مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر

الفصل السادس

عاد إبراهيم من اللاذقية بعد غيبة طالت يومين ، وسارع للذهاب إلى نقاء ، وكانت نقاء تنتظر عودته بفارغ الصبر ، وسارعت إلى استقباله في الباب ، وكل ذرة في كيانها تنطق بالشوق والحب...
وبادرته بعد أن استقر بهما الجلوس قائلة :
ـ لقد أوحشتني كثيراً يا إبراهيم
ـ وأنا كذلك يا عزيزة الروح ، فقد انقضى عليّ اليومان المنصرمان وكأنهما عامان كانت دقائقهما كأسابيع وساعاتهما كشهور.
وشعرت بفراغ كبير لبعدك يا إبراهيم.
ـ ولكني لم أفرغ منك لحظة لأشعر بالفراغ فقد كنت معي دائماً...
ـ إن قربك أصبح ضرورة من ضرورات حياتي ، وأساساً من أسس كياني يا إبراهيم.
ـ أما أنت فقد غدوت لي حياتي كلها ، فأنت لي كل


( 70 )

شيء ولا شيء عندي غيرك يا نقاء ! فأنا أحب حياتي ووجودي لأجلك لأنه سوف يكون وقفاً عليك يا نقاء ...! إذن فأنت لي كل شيء ولا شيء عندي غيرك...
كانت نقاء تسبح في آفاق السعادة وهي تستمع إلى كلمات إبراهيم وصوته الحنون... واستمر إبراهيم يقول :
ـ نعم يا نقاء ! أنت بالنسبة لي الحياة الواقعية التي تزخر بالسعادة وتعمر بالهناء ، وقد فتشت طويلاً قبل أن أهتدي إليك لأجد فيك ضالتي المنشودة وأملي الكبير.. لهذا فأنا سعيد بك ... ومفرط في السعادة.
ـ وأنا كذلك يا إبراهيم ، ولكن أخشى على سعادتنا هذه من أن تمسها يد الدهر الخؤون ، أو أن تنال منها حوادث الزمن الغادر ، بودي لو كنت أطمئن إلى خلود سعادتنا مدى الحياة .. نعم ، بودي لو أطمئن ...
ـ أنا مطمئن ... فأطمئني يا نقاء ! فالسعادة الحقيقية لا تمحو سطورها الأقدار ، ولا تنالها يد البلى ، فسعادتنا تنبع عن الحب والاخلاص . وسعادة يكون رصيدها حباً طاهراً وإخلاصاً واقعياً لا يمكن لأي عامل من عوامل الدهر أن ينالها بسوء... بماذا أنت سعيدة يا نقاء ؟
ـ بك أنت وحدك يا إبراهيم ... بروحك الطاهرة ... بسلوكك المهذب ... بقلبك الكبير ... بعواطفك الخيرة ...


( 71 )

بصوتك الحنون ... نعم ، بك أنت وحدك يا إبراهيم !
ـ وكذلك أنا يا نقاء ... سعيد بك يا عزيزتي... بصفاء روحك ونبل عواطفك ... بصدق حبك وودادك ... بثبات فكرك وروحياتك ... بالروعة الملائكية التي تشع بهالة من نور حول وجهك الرائع القسمات ... وعلى هذا ، فإن سعادتنا لن تزول ولن تحول أبد الدهر ، إن السعادة التي تتلاشى وتضمحل نتيجة لتعاقب الحوادث والأيام ليست سعادة واقعية ، إنها سعادة موهومة قائمة على أسس مادية مزيفة ، والمادة لابد أن تزول ، ولكن الروح ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، فالسعادة التي يكون قوامها مادة أرضية ، مثل المال أو الجاه أو الجمال ليست سعادة ، ولا حتى شبه سعادة ، وإنما هي شبه سكرة قصيرة على أحلام الغنى والجمال ، والسكرة لا تدوم طويلاً ، والغفوة يعقبها صحو طويل . تلك هي السعادة التي يخشى من زوالها ، وتلك هي السعادة التي تضل من يجري وراءها ، وتخدع من يركن إليها في الحياة ، أما سعادتنا يا نقاء ! فهي سعادة خالدة خلود الروح ، راسخة رسوخ النفوس في الأجسام ... فاطمئني يا عزيزتي ، فليست حياتنا الزوجية المقبلة سوى مثال رائع للحياة الزوجية السعيدة الهانئة ، فما دامت أرواحنا متحدة ، وقلوبنا متقاربة ، وأفكارنا منسجمة متماثلة ، سنكون في منجاة من أي خطر يهدد سعادتنا المتوخاة . فإن أهم عوامل هدم السعادة الزوجية هو تباين الآراء وإختلاف النظرة في الحياة .


( 72 )

وشاعت السعادة على وجه نقاء ، وهي تستمع إلى إبراهيم ، وودت لو استمر يتكلم واستمرت هي تستمع إلى ما لا نهاية.


( 73 )

الفصل السابع

تألقت الأنوار في بيت سعاد ، وهو يستقبل ثلة من الأصدقاء الخصوصيين للزوجين ، وقد وجهت الدعوة إليهم بمناسبة عيد ميلاد محمود ، وكانت سعاد تتألق في حلة زرقاء داكنة ، وقد زينت صدرها وجيدها وساعدها بالحلي ، وبدت رائعة الجمال بالغة الأناقة . وبدأ الضيوف يتوافدون على الدار ، وكان من مقدمتهم المصور صلاح ، وهو شاب كان من المعروف أنه على علاقة جديدة مع سعاد ... بعد أن نبذت صاحبها الممثل سليم ، واختار صلاح لنفسه مجلساً قريباً من سعاد ، وكانت سعاد مشغولة في استقبال المدعوين ، وتوزيع الابتسامات والمداعبات . وكان من جملة المدعوين شاب يعمل مهندساً ، وقد تعرفت عليه سعاد منذ مدة وجيزة ، وشاءت أن تلقي حوله أحابيلها ، فدعته إلى هذه الحفلة مع الأصدقاء الخصوصيين ، وقد جاء هذا المهندس بصحة واحد من أخص أصدقاء محمود اسمه سعيد ، وكانت سعاد تنتقل بين الضيوف ، حتى اختارت لها مجلساً إلى جوار المهندس الشاب ، وشاعت الغبطة في قلب المهندس وهو يرى سعاد تجلس إلى


( 74 )

جواره ، وانتظرته سعاد لكي يتكلم ، ولكن المسكين كان يشعر بارتباك إلى درجة لم تمكنه من الكلام ولكن سعيداً بدأ الحديث فخاطب سعاد قائلة :
ـ تصوري يا ست سعاد أن صديقي هذا كان يخشى من المجيء إلى هنا.
واتسعت حدقتا سعاد وهي تتظاهر باللهفة قائلة :
ـ آه ! ... ولماذا يا سعيد ؟!
ـ أنه كان يخشى أن تتجاهليه ...
ـ أنا ! وكيف لمثلي أن تتجاهل مثله وهو ملء السمع والبصر ؟!
وتمتم المهندس ببضع كلمات شكر.. وشعرت سعاد أنها تتمكن أن تستحوذ عليه بسهولة ، وأنها قد تجعل منه أداة تلوح بها لصلاح إذا صدف عنها ، وفعلاً ، فقد تمكن بعد مدة وجيزة من أن تطمأن إلى خضوعه لها ، وعند ذلك قامت من جواره بعد ن أشعلت فيه النار التي تريدها ، وذهبت تفتش عن صلاح ، وكانت قد لاحظت أنه لم يكن قد ارتاح لطول إقامتها إلى جوار المهندس ، وحاولت أن تراه في الصالون أو الشرفات ، ولكنها لم تقع هل على أثر هناك ... وخرجت إلى الحديقة وفي نهايتها وبين مجموعة من الأشجار المتراصة وجدت ضالتها ... فقد كان صلاح هناك وإلى جواره إحدى


( 75 )

صديقاتها من الغانيات .. وثارت سعاد لذلك ، فهي لم ترتو بعد منه ، ولا ترضى أن تخسره بهذه السرعة ، فتقدمت نحوهما وهي تقول :
ـ أهكذا تعتزلان الحفل ، لتعتكفا هنا بين الأشجار ؟!.
وعلت البغتة وجه صلاح ، ولملمت رفيقته أطرافها في ارتباك واستمرت سعاد تقول بانفعال :
ـ أنا كنت أعرف أنك متقلب ، كثير الزوات يا صلاح ، ولكن ليس بهذه السرعة ، وليس على هذه الصورة ! وتمتم صلاح قائلاً :
ـ أرجو أن لا تظني .. أني ...
وقطعت سعاد كلامه قائلة :
ـ دع عنك هذه الكلمات الفارغة ، هكذا أنت دائماً ، كل يوم في مكان وكل ساعة على اتجاه جديد.
ـ ولكنك أنت ... أقصد ... أغني.
ـ أنا أدرى ما الذي تقصده وما تعنيه يا صلاح ، فلا داعي لاتعاب نفسك في الكلام ، إن الذنب ذنبي ، أنا الذي وثقت بك وركنت إليك ، وفاتني أنك لا تختلف عن غيرك من الرفاق رجل مداج ، تتلاعب مع الريح.
ـ سعاد ... أنك أنت التي أهملت وجودي في الحفل ، وانصرفت عني إلى ذلك المهندس الشاب...


( 76 )

ـ وما أنت وما وجودك ؟... لكي أهمله أو لا أهمله ... هل حفظت لوجودك قيمة ؟ هل استطعت أن تقف أمام نزواتك في داري على الاقل ؟ أنت لم تعد تعني عندي شيئاً.
ـ سعاد ... ماذا تعنين يا سعاد ؟!.
ـ نعم ، أنا أعني أنك رجل ... رجل نزق لا تستقر على حال...
قالت سعاد هذا واستدارت وابتعدت عنهما . وساء صلاح أن يكون قد أغضب سعاد ولم يعد يطيب له المقام مع فاتنته الجديدة ، ولاحظت صاحبته عليه ذلك . فصممت على أن لا تدعه يفلت منها بسهولة ، فحاولت أن تغريه بالجلوس ، ولكنه امتنع وأصر على الالتحاق بباقي المدعوين ، وفكر أنه سوف يتمكن أن يسكب بين يدي سعاد دموع الندم والتوبة حتى يسترضيها ويردها إليه ، وفاته أن سعاد كانت تحوم حول صيد جديد ، وهو المهندس الشاب ... وإنها لم تثر غيرة عليه أو حباً له ، ولكنها كانت تريد أن تجعل من هذه الحادثة وسيلة للتهرب منه إلى حين...
أما سعاد فقد التحقت بضيوفها وكأنها لم تتخاصم مع أحد ، ولاحظت أن زوجها لم يكن في المكان الذي عهدته فيه ، ففتشت عنه في الشرفات فلم تجده أيضاً . وخرجت إلى الحديقة مرة ثانية ولكنها لم تره ، ففكرت لحظة ثم توجهت نحو غرفته الخاصة وهناك.. رأته ملقى على سريره بينما كانت


( 77 )

سنية جالسة عند رأسه تمسح وجهه بالماء. وتقدمت نحوه سعاد وانحنت عليه دون أن تفوه بكلمة فزكمتها رائحة الخمرة المنبعثة من فمه. وعرفت أنه مخمور ، وكان من عادة محمود أن يقع دائماً تحت تأثير الخمرة إذا أكثر منها ، لأنه لم يكن يشربها من قبل زواجه واتصاله بسعاد ورفعت سعاد رأسها وسألت سنية قائلة :
ـ من الذي جاء بسيدك إلى هنا يا سنية ؟
وردت سنية في تحفظ :
ـ أنا يا سيدتي.
ـ وكيف قدتيه إلى هنا وهو على هذه الحالة ؟!
ـ لا ... أنه لم يكن هكذا حين ذاك.
ـ إذن أنت سقيته هنا أيضاً؟
ـ نعم ، إنه هو الذي طلب مني ذلك.
ـ يا لك من سافلة.
ـ عفواً يا سيدتي لست بسافلة.
ـ أتستكثرين ذلك يا سنية ؟!
ـ أنا لا اختلف عنك بقليل أو كثير وأنا لا أقر أن سيدتي سافلة.
ـ ويل لك من صلفة لئيمة...
ـ مهملاً ، فقد اكتفيت من هذا الحفل الصاخب بسيدي وحده ، صحبته إلى هذه الغرفة وهو مخمور لكي أنعشه وأنبهه ... وأما أنت يا سيدتي ...


( 78 )

ـ أسكتي .. أسكتي يا بلهاء...
ـ لست بلهاء يا سيدتي ، بل أني أذكى مما تظنين !
وانتبهت سعاد إلى أن غيبتها عن المدعوين قد طالت أكثر مما ينبغي ، فاتجهت نحو الباب وهي تقول :
ـ حاولي إيقاضه بكل طريقة ، فليس من اللائق أن ينام هنا مخموراً وضيوفه على أهبة الانصراف.
وخرجت سعاد وهي تتعثر بأذيالها من الخزي والعار والحقد والبغضاء ، وكان صلاح قد عاد والتحق بجماعة الضيوف ، وحاول مراراً أن يختلي بسعاد ؛ ليعتذر لها ، ويبرر سلوكه عندها ، ولكنها كانت تتجاهله وتتحاشاه ، ولذّ لها أن تراه وهو يتعذب لهذا التجاهل الظاهري.
وكأن سنية فشلت في مهمتها فلم تتمكن من إيقاظ محمود ، وفعلاً فقد بدأ الضيوف ينصرفون ومحمود لم يعد بعد ، وبعد ساعة كان الصالون قد اقفر إلا من صلاح وركع صلاح أمام سعاد وأقسم بكل غال : أنه لم يكن يعني من مصاحبته لتلك السيدة غير اللهو وقضاء الوقت ، وأنه لا يزال كما كان عاشقها المفتون. وكان صلاح موهوباً في نسج الكلمات الرقيقة والألفاظ الخلابة ، ولم تكن سعاد تحتاج إلى كثير من عذر ، او طويل استغفار ، ولكنها شاءت أن تنعم أكثر باستغفار هذا الراكع على قدميها ، فماطلته بالعفو ،


( 79 )

وتلاعبت به طويلاً قبل أن تفهمه أنها عفت عنه. واطمأن صلاح إلى رضائها فودعها وانصرف . وعادت إلى غرفة زوجها فوجدته مستغرقاً في نوم عميق ، فتوجهت إلى غرفتها وهي تشعر بإعياء شديد ، فقد حطم سلوك زوجها أعصابها ، كما أن خيانة صلاح كانت قد أثرت عليها كثيراً ، وخلعت عنها ملابسها ، واستلقت على سريرها ، وهي تشعر أن رأسها سوف ينفجر تحت تأثير الأفكار المتضاربة التي كانت تتصارع فيه. فقد خرجت من الاحتفال وهي لم تزدد إلا شعوراً بالحقارة ، وإحساساً بالضياع والحرمان ، وحاولت أن تنام ، ولكنها لم تستطع إلى ذلك سبيلاً . وعادت تفكر في إبراهيم ... وهي في الواقع لم تخرج عن التفكير فيه طيلة الحفلة ، فقد كان ماثلاً في ذهنها على طول الخط ، ولكن في إطار من الحقد والنقمة ، فهي لم تكن تغفل عن فكرة الانقام لحظة واحدة ... وودت لم تمكنت من جر نقاء إلى أمثال هذه الحفلات ، لعلها تغريها وتستهويها بلهوها وصخبها ، فهي على ثقة أن نقاء لو ظهرت في حفلة واحدة ، لوجدت حولها عشرات من الشباب يركعون على أقدامها ويسجدون. وسعاد لا تشك لحظة في أن المرأة التي تصمد أمام إغراءات الشباب المندفع لم تخلق بعد على وجه الأرض ، وسهرت مع أفكارها طويلاً حتى غلبها النوم ، ولم تفق إلا وقد طلعت الشمس وعلا النهار ، فتمطت في فراشها قليلاً ، وكان من عادتها في أغلب الأيام أن تستدعي سنية ؛ لتساعدها على الاستحمام ،


( 80 )

ولكنها لم تنشأ أن تستدعيها ذلك الصباح بعدما صدر منها في المساء الماضي ، فاستحمت بمفردها ، وصففت شعرها بنفسها ، وارتدت ملابسها ونزلت الدرج ، وحاولت أن تخرج من الدار دون أن تراها سنية ، ولكن صوت سنية باغتها وهو يقول :
ـ ما لي أراك وقد عزمت على مغادرة البيت دون إفطار يا سيدتي ؟!.
والتفتت سعاد نحو الصوت ، فرأت سنية في غرفة الطعام وهو تهيئ مائدة الافطار ، ثم أردفت سنية قائلة :
ـ لماذا لم تستدعني لمساعدتك في الاستحمام ؟ أرجو أن لا تكوني غاضبة عليّ.
واحتارت سعاد بماذا ترد على هذه المتهكمة الوقحة ، ولم تر بداً من أن تقول :
ـ أنا لم استحم اليوم ، ولذلك لم استدعك عند صحوي من النوم.
ـ ولكن تناهى لي خرير الماء وهو يصب في الحمام . وعلى كل حال فالمهم أن لا تكوني غاضبة.
ـ لا ... لا... أبداً أبداً.
ـ هلا استفسرت عن صحة سيدي !؟
ـ آه لقد نسيت ... كيف حاله هذا الصباح ؟
ـ إنه لا يزال تعباناً يا سيدتي !


( 81 )

ـ إذن فهو لن يخرج اليوم أيضاً ؟
ـ نعم يا سيدتي ! فقد قال إنه لن يخرج من الدار.
وكادت سعاد أن تنقض على سنية فتنشب أظافرها في عنقها حتى ترديها ، ولكنها تذكرت الحبل الذي يشدها إليها فتمالكت نفسها ، وردت قائلة :
ـ اعتني به جيداً يا سنية ! فإنّ لدي موعداً هاماً . وعليّ أن أذهب.
وردت سنية في برود قائلة :
ـ إذهبي يا سيدتي مع السلامة.
وأسرعت سعاد في الخروج وكأنها تفر من شبح مخيف ، وتنفست الصعداء عندما شعرت أنها تحررت من سنية ومن سلطانها عليها إلى حين ، وهكذا أحست أن بيتها لم يعد بالنسبة لها سوى سجن بغيض يعمر بالمحن والآلام.

السابق || الفصول || التالي