مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الحدود الشرعية لولاية الفقيه العامة
الشيخ محمد طحيني


بسم الله الرحمن الرحيم
تحت هذا العنوان مسائل كثيرة، إخترت منها التالي:
المسألة الأولى: معنى عموم الولاية
إن عموم ولاية الفقيه هو بمعنى أن رأي الفقيه ولي الأمر هو المتبع في كل المسائل المتعلقة بإدارة البلد الإسلامي وبالقضايا العامة للمسلمين، ولا تختص ولايته بالأمور المسماة "القضايا الحسبية" التي يُعلم أن الشرع لا يرضى بإهمالها وضياعها ومع ذلك لم ينص على من يقوم بها من جهة خاصة وشخص معين مثل أصل إقامة النظام العام وتأسيس الدولة وإجراء وتنفيذ الحدود وحفظ حقوق القاصرين والأوقاف العامة كالمساجد والمقابر... نعم لا تشمل هذه الولاية ما كان من مسائل الأفراد وشؤونهم الخاصة بعناوينهم الشخصية، وهذا أمر ينبغي الإنتباه إليه وعدم الغفلة عنه، إذ كثيرا ما يقع لبس حتى في أذهان الحوزويين "المتقدمين" ويتوهمون أن مراد من قال بالولاية العامة للفقيه هو شمول وعموم هذه الولاية للمسائل الشخصية غير المتصلة بالنظام العام وأمر الحكم والحكومة والإدارة للبلاد . وبالتالي يحملهم هذا الفهم الخاطئ الذي يحمِّلونه لأصحاب القول بثبوت الولاية العامة للفقيه على الشجب والإنكار لوضوح أن هذا المقدار من العموم للولاية إنما يثبت للمعصوم.
أما الدليل على عموم الولاية بالمعنى الذي ذكرناه فهو جملة من الأدلة اللفظية يذكرها الفقهاء القائلون بالولاية العامة للفقيه ونقتصر منها على القول المشهور للإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) المذكور في الرواية المعروفة بتوقيع إسحاق بن يعقوب "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم"[1].
وقد يتوهم شمول العموم في هذا الحديث حتى للمسائل الشخصية للأفراد التي لا صلة لها بالنظام العام. ولكن الصحيح اختصاصه بما ذكرت من خصوص المسائل المتعلقة بالحكم والإدارة العامة للبلاد كما هو مراد كافة علمائنا القائلين بالولاية العامة ومنهم الإمام الخميني (رضوان الله عليه) الذي قال:
"إنما ثبت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) من جهة ولايته وسلطنته ثابت للفقيه وأما إذا ثبت لهم (عليهم السلام) ولاية من غير هذه الناحية فلا، فلو قلنا بأن المعصوم(عليهم السلام) له الولاية على طلاق زوجة الرجل وبيع ماله وأخذه منه ولو لم يقتض المصلحة العامة لم يثبت ذلك للفقيه"[2].
والدليل على هذا التقييد هو مناسبات الحكم والموضوع فإنها تشكل قرينة إرتكازية متصلة على الإختصاص المذكور إذ أي معنى ووجه لشمول ولاية الفقيه للأمور الشخصية للأفراد مثل أن تنام هذه الليلة الساعة العاشرة وتأكل في العشاء الأكلة الفلانية؟!.
المسألة الثانية: عموم الولاية لشعوب الأمة كافة
الولاية عامة لكل شعوب وقبائل وأوطان الأمة الإسلامية وإن لم يُعملها الفقيه بالفعل إلا في البلد المبسوطة فيه يده لكي لا يُتّهم بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الأخرى حسب عرف عالم الإستكبار اليوم. فلو أنه أراد إعمال الولاية خارج حدود دولته كان له ذلك وكان أي حكم ولائي يُصدره ويوجهه لأبناء الأقطار الأخرى يتمتع بالنفوذ والحجية ودرجة الإلزام نفسها التي تكون للحكم الذي يوجهه لأهل بلده. فعدم إعمال الولاية في نطاق وآخر زماني ومكاني وأفرادي وأحوالي لا يعني عدم ثبوت أصل الولاية.
أما الدليل على هذا العموم فهو أن أمة المسلمين واحدة وتعدد شعوبهم وقبائلهم ليس إلا ليتعارفوا وتعدد أقطارهم وبلدانهم غير مقتض لتعدد الولاية عليهم، بل الأمر بالعكس ضرورة أنه مع تعدد الولاية تتعدد الأهواء والآراء والمصالح والسبل فتختلف الأمة وتضيع وحدتها التي امتن الله سبحانه على جماعة هذه الأمة في ما عقد بينهم من حبلها بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر على حد تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام)[3].
هذا، مع أن ظاهر أدلة ثبوت الولاية للفقيه أن هذه الولاية هي عين ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام)، ولا يُعقل الفرق في حدود الولاية على الشؤون العامة بين ما يكون منها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) وما يكون منها للفقيه بلا استثناء وإنما الإستثناء والإختلاف في القيمة الإعتبارية والذاتية لصاحب الولاية وفي السلطات الخارجة عن إقامة النظام العام. كما قد يُقال إن مقتضى الآية الكريمة "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" أن للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الولاية على الأفراد حتى في مسائلهم الشخصية التي لا تتعلق كلية بالنظام العام . وكما يقال إن له الولاية التكوينية، ولا أحد من الفقهاء يمكن أن يزعم ثبوت هذه الولاية لغير المعصوم إلا كثبوتها لأي ولي من أولياء الله ولو كان عاميا أميا له من الطاعة والقرب من الله سبحانه وتعالى ما يجعله نافذ الرغبة عند الله سبحانه فيقبله ويكرمه في مورد وآخر[4].
وأما أن الأوطان بحدودها المصطنعة اليوم تحول دون تصدي الفقيه لنظم أمور المسلمين في بلد وآخر غير البلد المبسوطة فيه يده فواضح أن هذا شيء من صنع الإستعمار من أجل إضعاف المسلمين وتفريقهم والتحكم فيهم، ومتى كان إسلامنا العزيز يقر هذه الحدود؟! فغريب ذهاب بعض العلماء إلى القول إن الأصل تعدد الولاية بتعدد الأقطار بل الصحيح أن الأصل وحدة الولاية وشمولها لكل أقطار الأمة وإن لم يعملها الفقيه إلا حيث يمكنه ذلك ومن ثم فيجوز بل يجب على فقيه البلد الآخر -إذا استطاع – أن يؤسس ولاية وحكومة ويقوم بواجباتها ومقتضياتها فلا مانع إذا من تعدد الولاية كاستثناء لا كأصل.
المسألة الثالثة: عموم الولاية لكل أفراد المجتمع
الولاية تشمل كل أفراد المجتمع وأبناء الأمة حتى الفقهاء حتى من لا يقول بها منهم. وقد تسأل: إن الفقيه القائل بالولاية قوله حجة عليه وعلى مقلديه وعلى من ارتضى ولايته ببيعة وغير ذلك ؛ لكن من أين حجية أحكامه على سائر الفقهاء على الأقل الذين لم يقولوا بالولاية كُبروياً ولم يقتنعوا بها صُغروياً، وعلى سائر العوام المقلدين لهؤلاء الفقهاء...؟
والجواب: إن قول الإمام (عليه السلام): "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ..." وسائر الأدلة اللفظية واللُّبية ككون الفقيه هو القدر المتيقن أن الإمام المعصوم (عجل الله فرجه الشريف) يأذن له بالتصدي لنظم الأمر والولاية، هذه الأدلة نسبتها إلى الفقهاء ليست على حد سواء، أي أنها لا تفيد أن الفقيه منصوب على الأمة كأفراد متساوين معه بصفتهم الشخصية فردا فردا، حتى يقال إن ولاية فقيه على فقيه آخر أمر غير عرفي بل إن مفادها هو أن الفقيه منصوب على الأمة والمجتمع ككل بجميع ما يحويه المجتمع والأمة من أشخاص وأجزاء وأفراد ؛ ومن الواضح أن الفقهاء والمراجع بعض هذا المجتمع. وليست نسبة المجتمع إلى الفقيه كنسبة الفقيه إلى الفقيه؛ فلا استغراب في أن يكون للفقيه ولاية على المجتمع ككل بما في هذا الكل من أبعاض فقهاء وغير فقهاء.
أما كيف نُخرِّج ونبرر أن تكون الولاية بالفعل لأحد الفقهاء المتعددين دون سائرهم المتساوين معه بالكفاءة وشروط الولاية على الفرض وإن كان فرضا بعيد التحقق عمليا؟ فهنا يأتي دور الشورى لأهل الخبرة الأكفاء الأمناء وهم خصوص المجتهدين والقريبين من الإجتهاد والقانونيين والأخصائيين العارفين بما يحتاجه النظام وإدارة الشأن العام. فهؤلاء الخبراء نميزهم عن سائر أبناء الأمة فليس من حق كل فرد في الأمة أن يدلي بدلوه ويعطي صوته ابتداء في عملية انتخاب للولي الفقيه، لأن هذا معناه أن مصدر شرعية الولاية فعلا هو أصوات الناس حتى الفساق والجهال وباعة الأصوات والضمائر، وهذا ما نُجِلُّ إسلامنا العزيز وشريعتنا الغراء عن قبوله وإقراره ويكفي زجرا عنه وردعا مثل الآية الكريمة :
"وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله"[5].
نعم بعد أن تصير الولاية بالطريق القانوني فعلية لصاحبها الفقيه، فإن لهذا الفقيه الولي أن يعمل هذه الولاية حسب الفقاهة وضمن القانون فيسبغ شرعية على انتخاب عموم أبناء الأمة في نطاق وآخر كرئاسة دولة ونيابة وبلدية ونحوها .
أما الدليل على حقانية الشورى التي ذكرت فهو مركب من أمرين ؛ أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه من النهي عن طاعة أكثر من في الأرض وتحكيم عامة الناس حتى الفساق والجهال والأحتكام بدلا عن ذلك الى خصوص أهل الخبرة والأمانة.
والثاني وهو ما أُلفِتُ النظر إليه ؛ وهو أن الأحكام الشرعية تُجعل على أحد نهجين:
فتارة تُجعل على نهج القضية الخارجية كأن يقال أَكرِم جارك الفلاني، وتولَّ فلانا خاصة، وفي هذه الحالة تكون مهمة ومسؤولية إحراز وتشخيص ملاك الحكم ووجوده في الموضوع على عاتق المشرع خاصة، حتى لو فُرِض أن الملاك ليس موجودا في الموضوع بنظر المكلف؛ تبقى فعلية الحكم نافذة بحالها، لما ذكرت من أن المسؤول عن تشخيص وجود الملاك في الموضوع هو المشرع لا المُخاطب المكلف .
وتارة ثانية يُجعل الحكم على نهج القضية الحقيقية بأن يُجعل على الموضوع بوصفه العام وعنوانه الجامع الكلي كأن يقال أكرم العالم والجار. وكما هو الحال في جعل الولاية في زمن غيبة الإمام(عجل الله فرجه الشريف) للفقيه وحينئذ فإن مهمة ومسؤولية إحراز وجود الموضوع وتشخيص ثبوت الملاك فيه هي على عاتق المخاطب المكلف بالحكم ومن هنا يأتي دور الإنتخاب والشورى التي ذكرت.
وعموما، إن دور الإنتخابات والإرادة الشعبية والديموقراطية بمصطلح اليوم والشورى إنما يأتي في الموارد التي لا تكون الشريعة قد نصت على الحكم فيها على نهج القضية الخارجية إما لأنها تركتها كمنطقة فراغ يملؤها الفقيه بالنحو المناسب ولأنها بينت الحكم على نهج القضية الحقيقية حيث يكون للموضوع أكثر من تطبيق ومصداق خارجي، فيكون تعيين واختيار أحد هذه التطبيقات والمصاديق على عاتق المكلف المعني بامتثاله في الخارج.فمثلا : عندما يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : "من كنت مولاه فهذا علي مولاه..." ويقول عليٌّ (عليه السلام) مثلاً إن الوالي من قبلي على مصر هو مالك الأشتر، فهنا لا دور للمكلفين إلا السمع والطاعة، وأما حينما يقول الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف): "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ..."ويقول الإمام الصادق(عليه السلام) : "من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما؛ فإني قد جعلته عليكم حاكما..."[6] فبالنسبة إلى كبرى جعل الفقيه حاكما وواليا ليس للأمة إلا السمع والطاعة كما أمرت الآية الكريمة: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم..."[7] وأما بالنسبة للصغرى ومرحلة الإمتثال والتطبيق وحيث إن رواة الحديث والفقهاء أكثر من فرد في كل زمان بحمد الله فإن تعيين أحدهم لمقام الولاية يكون باختيار (أهل الحل والعقد) والشورى وأهل الإختصاص والخبرة كما قدمت.
المسألة الرابعة: تقدم الولاية على سائر الأحكام
الولاية ثابتة في حالات التزاحم الحفظي بين الأحكام الإلهية الواقعية الفرعية فهي تقدم على سائر الأحكام حتى الصلاة والصيام من دون استثناء وهذا ما ذكره الأمام الخميني "رض" في رسالته التي وجهها إلى الأمام الخامنئي دام ظله[8].
وفي هذا الكلام الكثير من الإثارة والاستغراب، وإن كان من الوضوح بمكان عند من يعرف طبع الولاية، ولولاه لما كان للولاية معنى ولوجب أن تلغى اطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة حتى ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعصوم (عليه السلام).
وليس معنى تقدم الحكم الولائي على سائر الأحكام أن للولي أن يقول ابتداءا لمكلف اواخر لا تصل ولا تصم، فهذا ما يجل عنه الفقيه وغيره ممن له أدنى علاقة بالشرع والتدين، بل معنى ذلك أن الفقيه وحده هو ولي أمر تشخيص الأهم من المهم عند التزاحم الحفظي بين ملاكات الأحكام الواقعية التي تتزاحم في مقام الحفظ أي يتعذر ويمتنع الحفاظ عليها وامتثالها جميعا لسبب وآخر، ولو لضيق يد المكلف وقصور قدرته، كما لو احتاج التغلب على العدو الى التصرف بملك الغير غصبا، وتوقف انقاذ المرأة الغريقة على امساكها وملامسة جسدها فيقع التزاحم الحفظي بين ملاك حفظ حياة المرأة وبين ملاك العفة وتجنب لمس جسد الأجنبي، وقانون التزاحم بين الأغراض والملاكات قانون عقلائي عام ويقدم فيه الأهم على المهم بالضرورة .
وفي المسائل الفردية عند التزاحم بين حكمين الذي يتولى تشخيص الأهم ملاكا منهما هو شخص المكلف مجتهدا كان ومقلدا، اما في المسائل الاجتماعية العامة فانه عند التزاحم الحفظي بينها الذي يتولى تشخيص الأهم منها ليس هو عامة الناس ولا حتى سائر الفقهاء والمراجع بل هو ولي الأمر خاصة،ومن هنا يكون حكمه الولائي مقدما على كل ما يزاحمه من أحكام، وبهذا نخرج ما حصل من منع الحج لعدة سنوات بعد مجزرة مكة عام 1987م مع أن وجوب الحج على المستطيع أمر بديهي وفيه ملاك الزامي هام، لكن لما رأى ولي الأمر أن الحفاظ على عزة المسلمين وتحصيل كرامتهم أهم ملاكا وأعظم عند الله وأن ذلك لا يكون إلا بالإمتناع عن أداء الحج شجبا وإنكارا على المستكبرين المستبدين في شؤون الحرمين الشريفين، لذلك أصدر حكمه الولائي التدبيري المؤقت بالمنع المذكور، ومن الباب نفسه ما ذكره الإمام (رضوان الله عليه) أيضأ من ان لولي الأمر هدم المسجد إذا احتاجت مصلحة الدولة العليا لتمرير شارع وإنشاء حديقة عامة مكانه مع وضوح أن وقف المسجد أبدي دائم، ومن الطبيعي هنا أن تثور ثائرة العوام ومن لا وعي له كامل بمعنى الولاية وأهمية دورها ويفسر هذه الأحكام على أنها تطاول على الأحكام الإلهية واجتهاد في مقابل النص. ولكن الحقيقة أن كل تلك الأحكام جارية على طبق البديهة التي يقتضيها ويفترضها معنى الولاية، وذلك أن معنى أن يكون شخص ما وليا على أمر ما هو أنه لا رأي في ذلك الأمر لأحد في مقابل رأيه، ومعنى أن يكون واحد وليا على آخر في مسألة وأخرى هو أنه لا رأي للمُوَلّى عليه في مقابل رأي الوالي في تلك المسألة.
وتحت قاعدة التزاحم المذكورة ندرج شرعية ما يُعمل به هذه الأيام من انتخابات بلدية ونيابية ونحوها وشرعية آليتها وتحالفاتها وسائر شؤونها مع أنها في كثير من الأحيان لا تخلو من مخالفات لأحكام شرعية بالعنوان الأولي كإحياء عصبيات جاهلية وتعاطف وتعاون مع فساق وجاهليين ...
والتخريج الشرعي لذلك أن ولي الأمر يرى أن المصلحة الأهم للإسلام والمسلمين هي في الإشتراك في هذه الإنتخابات والسعي للفوز بها، وكل من عدا الولي يكون متطفلا إذا تدخل واعطى رأيه بخلاف ذلك لأن الولاية لا تكون إلا لصاحبها ولا تقبل التعدد، وتجرؤ الآخرين أيا كانوا على أن يدلوا بدلوهم في مقابلها يستوجب تضعيف أمر الإسلام والمسلمين وشق عصاهم وإدامة تسلط الظالمين عليهم.
المسألة الخامسة: عموم الولاية في حالة خطأ الحكم
ربما يتفق أن يحصل العلم اجتهادا وتقليدا بخطأ ولي الأمر ومخالفة حكمه للواقع وصدوره عن تقصير في المقدمات لاستناده إلى ما لا يصح الإستناد إليه كبرويا كالقياس، وإلى ما ليس هو المستند والمصداق الواقعي صغرويا كشهود لا تتوفر فيهم شروط البينة الشرعية بظن توفرها، والسؤال: هل تعم الولاية هذه الحالة؛ فيعمل من حصل له العلم بخطأ الحكم على وفق الحكم ولا بل يعمل على وفق علمه؟؟
أما عامة الناس ومن لا يريد إطاعة أمر الولاية ولا يدرك حقيقة معناها وأهمية دورها فيذهب إلى الثاني ويتذرع بأن حجية العلم ذاتية وغير قابلة للرد كما يعبّر الأصوليون، وأما الخاصة وأهل الولاية فيجرون على طبقها ويحفظون أمرها ويقدمونه على كل أمر حتى أمر العلم المذكور ، وفي طليعة هؤلاء في هذا الزمان أستاذنا الشهيد السيد الصدر (قدس سره) الذي سبق إلى إدراك هذه الحقيقة ونبه عليها قبل قيام نظام الولاية في جمهورية الإسلام بأعوام، فقال تعليقا على فتوى الإمام السيد الحكيم (قده) بجواز نقض حكم الحاكم الجامع للشرائط إذا علم مخالفته للواقع وكان صادرا عن تقصير في مقدماته:
(إذا كان الحكم كاشفا عن الواقع كموارد المرافعات فلا يجوز نقضه حتى مع العلم بالمخالفة ويجوز للعالم بالمخالفة أن يرتب آثار الواقع المنكشف لديه، وأما إذا كان الحكم على أساس ممارسة المجتهد لولايته العامة في شؤون المسلمين فلا يجوز نقضه حتى مع العلم بالمخالفة ولا يجوز للعالم بالخطأ أن يجري على وفق علمه)[9].
والوجه الفني الفقهي لعموم الولاية هذا، هو ما عرفت من أن الولاية فوق القضاء وسائر الأحكام الأولية والثانوية ولها التقدم على الجميع بالحكومة والنظر حسب المصطلح الأصولي، ويتفرع على ذلك أن الحكم الولائي حجة بذاته وبما هوهو، أي إن حجيته على نحو الموضوعية لا الطريقية وبما هو كاشف عن الواقع ؛ فهو نفسه الواقع؛ فلا يرد في حقه احتمال المخالفة للواقع.
فإن قلت فأين صارت حجية العلم الذاتية غير القابلة للردع ؟!
قلت إن تلك الحجية موضوعها العلم بالحكم بعنوانه الأولي لا بما هو مورد لحكم ولي الأمر على خلافه.
أما بهذا العنوان الثانوي، فلا حجية له إلا حجية إقتضائية يمنع عن فعليتها طروء وعروض العنوان الثانوي المذكور على الموضوع أي العلم بالحكم الأولي.
وهذا الأمر يحتاج إلى توضيح أكثر. وأفضل أن أستعير لهذه الغاية، الكلام الذي قاله المحقق السيد المروّج (رحمه الله) في توضيحه لكلام المحقق الآخند (رحمه الله) عن وجه تقدم دليل رفع الضرر على أدلة الأحكام الأولية؛ قال (رحمه الله):
"إن دليل حكم الفعل بعنوانه الأولي إن كانت دلالته على فعلية الحكم بمثابة لا تأبى عن التصرف فيها بحمل الحكم على الإقتضائي كما إذا كانت دلالته بالعموم والإطلاق؛ وجب الإغماض عن دلالته بسبب دليل حكم العنوان الثانوي؛ وحمل الحكم الأولي على الإقتضائي، إذ العرف يوفق بينهما بجعل اجتماع الدليلين قرينة على أن الحكم الأولي ليست فعليته بنحوالعلّيّة التامة حتى يأبى عن التصرف فيه بالحمل على الإقتضائي، بل يقبل التصرف فيُحمل على الإقتضائي، ويجعل العنوان الثانوي مانعا فعليا عن فعليته، حيث إن دلالة دليل الحكم بالعنوان الأولي تكون بالإطلاق، وهو ظاهر في شموله لجميع الحالات والعناوين الثانوية، ودلالة دليل الحكم بالعنوان الثانوي تصلح لتقييد إطلاق فعليته وحمله على الإقتضائي، ولا عكس، إذ لازم حمل العنوان الثانوي على الإقتضائي عدم صيرورته فعليا أصلا، فيلغو تشريعه"[10].
نعم، يُستثنى من هذه القاعدة الكلية ما لو أُحرز بدليل معتبَر كون الحكم الأولي مجعولا بنحو يكون علة تامة للفعلية دائما حتى حال عروض العنوان الثانوي عليه ؛ كعنوان الحكم الولائي على خلافه، ففي هذه الحالة يُقدّم دليل الحكم الاولي على دليل الحكم الثانوي ولا يُعمل بالحكم الثانوي . وتحقق هذا الإستثناء في ما نحن فيه أقرب إلى الإفتراض العلمي منه إلى التحقق الخارجي، ومثاله أن يكون الحكم الولائي مخالفا لدليل قطعي بديهي عند كل الفقهاء كالنص القرآني والسنة الشريفة المتواترة القطعية الدلالة، مع كون مصلحة الحفاظ على الواقع أهم من مصلحة طاعة الحكم، فإنه حينئذ يكون من الحكم بالباطل والمعصية لله تبارك وتعالى، وهو خارج تخصصا عن إطلاقات أدلة وجوب الطاعة للولي لأنها إنما تدل على وجوب طاعة ولي الأمر وهو صاحبه ومن له حق إصداره وتوجيهه وليس لأحد مهما عظمت منزلته وعلت مرتبته أن يأمر بمعصية الله، مضافا إلى أنه مشمول لإطلاق قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[11].
ومن الواضح أن هذا المثال والإستثناء لا يكاد يكون له واقع، وعليه: فلا استثناء عمليا من عموم الولاية المطلقة للفقيه.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
_____________________
[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة ج 18 كتاب القضاء، أبواب صفاة القاضي، ب 11 حديث 9 ص 101.
[2] الإمام الخميني (رضوان الله عليه) كتاب البيع ج 2 ص 489.
[3] نهج البلاغة – الخطبة المسماة القاصعة.
[4] روى ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله) في كتابه أصول الكافي ج2 كتاب الإيمان والكفر - باب من آذى المسلمين حـ8 بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "... وما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت إذاً سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها؛ إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته.
[5] الآية 116 من سورة الأنعام.
[6] ثقة الإسلام الكليني، أصول الكافي ج1 كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث ح10 ص67.
[7] آية 36 من سورة الأحزاب.
[8] نشرت بتاريخ 16 ج1 1409هـ في صحيفة كيهان الفارسية.
[9] منهاج الصالحين للإمام السيد محسن الحكيم بتعليقة الإمام الصدر ج1 ص11؛ وأدرك بعض هذه الحقيقة المذكورة في المتن الإمام الحكيم فقال في كتابه "مستمسك العروة الوثقى" ج1 ص93: "... فحكم الحاكم نظير حكم الوالي والأمير واجب الإتباع ولو مع العلم بالخطأ ما دام يحتمل موافقته للواقع".
[10] السيد محمد جعفر المروّج، منتهى الدراية في توضيح الكفاية ج6 ص523-524.
[11] الحر العاملي (رحمه الله) وسائل الشيعة ج11 أبواب الأمر والنهي عن المنكر ب11 ح7 ص422.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية