مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

العمل الحكومي ودوره في تحقيق مسؤوليات الدولة الاسلامية
الشيخ محمد علي التسخيري


المقدمة
للحكومة الاسلامية دورٌ محوري في المسيرة الاجتماعية التي خطط لها الاسلام في اطار نظريته الاجتماعية العامة.
وقد حدد الاسلام هذه المسؤوليات التي نجد أنها تجاوزت كثيراً ما كان المتعارف عليه في عصر انطلاقة الاسلام.
ومع عظم المسؤولية يتطلب الأمر امكانات تنفيذية كبرى لا على الصعيد المادي فحسب، بل وعلى المستوى القانوني، فضلاً عن الجو العاطفي المطلوب لعمل هذا المحور المهم.
وهذا البحث يتكفل الاشارة إلى هذه الجوانب مع تركيز خاص على الامكانات القانونية للحاكم الاسلامي؛ وهو الرأس الاعلى للحكومة الاسلامية ـ وبتعبير ادق يتم التركيز على الصلاحية القانونية التي يملكها الحاكم وان كانت الامكانات القانونية اعم من هذه الصلاحيات… ذلك اننا نعتبر انسجام التشريع الاسلامي بشكل دقيق مع الاهداف المرجوة للحكومة الاسلامية يمثل امكاناً قانونياً يُستفاد منه في تحقيق تلك الاهداف ـ وسيأتي توضيح هذه المقولة ان شاء الله تعالى.
ورغم أن فقهاءنا ومفكرينا قد بذلوا جهدهم الكبير في هذا المجال إلا اننا نعتقد ان المجال مازال مفتوحاً للبحث واستنباط النظرية الاسلامية.
ويجب هنا ان نلاحظ أن الخلط بين واجبات الفقيه في عملية الاستنباط وواجباته في عملية القضاء وفض النزاعات، وبين واجبات الحاكم في مسألة ادارة دفة الحكم، وكذلك الخلط بين دور المصلحة في استنباط الموقف الشرعي الخالد من القضايا والنوازل، ودورها في العملية الادارية الاجتماعية وما يتبعها من نوازل، وهو موقف غالباً ما يكون تابعاً للظروف الزمانية والمكانية ولذا لا يعد موقفاً خالداً، وهكذا الخلط بين الموقف الفردي من الظروف الطارئة، والموقف الاجتماعي منها؛ كل هذه الانماط أدت إلى نوع من الابهام في النظرية، والاختلاف في النتائج، الامر الذي يتطلب التنقيح والتنبيه. ونلاحظ أيضاً، ان تنوع منافذ الزمان والمكان إلى ضيق، وسعة افق الفقيه المستنبط، وكذلك الاحكام من حيث دورهما في تغيير الموضوع، او قيوده، أو مصاديقه، أو ظروف تطبيق الحكم أو تحوله من حق خاص إلى حق عام أو غير ذلك أدى إلى نوع من تصور الميوعة ـ لدى البعض من غير المتعمقين ـ مما يتنافى مع خلود الشريعة وبقائها في حين ان المرونه الاسلامية هي التي تعتمد على هذه الخواص دون ان يؤدي ذلك إلى الميوعة المرفوضة.
وينبغي أن لا يغيب عن البال، ان الفقيه الذي يعمل على اكتشاف الحكم الشرعي من القضايا يحتاج الى امكانات علمية واسعة يذكرها علماء الاصول والفقه، وهي نفسها ضرورية لعمل الحاكم الفقيه بالاضافة لضرورة معرفة الدور الذي يلعبه هذا الحكم الجزئي الاجتماعي في اطار الكل الاسلامي المترابط، لانه يُراد طرحه على صعيد تطبيق مجمل الاطروحة الاسلامية على المجتمع، وهي اطروحة متكاملة مترابطة.
فإذا كان الفقيه يحاول استنباط الموقف المعين مع التركيز عليه وعلى ادلته، فان الحاكم يجب أن يلحظ في نفس الوقت مناسبات الموضوع مع سائر المواضيع، ومدى التأثيرات التي سيتركها التطبيق على مجمل العملية الاجتماعية، ولا ادل على ذلك من ملاحظة آثار عملية تطبيق الحدود الاسلامية على مجمل العلاقات الاجتماعية، والحقوقية، والاقتصادية، والسياسية، والدولية وغيرها. وبالتالي على مجمل التكامل الاجتماعي المطلوب.
وهذه الاشارات ـ وغيرها ـ كافية لتصور بقاء الباب مفتوحاً امام الفقهاء والمفكرين في هذا المجال… وقد نملك ان نقول أن القسط الاكبر من المباحث النظرية الاجتماعية مازال مجهولاً مع الاسف، بعد أن اتجه الكثير من بحوثنا اتجاهاً تقطيعياً تجزيئياً ولم يعبر المجالات المقطعية إلى مجالات التنظير التي تستطيع ان تمنحنا الرؤية العامة لمعالمنا، وافتراقاتها عن معالم النظريات والمذاهب الحياتية الاخرى، لئلاّ نقع كما وقع الكثير من المفكرين في وهدة (الالتقاط) أو (التهجين) أو (التركيب بين الاسلام وغيره) مما انتج في ذهنهم (اسلاماً رأسمالياً) أو (اشتراكية اسلامية) أو حتى (علمانية اسلامية)!
تنبيه مهم
ويجب أن ننبه هنا إلى اننا نركز على موضوع الحكم الحكومي الصادر من الفقيه الحاكم شرعاً دون الفقيه الذي يحاول اصدار فتواه في الموضوع؛ فالفتوى لا تتحمل انتخاباً وتخييراً وانما المطلوب معرفة الواقع الشرعي، اما الانتخاب والاختيار فانما يتصور على صعيدين:
الأول: انتخاب غير الفقيه للفتوى التي يعمل بها. وهذا المعنى لا يتصور من يقول بضرورة كون المقلد اعلم من غيره (لأن الأعلم لا يتكرر) فإذا تمّ له الايمان بحذف شرط الاعلمية امكنه ان يتخير بين الفتاوى.
الثاني: ان يقوم الحاكم الشرعي باختيار الاحكام والفتاوى المنسجمة مع المصلحة العامة وتعميمها على الآخرين.
وهذا ما سنبينه ان شاء الله تعالى في الفصل الرابع من هذا البحث؛ فما سمي بـ(العمل) انما يتصور في هذا المجال لا غير، وهذا ما دعانا للتركيز على جانب الحكم الحكومي لا غير.
وسيسير بحثنا على النمط التالي:
الفصل الأول: وسنتحدث فيه بشكل مقدمي عن المصطلحات التي سنركز عليها، كالحكم الحكومي والحكم الأولي والثانوي والعلاقة بين هذه الاقسام.
الفصل الثاني: وسنركز فيه على مشروعية الحكم الحكومي متعرضين بالطبع إلى بعض تطبيقاته.
الفصل الثالث: وسيتم البحث فيه عن مسؤوليات الحكومة الاسلامية والملاكات التي تحدد لها عملية التنفيذ لهذه المسؤوليات.
الفصل الرابع: وسنركز فيه على الامكانات التشريعية التي يملكها الحاكم لتنفيذ مسؤولياته.
الفصل الخامس: ونتعرض فيه إلى الامكانات الاخرى التي تساعده في ذلك.
الفصل الاول
تقسيمات الحكم والفروق بينها
عرّف الحكم بانه "الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقاً مباشراً أو غير مباشر"[1]. ولعله اسلم التعاريف.
وقد قسم الحكم الى اقسام باعتبارات مختلفة.
والذي يهمنا هو تقسيم الحكم الى الحكم الاولي والحكم الثانوي والحكم الولائي، وقد عرّف الحكم الاولي بانه: الحكم المجعول للشيء اولاً وبالذات، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليه من العوارض الأخر[2].
كما عرف الحكم الثانوي بأنه: الحكم المجعول للشيء بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الأولي[3].
وهذه الحالات الطارئة هي من قبيل (الضرر) و (العسر و الحرج) و (العجز) و (الاكراه) و (الخوف) و (المرض) و (التقيّد) و (التزاحم عند تنفيذه مع حكم اهم منه) و (وقوعه مقدمة لحكم آخر) ووقوعه مورد النذر والعهد والقسم وغير ذلك، من قبيل تحول الحكم الوجوبي الكفائي للصناعات التي يتوقف عليها نظام الحياة إلى الحكم التعييني الوجوبي إذا انحصرت بشخص واحد.
والحكم الاولي: ثابت لموضوعه دائماً دونما تغيير، لأنه جاء لذات الموضوع بغض النظر عن الطوارئ عليه، كما انه يشترك فيه العالم والجاهل لانه أيضاً ثابت لذات الموضوع رغم كون الجاهل معذوراً.
في حين ان الحكم الثانوي: ثابت ما ثبتت الحالة الطارئة، ولخصوص هذا الشخص الذي عرضت له.
ولذا نجد أن الحكم الثانوي يعبر عن مرونة تشريعية، ذلك ان المرونة تعني الاستجابة للحالة الضاغطة بمقدار ما تحمله من ضغط، ثم العودة إلى الحالة الطبيعية، وهي هنا الحكم الأولي؛ وهذه بنفسها قاعدة عامة يجب ان يلحظها الفرد عند اتباعه الحكم الثانوي، كما يجب ان يلحظها الحاكم الشرعي في حكمه الولائي فلا يتجاوزها إلى حالة طارئة بشكل دائم، بل يتبع في ذلك مقتضيات المصلحة العامة ملتفتاً إلى كون الحالة استثنائية.
ولسنا بصدد استقصاء العناوين الطارئة بشكل ثانوي، وانما نشير إلى ان القرآن الكريم يشير اليها؛ مثلاً جاءت حالة (الاضطرار) في الآيات التالية:
{إنّما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه ان الله غفور رحيم}[4].
{فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}[5].
{وما لكم أن لا تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه وقد فَضّلَ لك ما حرم عليكم إلاّ ما اضطررتُم إليه}[6]، وغيرها.
وكذلك الحرج:
{وما جعل عليكم في الدين من حرج}[7].
وكذلك العناوين الاخرى
وهذا المعنى أيضاً جاء في الروايات الشريفة، ومنها حديث الرفع الذي روي بسند جامع لشرائط الصحة "عن حريز عن ابي عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "رُفع عن أمّتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم يُنطق بشفة"[8].
الاحكام الحكومية
وربما سمّيت بالأحكام (الولائية) أو (السلطانية) ومنها (الاحكام القضائية) وقد عُرّفت بأنها: "انشاء انفاذ من الحاكم ـ لامنه تعالى ـ لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص"[9].
وصاحب الجواهر هنا ـ رغم كونه يتعرض لتعريف الحكم القضائي ـ يطرح المسألة بشكل اعم ليشمل كل حكم يصدر من الحاكم الشرعي ـ وهو في ذيل التعريف يشير إلى هذا التعميم ـ فإذا صدر الحكم في مقام الخصومة والترافع كان حكماً حكومياً قضائياً ـ والا كان حكماً عاماً.
ويعرفه الشهيد الاول بانه "انشاء اطلاق أو الزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع تقارب المدارك فيها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش"[10].
وهذا تعريف يختص بالأمور القضائية.
وإذا شئنا ان نجاري اسلوب تعريف الحكم الاول قلنا ان الحكم الحكومي هو: "الاعتبار الصادر من الحاكم الشرعي بمقتضى صلاحيته الشرعية والمتعلق بأفعال العباد مباشرة أو بشكل غير مباشر" ليكون شاملاً للأحكام التكليفية والوضعية.
وإذا اردنا ان نخصصه بالأحكام القضائية اضفنا إليه عبارة "في مقام رفع التخاصم".
الفروق بين الاحكام الاولية والاحكام الولائية
وعلى ضوء ما سبق يمكن ان نحصر الفروق فيما يلي:
أولاً: ان الاحكام الاولية هي احكام للشارع المقدس، يتم كشفها من قبل الفقيه مباشرة، في حين ان الاحكام الولائية هي احكام يصدرها الحاكم الشرعي بمقتضى صلاحياته الشرعية.
ثانياً: ان الاحكام الاولية هي أحكام كلية غير مطبقة على مصاديقها الخارجية، كقول الفقيه (الصلاة واجبة) و (والماء طهور)، في حين ان الاحكام الولائية تعبر عن تطبيق حكم كلي في الموضوعات الخارجية.[11]
ثالثاً: ان الاحكام الفتوائية (الاولية والثانوية) يمكن نقضها من قبل فقيه آخر، لأن المقام مقام كشف عن الحكم الشرعي، اما الاحكام الولائية فلا يمكن نقضها، وفي نقض الاحكام القضائية منها، كلام.
رابعاً: ان الأحكام الفتوائية قائمة على أساس من مصالح ومفاسد في ذوات الاشياء، يلحظها الشارع المقدس (جل جلاله) ويصدر حكمه فيها، اما الأحكام الولائية فهي تتبع المصالح التي يدركها الحاكم الشرعي أو التطبيقات التي ينصرف نظره اليها على الموضوعات الخارجية.
خامساً: الاحكام الاولية تعبر عن الحالة الطبيعية للاشياء، كما يراها الاسلام. اما الاحكام الولائية فهي تعبر عن مقتضيات المصلحة التي يراها ولي الأمر وتشكل حالة استثنائية.
سادساً: قيل[12]: ان الاحكام الاولية هي احكام فردية واجتماعية، اما الاحكام الولائية فهي اجتماعية دائماً. إلا أن الصحيح ان كلاًّ منهما يعم الاثنين، وان كان المنطلق مختلفاً.
سابعاً: وقيل[13] ان الاحكام الحكومية هي تنفيذ للاحكام الاولية. وربما كان المراد انها في الواقع تعتمد على الاحكام الاولية وتحاول تبيين السبل لتنفيذها كما سيأتي.
والحقيقة هي ان اسلوب التنفيذ هو احد الموارد التي يكلف بها الحاكم الشرعي ليعيّنها ـ اجتماعياً ـ رغم وجود بدائل اخرى للتنفيذ من قبيل ان يأمر بنظام اقتصادي معين لا ربا فيه، إلا انه يمكن ارجاع هذا الفرق إلى الثاني واعتبار ان كل ما يقوم به الحاكم الشرعي انما هو العمل على تطبيق كليات شرعية معطاة له بالحكم الأولي من قبيل (لزوم مراعاة المصلحة العامة) أو (رجحان فكرة "كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم") كما سيأتي ذلك.
الفرق بين الاحكام الثانوية والاحكام الولائية
ويمكن ان نذكر هنا الفروق التالية:
اولاً: ان الاحكام الثانوية تنحصر عناوينها بما ذكر في القرآن الكريم والسنة الشريفة فهي ترتكز عليها، في حين ترتكز الاحكام الولائية على المصلحة العامة ومقتضيات المؤشرات العامة، كما سيأتي الحديث عنها في الفصل التالي.
ثانياً: ان الاحكام الثانوية يمكن ان يدركها الفرد ويعمل بها، في حين تتوقف الاحكام الولائية على نظر ولي الامر.
وهناك من يرى الوحدة بينهما على أساس انهما حكمان استثنائيان، إلا ان ما ذكرناه يوضح الفرق بينهما.
ثالثاً: ان الاحكام الثانوية هي احكام شرعية وضعت للعناوين الطارئة، اما الاحكام الولائية فهي احكام يصدرها ولي الامر بمقتضى صلاحياته، وربما استند في حكمه إلى توفر هذه العناوين الطارئة، ولكنه على أي حال حكم صادر من وليّ الأمر لا من الشارع، وان كان واجب الطاعة شرعاً.
الفصل الثاني
مشروعية الحكم الحكومي
وقد لا تجدنا بحاجة ماسة لإثبات مشروعية الحكم الحكومي بعد ان كاد ان يكون من الواضحات، رغم تشكيك بعض العلمانيين، بل المتحجرين من ذوي الاتجاه الديني احياناً. فيكفي ان نشير إلى بعض ادلة المشروعية مع طرح بعض الملاحظات في البين:
اولاً: القرآن الكريم:
وحق اصدار الحكم الحكومي حق يطرحه القرآن الكريم للأنبياء وأولي الامر بكل وضوح، يقول تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلّموا تسليماً}[14].
ويقول تعالى: {إنّما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}[15].
ويقول تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[16].
ويقول تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم}[17].
وغيرها من الآيات الكريمة.
ثانياً: السنة الشريفة:
وهي طافحة بالمزيد عليه من الاحكام التي اصدرها النبي (ص) باعتباره ولياً للأمر؛ ونحن نشير فيما يلي إلى بعضها:
1 ـ الحكم بإعدام كعب الاشراف[18].
2 ـ الحكم بإهدار دماء (أربعة) نفر في فتح مكه[19].
3 ـ اصدار الامر بمنع مجالسة الممتنعين عن الجهاد[20].
4 ـ الحكم بقطع نخيل بني النظير[21].
5 ـ النهي عن اكل لحم الحمير في خيبر[22].
6 ـ النهي عن التخلف عن جيش اسامة[23].
بل يمكن القول ان قيادته (ص) تمثلت في أوامر حكومية كان يصدرها بشكل مستمر، إلى جانب ابلاغ الأوامر الالهية التي يبلغها الوحي الصادق الأمين.
وقد تعرض الشهيد الصدر في كتابه القيم (اقتصادنا) لهذا الموضوع، وذلك في معرض حديثه عن مسألة اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النصوص، مما يؤدي احياناً إلى اخفاء بعض معالم التشريع أو الى التضليل في فهم النص والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه… قال: فقد جاء في الرواية ان النبي قضى بين اهل المدينة في النخل، لا يمنع نفع بئر. وقضى بين اهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ. وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ يمكن ان يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كل زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر، كما يمكن أيضاً أن يعبر عن اجراء معين اتخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدرها ولي الامر. وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين احدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص.
وما اولئك الذين يتخذون موقفاً نفسياً تجاه النص بصورة مسبقة فهم يفترضون منذ البدء ان يجدوا في كل نص حكماً شرعياً عاماً، وينظرون دائماً إلى النبي من خلال النصوص بوصفه اداة لتبليغ الاحكام العامة، ويهملون دوره الايجابي بوصفه ولي الأمر، فيفسرون النص الآنف الذكر على اساس انه حكم شرعي عام، ويفرّعون على هذا الاساس ان النهي ليس نهي تحريم وانما هو نهي كراهة، لأنهم يستبعدون ان يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شرعاً، في كل زمان ومكان"[24]. وهكذا نجد تفريعه (رحمه الله) بين الموقفين تماماً؛ أي بين الامر الكاشف عن الحكم الشرعي الأولي والامر الولائي الحكومي.
اما من حيث دلالة هذه الاوامر الولائية على الكشف عن الحكم الشرعي الأولي فقد تعرض الاصوليون لذلك:
فذكر في (سلم الوصول) انه ليس كل ما روى عن الرسول (ص) من اقواله وافعاله وتقريراته تشريعاً يطالب به المكلفون، لأن الرسول بشر كسائر الناس اصطفاه الله رسولاً لهداية الناس وارشادهم؛ قال تعالى: (قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى اليّ)[25]. فما صدر منه يتضمّن الاقسام التالية:
1 ـ ما صدر منه بحسب طبيعته البشرية كالأكل والشرب والنوم وما إلى ذلك من الأمور التي مرجعها طبيعة الإنسان وحاجته.
2 ـ ما صدر منه بحسب خبرته وتجاربه في الحياة، وفي الأمور الدنيوية، وبحسب تقديره الشخصي للظروف والاحوال الخاصة، وذلك مثل شؤون التجارة والزراعة والمسائل المتعلقة بالتدبيرات الحربية وما إلى ذلك من الامور التي يعتد فيها على مقتضيات الاحوال ومراعاة الظروف.
وهذان القسمان ليسا تشريعاً؛ لأن مرجع القسم الاول الطبيعة والحاجة البشرية، ومرجع القسم الثاني الخبرة والتجارب في الحياة والتقدير الشخصي للظروف الخاصة، من غير أن يكون هناك دخل للوحي الالهي ولا للنبوة والرسالة.
3 ـ ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى، بصفته رسولاً يجب الاقتداء به والعمل بما سنّه من الأحكام، مثل تحليل شيء أو تحريمه والأمر بفعل أو النهي عنه وكبيان العبادات وتنظيم المعاملات والحكم بين الناس، فهذا القسم الأخير تشريع عام يجب على كل مكلف العمل به، والاحاديث الواردة في هذا القسم تسمّى بأحاديث الاحكام.
وبالجملة، فان اقوال الرسول وافعاله وتقريراته انما تكون دليلاً من الادلة، ومصدراً من المصادر التشريعية التي تستمد منها الاحكام الشرعية، إذا صدرت منه بمقتضى رسالته لسنّ القوانين وتشريع الاحكام أو بيانها[26].
وقد أشكل عليه استاذنا السيد محمد تقي الحكيم بان هذا التقسيم غريب بناءً على:
أ ـ علمنا بانه ما من وقعة الا ولله فيها حكم.
ب ـ صدور هذه الافعال عن ارادة.
ج ـ ادلة العصمة.
فكل ما يصدر عنه (ص) بطبيعة الحال يكون موافقاً لأحكام الشريعة ومعبراً عنها، ويختلف الحال بين القسم الأول والثاني والثالث، واستثنى من ذلك مختصاته كالزواج بأكثر من اربع، وكذلك افعاله الطبيعية غير الارادية… واضاف: "اقصاه ان بعض افعاله تختلف عن البعض الآخر من حيث دلالتها على الحكم بعنوانه الاولي أو العنوان الثانوي، ودلالتها احياناً على جواز العمل بالحكم الظاهري، وهكذا"[27].
وما قاله استاذنا الحكيم صحيح، إلا انه يمكن توجيه كلام صاحب (سلم الوصول) بان القسم الاول لا يعني الاساس الذي صدر عليه هذا السلوك الخاص، وان القسم الثاني لا يكشف عن حكم شرعي ثابت كما هو الحال في القسم الثالث، إلا ان الذي يرد عليه أنه خلط في القسم الثاني بين الآراء الشخصية والمواقف الحكومية الولائية، حيث تعبر المواقف الحكومية عن مراعاة كاملة للأطر التشريعية العامة، والتوجيهات الاسلامية للحاكم الشرعي ـ كما سيأتي بيانه ـ والمصلحة العامة للأمة، مما يمكن ان يساعد في الكشف عن الحكم الاسلامي الثابت، وان كان هو لا يعبر عن حكم ثابت شامل باعتبار قيامه على اساس مراعاة الظروف الزمانية والمكانية.
وقد نستغرب ان يدخل في القسم الثالث مسألة (الحكم بين الناس) وهي لا تعبر عن حكم اسلامي ثابت، إلا أن يريد القواعد الثابتة لهذه المسألة.
هذا، وهناك امثلة كثيرة للأحكام الصادرة عن الأئمة لا مجال هنا للتعرض اليها بالتفصيل.
معيار التمييز بين الأوامر الشرعية والولائية
وربما كان هذا البحث من البحوث الأصولية الأصلية وان لم يتم الاهتمام به على النحو المطلوب.
وما يبدوا لنا ان هناك معايير فنية من قبيل:
أ ـ ان يتعلق الامر بالقضايا الخارجية.
ب ـ ان يحمل معه قرينة تدل على ذلك؛ كأن يكون في موقف القضاء أو الحكم بين الناس.
ج ـ ان يصدر في جو مخالف لمضمونه مجمع على عمومه الآبي عن التخصيص.
د ـ ان يفسره الأئمة والاصحاب بذلك وفق قرائن معينة عندهم، مما يخلق لنا الاطمئنان بالجو الذي صدرت فيه هذه الاوامر.
كما جاء في بعض الروايات عن أهل البيت (ع) من قبيل:
1 ـ محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم، ان أبيه، عن ابن ابي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، قال: سئل أبو عبد الله عن شراء النخل والكرم والثمار ثلاث سنين أو أربع سنين فقال: لا بأس، تقول ان لم يخرج في هذه السنة اخرج في قابل، وان اشتريته في سنة واحدة فلا تشتره حتى يبلغ، وان اشتريته ثلاث سنين قبل ان يبلغ فلا بأس. وسئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من أرض فتهلك ثمرة تلك الارض كلها، فقال: قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله (ص) فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرمه، ولكن فعل ذلك من اجل خصومتهم[28].
2 ـ محمد بن يعقوب باسناده، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن ابي جعفر (ع) انه سئل عن… والحمير والبغال والخيل ققال: ليس الحرام الا ما حرم الله في كتابه؛ وقد نهى رسول الله (ص) يوم خيبر عنها، وانما نهاهم من اجل ظهورهم ان يفنوه، وليست الحمر بحرام"[29].
3 ـ نقل الترمذي عن رافع بن خديج انه قال: "نهانا رسول الله (ص) عن امر كان لنا نافعاً إذا كانت لأحدنا ارض ان يعطها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كانت لأحدكم ارض فليمنحها اخاه أو ليزرعها"[30]. ويعلق الشيهد الصدر عليه بقوله…" ونحن حين نجمع بين قصة هذا النهي، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الارض في الشريعة بصورة عامة، ونضيف نصوص كثيرة واردة عن الصحابة تدل على جواز اجارة الارض، نخرج بتفسير معيّن لهذا النص… وهو ان النهي كان صادراً من النبي بوصفه ولي الأمر وليس حاكماً شرعياً عاماً"[31].
الاصل في المسألة
هذا وان لم يقم أي من هذه المعايير على تشخيص الموقف فان الاصل ـ والله اعلم ـ هو اتباع الطبيعة الغالبة، وهي كونه (ص) في موقف التبليغ.
ثالثاً: الاجماع: مر بنا ان هذا الأمر يعد من الأحكام الواضحة في الإسلام وذلك نتيجة لإجماع الأمة الاسلامية على استمرار الحكومة الاسلامية التي بدأت بعهد النبي (ص) والخلفاء الراشدين واستمرت بأشكال اخرى، ورغم الانحراف الذي اصاب بعض الحاكمين إلا ان اصل الحكومة لم يكن ليعترض عليه احد، بل شكلت ـ عند البعض ـ أمراً يجب احترامه حتى ولو كان الحاكم فاقداً للشروط المطلوبة.
رابعاً: طبيعة التشريع الاسلامي و (دليل العقل):
هذا وان المتتبع للشريعة الاسلامية بسعتها وعرضها العريض، واهدافها المعلنة كشريعة للحياة لكل واقعة فيها حكم، ولكل مشكلة منها رأي وموقف، ولكل جانب من جوانب الحياة الانسانية نظام شامل ومتشعب؛ هذا المتتبع لابد له ان يصدق تماماً بوجود نظام سياسي حكومي اسلامي، وان لهذا النظام صلاحياته التي تتطلب قيامه بفضّ النزاعات وملء المناطق المتعلقة بالشؤون الادارية والتنفيذية والتي ترتبط بالجانب المتغير من الحياة… وهذا المسلك ربما اطلق عليه اسم مسلك العقل، والمراد به المسلك الذي يعتمد على النتيجة المنطقية التي يخرج بها من يلاحظ مجمل الخصائص الاسلامية ومقاصد الشريعة واهدافها. والحقيقة ان التصور القائل بعدم الحكومة يعني ان الاسلام سلّم كل نظمه وقوانينه الحياتية بيد حكومة لم يخطط لها ولا تؤمن به، وهو أمر يدعو للسخرية[32].
الفصل الثالث
مسؤوليات الدولة وملاكات الحكم الولائي
لا تجدنا بحاجة للتأكيد على المسؤولية الخطيرة التي يتحملها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة الاسلامية؛ فهي مما يؤكد عليه كل الذي تعرضوا للموضوع وإن اختلفت تعبيراتهم.
يقول القاضي أبو يعلى الفرّاء: ويلزم الامام من امور الأمة عشرة اشياء:
احدها: حفظ الدين على الاصول التي اجمع عليه سلف الامة، فان زاغ ذو شبهة عنه بيّن له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والامة ممنوعة من الزلل. الثاني: تنفيذ الاحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصَفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حمية البيضة والذبّ عن الحوزة، ليتصرف الناس في المعاش وينشروا في الاسفار آمنين.
الرابع: اقامته الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من اتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الاعداء بغرّة ينتهكون بها حرماً، ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد.
السادس: جهاد من عاند الاسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما اوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه اليهم من الاعمال ويِكله اليهم من الاموال، لتكون الاعمال مضبوطة والاموال محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفّح الاحوال ليهتم بسياسة الأمة، وحراسة الملّة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذةٍ أو عبادة؛ فقد يخون الأمين ويغش الناصح[33].
وقد نقل الشيخ القرشي هذه العبارة دونما تعليق[34].
وهكذا نجد الفراء يحصر مسؤوليات الدولة الاسلامية في الصيانة العقائدية، والوظائف القضائية، والدفاعية، واقامة الحدود، وتنظيم الشؤون الاقتصادية والادارية، والاشراف على الشؤون العامة.
ويمكننا ان نتصور واجبات اخرى تلقي مسؤليات اضافية على الدولة في مجالات التعليم والاعلام، والعلاقات الدولية، والمواصلات وغير ذلك، إلا اننا نعتقد أن روح هذه الواجبات يتمثل في جملة عامة جاءت على لسان الامام علي (ع) حين قال: "ايها الناس، إن لي عليكم حقاً، ولكم عليَّ حق: فأما حقكم عليَّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم"[35].
فالنصيحة وحدها تعني القيام الحق بكل الواجبات الاعلامية العامة التي تناط عادة بالمسؤولين من قبيل: الاعلام، والدفاع، وتطبيق الشريعة، وتنظيم العلاقات الدولية، وبالتالي سد كل النقائص التي تتجاوز الواجبات الفردية وتحوّل إلى حقوق عامة.
وقد عقد امام الحرمين الجويني باباً واسعاً تحت عنوان (فيما يناط بالأئمة والولاة من الاحكام) فيه هذه الواجبات، فليراجع هذا الباب[36].
اما الاشارة إلى الجانب الاقتصادي والتعليمي والتربوي فهي اشارة ـ فيما اتصور ـ إلى بعض الجوانب الرئيسة والمهمة لا استقصاء لها، ولا اتصور من خلال استطلاع النصوص الاسلامية ان هناك حدوداً لواجبات الدولة الاسلامية ومسؤولياتها لا يمكنها ان تتعداها أو تتخلى عن بعضها.
فالحالة مرنة ومتروكة لمختلف الظروف الزمانية والمكانية، والمهم ان الدولة مكلفة بأن تنصح للأمة وتتكفل كل شؤونها العامة، مهما اتسعت هذه الشؤون أو ضاقت، بما يحقق مصالحها في اطار الشريعة الاسلامية.
والذي اتصوره ان نظام الحكم الاسلامي يمثل اكثر النظم الاسلامية مرونة في التطبيق، رغم انه يملك القواعد والضوابط التي تبقي عليه كنظام مهم وحساس؛ ومن هذه القواعد الثابتة:
أ ـ الشروط التي اكد على لزوم توفرها في الحاكم الشرعي من (الفقه والعدالة والكفاءة).
ب ـ اعتماد مبدأ الشورى اجمالاً {وأمرهم شورى بينهم}[37].
ج ـ اعتماد بعض الشروط في الموظفين وفي طليعتها (الامانة والتناسب) كما جاء في قوله تعالى: {قال اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم}[38].
{قالت إحداهما يا أبتِ استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين}[39].
وتكمن مرونته في ما يلي:
اولاً: عدم تحديد اطار خاص لنوع الحكم وتفصيلاته.
ثانياً: اعطاء الحاكم اصدار الحكم الولائي وفقاً لما يراه في عملية تطبيق الاحكام الاولية وتحقيق مقاصد الشريعة ومقتضيات النصيحة للأمة ومصالحها العامة.
ثالثاً: اعطاء الحاكم بعض المؤشرات التنظيمية والتي تهديه في مجال انتخاب اصلح الصور التنظيمية، ولكن بدون تقييد معين له.
والامران الاول والثاني مما اجمعت عليه الامة، مما يجعلنا في غنىً عن الاستدلال عليهما.
نعم حاول البعض أن يؤكد على نوع خاص من الحكم معتمداً على التطبيقات التي تمت في عصر الرسول (ص) أو بعده، كما رفضت بعض الفرق الاسلامية الايمان بالمصلحة كمصدر يقوم عليه الحكم الصادر، إلا ان رفضها انما هو في مجال الافتاء؛ فليس للفقيه ان يعتمد المصلحة المرسلة ـ في تصوره ـ لإصدار فتواه، ولكن ذلك انما هو في المجال الفردي الافتائي، اما المجال الاجتماعي الحكومي فلم نجد من يخالف اعتماد الحاكم الاسلامي على المصلحة (وحتى المصلحة المظنونة ظناً عقلائياً) في اصدار احكامه الولائية[40].
اما الامر الثالث فهو الذي يحتاج إلى نوع من الشرح والتوضيح، وربما كان المرحوم الشهيد الصدر خير من تعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل؛ فهو يقول في عرضه لصورة عن اقتصاد المجتمع، الاسلامي:
ان هناك عناصر ثابتة تتمثل في الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة، وأخرى متحركة تستمد من المؤشرات الاسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة؛ أما كيف يمكن استنباط العناصر المتحركة من المؤشرات الاسلامية؟ فان الأمر يتطلب:
1 ـ منهجاً اسلامياً واعياً للعناصر المتحركة وادراكاً معمقاً لمؤشراتها ودلالاتها العامة.
2 ـ استيعاباً شاملاً لطبيعة المرحلة وشروطها/ ودراسة دقيقة للأهداف التي تحددها المؤشرات العامة وللاساليب التي تتكفل بتحقيقها.
3 ـ فهماً فقهياً قانونياً لحدود صلاحيات الحاكم الشرعي (ولي الأمر)، والحصول على صيغة تشريعية تجسد تلك العناصر المتحركة في اطار صلاحيات الحاكم الشرعي وحدود ولايته الممنوحة له.
ويضيف: "ومن هنا كان التخطيط للحياة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي مهمةً يجب ان يتعاون فيها مفكرون اسلاميون واعون ويكونون في نفس الوقت فقهاء مبدعين وعلماء اقتصاديين محدثين"[41].
ويؤكد بعد هذا على ان هناك خطوطاً عامة للمؤشرات، يذكرها على النحو التالي:
أ ـ اتجاه التشريع: بمعنى ان تتواجد احكام منصوصة في الكتاب والسنة تتحد كلها نحو هدف مشترك يهتم به الاسلام، ويمثل له بمسألة ربط الاسلام للكسب بالعمل، والتي يستفيدها من مجموعة احكام، كسماح الاسلام للملكية الخاصة لرقية المال في مصادر الثروة الطبيعية، وتحريم الحمى، وغير ذلك.
ب ـ الهدف المنصوص عليه من قبيل قوله تعالى:
{ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم}[42]، حيث يدل على لزوم ايجاد التوازن ونشر الثروة بين افراد المجتمع ـ كما سيأتي في الحديث عن مؤشرات النظام الاقتصادي ـ.
ج ـ القيم الاجتماعية التي يؤكدها الاسلام كالمساواة والاخوة والعدالة والقسط.
د ـ اتجاه العناصر المتحركة على يد المعصوم (ع) ـ من قبيل ما ذكرناه من قبل ـ عنه (ص).
نماذج من المؤشرات العامة (الثابتة):
قلنا تن هذه المؤشرات هي عناصر ثابتة يستفيد منها الحاكم الشرعي لقيادة الساحة وهدايتها على اساس من مقاصد الاسلام؛ ومقاصد الاسلام واضحة في نصوصه، كالعدالة والاخوة وحفظ النسب والدين والمال والعرض، ولن ندخل في تفصيلاتها، ولكننا نرى ان نمثل لها في مختلف النظم الاسلامية ومنها مثلاً:
أ ـ نظام الحكم الاسلامي:
فهناك نصوص تتعلق به وتشكل منبعاً لهذه المؤشرات من قبيل:
1 ـ قوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم}[43]، وقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[44].
ولسنا نريد الاستدلال بهاتين الآيتين على مشروعية نتائج الانتخاب لتأتي بعض الاشكالات الفنية الاصولية التي أوردها السيد الحائري على هذا الاستدلال[45]، وانما قصد القول بأن هاتين الآيتين تشكلان منبعاً لولي الأمر يستنبط منهما بعض القواعد لتنظيم عمليات الادارة العامة والاستفادة من (المشاركة الشعبية) وعمليات (الانتخاب) و(الاستفتاء) و (اعتماد مبدأ مجالس الشورى) وغير ذلك.
2 ـ قوله تعالى على لسان يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم}[46].
وقوله تعالى على لسان ابنة شعيب: {يا أبتِ استأجره ان خير من استاجرت القوي الامين}[47].
وتشكلان منبعين لمعرفة شروط الموظفين، وإيكال المسؤوليات الادارية إلى الاشخاص والجهات المناسبة وحل مشكلة (التخصص والتعهد).
وفي هذا السياق يقول الامام علي (ع) في عهده التاريخي المعروف لمالك الأشتر حين ولاّه على مصر.
"انظر في امور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فانهم جماع من شُعب الجور والخيانة وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة، والقدم في الاسلام المتقدمة، فانهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً واقل في المطامع إشراقاً وأبلغ في عواقب الامور نظراً"©[48].
الواقع ان هذا العهد التاريخي يعد من أروع النصوص في مجال تنظيم الحياة العامة، وينبغي ان يقتفي اثره الحاكون في عالمنا وفي كل زمان ومكان. وينقل الدكتور نوري جعفر عن الامام علي (ع) قوله الرائع:
"ولا تقبلنّ في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلاّ شفاعة الكفاءة والامانة". ويقول: ان اخضاع التوظيف للشفاعة وسائر المؤثرات انما هو تدمير لمصالح الامة وتضييع لحقوقها"[49].
3 ـ قوله (ص): "إنّا والله لا نوليّ هذا العمل احداً سأله أو أحداً حرص عليه"[50]. وهو نص يستفاد منه الحاكم الشرعي الكثير في اختياره للموظفين وغير ذلك.
ب ـ النظام الاقتصادي:
والنصوص التي تذكر هنا متعددة منها:
1 ـ قوله تعالى:
{كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم}[51].
وقد قلنا انه يشير إلى ان التوازن وتوزيع الثروة امر مطلوب اسلامياً.
2 ـ النصوص الواردة في مسألة الزكاة وانها تعمل على ايصال الفقير الى مستوى الغنى[52].
ج ـ النظام الاجتماعي:
والنصوص التي نشير اليها كمثال على ذلك هي ما يلي:
1 ـ {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}[53].
حيث يشير النص الى ضرورة التناسب بين الحقوق والمسؤوليات.
2 ـ كل النصوص التي تتجه لحفظ الكيان العائلي وعدم المساس به ونفي المقدمات التي تؤدي إلى انحلاله، فانها تؤكد ان العائلة هي اساس البناء الاجتماعي، ويجب سد كل الذرائع المؤدية إلى تفسخها وطرح البدائل عنها.
3 ـ قوله تعالى على لسان سيدنا لوط (ع): {قال يا قوم هؤلاء بناتي هنّ اطهر لكم}[54].
وهي واضحة في لزوم طرح البدائل الاجتماعية للعادات والتقاليد الضارة.
د ـ نظام العلاقات الدولية:
ونشير إلى بعض النصوص فيه:
1 ـ قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}[55].
حيث تطرح مبدأ الحوار مع الآخرين والاجتماع على النقاط المشتركة لتقويتها.
2 ـ {وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً}[56].
وهي تعبر عن مبدأ عام في مجال المعاهدات الدولية.
3 ـ {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}[57].
وهي تعبر تماماً عن مسألة النموذج الحضاري الذي يجب ان تكون الامة الاسلامية دائماً على مستواه.
4 ـ قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}[58].
وهي تمثل أروع قاعدة في مجال التعامل الدولي.
وغير ذلك من النماذج التي نكتفي منها بما ذكرناه والحديث عنها واسع الابعاد.
ملاحظات مهمة في البين
الاولى:
يجب التأكيد على ان الحالة الطبيعية التي يريدها الاسلام هي ان تطبق كل احكامه الاولية على كل مناحي الحياة، فهي الأصل الطبيعي المطلوب، واي خروج عن هذا الاصل يجب ان يعد استثنائياً بمقدار ما تفرضه الظروف ويسمح به الاسلام، بل قد يقال بانه ينبغي العمل على تقليل حالة الاستثناء مهما امكن للعودة إلى الحالة الطبيعية المطلوبة.
وهذا الأمر يعني أن المباحات الخاصة؛ أي تلك التي نعلم ان اباحتها (سواء كانت الاباحة بالمعنى الخاص أي الاستحباب أو الكراهة ـ أو بالمعنى العام أي ما عداهما) جاءت بمقتضى ملاك خاص للإباحة أقام الاسلام الحكم على اساسه، كما في مسائل الزواج والطلاق والزراعة والصناعة والتناسل وغير ذلك؛ هذه المباحات تدخل في نفس القاعدة التي ذكرناها معبرةً عن الحالة الطبيعية، بل يمكن ان يقال ان المباحات التي لا تقوم على ملاك خاص يقتضى الاباحة، وانما جاءت الاباحة من عدم وجود ملاك ملزم فيها، هذه المباحات أيضاً تشكل حالة طبيعية ينبغي مراعاتها مهما أمكن.
وهكذا نعد من مسؤليات الحكومة الاسلامية العمل على التقيد التام بالأحكام الاولية، الا إذا اقتضت المصلحة العامة ووفق الضوابط الاسلامية القيام بتحويل الاحكام المباحة إلى احكام إلزامية او تحويل بعض الاحكام الالزامية إلى احكام مباحة نتيجة تزاحمها مع أحكام أهم. كما سيأتي ذلك في الفصل التالي.
الثانية:
ان الدولة الاسلامية قد تصدر حكماً حكومياً على اساس من عنوان ثانوي تشخصه هي، فيجب التزام الافراد به حتى لو لم يدركوا بأنفسهم انطباق العنوان الثانوي هذا، وذلك طاعة لها، اللّهمّ إلا ان تترك الامر لمثل هؤلاء الذين لا يدركون الملاك الثانوي كالعسر والحرج والضرر أن لا يطبقوا الامر على انفسهم، فهذا أمر آخر.
الثالثة:
ان المؤشرات التي ذكرناها أو التي لم نتعرض لها قد تحمل اتجاهاً الزامياً، وقد لا تملك ذلك، وانما تعيين المسير العام للحاكم الشرعي مع طرح البدائل المتنوعة، فيجب الانتباه إلى هذا الجانب بدقة.
الفصل الرابع
الامكانات التشريعية للحاكم الشرعي
بعد ان لاحظنا المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق الحاكم الشرعي أو ولي الامر، فان من الطبيعي ان تتناسب هذه المسؤوليات مع الامكانات؛ وهذه الامكانات بعضها تشريعية والآخر امكانات اقتصادية وغيرها. وسوف نركز في هذا الفصل على الامكانات القانونية التي تفسح المجال للقيام بمسؤولياته الكبرى.
وتلخص هذه الامكانات التشريعية في نفوذ امره شرعاً في مجال واسع اختلفت التسميات التي تطلق عليه؛ فقد سمي احياناً بمنطقة الفراغ التشريعي (ولا يقصد به وجود نقص في التشريع وانما المراد به الفراغ الذي تركه الشارع ـ مرونةً منه ـ ليملأه الحاكم الشرعي)، كما سمي بمنطقة المباحات (بمعناها الأعم الشامل للمستحبات والمكروهات)؛ ونحن نفضل تسميته بالمنطقة الولائية لأسباب موضوعية. فما هي مساحة هذه المنطقة الولائية؟ وهل تختص بالمنطقة المباحة (بالمعنى الأعم) أو تشمل المنطقة الالزامية في الأحكام الولائية؟ هذا ما نود التعرض اليه فيما يلي:
ومن الواضح اننا نستيطع تقسيم المنطقة التشريعية الى منطقتين لا غيرهما: (المنطقة المباحة) و (المنطقة الالزامية)، ولا يتصور حكم يخرج عنهما. وباستعراض موارد نفوذ حكم الحاكم نجدها تشمل المنطقتين معاً، ولكن على اسس مختلفة، ولذلك تختلف الآثار.
دفع وهم:
وقبل الدخول في هذه المجالات لابد من رفع شبهة قد تعرض في البين.
وملخصها: ان طاعة الحاكم الشرعي غير مطلقة، وانما تجب إذا اتفقت مع التشريع الاسلامي (وقد تضافرت الاخبار بذلك):
فقد اثر عن النبي (ص) انه قال: "انما الطاعة في المعروف؛ فمن امركم بمعصية فلا تطيعوه"، وقال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا امر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وقال (ص): "سيكون عليكم امراء يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون؛ فليس لأولئك عليكم طاعة. ان الطاعة انما تجب فيما إذا امر الولاة بالحق والعدل واما إذا جافوا ذلك فلا طاعة لهم"[59].
هذه حقيقة لا مراء فيها، فاذا ضممنا إلى ذلك حقيقة اخرى وهي ان الحكم بالاباحة هو حكم الهي أيضاً امكننا ان نستنتج ان أي أمر يمكن ان يصدر من الحاكم الشرعي حتى لو كان في المنطقة المباحة ـ فضلاً عن المنطقة الالزامية ـ هو حكم الهي ليس لأحد ان يحكم بخلافه، وبهذا لا يبقى أي مجال لنفوذ حكم الحاكم الشرعي.
إلا ان الاجابة على هذا التوهم واضحة، وذلك أن الشارع نفسه هو الذي اعطى ولي الأمر صلاحية تغيير الحكم على ضوء مقاييس محددة؛ فلا يعد الالتزام بأمره مخالفة ومعصية لأمر، حتى ولو كان الأمر يتعلق بالحكم الالزامي، وانما المهم ان يكون الحاكم قد سلك الطريق الشرعي الصحيح لإصدار حكمه هذا.
وهذه الروايات تشير إلى الحكام المستبدين الذين لا يلتزمون السبيل الشرعي لإصدار الاحكام، وانما ينطلقون في ذلك من منطلق أهوائهم وشهواتهم واستبدادهم.
فلننظر اذن لمسألة نفوذ حكم الحاكم في كلتا المساحتين:
المساحة المباحة
وقبل كل شيء لابد أن نذكر أن الاحكام المباحة تنقسم ـ على الظاهر ـ إلى قسمين :
القسم الأول: ما كان مباحاً لعدم وجود ملاك إلزامي فيها.
والقسم الثاني: ما كان مباحاً لوجود ملاك يلزم بالإباحة فيها، ولكن دونما الزام بالفعل أو بالترك، بل قد رجح لدى الشارع الفعل أو الترك رجحاناً غير الزامي.
فهل يدخل القسم الثاني في دائرة الاحكام الالزامية ـ من زاوية بحثنا ـ الذي نعتقده هو أن الامر في هذا القسم الثاني اصعب منه في القسم الأول، وان الحاكم الشرعي ما لم تقم لديه الحجة الشرعية لا يستطيع الدخول في هذه المنطقة، ولكن الأمر فيها لا يبلغ ـ على الظاهر ـ مبلغه في الاحكام الالزامية.
وعلى أي حال، فنحن نتصور الاقسام التالية في منطقة المباحات، وربما كانت متداخلة احياناً:
القسم الاول: المباحات الفردية المعروفة في الشريعة كالمشي، والتكسب، والاقامة، والزراعة، والاحياء وغيرهما مما يباح للمرء ان يقوم بها أو يتركها إلى بديل عنها.
القسم الثاني: المباحات الاجتماعية: ويقصد بها الاساليب التي يباح للمجتمع ان يسلكها في عملية تطبيق النظم التشريعية الاسلامية، إذا كانت هناك بدائل تطبيقية متنوعة، وذلك كما في مسألة تطبيق النظام اللاربوي، وتطبيق نظام الحكم الاسلامي، أو كيفية تنفيذ العقوبات الاسلامية، وما إلى ذلك.
القسم الثالث: تعيين المصاديق المتنوعة التي تعمل على تشخيص الموارد الانسانية أو غير الانسانية لتحقيق المسيرة المحددة، وهي ـ كما قلنا ـ تشمل تعيين الاشخاص كتعيين الوالي أو القيّم، كما تشمل تعيين الموضوعات كتعيين نوع الطعام، أو نوع السلوك، أو المساحة المكانية، أو الزمانية، أو تعيين الهلال، أو الحكم في الموارد القضائية.
وللحاكم القيام بإصدار احكامه الالزامية منعاً أو ايجاباً في كل هذه الاقسام، وذلك على اساس من المباني التي ذكرناها في الفصل السابق.
"وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات اولي الأمر، تضم في ضوء هذا النص الكريم" (يقصد آية الاطاعة) كل مباح تشريعاً بطبيعته، فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته ووجوبه… يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية بالمنع عنه أو الأمر به؛ فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته اصبح حراماً، وإذا امر به اصبح واجباً"[60].
والواقع ان هذا هو القدر المتيقن من نفوذ حكم ولي الأمر، وبدونه لا يبقى أي معنى لإطاعة ولي الامر بما هو ولي للأمر وعلى ضوء الحاجة إلى قيادته وولايته، لانه يحتاج اليه في ملء هذه المنطقة عبر عمله على تحقيق المصلحة الاجتماعية وسعية لسن القوانين التنفيذية، والقوانين بطبيعة الحال تخالف الحالة الاولية، أو الأحكام الاولية للسلوكات، وذلك لما فيها من تنظيم وتحديد، ولا يمكن تصور قانون من دون تحديد أو تقييد. نعم، يمكن ان يكون القانون مرناً ولكن الميوعة والتسيب تعني فناء القانون، كما ان هذا هو المعروف دائماً من عمل الحكام. وعليه يحمل مقصود الشرع من تعيين ولي الأمر وصلاحياته.
يقول المرحوم الشيخ الانصاري: " ثم ان الظاهر من الروايات المتقدمة (يقصد روايات تعيين الفقيه حاكماً) نفوذ حكم الفقيه في جميع خصوصيات الاحكام الشرعية، وفي موضوعاتها الخاصة بالنسبة الى ترتب الاحكام عليها، لأن المتبادر عرفاً من لفظ (الحاكم) هو المتسلط على الاطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: جعلت فلاناً حاكماً عليكم، حيث يفهم منه تسلطه على الرعية في جميع ما له دخل في اوامر السلطان جزئياً أو كلياً… ومنه يظهر كون الفقيه مرجعاً في الأمور العامة"[61].
وينبغي هنا ان نذكر ان مسألة تشخيص الموضوعات الاجتماعية هي من هذه الموارد؛ فبالإضافة إلى وضوح موضوع اسناد امر القضاء (وهو يركز على تعيين الموضوعات قبل كل شيء) إلى الفقيه الحاكم، نجد ان هذه المسألة في الواقع تعود إلى مسألة اتخاذ الموقف العملي الفردي والاجتماعي الذي يرفع أي ابهام في المسيرة الاجتماعية، وهي من وظائف الفقيه الحاكم بلا ريب[62].
ويمكننا أن نقول ان القسم الثاني المذكور (من اقسام المباحات) يعود في الواقع إلى (القسم الثالث) لانه يعني تعيين اسلوب معين من بين الاساليب البديلة لتطبيق الحكم الشرعي؛ فإذا عين الحاكم الاسلامي نظاماً مصرفياً خاصاً يتجنب فيه الربا ويطبق فيه نظريات الاسلام الاقتصادية فقد وجب على المجتمع الطاعة والالتزام به، التزاماً بتوحيد الموقف الاجتماعي والمسيرة السليمة، وكذلك الأمر في المسألة الاجتماعية والحقوقية وغيرها.
ويتحدث صاحب الجواهر عن هذه الولاية العامة في سياق تعريفه للقضاء، مشيراً إلى ان هذه الولاية هي أعم من القضاء، وان القضاء من فروع الرئاسة العامة فيقول:
"وفي الدروس: القضاء ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة من قبل الامام (ع)… ولعل المراد بذكرهم الولاية ـ بعد العلم بعدم كون القضاء عبارة عنها ـ بيان ان القضاء الصحيح من المراتب والمناصب كالإمارة، وهو غصن من شجرة الرئاسة العامة للنبي (ص) وخلفائه(ع)، وهو المراد من قوله تعالى: {يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم…}[63]، بل ومن الحكم في قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبياً}[64]".
قال أمير المؤمنين (ع) لشريح "قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو أو شقي"[65]. وقال الصادق (ع): "اتقوا الحكومة، انما هي للامام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين كنبي أو وصي"[66].
ويضيف: "من السياسة الواجبة على الإمام (ع) نصب ما يستقيم به نظام نوع الانسان"[67].
وعند حديثه عن الفرق بين الفتوى والحكم يقول: "والظاهر ان المراد بالاولى (الفتوى) الاخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر، وأما قول هذا القدح نجس لذلك فهو ليس فتوى في الحقيقة وان كان ربما يتوسع بإطلاقها عليه، واما الحكم فهو انشاء انفاذ من الحاكم ـ لا منه تعالى ـ لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص، ولكن هل يشترط فيه مقارنته لفصل خصومة (أي ان يكون في خصوص القضاء) كما هو المتيقن من ادلته ـ لا اقل من الشك والأصل عدم ترتب الآثار على غيره ـ أو لا يشترط لظهور قوله (ع) "اني جعلته حاكماً"[68] في ان له الانفاذ والالزام مطلقاً، ويندرج فيه قطع الخصومة".
المساحة الالزامية
وما يبدو لاول وهلة ان لا نفوذ لحكم الحاكم فيها لانها المنطقة الممنوعة في الشريعة؛ الا أن الحقيقة هي أن لأمر الحاكم مجالاً في هذه المنطقة أيضاً.
يقول الإمام الخميني (رحمه الله) في احدى رسائله:
"ان كانت صلاحيات الحكومة تنحصر في اطار الاحكام الفرعية الالهية امكن القول بأن الحكومة الالهية والولاية المطلقة لنبي الاسلام (ص) ظاهرة بلا معنى ولا مضمون. اشير إلى ان نتائج هذا التصور مما لا يمكن ان يلتزم بها احد؛ فمثلاً نلاحظ ان عملية شق الشوارع تستلزم التصرف في بيت أو حريم هذا البيت، وهي مسألة لا تدخل في اطار الاحكام الفرعية، ومسألة التجنيد والارسال الاجباري للجبهات، والمنع من دخول العملة الصعبة وخروجها، والمنع من دخول البضائع أو خروجها، ومنع الاحتكار في غير بعض الموارد… ومئات الامثلة هي من صلاحيات الدولة؛ فهل يمكن التزام بها؟ (وفق تفسيركم) يجب ان اقول ان الحكومة ـ وهي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله (ص) ـ هي احدى الاحكام الاولوية والمقدمة على كل الاحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.
وللحاكم ان يهدم مسجداً او منزلاً يعترض شارعاً، ويدفع قيمته لصاحبه. يستطيع الحاكم ان يهدم مسجداً عند اللزوم، ويهدم المسجد الضرار… وان للحكومة ان تفسخ ـ من طرف واحد ـ عقودها مع الناس عندما تجد أن هذه العقود تخالف المصلحة العامة للبلاد، والاسلام"[69].
وقد يبدو هذا غريباً لأول وهلة، بل قد يبدو انه نقض لغرض الشارع لا اجراء لأوامره (تعالى)، إلا اننا اذا رجعنا إلى مبادئ التزاحم وما يقرره العلماء نجد الامر عقلائياً وشرعياً تماماً.
فالأحكام الالهية قد تتزاحم نتيجة لبعض الظروف، فلا يمكن تنفيذها معاً، وحينئذٍ فإما أن يُترك الحكمان المتزاحمان على حالهما من عدم التنفيذ ـ وهو امر مرفوض قطعاً، إذ المفروض القدرة على احدهما ـ أو يعمل على تقديم الأهم على المهم، وهذا هو الامر الصحيح الذي اجمع عليه العقلاء والعلماء، وربما رجعت اليه بعض تعريفات (الاستحسان) المقبوله[70].
فإذا كان الفقهاء عموماً يقدمون الحكم المضيّق على الموسّع، وما كان امره معيّناً على ما كان أمره مخيّراً، وما كان مشروطاً بالقدرة العقلية على ما كان مشروطاً بالقدرة الشرعية، وبالتالي ما كان اهم منهما على غيره، فان الأمر هنا يتجلى بشكل أوضح عندما يتزاحم بقاء مسجد مع حاجة الناس الماسة والضرورية إلى شارع تتنفس به البلدة وينتظم فيه أمرها، وعندما يتزاحم امر تمتع الافراد بحرياتهم في الاقامة مع مسألة الحفاظ على استقلال البلاد وكيانها، فان مقتضى الحكم الشرعي اجبارهم على الذهاب الى الجبهة للدفاع، وعندما يهدد الاستيراد اقتصاد الدولة فان للدولة منعه أو فرض ضرائب تصاعدية عليه، وعندما يؤدي خروج العملة الصعبة إلى تخلخل الوضع النقدي العام فمن الطبيعي ان يتم منعها من الخروج وفرض عقوبات عليها قد تصل الى حد المصادرة.
ان الحالة الطبيعية تقتضي هذا الامر بكل وضوح، بل يمكن القول بأن الحاكم الشرعي عندما يجد ان تطبيق حكم شرعي معين قد يؤدي إلى نتائج عكسية كبرى لظروف خاصة، كما في مسألة تطبيق مسألة (الرجم) اليوم مع وجود معارضة عالمية وضجة مفتعلة قد تؤدي إلى القضاء على وجود الدولة وكيانها؛ فان بإمكانه تنفيذ قوانين التزاحم وتقديم الأهم على المهم بالانتقال الى عقاب اكثر قبولاً يرفع به هذا التزاحم. طبعاً مع ملاحظة ان الحالة استثنائية وانه يجب الالتزام الكامل بالحكم عند ارتفاع الضغط، وإلى هذا المعنى تعزى مسألة التدرج في اعطاء الاحكام في صدر الاسلام أو تدرج بعض الدول الاسلامية في تطبيق الاحكام الاسلامية لكي تتلافى الصدمة وتمهد للمستقبل.
ولكن يجب هنا التحوط الكامل وسلوك كل الطرق التي تحافظ على تنفيذ الحكم الالزامي، فالمندوحة هنا مطلوبة متبعة؛ فإذا تأكد الحاكم الشرعي من ذلك عمد إلى بديل موقت لهذا الحكم، وهذا هو مقتضى المنطق والحكم الشرعي للفقهاء. وهناك حالة اخرى يمكن ان نتصورها، وهي تكشف عن مجال لنفوذ حكم الولي في الساحة الالزامية، فقد يجب الحج على الفرد إلا ان الحاكم يوجب عليه الجهاد؛ أي يوجد حالة من حالات التزاحم لديه، وحينئذٍ يقدم هذا الفرد عملية التزامه بالجهاد على عملية التزامه بالحج لأهمية الجهاد.
فالحاكم اما ان يقوم هو بعملية ترجيح الحكم الاهم، أو يوجد عملية التزاحم ليتم ترجيح الاهم على اساس من ذلك.
وكل ذلك قائم على اساس من تحقيق مقاصد الشريعة واهدافها ومؤشراتها، ومن هنا يعبر الامام الخميني عن نفس عملية تمتع الحاكم بهذه الصلاحية بأنها من (الاحكام الاولية)؛ أي من الاحكام الثابتة في الشريعة بنفسها، وان كان تطبيقها يؤدي إلى عملية استثنائية أو (ثانوية) كما يعبر الشهيد الصدر[71] تراعى مادامت ظروف الصدور قائمة في نظر الحاكم الشرعي.
والذي اعتقده انه لا خلاف بين الرأيين السابقين؛ فان الشهيد الصدر عندما يتحدث عن منطقة المباحات يتحدث عن الاحكام التي يصدرها ولي الامر على اساس من المقاصد العامة والمؤشرات المعطاة لتنظيم شؤون الامة ـ يمانع في قيامه في الحالات الاستثنائية بمواجهة مرحلة التزاحم الاجتماعي بالموقف اللازم ـ. وبعض الامثلة التي يضربها الشهيد الصدر بعد مقولته السابقة تدل على هذا العمل؛ فقد ذكر موضوع نهي النبي (ص) عن منع فضل الماء والكلأ وتحديد الاسعار، وهي تعبر عن تصرف في ملكية الآخرين، وهو تصرف ممنوع بعنوانه الاولي.
ولكن إذا عبرنا مسألة التزاحم إلى مسألة أخف منها، وهي ما لو رأى الإمام مصلحة غير ملزمة في التصرف بأموال البعض ـ مثلاً ـ لتحقيق قدر أكبر من التوازن الاجتماعي، أو لشق الطرق التي تعترضها مساجد أو بيوت لتحقيق رفاه اجتماعي أكبر، فما هو الموقف؟ ان قواعد التزاحم لا تجري هنا، فهل من سبيل إلى اتخاذ هذا القرار؟ وما الملزم في اطاعته؟
قد يمكن الاستناد إلى كون النبي (ص) اولى بالمؤمنين من انفسهم؛ وحينئذٍ فله أن يحقق المصلحة بأي وجه كان، وهذه الاولوية ليست من باب التسامي الروحي مثلاً، وانما هي من باب ولايته العامة على المؤمنين؛ ولذا نجده يفرع على هذه الاولوية بعض الاعمال التي تتصل بها.
ومن هنا يقال بانتقال هذه الاولوية ـ بطبيعة الحال ـ الى ولاة الامر بعده، فتكون لهم هذه الصلاحية. وقد يقال: ان الساحة الاجتماعية لا تتحمل التقسيم إلى اللازم وغير اللازم؛ فكل عمليات الرفاه الاجتماعي، والتوازن الاجتماعي هي واجبات على الامام ان يحققها بأي اسلوب شاء، لأن المصلحة الاجتماعية في التصور الاسلامي مقدمة على المصلحة الفردية.
كما قد يقال: ان الملكية والمالية إنما شرعت لتقويم المسيرة الاجتماعية، ولذلك يقول القرآن الكريم:
{ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياماً}، فرغم ان هذا المال هو ملك السفيه إلا ان القرآن ينسبه إلى المجتمع، ويؤكد ذلك على ان المال انما هو قوام المجتمع وقيامه، وحينئذٍ فان المصلحة الاجتماعية هي في الواقع مصلحة الفرد نفسه.
إلا ان كل ذلك يحتاج إلى تفصيل ودقة اكبر حتى يمكن الوصول إلى اليقين في هذا المجال.
ولي الامر وانتخاب الفتوى الملائمة
في أحد بحوثنا الماضية التي طرحت حول مسألة (التلفيق والأخذ بالرخص)، قلنا بأن للفرد ان يأخذ بمسألة التلفيق بين الفتاوى، بعد أن بنينا ذلك على عدم لزوم اتباع الأعلم في التقليد، وهي مسألة اختلفنا فيها مع المشهور بين علماء الامامية، واتفقنا فيها مع المشهور بين علماء المذاهب الاربعة.
ولسنا نريد إعادة البحث هنا، ولكنا نريد ان نتحدث عن حقيقة مهمة هنا هي ان الحاكم الشرعي يستطيع أن يعتمد فتواه أو فتوى غيره مما يراه منسجماً اكثر من غيره مع مجمل الخط العام الاسلامي؛ فيصدر امره بجعل هذه الفتوى حكماً عاماً وقانوناً تتبعه الأمة بما فيها سائر المجتهدين بما يشمل القائلين بخلاف تلك الفتوى. وهذا المعنى انما يتصور في مجال الحياة العامة لا السلوك الفردي[72].
ولتوضيح الامر نقول:
ان المجال هنا ليس مجال تقليد العامي للمجتهد ليأتي بحث (الأعلمية)، وإنما هو مجال ادارة الحياة العامة بما يحقق المقاصد الاسلامية وفق الاحكام التي شرعها الشارع الحكيم (تعالى)، في اطار تخطيط اسلامي للحياة، قد يتطلب احياناً اللجوء الى فتوى معينة هي اكثر انسجاماً مع المصلحة العامة وتشكل مع غيرها مجموعة متكاملة، مما يدفع إلى انتقائها وجعلها قانوناً بعد ان كانت حصيلة اجتهاد اسلامي جارٍ وفق الطريقة الشرعية لاستنباط الاحكام. فلو كان الحاكم ممن يقولون بمسألة تعدد الآفاق ـ كما هي فتوى الشافعية ـ وبالتالي تعدد اوائل الشهور ـ الشهر ـ القمرية في العالم الاسلامي، إلا انه كانت هناك فتوى معتبرة ـ وحبذا لو كانت مشهورة أيضاً ـ تقول بوحدة الآفاق وكفاية رؤية القمر في أي مكان من العالم للحكم بدخول الشهر القمري، كما هي مثلاً فتوى المذاهب الثلاثة (الحنفي والمالكي والحنبلي) وبعض علماء الامامية كالمرحوم الامام الخوئي والامام الشهيد الصدر[73]، فإن للحاكم الشرعي ـ لا بصفته يفتي لمقلديه، بل بصفته يدير شؤون الامة الاسلامية ـ ان ينتخب هذه الفتوى ويحولها إلى حكم الزامي تدار على اساس منها شؤون الأمة.
فملاك عمل الفرد في تقليده هو الوصول الى الرأي الحجة بينه وبين ربه في المجال العملي، في حين ملاك عمل الحاكم الشرعي هو ما بينّاه في الفصل الثالث من تحقيق مقاصد الشريعة واشاراتها، مع الحفاظ على المصلحة العامة للأمة في اطار ما منحته الشريعة من صلاحيات قانونية.
ولكي نقرب الأمر إلى الذهن نلاحظ أن الباحث المسلم، لكي يكتشف مذهباً حياتياً كالمذهب الاقتصادي الاسلامي أو المذهب الاجتماعي أو الحقوقي أو غير ذلك، قد يجد فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين، لكنها تشكل وجهاً واحداً لخط عام منسجم، وحينئذٍ فانه يستطيع ان يطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور.
وهذا ما فعله المرحوم الشهيد الصدر ـ وهو من كبار المجتهدين ـ في كتابه "اقتصادنا" وقال مفسراً ذلك: "ان اكتشاف المذهب الاقتصادي يتم خلال عملية اجتهادية في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطّراد واحد، وعرفنا ان الاجتهاد يتنوع تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضاً والبعض الآخر وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنّونها. كما عرفنا أيضاً ان المجتهد يتمتع بصفة شرعية وطابع اسلامي مادام يمارس وظيفته ويرسم الصورة ويحدد معالمها ضمن اطار الكتاب والسنة، ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها".
وينتج عن ذلك كله ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الاسلامي ووجود صور عديدة له كلها شرعي وكلها اسلامي، ومن الممكن ان نتخير في كل مجال اقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة واقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الاهداف العليا للاسلام، وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حريته ورأيه".
ويضيف: "ان ممارسة هذا المجال الذاتي، ومنح الممارس حقاً في الاختيار ضمن الاطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون احياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعملية الاكتشاف".
ثم يضيف متسائلاً: "هل من الضروري ان يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين ـ بما يتضمن من احكام ـ مذهباً اقتصادياً متكاملاً واسساً موحدة منسجمة مع بناء تلك الاحكام وطبيعتها؟ ونجيب عن هذا التساؤل بالنفي، لأن الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الاحكام معرض للخطأ، ومادام كذلك، فمن الجائز ان يضم اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الاسلام… ولهذا يجب ان نفصل بين واقع التشريع الاسلامي كما جاء به النبي (ص) وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين"[74].
فإذا كانت الحال هذه ـ مع اكتشاف النظرية العامة للاسلام من قبل مجتهد ما ـ مشروعة، فهي اولى في المشروعية عندما يراد اصدار قانون عام وذلك:
اولاً: لما يملكه الحاكم الشرعي من صلاحية واسعة لتحويل الاحكام وفق المبادئ المعطاة.
ثانياً: لكون هذه الحالة مؤقتة، في حين يراد للنظرية أن تكون دائمة.
ثالثا: لأنه يعتمد على خبراء الدولة ومشاورتهم في معرفة الواقع القائم واكتشاف التلاؤم بين الفتاوى، الأمر الذي يقربه من الواقع.
رابعاً: لأنه لا مفر لانتخاب إحدى الفتاوى للعمل بها بشكل عام من قبل الحاكم الشرعي، ولذا فمن الطبيعي أن تنتخب الفتوى الاكثر انسجاماً مع سير الأمور.
كل ذلك شريطة ان تكون قد صدرت على اساس من قواعد الاجتهاد المعروفة، بل وقد نشترط فيها احياناً ان تكون من الفتاوى المشهورة.
ونشير هنا إلى ان الكثير من الدول في دساتيرها لم تعتمد مذهباً اسلامياً معيناً حتى في قضايا الاحكام المدنية، رغم أنها ركزت على خصوص أحد المذاهب، فقد اضطرت لكي تحفظ سلامة العائلة وصيانتها للاعتماد على الرأي الإمامي القائل بعدم مشروعية الطلاق بالثلاث، واعتباره طلاقاً واحداً، رغم انها اعتمدت في عموم احكامها على المذاهب الاخرى.
الفصل الخامس
الامكانات والعوامل المساعدة الاخرى لتحقيق المسؤوليات
وبالإضافة للإمكانات التشريعية التي اشرنا اليها في الفصل السابق، فإنا نجد الاسلام قد حشد امكانات ضخمة وعوامل مساعدة تحقق للحاكم الاسلامي الجو المناسب والمساعد لتحقيق مسؤلياته الكبرى، ومنها:
أ ـ طبيعة التشريع الاسلامي.
ب ـ الارضية المساعدة لإقامة النظام الاسلامي.
جـ ـ إيكال أمر التطبيق الاجتماعي والفردي للحاكم الاسلامي.
د ـ الامكانات المالية الواسعة.
وسوف نتحدث بشكل موجز عن هذه الامور:
أ ـ طبيعة التشريع الاسلامي:
فإنا إذا لاحظنا الانسجام الكامل بين كل الانظمة الاسلامية فيما بينها يشكل كل نظام قطعة مكملة للوحة فنية متكاملة لهداية الحياة الانسانية، ندرك بكل وضوح ان هذه الطبيعة تشكل عاملاً قوياً لتسهيل عملية تطبيق الشريعة وتحقيق مسؤوليات الدولة المطبقة لها.
ويمكننا ان نستعرض الاحكام المتناسقة مع اية مفردة تشريعية من قبيل مسألة التوازن والتكافل الاقتصادي، أو مسألة تحكيم الأواصر الاجتماعية والعائلية، أو مسألة المسؤولية العامة، أو موضوع الدفاع عن كيان المجتمع، لنجد ان الكل التشريعي مهما تنوعت مجالاته ينسجم مع تحقيق هذه المسائل.
ب ـ الارضية المساعدة لإقامة النظام الاسلامي:
ونقصد بها التهيئة الروحية التي يقوم بها الاسلام ممهداً بها لإقامة النظام، وتتركب هذه الارضية من عناصر ثلاثة:
الاول: العقيدة الاسلامية.
الثاني: المفاهيم الاسلامية.
الثالث: العواطف الاسلامية.
فان العقيدة الاسلامية تربط الانسان بالله تعالى خالق الكون ربطاً قوياً ينفذ الى اعماق ذاته ووجدانه فيملأها ويسخرها للحق، وكلما تأصّلت تأصّل شوقه لتطبيق اوامر الله تعالى، كما تربطه الى الرسول القائد، بل بكل قائد يعمل على تطبيق شريعة الله في الارض، وبالتالي تشده الى عالم الآخرة، عالم الثواب والعقاب.
وعلى اساس من هذه العقيدة تأتي تصورات الانسان عن الكون والحياة والتاريخ والانسان بكل ابعادها الرحبة التي تترك أثرها المباشر على الحياة الفردية والاجتماعية، ليعود الانسان خليفة الله في أرضه، ويعود الكون مسخراً له، ويعود مأموراً بإعمار الأرض الى جانب اخيه الانسان المؤمن المتقي، عاملاً على تشكيل المجتمع المؤمن القوي الذي لا يخشى إلا الله، وممهداً لعالم الآخرة بما له من ابعاد وتأثيرات مباشرة.
وبعد مرحلة التصورات هذه تأتي مرحلة تأجج العواطف المتعالية، حيث يسود الحب حياة الانسان، الحب لله تعالى بكل سمّوه، والحب للكون، والحب لأخيه الانسان وبالخصوص الانسان الذي يشترك معه في هذه المسيرة.
كل هذه العوامل، التي تشكل اروع تربة صالحة لإقامة النظام الاسلامي، تساعد القائد على تسهيل مهمته، وتهيّئ الانقياد المطلوب، خصوصاً اذا لاحظنا ان النصوص الاسلامية تعمق العلاقة إلى حد تصبح معه الطاعة لولي الامر ديناً يبعث الانسان من السماحة للتعاون مع الحاكم الشرعي.
ج ـ ايكال امر التطبيق الاسلامي إلى الحاكم:
فالحاكم الشرعي قبل كل شيء منفذ لأحكام الله ومطبق لشريعة الله ومنفذ للأمر بالمعروف، وهو نظام اشراف على عملية التطبيق؛ {الذين ان مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}[75].
وهذا المعنى يقتضي ان يشارك القائد مجتمعه في عملية التطبيق وان يتحمل الاثنان المسؤولية كاملة، كما يؤدي إلى ان يتعهد الحاكم والافراد بالعمل بواجباتهم بشكل كامل؛ فإذا قصر الحاكم قام المجتمع بواجبه تجاهه، وإذا قصر الافراد في القيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ألزمهم الحاكم بالعمل بها. ومن هنا فنحن نرفض الفكرة التي يطرحها بعض الليبراليين والقائلة بأن الافراد في المجتمع الاسلامي احرار في تنفيذ واجباتهم الفردية وليس للدولة الاسلامية التدخل في شؤونهم الفردية؛ كالحجاب، والغناء، واللباس، والشغل، ونوعية المأكل والمشرب، وغير ذلك.
ان هذا النمط من التفكير مرفوض اسلامياً، ونظام العقوبات الاسلامي يحاسب الانسان حتى على موقفه من الصلاة والصيام وهما عملان فرديان في حساب هؤلاء، وقد يصل الامر إلى حد الاعدام.
د ـ الامكانات المالية:
وهذا باب واسع الابعاد نشير فيه إلى ان الامكانات المادية والمالية للدولة الاسلامية تتناسب مع وظائفها العامة، وخزينة الدولة الاسلامية (بيت المال) تستوجب الامور التالية:
1 ـ الزكاة: ولها شروطها وتفصيلاتها.
2 ـ الخمس: ويجب في غنائم الحرب، والمعادن (ان لم نقل بمالكية الدولة لها)، والكنوز، والغوص، والاراضي التي اشتراها الذمي من المسلم، والحلال المختلط بالحرام، وما يفضل من مؤونة السنة ـ حسب رأي الامامية ـ، وهذا الاخير يعني دفع الخمس من خالص الارباح للصالح العام؛ أي دفعه لبيت المال ـ على تفصيل يذكر في محله ـ، فان الخمس هو (وجه الامارة) و(هو لله والرسول والأئمة) وهو (إلى الامام) وهو (صاحب الخمس) وغير ذلك من تعبيرات[76].
3 ـ الخراج: وهو ما يفرضه الامام من مال على الارض العامرة المستولى عليها من الكفار، وربما عبر عنه بالأموال التي يفرضها ولي الامر على الاراضي التي يحييها الفرد المسلم من الموات.
4 ـ الجزية.
5 ـ الفيء.
6 ـ الضرائب المالية الاخرى التي يمكن لولي الأمر أن يفرضها.
7 ـ واردات الأنفال من الاراضي الموات، وكل ارض لا ربّ لها، والاراضي العامة كرؤوس الجبال والأودية والغابات، وغير ذلك كالمعادن.
8 ـ الواردات المستحبة: كما يردها من الاوقاف، والهبات الشعبية، والوصايا، والكفارات.
9 ـ نتاج النشاطات الاقتصادية.
وغير ذلك مما يعطيها القدرة المناسبة على تحقيق أهدافها.
________________________
[1] أصول الفقه المقارن، ص55.
[2] ن. م: ص 73.
[3] ن. م: ص 73.
[4] البقرة 172.
[5] المائدة: 3.
[6] الأنعام: 119.
[7] الحج: 78.
[8] وسائل الشيعة: ج5 ص 345 (طبعة المطبعة الاسلامية بطهران) وحديث رفع القلم مشهور في الصحاح كالبخاري كتاب الطلاق والحدود، وسنن ابي داوود والترمذي، ومسند أحمد وابن ماجه، وغيرها.
[9] جواهر الكلام: ج 40، ص 100.
[10] القواعد والفوائد: ج 1، ص320.
[11] المسالك: ج 1، ص 162 والجواهر: ج 21، ص 43.
[12] ملاكات الاحكام والاحكام الحكومية لمجموعة مؤلفين: ج7 (من منشورات مؤتمر دراسة المباني الفكرية للامام الخميني): ص 251.
[13] صاحب جواهر الكلام حسب تعريفه لها إذ يقول: "اما الحكم فهو انشاء انفاذ من الحاكم".
[14] النساء: 65.
[15] النور: 51.
[16] النساء: 59.
[17] الأحزاب: 6.
[18] صحيح البخاري: ك 48، ب 3، صحيح مسلم: ك 32، ح 119، تاريخ الطبري: ج3، ص 178 و معجم البيان (دار المعرفة): ج (9 ـ 10)، ص 386.
[19] مجمع البيان: ج (9 ـ 10)، ص 848.
[20] مجمع البيان: ج (5 ـ 6)، ص 120.
[21] وسائل الشيعة: ج 11، ص 43 ـ 44 (آداب امراء السرايا)، صحيح البخاري: ك 56، ب 154، صحيح مسلم: ك 32، ح 29 ـ 31، الترمذي: ك 19 ب 4.
[22] وسائل الشيعة: ج 16، ص 39، وكتب الصحاح في كتاب الجهاد والسير مثل البخاري: الباب 130.
[23] بحار الانوار: ج 28، ص 207، ومغازي الواقدي: ص 433.
[24] اقتصادنا: ج 2، ص 376 ـ والعبارة الاخيرة جاءت في الحاشية (ويفرعون… ).
[25] الكهف: 10.
[26] سلم الوصول: ص 262 وما بعدها.
[27] أصول الفقه المقارن : ص230 ـ 231.
[28] وسائل الشيعة: ج 13، ص3.
[29] ن. م: ج 16، ص 394.
[30] سنن الترمذي.
[31] اقتصادنا: ج 2، ص 643.
[32] للتوسع راجع: ولاية الفقيه للمنتظري، الجزء الاول: ص 161 ـ191.
[33] الاحكام السلطانية: ص 28 (طبعة مكتب الاعلام الاسلامي ـ بقم).
[34] نظام الحكم والادارة في الاسلام: ص 229.
[35] نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة: 34.
[36] غياث الأمم في التياث الظلم: ص 263.
[37] الشورى: 38.
[38] يوسف: 55.
[39] القصص: 26.
[40] الامامية هم في طليعة المخالفين لاعتماد اصل (المصلحة المرسلة) ولكنهم في تطبيقهم لنظام الحكم الاسلامي في ايران ايدوا تشكيل (مجمع المصلحة) لكي يلحظ العنصر المكاني والزماني في مجال تحقيق المصالح واصدار الاوامر الحكومية.
[41] الاسلام يقود الحياة (طبعة وزارة الارشاد الاسلامي بطهران): ص 40.
[42] الحشر: 7.
[43] الشورى: 38.
[44] التوبة: 71.
[45] ولاية الأمر: ص 163.
[46] يوسف: 55.
[47] القصص: 26.
[48] نهج البلاغة: الكتاب: 53، الفقرتان: 72، 73.
[49] فلسفة الحكم عند الامام: ص 34.
[50] سنن البيهقي: ص 118، وجاء في الصحيحين أيضاً.
[51] الحشر: 7.
[52] وسائل الشيعة: 6، ص 178 فما بعد.
[53] البقرة: 228.
[54] هود: 78.
[55] آل عمران: 64.
[56] الاسراء: 34.
[57] البقرة: 143.
[58] النساء: 141.
[59] نظام الحكم والادارة، للشيخ القرشي: ص 248 ـ 249.
[60] اقتصادنا: ج 2، ص 641.
[61] كتاب القضاء (اصدار المؤتمر العالمي للذكرى المئوية الثانية للشيخ الانصاري): ص 49.
[62] يراجع بهذا الصدد ما كتبه السيد الحائري (تعليقاً على رأي الشهيد الصدر) في كتاب (ولاية الامر في عصر الغيبة): ص 128.
[63] ص: 26.
[64] مريم: 12.
[65] وسائل الشيعة: الباب الثالث من أبواب صفات القاضي، ح 2و 3.
[66] وسائل الشيعة: الباب الثالث من أبواب صفات القاضي، ح 2و 3.
[67] جواهر الكلام: ج 40، ص 9 ـ 10.
[68] جواهر الكلام: ج 40، ص 100 وقد رأينا انه (رحمه الله) رأى التعميم من قبل، وان كان تأمل فيه هنا، وربما كان بأمله هنا من باب قيام القاضي بإصدار امر خارج صلاحياته القضائية لا من باب امكان اصدار الحاكم الشرعي لأوامره (في غير مقام الخصومة).
[69] كتاب صحيفة النور: ج 20، ص 74.
[70] راجع: اصول الفقه المقارن: ص 362.
[71] اقتصادنا: ج 2، ص 641.ن
[72] راجع: كتابنا "المرجعية" (طبع بيروت): ص 44.
[73] راجع: الفتاوى الواضحة للامام الصدر، ومنهاج الصالحين للخوئي.
[74] اقتصادنا: ج 2، ص 280.
[75] الحج: 41.
[76] راجع: وسائل الشيعة: ج6، ص 341 فما بعد.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية