مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الديمقراطية في نظام ولاية الفقيه
الشيخ محمد هادي معرفت


جاء مصطلح الديمقراطية (Democratia) من اليونانية، وهو مركب من كلمتين (Demo) وتعني الشعب و(Kratos) بمعنى الحكومة، وبذلك فهي تعني الحكومة الشعبية(1).
ويطلق هذا المصطلح اليوم على نظام الحكومة التي تُدار بواسطة الشعب عن طريق الممثلين الذين ينتخبهم. كما يطلق على ذلك النوع من الأفكار القائمة على حرية الفكر، والكلام، والدين، والآراء السياسية والذي يعتبر مبدأ المساواة أمام القانون، ويدين أي شكل من أشكال الكبت، والاستبداد إلا ذلك الذي يتم عن طريق القانون(2).
رغم الاتحاد في بعض وجهات النظر بين الديمقراطيين، إلا أن الديمقراطية لم تكن فكرة جاهزة ، بل هي عبارة عن فكرة تشكلت عبر الزمان، فنجد فيها مؤثرات أفلاطونية من حيث الاعتماد على المساواة أمام القانون وغير ذلك من الأفكار، وهناك تفسيرات مختلفة للديمقراطية تبعاً لاختلاف الشعوب وعاداتهم، إلا أن القاسم المشترك بين جميع وجهات النظر تلك هو كون النظام الديمقراطي قائماً على إرادة الشعب، ويتحرك - نظرياً - على أساس مصلحة الشعب. كما أن مصدر الحكومة، والسلطة، والقوانين هو الشعب. ومضمونه وجود حق ثابت لجميع أبناء الشعب في المشاركة في الحياة العامة ووضع قوانين الدستور وتنفيذها. واليوم وبسبب الانفجار السكاني واتساع المدن وصعوبة مشاركة أبناء الشعب بشكل مباشر في شؤون الحكم، أخذ الاتجاه يميل إلى الحكومات البرلمانية حيث يتم انتخاب حكومة ذات نظام جمهوري قائم على الانتخاب العام(3).
يقول أفلاطون في تبيان سمات الديمقراطية:
"تكمن سمة الديمقراطية في أن جميع أبناء الشعب أحرار تحت لوائها. ولو أن أحداً قام بالبحث عن أي شكل من الحكم فسيجد بيسر ما يبتغيه"(4).
ويستنتج من قوله أنه عندما يتحد جميع أبناء الشعب أو القسم الأكبر منهم في إختيار شكل من الحكم الذي يبتغونه، ويسلمون مقاليده إلى شخص أو أشخاص معينين، فسيكون أولئك هم الحكام، وتكون حكومتهم شعبية صادرة عن الشعب.
يقول مونتسكيوفي تعريفه للحكومة الديمقراطية:
"حين تمسك الأمة في النظام الجمهوري مقاليد الأمور بيدها، يكون هذا النوع من الحكم ديمقراطياً".
ثم يتحدث عن خصوصية هذا النوع من الحكم فيقول:
"إن هذا واحد من المبادئ الأساسية لهذا الحكم وهو أن الشعب نفسه يعين من يتولون زمام أموره بأيديهم"(5).
ويشترك هذا التعريف مع ما يقوله جان جاك روسو:
"عندما يتخذ جميع المواطنين قراراً بشأن أمر من الأمور الذي يصب بشكل عام في مصلحة البلاد ويصوتون إلى جانب ذلك القرار، فإن الأغلبية المطلقة تختار الشيء الأفضل دائماً"(6).
وبطبيعة الحال، فإن النقد يوجه أحياناً لمبدأ سيادة رأي الأغلبية الذي يستلزم احترام رغبات جماهير الشعب، ودعي من قبل بعض المفكرين إلى أن يوضع موضع النقد. فسقراط الذي هو من أوائل واضعي أسس الفلسفة السياسية، هاجم بعنف حكم الأغلبية وجماهير الشعب وتساءل:"أليس عبادةً للوهم أن مجرد الأغلبية تكون سبباً للعقل؟ ألسنا نرى في جميع أرجاء العالم أن حشود الجماهير هي أكثر بلاهة وعنفاً وظلماً من أفراد الناس، وأن بمقدور التربية والتعليم فقط أن تجعل فرقاً بينهم وبين الناس الآخرين؟". وهو يعتبر بشكل لا لبس فيه أن حكومة الأغلبية التي يصبو إليها الديمقراطيون حكومة عارية عن الفضائل ومفتقرة للصلاح(7).
وحول انعدام أهلية الأغلبية، كتب ويل ديورانت (1885-1981م) مقالة تحت عنوان: هل هزمت الديمقراطية؟ يقول فيها: "صحيح أن ضغوط الأغلبية على الأقلية أفضل من عكس ذلك، أي من ضغوط الأقلية على الأغلبية.. إلا أن أمراً كهذا سيؤدي إلى تصعيد روح الغرور لدى عامة الناس ويؤدي بنفس المقدار إلى إحداث إحباط في الروح المعنوية لدى النوابغ، ويجعل عبقريتهم غير ذات جدوى... وكلما تمادينا في تجربة الديمقراطية أصبحنا أكثر انزعاجاً من عدم أهليتها ومن نفاقها"(8).
ويعتبر - وبشكل متشائم - نظرية النظام الديمقراطي شعاراً خادعاً تنطلق فيه الطبقة الوسطى إلى خداع العامة وتقود حشودهم الهادرة - بوصفهم آلات مسلوبة الإدارة- إلى حيث تحقق أهدافها، فتكون النتيجة أن تقوم هذه الطبقة بركوب موجة الجماهير. وكان هذا الشعار الخادع دائماً وفي كل مكان وسيلة لوصول مجموعة من النفعيين إلى تحقيق أهدافهم الشخصية، وينبغي للجماهير أن تحمل على كاهلها دائماٍ هذا العبء الثقيل فهم يضعون الجماهير المخدوعة دائماً في دوامة لتظل تدور بهم وما تزال كذلك؛ وعلى هذا؛ فالديمقراطية الحقيقية لم ولن تتحقق بهذا الشكل.
وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، هاجم العلامة الطباطبائي، النظام الديمقراطي بشكله المعاصر ووصفه بالشعار الفارغ والخادع الذي لا تعدو نتيجته أن تكون سوى دمار المجتمع وتشويه معالم الإنسانية وضياع الحقوق، فضمن تفسيره للآية 200 من سورة آل عمران، كتب بحثاً بعنوان "كلام على المرابطة في المجتمع الإسلامي" إنبرى فيه لبحث أن الإسلام لا ينسجم إطلاقاً مع الديمقراطية؛ ذلك أن الإسلام يهدف إلى بناء مجتمع قائم على أسس الحق، ولا يتواءم مع الديمقراطية القائمة على أساس الهوى والرغبات الباطلة للأغلبية، بل يقف في الجانب المضاد لها.
ورداً على أولئك الذين يتصورون أن النظم الديمقراطية السائدة في الغرب أفضل من نظام الحكم الإسلامي الذي لم يكن راسخاً بينما الديمقراطية الغربية القائمة على أساس رأي الأغلبية، هي نظام مستقر، ويتلاءم مع تقاليد المجتمع، وحقائق الطبيعة، خلافاً للنظام الديني الذي لا يتجاوز نطاق الخيال والافتراضات، وهو غير قابل للاستمرار، يقول:
"وهنا جهة أخرى أغفلها (الباحثون) وهي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو إتباع الحق في النظر والعمل، والاجتماع المدني الحاضر شعاره إتباع ما يراه ويريده الأكثر، وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون، فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية، بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه، فيعطي للجسم مشتهياته بمقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية...وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا إلى الانغمار في الأهواء والأماني... وأما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة... سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق... ولذلك كانت تتبع القوانين في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم، وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال، وأما الأخلاق، والمعارف فلا ضامن لإجرائها.. ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب.
وحيث إن هذا النظام فاقد للمعايير العقلية، فإنه مقبول في كثير من المجتمعات بخلاف النظام الديني الذي يضع الضوابط والقيود على كثير من الأفعال، ويحول بين الإنسان وشهواته يقول الله سبحانه: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(9) و(بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ)(10).
ثم يقول: ".. وأما آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلين، فليست بحق دائماً بل، بما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق، وحينئذ، فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان، ولا أنه يخضع لها لو تنبه لها .. ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب حقاً واجب الإتباع قوه تعالى بل جاءهم: (بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(11) وبهذا البيان يظهر فساد بناء إتباع الأكثرية على سنة الطبيعة(12).
والآراء مختلفة حول الديمقراطية قبولاً ورفضاً، إلا أن أغلب ما يدور على ألسنة الناقدين يشير إلى الشعارات الفارغة التي يرددها دعاتها؛ أي أنهم ينكرون المبدأ الذي يقوم عليه الافتراض الديمقراطي وهو المساواة، والعدالة الاجتماعية، والحضور الفاعل للشعب في الميادين السياسية، إلا أنهم لا يعتقدون بإمكانية تحقيق ذلك، ويرون أن أكبر عقبة في هذا الطريق هي الطبقة الوسطى التي لا تعتقد إلا بما يحقق لها النفع. لذلك وما لم يتم إزالة أمثال هذه العقبات الكأداء من الطريق لا ينبغي التعويل فقط على ترديد الشعارات.
فلننطلق الآن لبحث سمات هذا النظام وما ينسجم مع نظام الحكم الإسلامي وما لا ينسجم معه:
سمات النظام الديمقراطي
أول وأهم سمة للنظام الديمقراطي - كما يعتقد المؤمنون به - هي الحضور الفاعل للشعب في ميادين السياسة. ويعني ذلك أن للجماهير حضورها الحقيقي في وضع سياسة الدولة. بجميع مجالاتها، وأن عجلة السياسة تدور وفقاً لما يرتأيه أبناء الشعب وبأيدي ممثليه الذين ينتخبهم، وأن إرادة الشعب هي الطاقة التي تسيّر الأمور.
وخلاصة ذلك، أن الشعب نفسه هو مصدر السلطة السياسية، ويحدث ذلك عندما يعتبر الدولة له، وأنها من بين صفوف أبنائه. والأغلبية المطلقة هي المعيار.
السمة الثانية: إن الحرية الشاملة (حرية القلم، والكلام، والعقيدة، والدين ووجهات النظر السياسية، وغير ذلك) مهيمنة على المجتمع، وإن جميع طبقات الشعب أحرار في إبداء وجهات نظرهم، وعقائدهم، وأفكارهم السياسية، وحتى في اختيارهم الدين والمذهب، والسلوك، وكل ذلك محمي من القانون.
السنة الثالثة:المساواة بين جميع أبناء الشعب أمام القانون، حيث تبسط العدالة ظلها على الشعب بأسره وبشكل لا تمييز فيه بين فرد وآخر.
السمة الرابعة: ضمان المصالح العامة، بحيث يجب أن تكون سياسة الدولة موجهة للمحافظة على المصالح الوطنية، ليتمكن كلٌّ بحسب طاقته، وما لديه من إمكانية من تحقيق الرفاهية لنفسه بشكل لائق.
السمة الخامسة: يقوم أبناء الشعب بانتخاب مسؤولي الدولة في السلطات الثلاث: التشريعية، القضائية، والتنفيذية وعلى رأسهم زعيم البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر. وإن حق الانتخاب هذا هو حق ثابت لجميع أبناء الشعب دون تمييز، لينتخبوا مَن أرادوا دون ضغط من أحد.
ويمكن تلخيص السمات الخمس أعلاه بالقول: إن هذا النظام قائم على إرادة الشعب ويتخذ من مصالح الشعب محوراً لحركته، كما أن الشعب هو مصدر الحكم والسلطات والقانون. وإن من حق أبناء الشعب أن يقوموا بالدور الأساسي في الحياة العامة، ووضع القوانين الدستورية والعمل على تنفيذها. ويشكل حق الانتخاب والحرية الشاملة، الجوهر الأساس لهذا النظام. وإن المعيار في جميع تلك السمات هو الأغلبية الساحقة لآراء أبناء الشعب، وكل ما قررته الأغلبية هو الحق الذي يجب العمل به(13).
نقد
إن السمات المذكورة التي تشكل المحور الأساس للنظام الديمقراطي بظاهره الخادع، يمكن القبول بها بشكل عام ولا يمكن تجاهلها، إلا أن فيها أموراً غامضة دعت البعض إلى النظر إليها بعين الريبة، أو إلى وصفها بالشعارات الفارغة الخادعة لعامة الناس. وسنذكر فيما يلي بعض تلك الأمور الغامضة:
1- قيمة رأي الأغلبية
وهو المحور الرئيس الذي تدور حوله نقاشات النقاد، ذلك أنه ليس واضحاً هل أن المقصود هو الأغلبية بشكل مطلق ليشمل ذلك جميع أبناء الشعب (الصغير والكبير، المتعلّم والأمي، الجامعي والمثقف وغيره، الملتزم والعابث، مؤيد النظام وخصمه الألدّ)، والإشكال هو في أن الأغلبية تتكون من العوام في أغلب المجتمعات البشرية ممن لا يفقهون شيئاً من وجهات النظر السياسية وما يتعلق بالحكومة والسياسة، ويتأثرون بأدنى درجات الدعاية السيئة؛ ليذهبوا للتصويت إلى جانب مصالح النفعيين وذوي السلطة والنفوذ. وغالباً ما يتم تجاهل آراء الواعين حملة الأفكار، وذوي الآراء السليمة في غمرة الموجات الغوغائية للعوام، والقضاء عليها وهو ما قاله ول ديورانت:
"إن ذلك سيؤدي إلى تصعيد روح الغرور لدى عامة الناس ويؤدي في المقدار نفسه إلى إحداث إحباط في الروح المعنوية لدى النوابغ ويجعل عبقريتهم غير ذات جدوى".
وهذا أيضاً ما قاله العلامة الطباطبائي: "من أن غاية الاجتماع المدني الحاضر التمتع من المادة سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق.. ولذلك كانت تتبع القوانين في وضعها ما يستدعيه هو أكثرية المجتمع وميول طباعهم..".
وبطبيعة الحال، فإنه ينبغي الانتباه إلى أن هذا النوع من التشاؤم ناجم عن الوضع المتأزم للمنادين بالديمقراطية في القرون الأخيرة. ففي البلدان التي تدعى بالنامية تنطلق أمثال هذه الشعارات بكثرة من حناجر من هم من الطبقة الوسطى ممن يستغلون من خلال ترديدهم شعارات كهذه، الجهل وانعدام التجربة لدى السواد الأعظم من الناس، فتكون الحصيلة الضرر الذي يصيب الناس بينما يكون المنتفع هو من يرفع الشعارات فقط.
ولو كان الناس أحراراً ويتمتعون بالوعي السياسي الراقي ويفكرون بالتزام؛ أي أنهم غير واقعين تحت تأثير ضغوط الحملات الإعلامية السيئة، ولا تؤثر فيهم النزعات القومية، والعنصرية، والطبقية، ولا التيارات السياسية المفروضة، بل كانوا معتمدين على آرائهم وأحراراً فإنهم يتمسكون بالطريق الصواب، ويختارون بالفطرة الطريقة المثلى.
ولقد خلق الله الناس أطهاراً بالفطرة، وإن نقاء الطوية هو الحالة الأصيلة لدى بني لا إنسان، وأيّ نوع من الانحراف في الفكر والسلوك هو شيء عَرَضي. فالإنسان يتطلب بالفطرة الحسنَ، وينفر من القبيح، إلا أن يكون هناك عامل خارجي يحرفه عن الطريق القويم:
(كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودّانه وينصّرانه)(14).
وحول النقاء التوحيدي للفطرة، يقول القرآن الكريم:
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(15).
وقد ورد ذلك في كثير من الروايات:
(فطرهم على المعرفة)(16)، وقد أضاف الإمام الباقر(ع): "لو لم يكن الأمر كذلك لم تتيسر لهم المعرفة".
وقد ورد في حديث الإمام الرضا(ع): "بالفطرة تثبت حجته"(17).
نعم، لو تحرك الإنسان في ضوء فطرته السليمة لا يبحث إلا عن الحق والحقيقة، ولا يقول سوى الصواب والصدق، فلن يكون بمقدور أي عامل أن يحرفه عن جادة الصواب.
إذاً، فالإنسان بالفطرة ذو تفكير سليم وغايات سليمة تتقبل الحق؛ وإن الضلال هو حالة منحرفة وطارئة ليس لها أية أصالة؛ لذلك، فإن مبدأ "أصل الصحة" هو المهيمن إلا أن يثبت خلاف ذلك. وعلى هذا، فإن سلامة الفطرة أمر شامل. وينبغي - اعتماداً على هذا - النظر إلى جماهير الشعب، كما هو الحال بالنسبة لـ"أصالة الطهارة" النابعة من الاعتقاد بطهارة الأشياء بالخلق.
وعلى هذا فإعطاء أهمية لرأي الأغلبية هو أمر فطري، وهو ما يتفق والطبيعة الأصيلة للإنسان؛ والأصل هو أنّ جماهير الشعب تتحرك استناداً إلى فطرتها السليمة إلا ما هو خلاف ذلك. و الآيات والروايات تدل على هذا المبدأ:
قال أمير المؤمنين علي(ع):
"والزموا السواد والأعظم فإن يد الله على الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشاذ للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب".
ففي هذا الكلام القيِّم جرى التأكيد على ضرورة عدم الانفصال عن جماهير الناس؛ لأن الحق ورعاية الحق تعالى موجودة هناك، وإن الانفصال عن جماهير الناس يعني الوقوع في براثن شيطان الضلالة.
وفي عبارة "يد الله على الجماعة" كناية دقيقة عن ظل الله تعالى الذي يظلل جمع الأمة. وفي هذا إشارة إلى مبدأ طهارة الفطرة البشرية. وهذه هي العروة الوثقى التي أكدت عليها الآية الكريمة (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(18). وواضح من جملة "ولا تفرّقوا" أن المقصود بـ "حبل الله" هو الأمة. ومن هذا المنطلق قال الإمام علي(ع):
"الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة وبنيت عليه أركان الطاعة"(19).
ففي هذا الكلام القيم استخدم "حبل الجماعة" بدلاً من "حبل الله"، وهو دليل على أن العروة الإلهية الوثقى هي جمهور الأمة (غالبية الناس).
قال النبي(ص):
"إن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمّهم بسَنَة، ولا يستأصلهم بعدّو ولا يجمعهم على ضلالة"(20).
إن مسألة "لا تجتمع أمتي على ضلال"، هي مبدأ فاعل وواقع لا يمكن إنكاره، ويمكن تبريره مع الأخذ بنظر الاعتبار الحكمة الإلهية وقاعدة اللطف الإلهي. نعم يمكن للبعض أن يسئ استغلال هذا المبدأ ويفسره كما يهوى، كما بحث عنه في محل آخر(21).
والأمر الذي تجدر الإشارة إليه أن إحقاق حقوق جماهير الشعب يحدث عندما تقوم بالمحافظة على أصالتها، وأن لا تجتذبهم الاتجاهات المتغايرة وأن لا ينحرفوا عن صراط الفطرة القويم (وقد أشرنا إلى أن الأصل الأولي هو الصحة والسلامة وينبغي التصرف على هذا الأساس إلى أن يتضح خلاف ذلك).
سُئل النبي(ص) عن الجماعة التي هي دائماً على الحق فقال: "جماعة أمتي أهل الحق وإن قلّوا"(22).
وقال أمير المؤمنين(ع): "إن القليل من المؤمنين كثير"(23).
ومن هذا المنطلق يتضح أن الأغلبية التي ورد توبيخها في القرآن الكريم هي المجاميع التي انحرفت عن جادة الفطرة وفقدت نقاءها الداخلي وأولئك الذين عرفوا الحق لكنهم وقفوا بوجهه بسبب نزعاتهم الباطلة. فإن أمثال هذه الآيات في القرآن الكريم لم توبّخ الأغلبية الساحقة، لنفسهم منها ليُستنتج منها أن غالبية الناس في كل زمان ومكان، وفي ظل أية ظروف هم منحرفو التفكير خانعون. إن استنتاجاً كهذا مغلوط تماماً ومجانب للصواب، وأمثال هذه الآيات تُعَدُّ من "القضايا الخارجية" التي قُصد بها جماعات خاصة، وأشخاص معينون معاصرون لفترة نزول تلكم الآيات؛ ذلك أن أغلب الناس خلال الجاهلية العربية وقفوا في مواجهة النبي(ص) وأبدوا مقاومة عنيفة تجاهه، وجحدوا الحق رغم معرفتهم له: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(24). واستولت عليهم روح الغرور والكبر مما أدى بهم للظلم والتعالي؛ لهذا وُبِّخ أمثال هذه الفرق، ففي سورة المائدة وبعد تعداد بعض أعراف الجاهلية وتقاليدها السيئة التي كان أغلب العرب آنذاك يتمسكون بها، ورد قوله تعالى: (وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)(25).
إن ضمير الجمع "هم" يعود على أولئك الذين افتروا على الله الكذب، وهو لا يعني أغلبية الناس في العالم، وبشكل مستمر. كما أن جميع الآيات الواردة بهذا الأسلوب مثل: ?وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ? و(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ)، تعني هؤلاء الناس أتباع الباطل الذين وقفوا بوجه الدعوة الإسلامية، فهم لم يدركوا الحق؛ أي أنهم لم يكونوا بصدد البحث عن الحق ومعرفته ولذلك وقفوا بوجهه.
وعلى هذا، فإن لأمثال هذه الآيات جانباً خاصاً ولا يمكن استنتاج قاعدة كلية منها بحيث يمكن القول إن الأغلبية في كل زمان ومكان مقترنة بالانحراف والتفكير المغلوط، بعبارة أخرى لا ينبغي اعتبار مثل هذه التعابير من قبيل ما يصطلح عليه بـ "القضايا الحقيقية". فالأمر ليس كذلك إطلاقاً وقد بيّن العلامة الطباطبائي ذلك في مواضع متعددة من تفسيره(26).
ويترتب على ذلك أن أول سمة من سمات الديمقراطية القائلة بالحضور الفاعل للجماهير في ميادين السياسة والاعتماد على آراء أغلبية أبناء الشعب، هو مبدأ مقبول قد أُكّد عليه في النظام الإسلامي للحكم، وبطبيعة الحال بشرط الاطلاع الكافي على المبادئ الإسلامية والتمسك بها.
وبشأن الحضور الفاعل لجميع المسلمين في الميادين السياسية، والسعي للاطلاع على التطورات السياسية الحاكمة في البلاد يقول النبي(ص):
"من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم"(27).
فالأمور جمع أمر وتعني الشأن، إشارة إلى الشؤون العامة والقضايا ذات العلاقة بالمجتمع وعلى رأسها التطورات السياسية في البلاد. فكل مسلم ولكونه مسلماً لا بدّ له أن يضع التفكير في السياسة القائمة على رأس أولوياته، وأن يثبت حضوره الفاعل في الساحة السياسية، وإن هذا يعني تدخل الجماهير المباشر في شتى مجالات الحكم والسياسة.
لقد أراد النبي(ص) بهذا الأمر أن ينمي الوعي السياسي لدى المسلمين فرداً فرداً، وأن لا يعتزلوا الساحة السياسية؛ وبموازاة ذلك ينبغي لرجال الدولة أيضاً أن يطلعوا الشعب دائماً على التطورات الحادثة وأن يجلسوا للتداول في جميع الأمور السياسية إلى أبناء الشعب أو ممثليه المنتخبين ويعملوا بما يرون فيه الصلاح؛ وبطبيعة الحال، فإنه ينبغي أن يتم تحديد القوانين ذات العلاقة وفقاً لمعايير الشرع والعقل. ويمكن اعتبار آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(28) دليلاً على اهتمام الإسلام برأي الأمة، وقد قلنا في مورد آخر بأن الأمر بالمشورة، دليل على اعتبار رأي الأكثرية، حيث تطرح الأفكار في حضور الخبراء ويؤخذ بالرأي الذي تميل إليه غالبيتهم، وهذه الطريقة عقلائية مقبولة من الشريعة. وليس المراد اتفاق رأي الجميع؛ لأن ذلك لا يتحقق غالباً، وفي هذه الحالة إما أن يتم القبول برأي الأقلية أو الأكثرية، حيث يرجح العقل رأي الأكثرية؛ لأن احتمال الخطأ في رأي الأكثر عادة يكون أقل.
وقد ورد التأكيد في روايات كثيرة على التحذير من استشارة العاقل ثم مخالفته. حيث ورد في بعضها أن العمل خلافاً لما يراه الخبراء العقلاء سبب للهلاك(29).
وحول النبي(ص) بوصفه قائداً للأمة ورد هذا الأمر:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)(30).
فقد أُمِر في هذه الآية بالتشاور الذي ينبغي أن يتم وفقاً للأشكال المتعارف عليها، وضمير "هم" يعود على الناس (أو ممثليهم المنتخبين)، فإذا حدث أن وجد لدى المسؤولين التنفيذيين عند بدئهم تنفيذ رأي الأغلبية، تردّد ينبغي لهم إبعاد ذلك عن أذهانهم، ذلك أنهم عملوا وفقاً للقانون والأسلوب المتعارف وأن الله سيكون معينهم(31).
وهنا أمر ينبغي ذكره وهو أن الإسلام - وكما بيّنا آنفاً - يولي أهمية للشعب ويحترم رأي الأغلبية، كما يعتبر أبناء الشعب مساهمين بشكل مباشر في الحكم، وعلى هذا، فالحكومة في الإسلام تعتبر حكومة شعبية وإلا أن ذلك لا يعني القبول بالمفهوم الغربي بحيث يعتبر الشعب مشاركاً بشكل مطلق في الحكم، فرأي الأغلبية بحسب التفسير الغربي يحظى بالأهمية بسبب كونه نابعاً من الشعب دون أن يكون مستقىً من مصدر أسمى (الشريعة) أو مستنداً إلى الفطرة الأصيلة.
إن رغبات الشعب تصدر أحياناً عن الأهواء النفسية، أو إثر الانغماس في الشهوات الوضيعة، أو الاستسلام أمام أبواق الدعاية الإعلامية السيئة. وعند ذلك، فإن القائد الذي يتم انتخابه سيقودهم إلى الدمار، وسيغنّي على أنغام الموسيقى التي يعزفها الذين انتخبوه كما يقول الشاعر:
"إن الطيور على أشكالها تقع".
إن الرغبات المنفلتة، لا يمكنها أن تؤدي إلى نتائج إيجابية، فالإسلام يمنح الأهمية للرغبات الصادرة عن الفطرة السليمة والتي تتطابق مع تعاليم الشريعة.
لهذا نعتبر الحكم في الإسلام حدّاً وسطاً بين التعيين والانتخاب؛ فليس هو تعييناً مطلقاً لا يكون للشعب دور فيه، وليس انتخاباً مطلقاً لا يكون للشرع دور فيه، بل هو انتخاب شعبي في ظل تعاليم الشرع.
الأغلبية المطلقة أم النسبية؟
الأمر الآخر الجدير بالذكر يتعلق بالخديعة السياسية؛ حيث يحدث أحياناً أن ينال السياسيون المحترفون مشروعية طروحاتهم السياسية من الأغلبية النسبية بدلاً من الأغلبية المطلقة، ويكون ذلك حينما يتعذر عليهم الحصول على آراء أغلبية ساحقة، ويواجهون حالة رفض عامة؛ لذا فهم يتجهون نحو الأغلبية النسبية. ويمكن ملاحظة نماذج من هذه الحالة في ممارسات سياسيي صدر الإسلام(32)، وهي حالة تلقى رواجاً أيضاً في الأساليب السياسية في عالمنا المعاصر(33) مما يمكن اعتباره شكلاً مفروضاً على الشعب؛ بينما الأغلبية التي يقبل بها الشرع والعقل، وتتطابق مع الفطرة السليمة، هي تلك الأغلبية المطلقة المشروعة.
فلنفترض أنه يوجد في بلدٍ ما، ما مجموعه مائة ألف ناخب، لكنهم امتنعوا عن التصويت أو صوتوا بالرفض بسبب عدم صلاحية المرشحين (المفروضين) أو بسبب اتخاذ بعض الإجراءات غير المناسبة، فصوتت مجموعة قليلة من مؤيدي السياسة القائمة، ففاز أفراد بحصولهم على ما مجموعه 10% من الأصوات؛ ترى هل يمكن اعتبار هؤلاء الأفراد ممثلين حقيقيين لجميع أبناء الشعب في ذلك البلد؟ لقد شاهدنا خلال الحكم الملكي في بلادنا كيف أصبح الممثلون المعيَّنون نواباً في البرلمان بحصولهم على أقل من 5% من الأصوات بما يدعى بالفوز بالأغلبية النسبية ومارسوا دورهم بوصفهم نواباً للشعب.
ففي الحالات التي تطرح فيها القضايا على أبناء الشعب للتصويت، ينبغي أن تكون الظروف سليمة بشكل يتوجه فيها الناس بحرية، وبكل رغبة إلى صناديق الاقتراع. وإذا لم يتمنكوا من الحضور لأسباب معينة، بل تقبّلوا الآخرين وآراءهم، ففي هذه الحالة بالذات يمكن اعتبار رأي الأغلبية النسبية هذا بمثابة الأغلبية المطلقة. ومن الناحية العملية أيضاً، فإن حضور جميع المؤهّلين أمر متعذر، وهم معفوون في العادة من التوجه إلى صناديق الاقتراع بسبب مشاغلهم، لذا فإن عدم الحضور هذا عندما لا يكون ناجماً عن الإعراض والاحتجاج، فإنه لا يؤدي إلى إحداث خلل في صحة عملية التصويت، ويعتبر موافقة جماعية. وكانت البيعات الحرّة التي تمت خلال صدر الإسلام (بيعة العقبة الأولى والثانية وبيعة غدير خم والبيعة على عهد الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين(ع)) من هذا النمط، حيث كان بقية المسلمين يوافقون على عمل المبايعين.

أما القضايا التي توكل إلى آراء فريق الخبراء - في أي مجال كانت - ينبغي بالضرورة أن تنال رأي الأغلبية الساحقة. ومن هذا القبيل التصويت في مجلس الشورى الإسلامي ومجلس الخبراء، وبقية المؤسسات التي تعتمد على الشورى. لذا لا ينبغي أن تقاس عملية التصويت في هذه المؤسسات بالآراء العامة.
الأجواء السليمة
الأمر الثالث هو توفر الأجواء السليمة ليكون للناس حضور فاعل في الميادين السياسية بحريّة تامة. وهنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: كيف يمكن إيجاد هذه الأجواء السليمة، ومن المسؤول عن توفير بيئة سليمة لحضور شعبي سليم وحقيقي؟
تقع هذه المسؤولية بالدرجة الأولى على عاتق الدولة (مجموعة رجال الحكم) التي ينبغي أن تكون هي نفسها أولاً منزهة عن الانحراف، ويكون همها تحقيق المصالح الوطنية، وإذا رأت أن فعلاً ما يحقق هذه المصالح وضعته بين أيدي الناس بأسلوب النصيحة والإرشاد، وبطريقة أبوية مخلصة، وليس من خلال الإكراه والضغط، بل بوضوح وصدق. وبطبيعة الحال، فإن العقلاء والواعين من الناس - وهم الأغلبية - وتبعاً لمعرفتهم إخلاص وعطف رجال الحكم الصلحاء، يتقبلون نصائحهم ولا يُعرضون عنها إطلاقاً.
وعلى الأحزاب والتجمعات المبسوطة اليد في التخطيط السياسي للتيارات أن تسعى إلى أن لا تخرج عن إطار القانون. ورغم أنها تعمل وفق أسلوب فئوي لكن عليها أن تضع نصب أعينها الهدف الرئيس وهو تطور البلاد، والحفاظ على المصالح العامة. واختلاف وجهات النظر رغم كونه من مستلزمات تعددية العمل السياسي، إلا أن هذه التيارات - شأنها شأن مراكز البحث العلمي المتعددة - ينبغي أن تتحرك بأسرها باتجاه واحد وهو بلوغ الحقيقة. إذاً فإن واجب جميع الفئات هو تنوير أفكار الشعب لا إغراقه في الحيرة والتخبط، وكما أشرنا في مقالنا المعنون بـ "المجتمع المدني" فإن الأحزاب والفئات السياسية تشكل همزة الوصل بين الأمة والدولة؛ لذا يجب على الجميع السعي إلى ما يصب في خدمة الشعب وتقديم النصح للدولة. وعلى كل فئة بوصفها خبيرة عطوفة أن تقدم للشعب آراءها الصادقة.
وخلال ذلك ينبغي للمفكرين المحايدين أيضاً أن لا يبخلوا بتقديم الإرشاد اللازم لتحقيق سعادة الناس ومصالحهم، ولعل هذه الأجواء النقية الضرورية لحياة اجتماعية سليمة تتهيأ بتعاون رجال الدولة الصالحين، والمفكرين المخلصين (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (سورة محمد، 7) ونصرة الناس نصرة لله وكل من ينصر الناس في سبيل الله سيحظى في كل وقت بالتأييد والنصر الإلهي ويكون علمه ناجعاً، ويصبح مدعاة ثبات واستقرار الأمة وتدعيم الإسلام.
يقول أمير المؤمنين(ع) عن حق الناس على ولي الأمر (رجال الحكم الصالحين):
"فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كي لا تجهلوا وتأديبكم كي ما تعلموا"(34).
الحرية (في الفكر والتعبير)
يمكن تصنيف الحرية إلى صنفين: حرية مطلقة وحرية في حدود القانون، فالحرية المطلقة تعني الانعتاق من كل قيد؛ بحيث يكون المعيار الوحيد في تشخيص المصلحة هو الرأي الشخصي لكل فرد، وإن كان يتعارض مع مصالح الآخرين. وفي هذه الحالة سيفقد كل مرجع لتشخيص المصلحة صلاحيته حتى في الشؤون الاجتماعية؛ لأن ذلك سيؤدي إلى سلب الحرية المطلقة ويقيدها.
وهذا النوع من الحرية غير مقبول على الإطلاق لدى عقلاء العالم؛ ذلك أنه سيؤدي إلى ضياع الحريات ويحقق نتائج معكوسة، وسيحقق ذوو السلطة والمال من خلال رفعهم شعارات الحرية مطالبهم بشكل عملي، مستغلين بقسوة متناهية حاجة، وبؤس الطبقة المستضعفة. فيظهر بذلك نوع من العبودية الحديثة في المجتمع كما قال ول ديورانت، مما نشاهد أبشع أنواعه اليوم مهيمناً على ما يسمى بالدول المتطورة من رأسمالية طبقية أو اشتراكية. وما هو ملموس هو استسلام الطبقة المستضعفة (التي تشكل الأغلبية الساحقة من الشعب) للأقلية المستكبرة الأنانية.
إن الحرية المعقولة المتفقة مع الفطرة الإنسانية هي الحرية التي تقع ضمن نطاق القانون، وبطبيعة الحال، ليس القانون الذي وضعه المستكبرون ذوو السلطة والمال، بل القانون الموضوع على أساس الفطرة ومبادئ الحكمة؛ القانون الذي يضمن المصالح العامة استناداً الى مبدأ العدالة الاجتماعية، والذي يأخذ في اعتباره جميع فئات الشعب، وأبناء الأمة، والذي يتمتع فيه كل فرد استناداً الى الضوابط (وليس الى الروابط) بحقوقه الطبيعية، والشرعية التي أقرتها له الخلقة والفطرة. بمعنى أن يكون النظام الحاكم قد نظم بشكل يستطيع معه كل شخص الانتفاع على أفضل وجه من حقوقه المادية والمعنوية بيسر وفي ظل حماية القانون، ولهذا قيل: "الحرية إن فسرت بالانطلاق عن القيود، فهذه هي عين الهمجية والفوضوية العارية. وإن فسرت بإمكان التمتع بالحقوق فهذه هي التي تحقق كرامة الإنسان وتحفظ له شرفه التليد والتي يحكم بها العقل الرشيد ويبتغيها الشرع الحنيف".
لقد أكد الإسلام على حرية الإنسان(35) ويشكل مبدأ الإباحة وجواز الانتفاع العام بالموارد الطبيعية والتمتع بملذات الحياة واحداً من الأسس الراسخة للشريعة. وتعدّ قاعدة "الناس مسلّطون على أنفسهم وأموالهم" واحدة من القواعد الشرعية الأساسية التي تطلق يد الإنسان في التصرف في مظاهر الطبيعة، ليستفيد من الحياة كيفما يشاء شرط أن لا يزاحم، حقوق الآخرين، حيث تحول قاعدة "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" دون ذلك.
والخلاصة، الحرية ينبغي أن تكون معقولة ملتزمة، لا انفلاتاً أو عدم مبالاة. ونلقي هنا نظرة على سمات الحرية مما ورد في تفسير الديمقراطية الغربية:
1ـ حرية الفكر والتعبير
كل إنسان حر في فكره، والفكر من حيث المبدأ ليس أمراً مفروضاً. فكل مفكر يتلقى أفكاره من المقدمات المتاحة لديه مما له علاقة بخطأها، وصوابها، وتركيبها المنطقي، فإن كانت المقدمات قائمة على أسس رصينة، ووضعت في نسق منطقي أدت الى نتيجة صائبة، وإن حدث خلل في تنظيم المقدمات أو اختيارها، جاءت النتيجة مغلوطة، لذا قيل: "إن النتيجة تتبع أخس المقدمتين".
ولهذا فإن جهود العلماء الكبار، وإرشادات الشرع انصبّت على إقامة الأفكار على أساس سليم ورصين عن طريق تبيان المقدمات البديهية وتمهيد طرق الاستدلال، ويُرى أن أي شكل من أشكال الانحراف والخطأ في التفكير ناجم عن التهاون في المقدمات. لذلك لا يلام الشخص على الفكر الخاطئ بل يبحث معه ويناقش في مقدماته. فالبحث والحوار لهما صبغة توجيهية لا اعتراضية، وإذا تما بإخلاص ومحبة فغالباً ما يؤديان إلى تصحيح الانحراف وتقويم الاعوجاج وهذا ما يصفه القرآن بـ"المجادلة بالأحسن" قال تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(36). كما قال عز ذكره: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(37).
وعلى هذا، فإن كانت حرية التعبير مطروحة في بيئة حميمة ودافئة تسودها روح التفاهم - فلا شك في أنها تنسجم مع روح الإسلام، وذلك هو الذي يصبو إليه الشرع والعقل خاصة في القضايا السياسية - العقائدية، حيث حظيت جميع أشكال النقد، وإبداء الرأي بتشجيع، وتأكيد الشارع المقدس بما عرف بـ"نصح الأئمة".
لكن إذا كان الهدف كشف الأسرار وإظهار ضعف النظام، فذلك يدل على وجود مرض داخلي ينبغي الحيلولة بحزم دون اتساع نطاقه وشدته. وربما يؤول أحياناً إلى عملية جراحية و بتر العضو الفاسد. قال تعالى بشأن هؤلاء الأشخاص (الذين في قلوبهم مرض): (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)(38) ويقول في موضع آخر: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(39).
ومجمل القول، إن إبداء الرأي إذا كان مصحوباً بروح التفاهم، فإن الإسلام يقبله بكل رحابة صد،ر وإن كان ناتجاً عن مؤمراة سرية، فإنه يواجهه بحزم. وهذا أسلوب مقبول تثني عليه جميع الأنظمة القائمة على الحكمة ولا تفعل غيره.
2ـ حرية العقيدة والدين
في النظام الديمقراطي - بحسب تفسيره الغربي - الناس أحرار تماماً في اختيار الدين والعقيدة ليختاروا ما يقتنعون به ويتخلوا عما لا يقتنعون به أو يغيروا أو ينصرفوا نهائياً عن إتباع أي دين. فالالتزام بدين أمر ليس ذا بال في النظام الديمقراطي، حيث ينظر إليه نظرة جانبية وعرفية (نابعة من العادات والتقاليد المحلية)؛ لذلك فإن تغيير الدين، أو التخلي عن المذهب لا يعد جرماً في نظام كهذا، ولا تترتب عليه ملاحقة قانونية.
إن حرية اختيار الدين - إلى هذا الحد - غير مقبولة في أي من الأديان السماوية. فالشريعة في كل الأديان الإلهية هي حقيقة يلزم الناس بقبولها وتعتبر مخالفتها تمرداً تترتب عليه ملاحقة قانونية أحياناً.
والحرية الدينية في الإسلام تعني تحمل أتباع الأديان الأخرى، والسماح لهم بالالتزام بشعائرهم الدينية بحرية وأداء طقوسهم وفقاً لمعتقداتهم، والعمل بأحكام دياناتهم، وحتى في أحكام الزواج والطلاق وغيرهما إذا ما عملوا استناداً إلى ديانتهم، فإن الإسلام يقول: "لكل قوم نكاح"(40)، "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم"(41).
فالإسلام يسمح حتى للمشركين بأن يلجأوا إلى بيت الله (المسجد) علّهم يسمعون كلام الحق تعالى وتلين قلوبهم. عندها يكون من واجب الدولة حمايتهم حتى يبلغوا مأمنهم(42). وهذا هو معنى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(43)؛ ذلك أن الدين القائم على أساس العقيدة لا يقبل الإكراه إلا بعد أن يُميَّز بين طريقي الهداية والضلال ببراهين واضحة. وورد في بقية الآية: ?قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ?. وبطبيعة الحال، فإن ذلك لا يعني أن الإسلام أقرّ بقية الأديان المعاصرة واعتبرها بأسرها على الصراط المستقيم (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)(44)، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(45).
إن الإسلام يتقبل أتباع بقية الأديان المعاصرة لكنه لا يقر أحقيتها بالشكل الذي هي عليه الآن. وكل من يتصور خلاف ذلك إما أن يكون غير مدرك للإسلام، أو أنه لا يرى للأديان جذوراً ذات علاقة بالوحي، ويعتبرها نابعة فحسب من الأعراف (العادات والتقاليد) المحلية.
وإن التفسير الغربي للدين لا يعتبره سوى ظاهرة عرفية تقليدية، وأنه أحد مظاهر التقاليد المحلية المتعارفة والتي ترتبط بعادات وتصورات كل قوم. وأن الاعتقاد بالغيب الذي هو من مبادئ الإيمان بدينٍ، له جذور في الأساطير القديمة التي كان يعتقد بها الإنسان البدائي والتي ما تزال سائدة اليوم أيضاً في القبائل البعيدة عن مراكز الحضارة. ويقولون: إن البشر وبعد اتجاههم نحو الحضارة، والحياة المدنية حملوا معهم بعض معتقداتهم البدائية التي منها الدين والإيمان بالغيب؛ لذا لا يمكن اعتبار أحدها حقاً والآخر باطلاً، كما لا يمكن اعتبار العادات والتقاليد المحلية لكل قوم خطأ أو صواباً.
وهذه هي مكانة الدين في الحياة من وجهة نظر الغربيين الذين شككوا في أصالته، أو الذين لا يرون له جذوراً. ترى هل ينبغي لأتباع الغرب الذين خسروا أنفسهم ممن يعتبرون أنفسهم مسلمين أن يتناغموا مع هذا اللحن، أم أن يثوبوا إلى رشدهم، وينظروا إلى الدين، والإيمان بالغيب بمنظار واقعي؟...
إذاً لا ينبغي لنا أن نطبل ونزمر على أنغام الأوروبيين والمنصهرين فيهم. فالدين في هذه البقعة من العالم له مكانة أصيلة وجذور متصلة بالوحي الإلهي وهو في صميم الحياة الإنسانية، ولا يمكن النظر إليه كأمرٍ على هامش الحياة، كما نظر إليه الأجانب.
وعلى هذا، فنحن نعتقد أن الدين الحق واحد ليس إلا وهو الصراط المستقيم الوحيد لسعادة الدنيا والآخرة(46). والدين ليس أمراً اعتبارياً محضاً ليتغير بحسب الاعتبارات المختلفة، بل هو حقيقة ذات واقع موضوعي يكمن فيها سر السعادة يقول سبحانه وتعالى: (وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)(47)، وقال تعالى (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تتَتَّقُونَ)(48).
فقد جاء جماعة إلى النبي(ص) يحملون - كما يتصورون - نسخاً من التوراة فعرضوها عليه، فعنّفهم النبي بشدة وقال: ماذا جرى لكم؟ لماذا لا تزنون أفعالكم؟ ما هذا؟ ثم أضاف: لو أن موسى(ع) كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني.
فقد روي في مسند أحمد بإسناد صحيح أن رسول الله(ص) في هذه الواقعة وجّه كلامه إلى عمر وهو غاضب قائلاً: "أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ... لو أن موسى(ع) كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"(49).
إن هذا الكلام يدل على أن بقية الأديان المعاصرة - رغم كونها موحاة من الله - غير نقية ولا تستطيع ضمان سعادة الإنسان. لكن هذا النبي الرؤوف والرحيم الذي يتعامل مع هذه الواقعة بهذا الحزم، يتعامل مع أتباع الديانات الأخرى بشكل مسالم، ويراعيهم، ولا يمارس أي نوع من الضغوط عليهم، كما أشرنا إلى ذلك في مقالة لنا بعنوان "المجتمع المدني" وأوردنا جزءاً من دستور تشكيل الحكومة الإسلامية للنبي(ص) في المدينة(50).
وأوضحنا في مقالة أخرى أن "الجزية"(51) و"عدم تساوي الدية"(52) تخص أتباع بقية الأديان ممن كانوا مجاورين للبلدان الإسلامية وأصبحوا في ظل حمايتها. إلا أن المواطنين منهم والذين، في كنف الدولة الإسلامية لا يختلفون عن سائر المواطنين المسلمين(53).
وخلاصة القول، إن رعاية المواطنين من أتباع بقية الأديان ومعاملتهم بودّ هي سياسة وضع الإسلام أسسها، إلا أن ذلك لا يعني أنه أجاز أتباع بقية الأديان المعاصرة له واعتبرها بأسرها الطريق الموصل للسعادة، وإلا لما قال تعالى: ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?. لذلك فإن مجرد الإيمان التلقائي بالله لا يوصل إلى السعادة، ما لم يتبع الإنسانُ نبيَّ الإسلام بذاته ويطبق أوامر الشريعة، إذ إن الإيمان الحقيقي، والتطلع إلى طريق الحق ورضا الله يكمن في هذا فحسب. وكل من تطلّع إلى الحق عن غير طريق الإسلام فقد ضل الطريق.
3ـ المساواة
يرن صدى هذه السمة في الأسماع، إلا أنها شعار مجرد لا يوجد له تطبيق عملي، وحقيقتها في جوهر الإسلام الذي بدأ بهذا الشعار النابع من الصميم وما يزال مستمراً. بل إن الإسلام قد تجاوز ذلك أيضاً ووضع المساواة على أساس الأخوّة، وجعل هذا الأساس راسخاً قدر المستطاع.
كان النبي(ص) يؤكد في خطبه على أمرين: إقامة مجتمع موحِّد بشكل تام يمضي فيه الجميع باتجاه واحد تحت راية التوحيد، وتأسيس وحدة الأمة على أساس الأخوة الإسلامية. وقد دعا(ص) بعد فتح مكة وانتصار الإسلام بشكل كامل جميع القبائل العربية، وقال في خطبة مطولة: "أيها الناس! إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن الله قد محا عنكم عار الجاهلية حين كنتم تفاخرون بأسلافكم، الناس سواء كأسنان المشط"(54).
ثم تلا الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
4- ضمان مصالح الأمة
وهذا واحد من أهم تعاليم نظام الحكم في الإسلام والذي أشير إليه في تبيان واجبات الدولة في ظل العدالة الاجتماعية السائدة.
5- الشعب مصدر قوة السلطة ومشروعيته
وإستناداً إلى هذا، فإن الناس هم مصدر القوة والمشروعية في جميع المجالات. فجميع موظفي الدولة في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحتى منصب الرئاسة العامة، كلها تستقي مشروعيتها من الناس ويكون الرأي العام أو الأغلبية الساحقة هي المعيار.
وفي القسم الخاص بدور الشعب في الحكم وحضوره الفاعل في الميادين السياسية، تحدثنا عن ذلك بشكل تفصيلي وأشرنا إلى أن أبناء الشعب يلعبون الدور الرئيس - بشكل مباشر أو غير مباشر- في جميع مجالات سياسة الدولة، ولكن بشرط أن ينسجم ذلك مع الشرع؛ أي أن الخطوط العامة والأساسية لدور الشعب في المجالات السياسية في نظام الحكم الإسلامي يحددها الكتاب والسنة، وكل تعدٍّ عن حدود الشريعة يعتبر أمراً غير مشروع.
ولذا، فإن مصدر القوة والمشروعية في نظام الحكم الإسلامي له صبغة شعبية - إلهية، وليست شعبية مجردة. وهذه هي نقطة الافتراق بين التفسير الغربي والتفسير الإسلامي للحكومة الديمقراطية.
قام بعض المفكرين ممن هم على علم - إلى حدّ ما - بعلوم الحوزة العلمية والجامعة، وفي سبيل إضفاء المشروعية على النظام الديمقراطي المطلق وعدم تناقضه مع أوضاع المجتمع الإسلامي، بطرح مسألة عدم وجود علاقة بين الدين والسياسة، أو قصور الفكر الديني عن التدخل في السياسة، وأضافوا أن المجتمع الذي يسوده الإسلام ويلتزم شعبه بالتعاليم الدينية يتطلب بطبيعة الحال حكومة تطبق الأحكام الإسلامية، لذا فإن النظام الديمقراطي سيتبلور تلقائياً في مجتمع كهذا.
يقول الشيخ محمد مجتهد شبستري في مقابلة له مع أسبوعية "راه نو" (الطريق الجديد): "إن الدين الإسلامي وكما أثبت - على مدى التاريخ - أنه لم يكن يملك أنظمة يمكن معها العيش في جميع العصور، وليس بإمكان أي دين أن تكون له أنظمة كهذه. وإن ادّعاءاً كهذا أمر غير مقبول مبدئياً، وإن افتقار أي دين - ومن ذلك الدين الإسلامي - إلى أنظمة كهذه ليس عيباً. ذلك أن هذا الادعاء لا يتطابق مع واقع حياة المسلمين؛ وفي الوقت نفسه يصرّ أصحاب القراءة الرسمية على ذلك. وقد أدى هذا الإصرار إلى ظهور أزمة".
"أما كيفية التخطيط للتنمية والتطور قانونياً وإدارتها مما هو اليوم من الواجبات الرئيسة للحكومة، فهو أمر علمي وفني ولا يمكن تحديده من خلال الأحكام الفقهية. فعلم الفقه وتعيين الحلال والحرام الفقهي لا يمكنه أن يعين خطة الحكومة اليوم، بينما كان ذلك ممكناً في الماضي"(55).
وفي رده على السؤال القائل: كيف تطور أسلوب الحياة الحديثة بحيث لا يمكن إدارته من خلال تعيين الحلال والحرام، قال: "أذكر هنا بعض المعالم البارزة لهذا الأسلوب الجديد في الحياة:
1- ينشأ هذا الأسلوب الحياتي من الرغبة في أن يكون الإنسان أقوى، وأن يعيش بشكل أفضل.
2- ترتبط (أي الحياة) بأسرها بتطور العلوم الحديثة الطبيعية والاجتماعية.
3- هي (أي الحياة) صناعية مئة في المائة.
4- تتحقق عملياً بالتخطيط.
5- تتقبل تعدد الآراء والاحترام المتبادل بينها، وتعتبر المشاركة شرطاً ضرورياً لتحققها.
6- أن يهدف القانون إلى استمرار التنمية والتطور، لا إلى فرض النظام فحسب.
7- الإدارة العلمية في جميع المجالات.
8- لا يستطيع التدين أن يصهر التطور والتنمية في ذاته ويصبغها بصبغته. رغم أن التطور والتنمية لا يُنافيان التدين"(56).
ويقول عبد الكريم سروش بهذا الشأن: "إن كان المقصود بجعل السياسة دينية هو أن تكون جميع التدابير اللازمة في أمر السياسة والحكم قد وردت بشكل مباشر في متن الكتاب والسنة، فهذا أمر لا يتحقق أبداً، وليس له معنى معقول لكن كون السياسة دينية أو عدم كونها كذلك، هو في نهاية المطاف أمر ناجم عن وضع المجتمع. فالمجتمع يضفي طابعه على جميع شؤونه، ومنها السياسة. والمجتمع الديني يعكس كونه دينياً في حكّامه أيضاً، أي أنه يطلب إلى حكامه احترام القيم الدينية، وإذا امتنع الحكام عن ذلك، فإن علاقة الناس بهم سوف تسوء. فالحكومة ثمرة طبيعية تظهر على الأغصان البارزة للمجتمع"(57).
وهنا عدة أمور يجدر ذكرها:
أولاً: لا ينبغي أن نتوقع تدخل الدين بشكل مباشر في تحسين مستوى حياة الناس، بحيث يقدم لهم نظاماً يمكن العيش في ظله لعصر واحدٍ، أو لجميع العصور. فالدين بصورة مبدأية لا يقدم في أي جانب من جوانب الحياة (السياسية والعسكرية، والثقافية، والاقتصادية، وغيرها) نظاماً محدداً سوى مبادئ عامة، ليقوم الناس بأنفسهم واستناداً إلى تلك المبادئ بتحسين أوضاعهم، بما ينسجم وتطور العصر وازدهار العلم والصناعة. فمثلاً في الجانب العسكري لا توجد قواعد لتطويره، وتحديثه سوى الأمر بتعزيز البنية العسكرية بما يتلاءم ومقتضيات العصر، وليس عند الدين خطط لتطوير الأسلحة، وتعزيز البنية العسكرية، بل هو يأمر بالإعداد والتهيؤ للدفاع أو الهجوم.
(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ)(58).
والخبراء الملتزمون هم الذين ينبغي لهم أن يحسّنوا أوضاع القوات المسلحة، بما يتلاءم ومقتضيات العصر، فإن وفّروا اليوم أحدث الأسلحة ووضعوا أهم الخطط للحرب، فقد نفّذوا ما أمر به الشرع. فالنبي(ص) أسس أول دولة للإسلام بأمر الله، إلا أنه كان في وضعه السياسات على مختلف صُعُد إدارة البلاد يستشير الخبراء ذوي العلاقة وفقاً لأسلوب ذلك العصر. وقد كرر مراراً عبارة: "أشيروا عليَّ" دوّنها التاريخ. وكان يتفوّه أحياناً بعبارة "أنتم أعرف بدنياكم".
وعلى هذا، فإن كان المقصود من طرح النظام، تقديم نظام وخطة عملية، فذلك توقّع في غير محله، وإن كان المقصود تقديم معايير عامة ومبادئ أساسية، فمن المؤكد أن الإسلام قد فعل ذلك دائماً. ولذا ينبغي القول: إن طرح الإسلام لنظام حكم محدد وثابت هو أمر غير منطقي وإن نظاماً كهذا لم يعرض على الإطلاق في المصادر الفقهية، وإن ما استند إليه في المصادر الفقهية هو فقط الخطوط العريضة والمبادئ الثابتة، وأما تنظيم أسلوب التنفيذ والإدارة الحكومية وعرض نظام إسلامي، فهو على عاتق المتخصصين والخبراء لينظموا ذلك وفقاً لمقتضيات العصر، وتطور الحياة.
وبهذا اتضح أن افتراض وجود شكل حكومي ثابت وعدم إمكانية تطابقه مع مقتضيات العصر، سالبة بانتفاء الموضوع. ذلك أن مَن افترضَ ذلك هو الذي أشكل عليه. وليس هناك من ادعى أو يدعي ذلك.
لذا، فمن الإجحاف أن يحكم على الإسلام بحكم قاسٍ كهذا ليُعرض الإسلام بمظهر الدين الذي لا تتمتع تعاليمه بالانسجام مع تطور الحياة.
يقول الشيخ مجتهد شبستري في الحوار المذكور: "إن علم الفقه وتحديد الحلال والحرام الفقهيين اليوم لا يستطيع رسم برنامج للحكومة. بينما كان ذلك ممكناً في الماضي".
وهنا يبرز سؤال: ترى هل أنه يفتقر اليوم إلى العملانية في تحديد الأهداف، والقيم وتقديم المعايير وكان ذلك بإمكانه في الماضي، أم في مبدأ التخطيط وتحديد آليته؟ فإن كان المقصود هو الحالة الثانية فإن علم الفقه لم يكن له دخل في ذلك بالأمس وليس له اليوم، وإن كان المقصود الحالة الأولى فقد كانت له المكانة الأولى وما تزال في جميع العصور.
وقال سماحته في الحوار الذي أجري معه في مركز الدراسات والبحوث الإسلامية التابع لمكتب الإعلام الإسلامي بقم (وحدة الفقه والقانون): "بإمكان الفقه أن يبين الأهداف والقيم لكنه لا يبين الأساليب والآليات بل يحدد علم الأساليب والآليات. وبعبارة أخرى، ففي الموضع الذي يكون فيه الحكم أو الحق قابلاً للتصور فهناك يكون مجال الفقه، وفي الموضع الذي لا يمكن فيه تصور الحكم أو الحق فلا مجال للفقه. ومن جهة أخرى فإن تحديد الأهداف يقع ضمن إطار الفقه، بينما تقع كيفية التخطيط ضمن إطار العلوم". ويضيف قائلاً: "إن الفقه والشريعة اللذين يتطلعان إلى الأهداف يمكنها على الدوام أن ينسجما مع أنظمة معينة، ولا ينسجما مع أخرى. لذا يمكن تصور أنظمة عديدة تتلاءم مع أهداف الشريعة(59).
لذلك، فإن هذا الجانب الإيجابي والشامل الذي ورد في هذا الحوار لا ينسجم والجانب السلبي الذي أوردناه في الحوار السابق. وربما استدعت أجواء الحوار هذا التباين.
ثانيا: ما الذي يستشفونه من الفقه؟ ترى هل يعتقدون أن الفقه مقتصر على المسائل الفرعية التي هي حصيلة ما استنبطه الفقهاء من المصادر الفقهية وجمعوها بشكل منظم في اثنين وخمسين باباً، بينما توجد لعامة الناس تعليمات تبين لهم كيفية التصرف في عباداتهم ومعاملاتهم اليومية، ولا ينبغي توقع إدراج قضايا مثل التنمية والتطور الحضاري ووضع سياسة الدولة والجيش وغير ذلك بشكل تفصيلي.
وكما أشرنا فيما مضى فإن للإسلام مجموعة مبادئ فقهية مفيدة للجميع وفي كل حين والفقهاء منذ البدء، وإلى يومنا هذا اتبعوا أسلوباً يقضي ببحث القضايا اليومية - التي هي في صلب واقع الحياة الفردية والاجتماعية - وعرضها على القواعد الفقهية الأساسية، وتُقيّم في ضوئها صحتها وعدم صحتها، وانسجامها أو عدم انسجامها معها. ويشمل ذلك القضايا المتعلقة بالأسرة، والتجارة، والمجتمع، والحكومة، والقضايا السياسية.
وبطبيعة الحال، فإن هذه المهمة ملقاة على عاتق فقهاء مقتدرين، ذوي معرفة بالقضايا اليومية، واحتياجات الحياة المعاصرة، وعلى معرفة واسعة بقواعد الشريعة، ومبادئها أيضاً. وهذا ما كان عليه فقهاء السلف، فقد كانوا يعيشون في صلب الحقائق، ويقيّمون المسائل الشرعية. وينبغي لفقهاء الخلف أيضاً أن يعملوا على نفس المنوال، ويعيشوا في صلب الحقائق، ويبحثوا القضايا اليومية للحياة بجميع أبعادها في ضوء قواعد الشرع المبدأية وإذا شاؤوا تكرار نفس استنتاجات السلف، فلن يكون ذلك ملبياً للحاجات المعاصرة. وإن نطاق الفقه والشريعة من حيث المبدأ هو تحديد الأهداف والقيم، وإقرار الخطط والبرامج العملية المنسجمة مع الأهداف، والمقاصد التي أقرها الشرع والفقه، كما أشار إليه الشيخ شبستري آنفاً.
لا شك في أن هذه القواعد الفقهية الأساسية لم تكن في أي وقت عاجزة عن تلبية الحاجات المعاصرة، ولم تقف حجر عثرة أمام تقدم المجتمع، وتطور الإنسانية في العلم والتصنيع وغير ذلك، بل كانت على الدوام تؤيد ذلك، وتنسجم معه. والحقيقة أن الإسلام يهتم بصنع المستقبل أكثر من اهتمامه بأي شيء، وهو يبغض الجمود والتحجر. يقول الإمام علي(ع): "أدِّبوا أولادكم بغير أدبكم، فإنهم خلقوا لغير زمانكم". وقد سئل الإمام الصادق(ع) عن وصف اللباس الإسلامي، فقال: "خير لباس كلّ زمان، لباسُ أهله". كما سئل عن الإسراف في اللباس: هل أن وجود ملابس كثيرة يُعدّ إسرافاً فقال: "ليس هذا من السرف، إنما السرف أن تجعل ثوب صونك ثوب بذلتك"(60).
ومن هذه الأمثلة الكثير مما يبين أن الإسلام لا يتدخل في تحسين ظروف حياة الإنسان اليومية، وأن الناس هم الذين يتوجب عليهم تحسين ظروف حياتهم طبقاً لمقتضيات الزمان، وبما يتناسب وعادات وتقاليد العصر، وما عليهم إلا أن يراعوا المبادئ والأصول الإسلامية، ويحافظوا على التعاليم الإسلامية في مختلف العصور لئلا يستهان بها.
وعلى هذا، فإن أي شكل من أشكال الحكم دون إدراك كنه القضية مخالف لأسس البحث. وأن ما عليهم أن يعلموه هو أن الكتب التي ألفها علماء وفقهاء كبار استناداً إلى المبادئ الإسلامية، وتحت عنوان سياست نامه (كتاب السياسة) خلال العهد الصفوي - وحده - زادت على 82 كتاباً ورسالة، مما لا تزال مخطوطاته متوفرة ويتوالى تحقيقها وطبعها، وقد طبع بعض تلكم الرسائل. كما أُلِّفت اليوم أيضاً كتب في شتى مجالات السياسة والاقتصاد بأيدي علماء مقتدرين إسلاميين من العرب وغير العرب، وهذا ينبئ بأن الإسلام له وجهات نظر خاصة في جميع أبعاد الحياة، ويمكن الاستنباط منها وفقاً لمقتضيات العصر.
ثالثاً: إن تصور كون الحكومة الدينية ذات علاقة بوضع المجتمع والحكومة هي ثمرة طبيعية تظهر على أغصان المجتمع هو تصور محض. فأين ومتى تحقق أمر يكون فيه الحكّام مواكبين لرغبات الناس في المعتقدات الدينية؟
إن أمثال هذه القضايا ذات علاقة بعلم الاجتماع الذي تقوم أسسه على التجارب العملية للشعوب، ورجال السياسة في التاريخين الماضي والمعاصر. وكل رأي يعطى في مثل هذه القضايا الاجتماعية التاريخية يتطلب شاهداً حياً، ففي الماضي والحاضر، وحتى في الدول التي يكون فيها للشعب دور مباشر في إختيار شكل الحكم وزعماء الدولة، فإنه لا توجد مواكبة من هؤلاء لشعوبهم، إلا في القضايا السياسية العالمية. وربما انبروا لشن حرب على معتقدات الناس الدينية رغم أنهم في الظاهر منتخبون من نفس أولئك الناس. فنحن نرى اليوم في الدول المسمّاة بالجمهورية التي يطالب فيها الشعب المسلم بتطبيق التعاليم الإسلامية، كيف أنهم يتعاملون معهم بقسوة ولا يرضخون إطلاقاً لمطالبهم الدينية(61).
لذلك، فإن الكلام القائل بأن الشعب المسلم سيختار بطبيعة الحال الحكام الذين يحكِّمون الإسلام في المجتمع، وأن الدولة هي الثمرة الطبيعية التي تظهر على أغصان المجتمع، هو كلام أشبه بكلام الشعراء.
وقد أثبت الواقع أن الناس ما لم يتولّوا مقاليد أمورهم بشكل تام ويختاروا - استناداً إلى إرشادات الشرع وبدقة - حكّاماً تتوفر فيهم الشروط الشرعية التي يقبلها العقل، فلن يستطيعوا على الإطلاق تحقيق أهدافهم العقائدية والدينية بشكل عملي.
إن معنى "الجمهورية الإسلامية" هو الحكومة الشعبية التي تشكل بواسطة أبناء الشعب، ووفقاً لرغبتهم وفي ظل تعاليم الإسلام السامية.
خلاصة القول
يمكن عرض التباين بين وجهتي نظر الإسلام، والتفسير الغربي للحكومة الشعبية (الديمقراطية) بالشكل التالي
1ـ إن احترام رأي الأغلبية من وجهة نظر الإسلام هو في الحالة التي يعيش الناس فيها أجواء منفتحة، ولا ينحرفون عن الفطرة الطبيعية، إضافة إلى تمسكهم بمقوماتهم القومية والدينية. أما في التفسير الغربي فإن رأي الأغلبية هو مصدر المشروعية على الإطلاق.
2ـ الحرية تعني في التفسير الإسلامي توفر الإمكانيات اللازمة لتمتع كل فرد بحقوقه المشروعة، ليتمكن من الاستفادة على أفضل وجه من الحق الذي منحته إياه الطبيعة. وإن هذا النوع من الحرية يفترض بطبيعة الحال حدوداً في إطار القانون ليمنع اصطدام الحقوق ببعضها؛ لذا، فإن حرية التفكير والتعبير في الإسلام إنما هي في الحالة التي تمارس فيها في ظل التفاهم والنقد النزيه الذي يبتعد عن جميع الأشكال المغرضة. ولا يعتدى فيه على الحرمات. لكن الحرية في التفسير الغربي، مطلقة. رغم أنها من الناحية العملية لا تتعدى كونها شعاراً.
كما أن حرية المعتقد والدين في الإسلام تعني التحّمل الذي يبديه تجاه أتباع الأديان المعاصرة رغم اعتبارهم مخطئين. أما في التفسير الغربي فلا مكان للدين والمعتقدات الدينية، بل هي عندهم نابعة من الأعراف والتقاليد المحلية، ويمكن تغييرها والتخلي عنها بسهولة. واستناداً إلى هذا، فإنه لا علاقة للدين بالسياسة في التفسير الغربي. بينما من وجهة نظر الإسلام، فإن الدين هو الذي يحدد معايير السياسة العادلة، ولا ينفصل الدين عن السياسة إطلاقاً؛ لذا، فإن للدين منزلة سامية في السياسة الإسلامية.
3- إن المساواة في الإسلام هو حقيقة واقعة وملموسة أثبتت نفسها في الفترات التي كان الإسلام الأصيل حاكماً فيها. كما أن ضمان المصالح العامة في الإسلام قائم على أساس مبدأ الحق والعدالة الاجتماعية. لكن وكما أثبتت التجربة الغربية، فإن المنطق المهيمن في جميع مجالات المصالح وتطبيق العدالة هو منطق المال والجاه فقط.
4- إن مشاركة الشعب في السياسة أمر واجب من وجهة نظر الإسلام، وإن مساهمة الجميع في الحكم وتدعيم السلطة الحاكمة - التي هي منتخبة من الشعب - واجب وطني وديني. وإن أبناء الشعب هم مصدر القوة في جميع مجالات سياسة الدولة. وبطبيعة الحال، فإن ذلك يجب أن يستند إلى المعايير الدينية ويُنجز في ظل تعاليم الشرع - في المبادئ العامة - وأن يتعامل الشعب مع الأمور بالتزام ووعي.
لهذا، فإن مصدر السلطة والمشروعية السياسية في نظام الحكم الإسلامي، شعبي إلهي (بمعنى أن مشروعية الدولة إلهية، وأن قدرة الدولة وفاعليتها إنما تتحقق برضا الناس وانتخابهم). لكن في التفسير الغربي، فإن مصدر السلطة السياسية شعبي محض، وهذا بذاته يُعدّ أهم نقطة للتباين بين التفسيرين الإسلامي، والغربي، للحكومة الشعبية (الديمقراطية).
5- إن الهدف في نظام الحكم الإسلامي هو تشكيل مجتمع توحيدي وسليم تكون فيه العلاقة بين الخالق والخلق متينة قائمة على أساس العدل. وفي هذا النظام فإن السعادة هي سلامة العلاقات وينبغي ضمان المصالح على هذا الأساس الذي هو بحدّ ذاته ضمان للسعادة الأبدية، لكن السعادة في بقية الأنظمة تكمن في ضمان المصالح واللذائذ المرحلية. والفارق هنا هو أن الإسلام ينظر إلى الإنسان بوصفه مخلوقاً خالداً، بينما ما يعتبر في بقية المدارس هو الحياة الدنيوية فحسب.
_____________________
(1) دار يوش آشوري، معجم العلوم السياسية، ص 88 (فارسي).
(2) معجم وأكسفورد لسنة 1997.
(3) برتراند راسل (تاريخ الفلسفة الغربية)، ص 654-655(فارسي).
(4) الجمهورية (فارسي)، ترجمة محمد حسن أبطحي، ص 192-193.
(5) روح القوانين (فارسي)، ترجمة علي أكبر مهتدي، ص 94-95.
(6) ف.ت. جونز أرباب الفكر السياسي (فارسي)، ترجمة علي أصغر رامين، الجزء الثاني، القسم الثاني، ص 266.
(7) عبد الرحمن عالم، تاريخ فلسفه سياسي غربي، ص 69-70.
(8) لذات الفلسفة(فارسي)، ترجمة عباس زرياب، ص 340، ورؤية كهذه واضحة في أفكار جونز وآخرين. أنظر: أرباب الفكر السياسي، 2 (2)/266. وقد بالغ فولتير (1964-1778م) لاذي لم يكن يؤمن بمبادئ الديمقراطية حين كتب في إحدى رسائله سنة 1769م: "إن الشعب المتوحش هو كالبهائم جدير بالنير والسوط والبرسيم"؛ البير موله، تاريخ قرن هجدهم، ترجمة رشيد ياسمي، ص 360.
(9) الزخرف/78.
(10) المؤمنون /70و71.
(11) المؤمنون/70.
(12) تفسير الميزان. نشر دفتر إنتشارات اسلامي، ج4/ ص 98-104.
(13) راجع أرباب الفكر الإسلامي؛ تاريخ الفلسفة الغربية؛ وتاريخ الفلسفة السياسية الغربية وغير ذلك.
(14) بحار الأنوار، ج3/ ص 281.
(15) الروم، 30.
(16) المصدر نفسه، ج3/ ص 278-279.
(17) المصدر نفسه، ج4/ص 28.
(18) آل عمران، 10.
(19) نهج البلاغة، الخطبة 137؛ شرح ابن أبي الحديد، ج8/ ص 112.
(20) نهج البلاغة، الخطبة ص 151.
(21) سنن الدرامي، ج1/ص 25.
(22) أنظر لكاتب هذه المقالة: ولاية الفقيه، ص 105-161.
(23) المحاسن للبرقي، ج1/ص 345.
(24) النمل، 41.
(25) المائدة، 103.
(26) المصدر نفسه، ج1/ ص 124. الرقم 722.
(27) أنظر تفسيره للآيتين 6 و 7 من سورة البقرة وتفسير سورة "الكافرون" ومواضع أخرى شبيهة بهذا.
(28) الشورى، 38.
(29) الكافي للكليني، ج2/ ص 163.
(30) آل عمران، 159.
(31) بحار الأنوار (بيروت، مؤسسة الوفاء)، ج 72/ ص 100.
(32) المصدر نفسه، ج72/ ص 105.
(33) ورد الحديث بشأن دلالة الآية بني ساعدة هو واحد من النماذج الواضحة على هذه الخدع اجتمعت مجموعة رؤساء قريش وزعماء قبائل المدينة واتفقوا على أمري القيادة ثم فرضوا إقراراهم الذي اتخذوه على الناس دون أن يكون هناك دور للناس بل وحتى لكبار صحابة النبي(ص).
(34) المصدر نفسه.
(35) خلال العهد الملكي (في إيران) كانت الانتخابات بأسرها تتم وفقاً لهذا الأسلوب؛ وهو الأسلوب الذي ما يزال سائداً في الدول ذات الحكم الدكتاتوري الذي يعرض في الظاهر وكأنه حكم برلماني.
(36) العنكبوت ،46.
(37) فصلت،34.
(38) سورة البقرة، 11ـ12
(39) النساء، 83.
(40) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الخطبة 34، ص 79.
(41) في الرسالة التي كتبها الإمام علي(ع) لابنه الحسن(ع): "ولا تكن عَبْدَ غيرك، وقد جعلك الله حراً"(نهج البلاغة، الرسالة 31، ص 401). وقال(ع) في مناسبة أخرى: "أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أَمةً، وإن الناس كلهم أحرار"(روضة الكافي، ج8/ ص69).
(42) مرّ الكلام على ذلك خلال الحديث عن متابعة الشعب لولاية الفقيه تحت عنوان الإشراف العام للشعب.
(43) البقرة، 256.
(44) آل عمران، 19.
(45) آل عمران، 85.
(46) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج15/ ص 80.
(47) الزخرف، 61.
(48) الأنعام، 153.
(49) المصدر نفسه، ج22/ ص 73.
(50) ?وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون?(سورة التوبة: الآية 60).
(51) نذكر بأن التنوين هنا يفيد التفخيم وليس التنكير، كما في قوله تعالى: ?إن ربي على الصراط مستقيم?، أي صراط المستقيم الوحيد، وليس واحد من الصراطات المستقيمة. وبطبيعة الحال فإن الذين ليس لهم معرفة بالأدب العربي يريدون أن يتصوروا أي تصوّر يحلو لهم.
(52) ميند أحمد، ح13/ ص 387؛ اعتبره ابن حجر في فتح الباري (ج13/ ص 281)، حديثاً صحيحاً؛ أنظر الكاتب: التفسير والمفسرون، ج2/ ص 82-83.
(53) مجلة أنديشة حوزه، السنة 4، العدد الثاني، خصائص المجتمع المدني، ص 70-117.
(54) الضرائب المالية التي ينبغي دفعها سنوياً.
(55) دية من هم خارج الذمة هي 12.5% من دية السلم.
(56) حول الدينة، أنظر المجلة الشهرية "دار درسي"، السنة الثانية العدد 11، ص 5.
(57) وردت هذه الخطبة بعبارات متنوعة في كتب الحديث والتاريخ، وكذلك حديث "الناس سواء كأسنان المشط"، الوارد بالتواتر عن النبي(ص). أنظر: تفسري القرطبي، ج16/ ص 341-344؛ بحار الأنوار، ج22/ ص 348، ج 75/ ص 251.
(58) سورة الأنفال: الآية 60.
(59) أنظر: محمد مجتهد شبستري، "القراءة الرسمية للدين، أزمات وحلول"، مجلة راه نو، العدد 19، ص 18-24، القسم الأخير. التلخيص.
(60) المصدر نفسه.
(61) عبد الكريم سروش، "راز وارزداني" (السر ومعرفته)، مجلة كحيان، العدد 43، ص 23.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية