مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

التعدد في الولاية والقيادة
هشام نور الدين


تمهيد:
البحث في نظرية ولاية الفقيه وما يرافقها من أبحاث حول قضايا الحكم والنظام لم يكن بحثاً جديداً طارئاً على مستوى البحث الفقهي، بل هو عاصر البحث الفقهي منذ نشأته على أيدي علمائنا الاوائل ومنذ بداية أدوار الفقه وتدوينه، بيد أن هذه المسائل لم تبحث بحثاً مستقلاً كما هو المعهود والمتداول في الكتب والمجاميع الفقهية، بل بحثت على امتداد الفقه في مسائل متفرقة ضمن ابواب مختلفة من ابواب الفقه، ولعل السر في عدم ابراز الفقهاء الاهتمام الكافي لمثل هذه الجوانب المهمة مع ما كانوا يمتلكونه من رؤية فقهية عميقة ودقة في النظر وشمولية في البحث، بالاضافة الى ما بذلوه من جهود حثيثة في استنباط الاحكام الشرعية وتبيين القواعد الكلية حتى في المسائل الجزئية والفروض النادرة هو إبعاد الشيعة واقصائهم عن ممارسة الحكم والسياسة واعتقادهم بعدم مشروعية تلك الحكومات في عصورهم، مع ادعاء البعض حرمة القيام والتصدي في زمن غيبة الامام القائم «عج»، هذه العوامل كانت كفيلة في عدم نمو هذا البحث وتطوره بخلاف ما حصل في بقية الابحاث الفقهية.
إلى أن بدأت هذه النظرية تتبلور وتتوضح معالمها شيئاً فشيئاً مع تغير الظروف والاوضاع وابتلاء الفقهاء في العصور المتأخرة بمسألة الولاية والحكومة، مما ادى الى بروز كتابات عديدة حول نظرية ولاية الفقيه ساهمت في صياغة واعداد منظومة حول الآراء الفقهية السياسية في نظام الحكم والادارة عند الشيعة. ومع مجيء الامام الخميني «قدس سره» واعتماده لولاية الفقيه كمبدأ أساسي لنظام الحكم والادارة بعد قيامه بالثورة الاسلامية المباركة في إيران، ومع نجاح هذه التجربة الفريدة انفتح الباب من جديد للبحث تفصيلاً حول نظرية ولاية الفقيه، وتطويراً لابحاثها على ضوء الممارسة العملية لهذه النظرية. وعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على قيام الثورة في ايران فإن البحث والنقاش ما زال جارياً حول هذه النظرية وخصوصياتها والمسائل المرتبطة بها.
التعدد في الولاية:
ومن المسائل التي اهتم بها الباحثون في نطاق نظرية ولاية الفقيه هي مسألة الوحدة والتعدد في الولاية والقيادة الاسلامية، بمعنى أن الولاية هل تكون ثابتة لفقيه واحد جامع لشرائط ومواصفات الولاية، أم يمكن ان تتعدد فتثبت لاكثر من فقيه.
وفي هذا المجال برز اتجاهان حول هذه المسألة:
الاول: الذي يرفض إمكانية التعدد في الولاية بل يرى ضرورة توحيد الحاكميّة في شخص ووليِّ واحد.
الثاني: وفي مقابل ذلك يرى الاتجاه الثاني إمكانية التعدد فتثبت الولاية لاكثر من فقيه ولو ضمن ظروف وشروط خاصة كتعدد الدولة والمجتمع مثلاً.
وقبل تحديد الموقف من هذين الاتجاهين، نقول:
إن البحث في مسألة الوحدة والتعدد انما هو بعد الفراغ عن تمامية الادلة التي أقيمت على ولاية الفقيه سواء الادلة اللفظية أم العقلية التي تعطي للفقيه صلاحية الحاكم وولاية الامر، إذ مع عدم نهوض الادلة على ذلك فلا معنى لهذا البحث كما هو واضح. كما أن الكلام حول هذه المسألة انما هو بحسب العنوان الاولي وما تقتضيه الادلة، ولا ربط له بالواقع الخارجي للمسلمين وما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم التي قد تستدعي الوحدة مع امكانية التعدد بحسب الادلة أو التعدد مع الالتزام بالوحدة مع عدم إمكانها.
المحتملات الثبوتية:
إذا اتضح هذا، نقول ان المحتملات الثبوتية للنصب العام في ادلة ولاية الفقيه فيما لو وجد في عصر واحد فقهاء كثيرون واجدون للشرائط عديدة، فيما يلي نتعرض لاهمها وابرزها مع مناقشتها لنرى ما هو الموافق منها للادلة.
الاحتمال الاول:
أن يكون المنصوب من قبل الائمة جميع الفقهاء على نحو العموم الاستغراقي، فتثبت الولاية لكل فقيه توفرت فيه الشروط وتكون ولايته فعلية ومستقلة عن سائر الفقهاء مطلقاً، مع تعدد الدوائر أو ضمن دائرة ونظام واحد.
ويردُ على هذه الاحتمال:
إن ثبوت فعلية الولاية لكل فقيه واجد للشرائط بمعزل عن ولاية الآخر مع تصدي كل واحد منهم للولاية ولو ضمن دائرة واحدة، يؤدي إلى الاضطراب والفساد والفوضى في الحكم، إذ إن التعدد يؤدي ضمناً إلى التعدد في الآراء والتنوع في الاحكام، كما أنَّ اختلاف الانظار في تشخيص الموضوعات والمصالح والمفاسد لاسيما في الامور المهمة ينعكس سلباً على إرادة الحكم في الدولة والمجتمع وبالتالي يحصل التنافي ونقض الغرض مع الضرورات الملحة القاضية باقامة حكومة ونظام، إذ انّ من الاغراض الاساسية للحكومة هو حفظ النظام وتوحيد الصف والكلمة، والاختلاف يؤدي الى ضياع هذه الاهداف وبالتالي فإنه يقبح مثل هذا النصب من قبل الشارع ما دام أن الولاية لم تشرع إلا لنظم الامور، كما ورد هذا المعنى عن الامام علي (عليه السلام) في الغرر والدرر أنَّ: «الامامة نظام الامَّة»[1]. هذا مضافاً إلى وجود جملة من الروايات تؤيد هذا المعنى وردت في بيان وجه انحصار الامام في شخص واحد.
من قبيل ما ورد في الغرر والدرر أيضاً أنّ:
"الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب"[2].
وما رواه الصدوق في عيون اخبار الرضا (عليه السلام) كما رواها ايضاً في علل الشرائع عن الامام الرضا (عليه السلام) والتي ورد فيها:
"فإن قال فلم لا يجوز أن يكون في الارض امامان في وقت واحد أو اكثر من ذلك؟ قيل لعلل منها: أن الواحد لا يختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك اما انا لم نجد اثنين الا مختلفي الهمم والارادة. فإذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما وإرادتهما وتدبيرهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه فكان في ذلك اختلاف الخلق والتشاجرُ والفساد ثم لا يكون أحدٌ مطيعاً لاحدهما إلا وهو عاص للآخر فتعمَّ المعصية اهل الارض، ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والايمان ويكونون إنما اتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر إذ أمرهم باتباع المختلفين.
ومنها:
أنه لو كانا امامين كان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير ما يدعو إليه صاحبه في الحكومة، ثم لا يكون أحدهما أولى بأن يتبع من صاحبه فتبطل الحقوق والاحكام والحدود»[3].
الاحتمال الثاني:
أن يكون المنصوب جميع الفقهاء والشأنية تكون ثابتةً لكل واحد منهم، ولكن تتقيد فعلية الولاية ضمن الدائرة الواحدة وتتعدد مع تعدد الدوائر، فعلى هذا الاحتمال لا مانع من تعدد الولاة ضمن الدوائر المتعددة مع امتناعه ضمن الدائرة الواحدة.
وغاية ما يمكن أن يستدل به على هذا الاحتمال هو التمسك باطلاقات أدلة ولاية الفقيه من قبيل مقبولة عمر بن حنظلة والتوقيع الشريف، فقد ورد في المقبولة عن الامام الصادق (عليه السلام): «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا وعرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً»[4].
فهذه الرواية لم تتحدث عن ولاية واحدة شاملة للمجتمع الاسلامي، فمقتضى الاطلاق هو التعدد ونفي قيدية الوحدة، وهذا يعني أن اتفاق المسلمين على فقيه جامع للشرائط ورضايتهم به تجعل له هذه الحاكمية، وهكذا إذا اتفق المسلمون على شخص آخر في بلد آخر فتكون له الحاكمية في ذلك البلد أيضاً.
غاية ما في الامر يلزم تقيد حرية الحاكم من التدخل في شؤون البلد الآخر الذي يدير شؤونه حاكم آخر للمحذور المتقدم في الاحتمال الاول.
وكذا الكلام في التوقيع الشريف المروي عن إسحق بن يعقوب:
"وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله"[5].
فمقتضى اطلاق الارجاع إلى الرواة الذين هم عبارة عن الفقهاء هو التعدد وعدم الوحدة.
وقد يعترض على التمسك بالاطلاق بما حاصله أنه يوجد في الرواية اطلاقين متنافيين لابدَّ من رفع اليد عن أحدهما، أما الاطلاق الاول فهو الاطلاق فيمن جعلت له الولاية، وهو يشمل كل من توفرت لديه شروط الولاية.
الثاني: هو اطلاق الدائرة والمساحة، فإن الرواية لم تقيد الولاية بخصوص دائرة معينة بل الخطاب فيها عام ولكل المسلمين.
وعليه فإن أريد الاخذ بالاطلاق الاول فهذا يعني فعلية الولاية لجميع الفقهاء، لكل واحد منهم في دائرة خاصة به بعد عدم امكان التعدد ضمن الدائرة الواحدة لما تقدم، وهذا يعني تقييد ولاية الولي وعدم شمولها للامة إذ لازم ذلك فعلية أكثر من ولاية في دائرة واحدة وهذا متفق على عدم إمكانه، والاخذ بالاطلاق الثاني يعني ثبوت الولاية لكل الامة وعدم اختصاصها بدائرة معينة، ولازم ذلك الوحدة في الولي وعدم التعدد مطلقاً.
وحيث إنّ الاطلاقين متنافيين فلابدَّ من رفع اليد عن أحدهما وذلك بحمل الاطلاق الاول على الشأنية وأن لكل فقيه توفرت فيه الشروط ولاية شأنية وتكون الولاية الفعلية لواحد منهم ولا منافاة حينئذ بين اثبات الشأنية للجميع وبين فعلية ولاية واحد.
وفيه أولاً: أن الاطلاق الثاني غير تام فلا تصل النوبة إلى رفع اليد عن احدهما بعد فرض المنافاة، لان من شروط الاطلاق أن يكون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يراد اثباتها في الاطلاق. وفي الرواية فإن الامام (عليه السلام) وإن كان في مقام البيان من جهة النصب وجعل الولاية للفقهاء، إلا أنه ليس في مقام بيان المساحة والدائرة التي تجعل للفقيه الولاية فيها، فالاطلاق من هذه الناحية غير تام.
ثانياً: لو سلمنا انعقاد الاطلاق بلحاظ الدائرة والمساحة فلا معين لحمل الاطلاق الاول على الشأنية وأن الفعلية تكون ثابتة لشخص واحد في قبال رفع اليد عن الاطلاق الثاني والاخذ بالاطلاق الاول بلحاظ الفعلية مع تعدد الدوائر، أو بالاخذ به وتقييد الرواية بأن المخاطب فيها كل دائرة ومنطقة على حده، إلا أن الصحيح عدم تمامية الاطلاق الثاني بلحاظ الدائرة.
وعين الكلام يأتي في التوقيع الشريف فلا نعيد، فعليه فالاطلاق في كلا الروايتين تام وهو يقتضي التعدد ونفي قيدية وحدانية الولاية في الدوائر المتعددة، فلابد حينئذ من البحث عما يصلح أن يكون دليلاً ومقيداً لهذا الاطلاق وإلا تعين الاخذ به مع عدم الدليل على الوحدة بناءً على استظهاره من الرواية.
إلا أنَ الصحيح هو تقيد الاطلاق بعدة أمور:
الامر الاول
الاستفادة من النصوص المانعة عن فرض وجود إمامين في عرض واحد بعد فرض التعدي من مورد هذه النصوص وهو الامام المنصوص عليه إلى غيره اما لعدم احتمال الفرق عرفاً أو للاولوية في غير المعصوم.
والروايات الدالة على ذلك عديدة:
منها: ما في الكافي بسند تام عن الحسين بن أبي العلا قال: "قلت لابي عبد الله (عليه السلام): تكون الارض ليس فيها امام؟ قال: لا، قلت يكون إمامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت»[6].
منها: ما في كمال الدين بسند تام عن أبي يعفور "أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) هل تترك الارض بغير الامام؟ قال: لا، قلت يكون امامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت»[7].
منها: ما رواه في كمال الدين عن هشام بن سالم قال: «قلت للصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): الحسن أفضل أم الحسين (عليهما السلام) قال: الحسن أفضل من الحسين... (إلى أن قال): قلت: فهل يكون امامان في وقت واحد؟ فقال: لا، إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فاما أن يكون امامين ناطقين في وقت واحد فلا...»[8].
مضافاً إلى رواية عيون اخبار الرضا (عليه السلام) وعلل الشرائع عن الفضل بن شاذان التي تقدمت، وما ورد في كتاب الغرر والدرر من «أنَّ الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب".
والاستدلال بهذه الروايات على نفي جواز التعدد إما بفرض التعدي من مورد الامام (عليه السلام) إلى غير الامام وهو الفقيه بطريق الاولوية كما يؤيد ذلك التعليل الوارد في رواية العلل حيث ذكر الامام (عليه السلام) بعد أن سئل عن علة عدم جواز وجود إمامين تكون ولايتهما فعلية في عرض واحد، أجاب معللا بحصول الاختلاف في الآراء، وعليه فإن فرض حصول الاختلاف في الآراء بين المعصومين فالاختلاف بين غيرهم يكون بطريق أولى.
وإما بالتعدي من مورد الامام إلى غيره من الفقهاء لعدم احتمال الفرق بينهما عرفاً في مسألة الولاية والحكومة على أمور الناس.
الامر الثاني:
التمسك بالاجماع على أنّ للفقيه ما للامام (عليه السلام) ــ أو باستفادة ذلك من النصوص ــ عدا ما يرتبط بالامام (عليه السلام) من حيث هو معصوم لا من حيث هو قائد وحاكم، أو ما أخرجه الدليل من اجماع أو نص وغيرهما. ولا شك في ثبوت الولاية للامام (عليه السلام) على جميع المسلمين فتكون هذه الولاية ثابتة أيضاً للفقيه، وهذا يكون بنفسه مانعاً عن التعدد.
الامر الثالث:
التمسك بارتكاز المتشرعة القائم على عدم التعدد في الولاية والقيادة بل سيرة المسلمين العملية في الحكم قائمة على ذلك أيضاً.
فاتضح إلى هنا أن هذه الطرق الثلاثة أو احدهما لا أقل يكون مانعاً من جواز التعدد في الولاية مع فرض وجود فقيه جامع للشرائط متصدي لامور المسلمين.
هذا كله فيما لو بنينا على أن الدليل على ولاية الفقيه هو الادلة اللفظية من قبيل المقبولة والتوقيع الشريف، وإن لم نقبل بدلالة الاخبار على ذلك وقلنا بأن الدليل على الولاية هو العقل على اساس مبدأ الامور الحسبيّة أو من باب القدر المتيقن على اساس الادلة اللفظية الدالة على وجوب التصدي واقامة الحكم، فلابد لنا من ملاحظة تلك الادلة لندرس امكانية التعدد والوحدة على ضوئها، فهل مقتضى هذه الادلة وحدانية الولاية أم لا تمنع من التعدد؟
أما بالنسبة لدليل العقل فإن فرض انه لا يقتضي الوحدة، ولا يمنع من التعدد فإن الاخبار المتقدمة القاضية بوجوب وحدة الامام (عليه السلام) تكون نافية لهذه النحو من التعدد، كما تقدم.
مع أنه يمكن أن يقال: إن العقل في أحكامه لا ينطلق من الفراغ، بل العقل حينما نظر إلى مسألة إرادة شؤون المسلمين وإلى أن كثيراً من الاحكام الشرعية متوقف على إقامة الحكومة، فإنه نظر إلى المسلمين كأمة واحدة ودولة واحدة ولم ينظر إليهم كأمم متفرقة، فحكم بحاجتها إلى ولي واحد لان الامة الواحدة كالدائرة الواحدة لا تتسع لاكثر من ولاية.
إلا أن هذا إن تم فإنما يتم في المجتمع الواحد، والامة الواحدة لا يلزم كونها مجتمعاً واحداً بل الامة الواحدة تنسجم مع تعدد المجتمعات والعقل إنما يحكم بلزوم وحدة الحاكم في المجتمع الواحد.
واما على اساس الادلة اللفظية الدالة على وجوب اقامة الحكم ويكون الفقيه الجامع للشرائط هو الولي من باب القدر المتيقن، فإنها وإن لم تمنع من التعدد إلا أن مقتضى الادلة الدالة على وجوب وحدة الامام تمنع عن ذلك كما تقدم.
مضافاً إلى أن الظرف التي صدرت فيه هذه النصوص كان الارتكاز فيه بين المسلمين والمتشرعة قائم على أن الحاكمية لا تتعدد، وهذا بنفسه يكون مقيداً لبياً لتلك الخطابات.
الاحتمال الثالث:
أن يكون المنصوب جميع الفقهاء الجامعين للشرائط، ولا تكون هذه الولاية فعلية الا برضى الامة عن طريق الانتخاب ــ إما باستظهار ذلك من أدلة النصب أو بدليل مستقل على الانتخابات والبيعة ــ وهذا يعني ضمناً امكانية التعدد ضمن الدوائر المتعددة.
والصحيح: أنه لا مدخلية لتعين الولي بالانتخابات من قبل الامة في مسألة الوحدة والتعدد كما قد يتوهم ذلك من انه ما دام التعين يتم بواسطة الانتخاب ورضى الناس فهذا يعني امكانية انتخاب كل بلد من بلاد المسلمين لولي خاص بها يدير شؤونها وينظم أمورها وذلك:
أولاً: إن استظهار ذلك من قوله (عليه السلام): "فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً" لازمه ان حكومة الفقيه وولايته تابعة لرضى الناس به، مع أن قوله (عليه السلام): "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" تعليل لوجوب الرضا به واتباعه بسبب جعل الفقيه حاكماً من قبله، لا ان حكومة الفقيه وولايته مستندة إلى رضا الناس به ولو بواسطة الانتخاب، بل إن النصب المجعول للفقيه والمستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة هو نصب من قبل الله تعالى بواسطة من ثبتت له الولاية على أمور المسلمين. وعليه فغاية ما يمكن إثباته بالانتخاب ــ مع أنه لا وجه لحصر التعين به ما دام أن المناط في فعلية الولاية هو التصدي، وهو يتحقق بالانتخاب وبغيره كما حصل للامام الخميني (قده) ــ هو تعيين الولي بعد فرض صلاحية جميع الفقهاء الواجدين للشرائط لذلك المنصب، ولا ربط لها في تحديد الموقف من مسألة الوحدة والتعدد بل لابد من الرجوع في ذلك إلى الادلة لتحديد ذلك فإن فرض الاطلاق فقد تقدم الجواب عنه.
ثانياً: لو فرض وجود أدلة مستقلة على مشروعية الانتخاب أو لزومها، فإن الاخبار الحاكمة بوجوب وحدة الامام (عليه السلام) التي تقدمت تمنع هذا النحو من التعدد.
ثم إنه بقي في المقام احتمالات أخرى لم تتعرض لها إما لوضوح فسادها أو لعدم مدخليتها في مسألة الوحدة والتعدد، طلباً للاختصار وعدم التطويل.
والمتحصل في المقام هو أن القول بالتعدد مما لا تقتضيه الادلة، بل مقتضى الادلة كما تقدم هو وحدة الولي مهما تعددت الدوائر.
__________________________________
[1] الغرر والدرر، ج1، ص274، ح 1095.
[2] المصدر السابق، ج2، ص86، ح 1941.
[3] عيون أخبار الرضا، ج3، ص191، الباب 34، حديث 1، وعلل الشرائع، ج1، ص254، الباب 182، حديث 9.
[4] الوسائل، ج18، ص3، كتاب القضاء ــ أبواب صفات القاضي.
[5] الوسائل، ج18، باب 11 من صفات القاضي، حديث 9.
[6] كمال الدين، باب 22، ح 17.
[7] المصدر السابق، ح 41.
[8] المصدر السابق، باب 40، ح 9.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية