفي مقدمة المؤاخذات التي سجلها الإسلام على اليهود كان تفريطهم بالوحدة السياسية التي فرضها الله عليهم ..
وكانت الأمة تعيش الوحدة وارتكز مفهومها عندهم بدرجة ارتكاز القصيدة، ولكن عندما ضعف الوضع الديني عندهم في الحياة السياسية تدريجياً نتيجة انحراف الحكام، وبعد ان ضعفوا عسكرياً واقتصادياً أمام الأعداء الصليبيين وقعوا فريسة بأيديهم وكان أول ما بدأوا به من تعطيل للإسلام، هو الجانب السياسي، وأول ذلك تعطيل مبدأ الوحدة إذ مزقوا البلاد الإسلامية وجزَّأو الأمة إلى شعوب ودويلات وأمارات، وبعد فترة انطمست معالم مفهوم الوحدة في أذهان أكثرهم. فضعفُ الوعي لمفهوم الوحدة جاء نتيجة تعطيل الجانب السياسي من الإسلام في حياة المسلمين، ونتيجة فرض واقع سياسي غير إسلامي، ونتيجة تعطيل مبدأ الوحدة عملياً بتجزئة بلاد المسلمين وتمزيق كيانهم السياسي.
وفي بداية النهضة الإسلامية المعاصرة التي بدأت منذ مطلع الخمسينات كان مفهوم الوحدة أوضح المفاهيم التي انتبه إليها المسلمون ووعاها الإسلاميون الذين يتبنون العمل للإسلام، ولكن في العقد الأخير ولأسباب عديدة ظهرت معالم رده عن هذا المفهوم الضروري، ومن بعض الجوانب نلاحظ معالم غفلة وشرود ذهني نتيجة انشغال المسلمين بالمحن والاضطهاد والعدوان الذي يحيط بكل أبناء إقليم في إقليمهم، وبرزت معالم عتمة في الرؤية حتى وصل الأمر إلى تصور عدم وجود أدلة شرعية على وجوب الوحدة … وقد ادعى بعضُ أنّ الوحدة المفروضة، هي الوحدة الروحية وحدة الكيان السياسي للمسلمين حتى أصبح تأكيد هذه النقطة من أهم الجوانب التي يجب على النهضة الإسلامية أن تهتم بها، وأصبح وعي هذا المبدأ من أهم جوانب القضية الإسلامية المعاصرة.
الأدلة على وجوب الوحدة الإسلامية
إن الأدلة على وجوب الوحدة الإسلامية كثيرة جداً، ويمكن أن تصنف إلى عده أنواع نشير إلى بعضها فيما يلي:
1ـ دلالة الرابطة الإسلامية:
قد جعل الله (سبحانه) بجعل شرعي ثابت كل مسلم في هذا الكون أخاً لكل مسلم فيه، وأخاً للمجموع وجعل بين كل مسلم وكل مسلم ولاية شرعيه، وكذلك بين كل مسلم ومجموع المسلمين، وبين المجموع والفرد المسلم، وبهذه الإخوة وهذه الولاية يكون المسلمون كياناً واحداً من جميع النواحي وخاصة من الناحية السياسية، لذا فكل مسلم مرتبط بالمسلمين أفراداً ومجاميع برباط متكافئ وحاكم كل الروابط التي تترتب على الاعتبارات الأخرى التي تنشأ من الأوضاع الأخرى[3].
إنّ أدلة الولاية والإخوة نفسها هي أدلة على الوحدة، وان كانت الولاية لا تترتب على تحقق الوحدة السياسية في الواقع، فإذا فرط المسلمون في أمر الوحدة أو اجبروا واكرهوا على وضع مخالف للوحدة فإنّ الولاية لا تسقط. وتبقى قائمه بين المسلمين أو تبقى مطلوبة من المسلمين، وان حالت التجزئة دون تحققها وجب إزالة الحائل، فتكون الوحدة من مقدمات الولاية أو من مقدمات بعض جوانب الولاية.
إن أدنى ما يعتبر فيه الشخص مسلماً اجتماعيّاً وسياسياً وعرفياً هو اظهار الشهادتين، وعليه تترتب الآثار الاجتماعيّه والسياسية والعباديّه التي تكون حداً فاصلاً في العلاقه، في هذه الحياه، بين المسلمين وبين الكفار، وهي آثار وأحكام الرابطه الإسلامية (الولاية بين المسلمين)، فمن يظهر الشهادتين يعامل معامله المسلم ويكون طاهراً وتحل ذبيحته وتجوز مناكحته ويتوارث مع اقربائه من المسلمين حسب قوانين التوارث، ويتكافأ دمه مع المسلمين وله حقوق سياسية اصليه في المجتمع الإسلامي، وعليه واجبات ويعتصم ماله ودمه وعرضه وتجب نصرته وحمايته … وتجري عليه أحكام القضاء اسوهً بالمسلمين، ويجب تغسيله وتكفينه والصلاه عليه ودفنه.
وبقولنا «ادنى مايعتبر فيه الشخص مسلماً» اشاره إلى أن الولاية بين المسلمين درجات بعضها فوق بعض وبعضها اقوى وآكد من بعض، ولكن أعم ولاية ورابطه تشمل جميع المسلمين وتميزهم عن غيرهم من الناس تترتب على اظهار الشهادتين، فهذه الولاية تميز المسلمين عن غيرهم. ودرجات الولاية الأخرى تميز ما بين المسلمين أنفسهم فهي مقاييس للعلاقات الداخليّة ومع ذلك فانها قويّة وخطيرة جداً قد يصل التشديد عليها إلى درجة تعليق الإسلام عليها. ففي بعض الحالات اعتبر الإسلام نقض هذه الولاية على حد الكفر، فمن كفّر مسلماً كفر ومن والى الكفار من دون المسلمين وصفه القرآن الكريم بالكفر والنفاق الشديد[4].
ونجد في الأحاديث الشريفة تشديداً على الولاية نفسها بين المسلمين في تعريف المسلم، حيث يذكر أهل البيت (ع) في تعاريفهم للمسلم هو: (… من والى وليّنا وعاد عدوّنا …) أي من والى المسلمين وعادى عدو المسلمين. وبهذه المناسبة نذكر بأن مبدأ الولاية في الإسلام لايكتمل الا بمبدإِ البراءة من نقائض الولاية، وهنا كذلك لايعتبر المسلم مسلماً عرفاً وسياسيّاً إلاّ إذا اظهر التمسك بالولاية بين المسلمين والبراءة من اعدائهم، أو على الاقل لم يظهر نقض الولاية الإسلامية ولم يظهر موالاة الكفار.
وهذه المفاهيم كانت واضحة لدى المسلمين مركوزة في اذهانهم يعيشونها في حياتهم اليوميه، ولكنها ضعفت في القرن الاخير، بعد ان غُلبوا من قبل المستعمر الكافر، ووجّه حياتهم السياسية على وفق حضارتة الكافره، فاصبحت تحتاج إلى بحث وتوضيح وتذكير وتأكيد …
2ـ دلالة أحكام الرابطة الإسلامية:
لم تكن الرابطة الإسلامية مجرد نظرية ومفهوم جعله الإسلام وترك ما يترتب عليه من أحكام وحقوق وواجبات للمسلمين، ينتزعون انتزاعاً ويدركون ملازمتهم للرابطة الإسلامية، بل وضع أحكاماً معينة مبنية على الرابطة ونص عليها بنصوص قاطعه، كأحكام النصره[5] بين المسلمين ومبدإِ الشورى[6] والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يعني في بعض جوانبه مسؤولية المسلم وصلاحية سياسية للمسلم يأمر بموجبها وينهى وتجب اطاعته، والاهتمام بامور المسلمين والدفاع عنهم ومصالحهم واعراضهم وشوكتهم، واصلاح ذات بينهم ومقاومة بغي بعض المسلمين على بعض، وأحكام الاراضي، وأحكام الملكية العامة للمسلمين، وأحكام الارث وأحكام الذمة والهدنة والصلح، والولاية على الشعائر والحج والارضي المقدسة والدفاع عن الوطن الإسلامي، وأحكام الضرائب الإسلامية والاقتصاد الإسلامي ومبدأ الضمان الاجتماعي ومبدأ التكافل الاجتماعي الذي فرضه الله على المسلمين فإنّ كل هذه الأحكام الولائية بين المسلمين، تتوقف على وجود وحدة سياسية بينهم والا فإنّ اكثر الأحكام يصبح غير قابل للتطبيق.
3ـ دلالة طبيعة التشريع الإسلامي:
والتشريع الإسلامي للفرد والاسرة والمجتمع، مصمم على أساس اعتبار المسلمين امة واحدة ولهم كيان سياسي واحد، يتضح ذلك جليلاً من ادنى نظرة في أحكام الإسلام في السياسة والاجتماع والاقتصاد والقضاء والشهود والقصاص والحدود والديات والارث والنكاح، وانَّ تفرُّق المسلمين إلى كيانات سياسية متعددة يعطل الكثير من أحكام الله تعالى، ويفوِّت المصالح التي شرعت من اجلها تلك الأحكام، وهذه الدلالة تتكامل مع دلالة أحكام الولاية بين المسلمين المتقدمه.
4ـ الادلة المباشره:
ونقصد بها الادلة من الكتاب الكريم والسنة الشريفة ومن اجماع الأمة.
أ- الادلة من كتاب الله عز وجل:
والآيات التي تركز مفهوم الوحدة في أذهان المسلمين وتربيهم عليها، أو التي تنص على فرضها عليهم وتحرم الفرقة أو التي تصلح ان تكون دليلاً عليها كثيره. ويمكننا تصنيفها إلى مجموعات، والاشارة اليها بعناوين عامة كما يلي:
اولاً- السياق العام للقرآن الكريم:
من يتدبر القرآن الكريم ويحاول تصوُّر نزوله منجماً ويتدبر في تاريخ نزول الآيات يجده – منذ البداية – اخذ يركِّز مفهوم الوحدة بين المسلمين وكان يخاطبهم مجموعاً، بل وانه كان يخاطب الناس مجموعاً اكثر مما يخاطب الإنسان فرداً، بعكس ما يفعل الاتجاه الوعظي، الذي يركز على السلوك الفردي وعلى مخاطبة الفرد اكثر من المجتمع، وفي ذلك دلالة على الاتجاه الاجتماعي في الإسلام وعلى المسؤولية الجماعية للناس، وبالاخص المسلمين منهم.
وهذا السياق القرآني، يركز مفهوم الوحدة في ذهن القارىء المتدبر الذي يتلقى القرآن للتبني والالتزام والعمل، كما كان حال المسلمين الاوائل، ويربيهم على الشعور بالجزئية من الكيان الجماعي الذي يخاطبه القرآن، اي ان هذا السياق يربي المسلم على الشعور بانه جزء من كيانه، وانه مسؤول ضمن هذا الكيان، وضمن مسؤولية الجماعة فهو مسؤول عن غيره من المسلمين وهم مسؤولون عنه، فيستعد لقبول مسؤوليتهم عليه وتقبل مبادراتهم في هذه المسؤولية تجاهه.
ونلاحظ ان الخطاب الجماعي في القرآن المتوجه بالخصوص للمسلمين يتصاعد ويتكثف مع متطلبات الحياة الاجتماعية للمسلمين ومتطلبات وحدة كيانهم، فيصبح في المدينة اكثر وضوحاً ودلالة على الوحدة، حيث تصبح الخطابات الجماعية دليل تكاثف جماعيه، فالمسلمون مجموعاً يكلفون بالتشاور، ويكلفون بالجهاد وبتطبيق الإسلام على حياتهم، وباقامة الدين والمعروف، واماتة الكفر والفسق والمنكر، وبالقيمومة على القاصرين منهم وبالقيام بمهام السيادة على الارض، ومسؤولية حماية وضبط اهل الذمه، وهم عموماً مسؤولون عن طاعة النبي (ص)، كما ان كل فرد منهم مسؤول عنها ولمظاهر حياتهم معالم عامة تميزهم عن غيرهم من الامم … وهكذا يصبح اتجاه الخطابات الجماعية اكثر قربا من اتجاه التقنين والتنظيم للجماعه، بينما تكون الخطابات الفردية اقرب إلى الوعظ والارشاد، على ان الوعظ كذلك موجود في الجماعه، والتكليف بالامور القانونية الجماعية والتنظيمية موجود في الخطاب الفردي الموجه للفرد باعتباره فرداً والموجه اليه باعتباره جزءاً من الجماعه، وهذا التداخل الدقيق المحسوب، ناشىء من طبيعة الإسلام ورسالته في الحياه، حيث انها تهتم بالانسان (الفرد) كاهتمامها بالانسان (المجتمع)، ولأن الفرد وحدة بناء المجتمع، ولان الإسلام دين يريد ان تكون سياسته مبنية على التدين وليست مجرد بناءات فوقية وأشكال واطر ونظم فوقية ايضاً.
ثانياً: وهناك آيات تركز مفهوم الوحدة في الذهن بالفاظها وتركيبها، بل وتصلح ان تكون ادلة علي الوحدة، وانه كانت صادرة في امور اخرى مهمة مثل: {كنتم خير امة اخرجت للناس}[7] {وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}[8] {ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبلُ…}[9] وآيات دعوات ابراهيم وطلبه من الله سبحانه ان يجعل من ذريته امة مسلمة وان يبعث فيهم رسولاً منهم[10] وآيات اخرى تمت اليها بصله.
فإنّ هذه الآيات تركز مفهوم الوحدة في الذهن {ان هذه امتكم امة واحده}[11].
ان هذه الآية وان كانت في الانبياء مجموعاً، وفي دين الله كله من آدم (ع) وحتى محمد (ص) الا انها تركز الوحدة الإسلامية في الذهن، ويمكن اعتبارها ايضاً خطاباً للمسلمين.
ثالثاً – آيات فرض الوحدة وتحريم الفرقه:
1ـ قوله تعالى {فما لكم في المنافقين فئتين والله أَركسهم…}[12] فإنّ هذه الآية تحرص على الوحدة حتى في التقييم والحديث، وتحذر من الفرقة حتى على مستوى النقاش والكلام، وذلك بشهادة سياقها فانه ينصب على كونهم فئتين (اي ذم كونهم فئتين) ولم يقتصر على توبيخ من أحسن الظن بالمنافقين منهم، فالآية تحرص على النظر اليهم كأمه واحده.
2ـ {قال يا ابنَ أُمَّ لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي اني خشِيتُ ان تقولَ فرَّقتَ بين بني إِسرائيل ولم ترقُب قولي}[13].
هذه الآية تبين مدى حرص موسى وهارون (ع) على وحدة الأمة لأن بني اسرائيل، حتى في عبادتهم للعجل كانوا يظهرون ايمانهم بنبوة موسى (ع) ويظنون ان العجل الذهبي هو إله موسى الذي ارسله اليهم لشبهة دخلت عليهم من تدبير السامري. وكذلك فعلا (ع) عندما عصاهما قومُهما عندما امرهم موسى بدخول القرية على العمالقة ولم يفارقا قومهما حتى في التيه.
3ـ {الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإِرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَهَ من قبلُ}[14].
فإنّ هذه الآية جعلت التفريق بين المؤمنين بمصاف الكفر والارصاد لصالح الكفار والكفر.
4ـ {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وكونوا مع الصادقين}[15]. فإنّ نتيجة تطبيق الآيه في الحياه، هو التكتل حول محور واحد لأن الصدق من جميع الجهات يتمثل في محور واحد.
5ـ {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانه من دونكم}[16] وبعدها … فإنّ هذا المقطع القرآني يحرم ان يترك المسلمون ثغره فيما بينهم يدخل منها غيرهم. وعدم وجود ثغره يمثل اعلى درجات الوحدة، فالوحدة بالدرجات الأقل مفروضه بالاولويه.
6ـ {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللهَ لعلكم تُفلحون}[17] والمصابره المطلوبه انما هي بين المسلمين انفسهم، وكذلك المرابطه ولايكون ذلك الا اذا كانوا وحدة واحده يشدّ بعضهم بعضاً.
7ـ {اطيعوا الله ورسوله ولاتَنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكم واصبروا إنَّ اللهَ مع الصابرين}[18]. والفشل هو الفرقه وحل الارتباط والشدِّ الموجود بينهم، فحذَّرهم من التنازع لئلا يتفرقوا بسببه فيضعفوا، فالوحدة مطلوبه ويحرم كل ما يفشلها أو يضعفها ..
8ـ {واعتصموا بجبل الله جميعاً ولاتفرَّقوا واذكروا نعمهَ اللهِ عليكم إِذ كنتم أعداءً فاَّلف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً}[19].
ففي هذه الآيه عده دلالات على وجوب الوحدة، منها التعبير بكلمه (جميعاً) وكلمه (ولا تفرقوا) أو (الّف بين قلوبكم) و(اخواناً) والاخوة بنعمه الله سبحانه، وهي الدين فهم اخوان بالدين[20].
ب- الادلة من السنه الشريفه:
اولاً – الاحاديث الشريفه:
وهي كثيره جداً ومنها خطب مخصصه للولاية وبلهجه شديده جعلت الولاية بين المسلمين بمستوى العقيده ونقضها بمستوى الكفر نقتصر على ذكر الامثله الختصره التاليه:
1. «المسلمون امه واحده من دون الناس»[21].
2. «المسلمون اخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم»[22].
3. «من خلع جماعه المسلمين قدر شبر خلع ربقه الايمان من عنقه»[23].
4. «لا يسالم مؤمن دون مؤمن»[24].
ثانياً: دلالة سيره النبي (ص):
وسيره النبي (ص) قامت على هذا الاساس، فقد كان قبل الهجره يربي المسلمين على الاخوة ويهيىء أذهانهم ونفسياتهم للوحدة السياسية والعسكريه في دار الهجره الموعوده، وهجرته انما كانت من اجل ان يتميز المسلمون عن غيرهم بكيان سياسي مستقل ويتميز مسكنهم ولايتداخلون بالسكن مع الكفار حتى يمكنهم ان يدافعوا عن كيان متكامل له مقومات الدوله بالمصطلح الحديث، وفرض الهجره على المسلمين – بالدرجه الاولى – من اجل الالتحاق بالرسول وبجماعه المسلمين، وكذلك تحريم الهجره المعاكسه (التعرب بعد الهجره) لمنع مفارقه جماعه المسلمين، والمؤاخاه التي اقامها في مكه وكررها في المدينه، انما كانت من اجل اقامه الوحدة، وكتابه الصحيفه بين المسلمين كذلك، وقد بذل جهوداً كبيره في سبيل اقامه الوحدة وتعزيزها، ولم يبدر منه – اصلاً – ما يوحي بالتساهل بامر الوحدة، ووصاياه لاميرالمؤمنين علي (ع) كانت من اجل الوحدة ضمن اوسع نطاق يمكن ان يستوعبه الإسلام.
ثالثاً – دلالة سيره الائمه (ع)
وسيره اهل البيت (ع) قامت على هذا الاساس، وقد تحملوا ما لم يتحمل غيرهم في التاريخ لمده طويله، زادت على القرنين والنصف من اجل حفظ الوحدة، وبذلوا جهوداً مضنيه في سبيلها، حتى مع اعدائهم الذين اعتدوا عليهم وظلموهم. وكانوا يوجهون اتباعهم بان يحرصوا على الوحدة حتى في العباده، حتى في حاله انحراف العامه عن الصوره الصحيحه لاجزاء العباده ما لم يبلغ الامر الخروج عن الإسلام، بل كانوا يتظاهرون بموافقه عامه المسلمين في ذلك، حفاظاً على الوحدة مع ما هم عليه من علم رباني. وحرص الامام اميرالمؤمنين (ع) على الوحدة في كل الظروف التي مرت به أَظهر مدى اهميه هذا المبدإِ العظيم. ففي احداث السقيفه وقف اميرالمؤمنين (ع) دون استغلال الطلقاء للموقف وفي حكم الشيخين كان صمام الأمان وكان الملجأ والمرجع في الملمات مع ما صرح به من ظلامه، وفي محنه عثمان بذل جهوداً كبيره في سبيل حفظ وحدة المسلمين، وحينما بويع بالخلافه بذل صنوف الجهود والمحاولات في سبيل الوحدة منها السلميه ومنها العسكريه ورفض طلبات معاويه التجزيئيه. وكذلك كان موقف الامام الحسن (ع)، وما الصلح منه الا لأن الوحدة عنده اهم من الحكم، اي عندما تبين ان الأمة اصبحت امام خطر الانقسام الحقيقي إلى أمتين، وانه اصبح على مفترق طرق بين أن يتهاون في المبدئيه ويكسب الاعوان أو يستمر في مواجهه الخلل الذي في جيشه، فتكون الغلبه لسيوف اهل البغي أو يقبل باستقلال معاويه في النصف الغربي من البلاد الإسلامية، وليحتفظ هو في النصف الشرقي منها، ولان كل من هذه الامور غير مقبوله عنده فالتهاون في المبدئيه من قبل الإمام تناقض مهمته، لعدم وجود امام غيره يحفظ الااتزام بالمبدإِ، وترك الامر للحل العسكري، الذي هو بجانب غلبه اهل الباطل بالسيف، يكون فارغاً من ضرب مثل مبدئي في السياسه غير السيف ويضيع على الأمة والتاريخ فرصه ضرب مثل هذا المثل وتسجيل سابقه قانونيه لايقدر عليها الا مثل الحسن (ع).
والقبول بتقسيم الوطن الإسلامي والأمة إلى أمتين لايجور، فالامام اختار الطريق الرابع وهو الصلح بينه وبين معاويه، على ان يرجع الامر إلى اهله بعد هلاك معاويه وصاغه بطريقه لا اعتراف فيما لمعاويه بحق، ولا سبيل معها إلى تجزئه الأمة ولا اقتصار على القتال طريقاً وحيداً لانتقال الحكم … فكان الصلح بصيغته هذه من اعلام الامامه ومن مناقب السيد السبط الفريده.
والامام الحسين (ع) اكد حرص اهل البيت على مبدإِ الوحدة في كل مده امامته سواءً المده التي امتد فيها مفعول الصلح أو بعد انتهاء امده بموت معاويه، وكل فصول تحركه تدل على حرصه الشديد على الوحدة الإسلامية، وحتى حينما اضطر لاستعمال السيف دفاعاً عن نفسه وعياله وكرامه المؤمنين.
وهكذا استمر اهل البيت (ع) على هذا الحرص الذي تميزوا به طيله الفتره الزمنيه عبر اثني عشر جيلاً، رغم ما كانوا يعانون من ظلم واضطهاد وما مرَّ بهم من محن وويلات، وقتل وتشريد وسجون وتعذيب واعتقال واقامه جبريه وحصار وحظر ومراقبه …
رابعاً: دلالة الاجماع وسيره المتشرعه:
وقد اجمعت الأمة على مبدإِ الوحدة الإسلامية، وتسكت به وعاشته رغم الاحداث الداخليه الداميه، والتاريخ مليء بالشواهد على ارتكاز مفهوم وحدة الأمة في اذهان المسلمين جميعاً، وما قام به الامويون في الاندلس شاذ، ولم يعترف احد من المسلمين بانه كان على اساس رؤيه فقهيه في جواز انقسام الأمة والوطن الإسلامي، وانما كان نتيجه ظروف، وساعد عليه وجود العازل المائي الكبير بين الاندلس وبين الاقاليم الإسلامية الاخرى، وهكذا كل ما حدث من خلافات ومحاربات، وما قام من دويلات داخل البلاد الإسلامية، لم يكن على اساس تصور جواز الانقسام، وان حدث تساهلاً من قبل بعض البغاه، فلم يكن متساهلاً من قبل المتشرعه من هذه الأمة.
خامساً – دلالة وحدة الامام:
من الواضح ان مصطلح الامام كان يطلق على شكل نظام الحكم، ومن المؤكد أنَّ بيانات اهل البيت (ع) واضحه في كون الامام واحداً لايتعدد، وان وجد شخصان مؤهلان للامامه بالعنايه الالهيه ومعدان لتسلم دور الامامه، فلابد من ان يكون احدهما صامتاً، أي لايتصدى للامره مع وجود الامام الناطق (اي الفعلي للامامه).
وهكذا كان علماء اهل السنه يصرحون بوجوب وحدة الامام. وكذلك يعني وجوب وحدة الكيان السياسي للأمة.

[1] سورة التوبة، الآية 23.
[2] عن هذه الرابطة نذكر الآيات التالية: سورة البقرة، الآية 143، سورة آل عمران، الآية 104، 110، 113، سورة الانعام، الآية 108، سورة يونس، الآية 47، سورة الرعد، الآية 30. سورة النحل، الآية 89، سورة الانبياء، الآية 92، سورة المؤمنون، الآية 44، 52، سورة الانعام، الآية 42، سورة فاطر، الآية 42.
[3] سورة الحجرات، الآية 10، سورة آل عمران، الآية 103، سورة الحجر، الآية 44.
[4] سورة المائدة، الآية 55 و56 و57 و80 و81، سورة التوبة، الآية 23، سورة الممتحنة، الآية 60، سورة النحل، الآية 100، سورة النساء، الآية 139، سورة آل عمران، الآية 28.
[5] سورة الاعراف، الآية 157، سورة الصافات، الآية 25، سورة الانفال، الآية 72، سورة النساء، الآية 89.
[6] سورة الشورى، الآية 38.
[7] سورة آل عمران، الآية 110.
[8] سورة البقره، الآية 143.
[9] سورة الحج، الآية 78.
[10] سورة البقره، الآيتان 128، 129.
[11] سورة الانبياء، الآية 92.
[12] سورة النساء، الآية 88.
[13] سورة طه، الآية 91.
[14] سورة البقرة، الآية 107.
[15] سورة التوبة، الآية 119.
[16] سورة آل عمران، الآية 118 وانظر ما بعدها إلى الآية 122.
[17] سورة آل عمران، الآية 200.
[18] سورة الانفال، الآية 46.
[19] سورة آل عمران، الآية 103.
[20] للتوسع اكثر راجع كتابنا «الولاية في الإسلام»، الجزء الثالث الخاص بالولاية بين المسلمين، مواضيع الوحدة الإسلامية.
[21] سيره ابن هشام، ج 2، ص 106.
[22] وسائل الشيعة، ج 9، ص 252.
[23] بحارالانوار، ج 2، ص 266.
[24] جواهر الكلام، كتاب الجهاد.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية