مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر

الفصل الثامن


أما نقاء فقد كانت تعاودها بين حين وحين رغبة ملحة في أن تحدث إبراهيم عن سعاد ، فقد كان يعز عليها أن تخفي عنه أمراً ، ولكنها كانت تخجل حتى من مجرد ذكر سعاد فهي تأبى أن تعيد أمام إبراهيم كلمات سعاد وتفاهاتها لئلا يظن أنها تأثرت بها ، ولو إلى حد قليل. وقد كانت أيامها تمر وهي محملة بالهناء والسعادة ، ولم يكن يكدر عليها صفوها إلا قرب سفر إبراهيم فقد كان موعد سفره يكاد أن يحدد في وقت قريب ، وقد كانت خلال ثلاثة أسابيع مضت لم تجتمع بسعاد ولم تسمع عنها خبراً ، وقد سرها ذلك ، فهي لم تكن تركن إلى صحبتها مطلقاً. وبعد ثلاثة اسابيع رن جرس التلفون في غرفتها . وكانت الساعة تقارب العاشرة صباحاً فردت عليه ، وإذا بصوت سعاد يفاجئها عذباً رقيقاً ، وهي تقول :
ـ لقد أوحشتيني كثيراً كثيراً يا عزيزتي.
وكادت نقاء أن ترد قائلة وأنا كذلك يا سعاد ، ولكنها أبت أن تسجل عليها كذبة لا تستند إلى الحقيقة ، ولهذا أجابت بقليل من الفتور أهلاً وسهلاً.


( 84 )

ـ ولكنك جافية للصديق ، قاطعة للرحم ، أفما كان من الائق بك أن تسألي عني ولو مجرد سؤال ، أو تتصلي بي مرة واحدة في التلفون ؟! ألم يخطر لك أن انقطاعي عنك لا يكون إلا لأمر مهم.
ـ أبعد الله عنك كل مكروه يا سعاد.
ـ والآن أيضاً ألا تحاولي أن تعرفي السبب ؟
ـ آه .. طبعاً أنا أريد أن أسأل ، أرجو ألا تكوني مريضة يا سعاد ...!
قالت نقاء ذلك وهي تلعن في سرها سعاد ... وتتمنى لو أمكنها ان تقول لها : أنا لا يهمني السبب يا سعاد ، وحسناً فعلت بعدم مجيئك إلي طيلة هذه الأسابيع . ولكن الخجل أيضاً كان يمنعها من ذلك ، فهي بطبعها هادئة لا تستريح إلى الخصام ، وجاءها جواب سعاد سريعاً وهي تقول :
ـ لقد ابتليت بالزائدة الدودية ، ودخلت المستشفى وأجريت لي عميلة جراحية ، ومنذ يومين فقط رجعت إلى البيت.
وهنا شعرت نقاء ببعض الانعطاف نحو سعاد . فهي الم تكن تظن أن سعاد مريضة حقاً ، وفي هذه المرة ردت عليها بلهفة قائلة : آه ... إعذريني يا سعاد ! فلم أكن أعلم بذلك ، وعلى كل حال فالحمد لله على السلامة.
ـ أهكذا وفي التلفون ؟!


( 85 )

ـ سوف أحاول أن أزورك يا عزيزتي في أقرب فرصة.
ـ في أقرب فرصة ! ولماذا لا يكون اليوم أو غداً ؟
ـ أنا في هذه الأيام مشغولة يا سعاد ...
ـ آه .. هل إن إبراهيم يشغل أوقاتك كلها يا نقاء ؟!
ـ لا ، ولكنني مشغولة على كل حال.
ـ وإبراهيم أيضاً لابد أنه دائب على زيارتك في كل يوم صباحاً ومساء...
ـ تقريباً.
ـ إذن فإن أوقاتك مشغولة معه ، يزورك في الصباح ولا يخرج إلى أن يحين الظهر ، ثم يزورك في العصر ولا...
ـ لا أدري كيف تتكلمين يا سعاد ! إنه رجل عمل لا يتأخر في الصباح إلا دقائق معدودة.
ـ على كل حال فأنا لن أنتظر قدومك يا عزيزتي ، أنا أعلم أنك مقيدة من ناحية إبراهيم ، ولكنني سوف أزورك أنا بدلاً من أن تزوريني.
ـ أهلاً ... ولكن متى ؟
ـ حالاً ، حالاً ... مع السلامة.
ـ مع السلامة.
واستغربت نقاء هذه الطيبة المتناهية من ابنة خالتها. وكادت أن تندم على سلوكها الجاف معها من قبل ، فهي لم تكن تعرف غايات سعاد وأهدافها ، ولم يكن بامكانها أن تسمع سعاد بعد أن ألقت سماعة التلفون وهي تتمتم قائلة :


( 86 )

الآن عرفت متى ينبغي لي أن أزور نقاء دون أن يفاجئني إبراهيم ، أنا لا أخشى إبراهيم ، ولكني لا أريد أن يتعرف عليّ الآن لكي لا يحول بيني وبين خطتي الانتقامية ، ولكنه سوف يتعرف عليّ يوماً ما ، بعد أن يخسر نقاء وتخسره ... سوف أسعى إليه بنفسي ؛ لأقول له : هنيئاً لك بعروسك المصطفاة التقية النقية الطاهرة ... سوف اُحطم غروره وألوث مثله ومفاهيمه.
ولكن نقاء لم تسمع شيئاً من ذلك ، وأنى لها أن تسمع ؟ وجلست تنتظر وآثرت أن تستقبل سعاد في الصالون لكي تكون أمها حاضرة أيضاً ، فهي تعلم أن سعاد سوف تحد من كلامها بوجود خالتها ، ولكنها فوجئت بعدم وجود أمها في الدار ، وأخبرتها المساعدة التي لديهم أنها ذهبت لزيارة أخيها منذ الصباح ، وساء نقاء ذلك فقد كانت تقدر أن وجود أمها سوف يحول بين سعاد وبين الاسترسال في الكلام ، وبعد دقائق دق الباب ، فعلمت أن القادم سعاد .. وذهبت المساعدة ، لتفتح الباب ، وتقدمت نقاء ، لتستقبلها وكانت سعاد تتظاهر باللهفة البالغة ، ولم يسع نقاء إلا أن ترحب بها بحرارة وجلست سعاد وهي تتظاهر بالتعب ، وأخذت نقاء تعتذر لانها لم تعلم بدخولها المستشفى ، وضحكت سعاد وهي تقول :
ـ أنت أختي يا نقاء ! وأنا لا أعتب عليك مطلقاً ، ولكن


( 87 )

كنت أخشى أن أموت دون أن أراك مرة ثانية.
وتأثرت نقاء لهذه الكلمات العاطفية ، وقالت بلهجة صادقة حنون :
ـ حرسك الله من كل شر يا سعاد ! أنت لا تزالين في مستقبل حياتك وأول شبابك السعيد.
ـ حقاً أن الحياة ليؤسف عليها يا نقاء ! فحياتي مثلاً شريط ملون طافح بجميع ألوان اللذة والمتعة.
وتوجست نقاء خيفة من هذه الكلمات .. وفهمت أنها بداية لحديث طويل ، وردت عليها قائلة :
ـ جعل الله جميع أيامك سعيدة يا سعاد !
وسكنت سعاد برهة ، شعرت نقاء خلالها أنها في سبيل إيجاد ثغرة تنقذ منها إلى حيث تريد ، وصممت على أن لا تهيء لها تلك الفرصة ، ولا تدع لها مجالاً للكلام المسموم ... ولكن سعاد لم تكن بحاجة إلى الجو الذي تهيؤه لها نقاء ، فاندفعت تقول :
ـ كنت أذكر أمس أمام محمود وقد أظهر رغبة ملحة في زيارتك والتعرف عليك ، ولكني أخبرته أنك محجوزة...
ولم تشأ نقاء أن ترد عليها ، لكي لا يطول بهما الكلام في هذا الموضوع.. فاكتفت بابتسامة خفيفة . غير أن سعاد لم


( 88 )

تكن تتراجع بسهولة ، بل استمرت تقول :
ـ لقد اندهش محمود من غرابة تصرف إبراهيم ، وتعجب أن يوجد رجل مثل إبراهيم في هذا العصر المتحضر ، ولكني قلت له : إنه استطاع أن يقنع نقاء ، فهي سعيدة به على كل حال.
ومرة أخرى سكتت نقاء فلم تجب ، لا إقراراً منها لما كانت تقوله سعاد .. ولكن ترفعاً من متابعة مثل هذا الحديث ، ولكن سعاد فسرت هذا السكوت بموافقة نقاء على كلامها ، وإقراراً لما قالته ، فنشطت لمتابعة الحديث قائلة :
ـ هل يسمح لك إبراهيم بحضور الحفلات يا نقاء ؟!
وهنا لم تر نقاء بداً من أن تجيب ، فابتسمت وقالت :
ـ طبعاً ... طبعاً يا سعاد ! ولكن حفلات من النوع النظيف.
ـ وهل تحضرين حفل ميلادي في الشهر القادم إذ دعوتك إليه ؟
ـ لا مانع عندي من ذلك ، وسوف أكون مسرورة.
ـ شكراً لك ... وسوف أعرفك على محمود الذي يتحرق شوقاً إلى رؤيتك منذ أمد بعيد.
وسكتت نقاء ولم تدر كيف تجيب ... وفي وهلة فطنت إلى أن حفلة سعاد ستكون مختلطة ولا ريب ، وقد فاتها


( 89 )

ملاحظة ذلك من قبل .. وترددت لحظة ... هل تسألها عن نوعية الحفلة أو تترك ذلك إلى حينه ، وشجع سكوتها سعاد ، فتابعت تقول :
ـ كما أن عشرات من ألمع شباب المجتمع سوف يترامون على قدميك بعبادة وخشوع.
هنا انتفضت نقاء ... واصطبغ وجهها بحمرة قانية ، وقالت بحدة وعصبية ظاهرة :
ـ أنا لن أحضر حفلتك الموعودة يا سعاد ! فقد فاتني أن حفلاتك مختلطة ... ثم أنت تريدين أن تعرضيني لعيون عشرات الشباب ليركعوا تحت قدمي كأني سلعة ، لك أن تعرضيها لمن شئت من الناس ! لا أدري كيف سمحت لك نفسك التفوه بهذه الكلمات يا سعاد ؟...
ـ أنا لم أقل أنك سلعة يا نقاء ! ولكنك تأخذين الكلام على غير معناه الواقعي ، وإنما كنت أقصد أنك في حضورك الحفلة سوف تخرجين قليلاً عن محرابك الموحش ... أنا أرثى لحالك يا نقاء! ولا أسعى إلا وراء سعادتك في الحياة.
ـ لقد نلت حظي الوافر من السعادة فلا داعي لاجهاد نفسك في هذا السبيل.
ـ عجيب أمرك يا نقاء ! أحقاً أنت سعيدة ؟ أتسعدك هذه الجدران الأربعة وهذا المحيط الضيق ؟


( 90 )

ـ أنا لست سجينة بين جدران ، أو مقيدة بمحيط ضيق يا سعاد ! أنا حرة بجميع تصرفاتي وتنقلاتي إلى حيث ما أردت ، وإلى أي مكان قصدت ، ولكن في نطاق العفة والحشمة.
ـ ولكنك في الواقع أسيرة في حريتك. مقيدة في انطلاقك أو ليست هذه الأطواق الملعونة تلتف حول رأسك وعنقك الجميل ؟! أو ليس المعطف الأسود العريض يحجب قوامك اللدن عن الأبصار ويبرزك على شكل كيس يتساوى فيه الطول والعرض !؟ ولكنك لا تزالين في غفلة عن ذلك ، أليس من الجرم أن تظهري للمجتمع بلبوس العجائز وأنت الفتاة الجميلة البديعة التكوين ؟!. أي شريعة هذه التي تجيز لابراهيم أن يظهر للمجتمع بأتم أناقة وأكمل زينة ، وتحرم عليك أن تبرزي أية ناحية من نواحي جمالك الرائع !؟ حقاً أنه لظلم .. وظلم فظيع...
وهمت نقاء أن تجيب .. لكن سعاد لم تدعها تتكلم ، فاسترسلت تقول :
ـ إن أبشع جريمة اجتماعية هي أن تخضع فتاة مثلك لرجل وأي رجل كان .. أي دين هو هذا الذي يجعل من المرأة أداة مستعبدة في أيدي الرجال ؟!.
ولم تستطع نقاء أن تستمع أكثر من هذا ، فاندفعت تقول وقد تهدج صوتها من الغضب :


( 91 )

ـ أنا لست محكومة لأحد ، ولم يفرض الدين عليّ أن أحكم لأحد أياً كان حتى زوجي ، فليس الزواج في الاسلام ختم ملكية المرأة للرجل ، ولا تخضع فيه المرأة المسلمة إلى أي حدود أو التزامات غير طبيعية. إن الاسلام يعطي للزوجة المسلمة امتيازات لم تحصل عليها الزوجة في كل نظام وقانون غير الاسلام ولكنك مخدوعة ، ولا تفقهين ما تقولين !!.
ـ وهل أن من امتيازات الزوجة المسلمة أن تعتكف في بيت زوجها تطهو الطعام ، وتقوم على خدمة الزوج والاطفال ؟!.
ـ الإسلام لم يفرض على الزوجة ذلك . ولكن آداب الاسلام جعلت المرأة المسلمة بطبعها تتوق إلى ادارة بيتها والعناية بزوجها وأطفالها ، فهي مخيرة في ذلك ، وليست مجبرة إطلاقاً .. وأما الحجاب الذي التزمه فهو ليس سوى إبراد ، تقي شر الذئاب من الرجال ، وأنا فخورة به حريصة عليه ، فإذا كان كل ما يهمك صلاحي ... فاعلمي أني أسعد منك بكثير...
ـ أنا لا أقصدك أنت بالخصوص ، فلعل إبراهيم قد أعشى بصرك إلى حين ، ولكنني أعارض الفكرة بشكل عام ، نعم الفكرة الرجعية التي تريد أن تتحكم بمستقبل فتيات في عمر الزهور ، حقاً أنه لوأد غير مباشر.


( 92 )

ـ إن هذه الفكرة التي تعدينها رجعية هي في الواقع أروع فكرة اجتماعية إصلاحية تغدو المرأة في ظلها أعز امرأة عرفها التاريخ ، لو تم تطبيق هذه الفكرة ، وسوف يتم في يوم إن شاء الله ، ثم ان السفور في الواقع هو الذي يمثل الرجعية التي قضى الرجوع إلى الوراء ، لأنه يعود بالمرأة إلى زمان الجاهلية فيما قبل الاسلام.
ـ أنت الآن مخدوعة يا نقاء ! في ذهنك كلمات أخذتيها عن إبراهيم ، وها أنت ترددينها بدون قصد وبدون أن تعرفي معناها الواقعي ، ولكنك لو فكرت بما قلته لك جيداً لعرفت تفاهة هذه الأفكار ورجعيتها ، ولعرفت أن كلامي هو الكلام الصحيح الذي يجاري العصر الذي نعيشه ، والمجتمع الذي من حولنا.
ـ انك أنت المخدوعة يا سعاد ! وهذا مما يؤسف له حقاً أن تحطمي حياتك نتيجة للسير وراء الدعايات المضللة والأفكار المسمومة ، أما أنا فكوني واثقة من أنني أعني ما أقول وأنني مؤمنة بآداب الاسلام وتعاليمه كأنجح وسيلة تمكنني من شق طريقي خلال مسيرة الحياة في أمان ، أن لا أردد كلمات أخذتها عن إبراهيم ، ولكنني أردد كلمات تنطلق من مفهوم الاسلام وتنطق عن مثالية التنظيم الاجتماعي في رسالة السماء...
وحين رأت سعاد أن عليها أن تدع هذا الحديث عند


( 93 )

هذا الحد ، وأن تكتفي ليومها ذاك بهذا القدر من الكلام لأنها لاحظت على نقاء اندفاعاً في الرد لم تكن قد تحتسبه من قبل ، وفعلاً فقد غيرت مجرى الحديث وسألت نقاء قائلة :
ـ أين خالتي يا نقاء ! منذ مدة لم يتفق لي أن أراها عند زيارتي لك ... ! كنت أحسبها سوف تسعى لاستقبالي بعد هذا الانقطاع الطويل...
وودت نقاء لو تمكنت أن ترد عليها قائلة : إن خالتك تمقتك وتكرهك ، وهي لا تطيق رؤيتك ، بل وتتهرب منك ما وسعها التهرب .. ولكن الاتزان منعها عن ذلك ، فاضطرت إلى أن تقول :
ـ لقد ذهبت أمي لزيارة خالتي منذ الصباح ، ولعلها سوف تعود قريباً.
وهكذا استمر بهما الجلوس ، وسعاد تحاول أن لا تتطرق إلى موضوع كلامها الأول ، وحوالي الساعة الثانية عشرة انصرفت سعاد وحرصت على أن تكرر على نقاء وصيتها لها بالتفكير بمستقبلها مرة ثانية ، وصممت نقاء بعد زيارة سعاد هذه أن تحدث إبراهيم عنها وأن تخبره بقرابتها لها لكي لا يستنكر اجتماعهما إذا صادف ورآهما مجتمعتين.

السابق || الفصول || التالي