مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

صراع من واقع الحياة

صراع

كانت فاطمة تسير وهي في دوامة من الأفكار ، تتقاذفها ، وتتلاعب بعواطفها المرفهة ، ومشاعرها الحساسة. وكانت تحث خطاها ، وتستعجل الوقت لكي تصل الى حيث تريد. إلى مصدر النور والإشعاع في حياتها ، ومبعث الرضا والطمأنينة بالنسبة لعواطفها وأفكارها ، فهي تشعر بشعور مبهم تتمنى لو تمكنت من التغلب عليه والتخلص منه ، ولكنها لا تزال ضعيفة وفي حاجة الى ركيزة قوية تشدها وتأخذ بيدها لانتشالها مما هي فيه. وكانت تحدث نفسها قائلة : سوف احدثها عن كل شيء ، سوف اشرح لها ما الاقيه من صعوبات ، وسوف اعترف امامها بأني خائفة من ان يلحقني الجبن او ان اتراجع.
وما أن وصلت الى البيت المقصود حتى اندفعت تطرق الباب في لهفة ، وهي خائفة من الخيبة ومن عدم وجود صديقتها في البيت ، وحينما انفتحت الباب اندفعت تسأل عن عفاف ، ولما علمت بوجودها اتجهت نحو غرفتها بخطوات مضطربة فتلاقت معها وهي قادمة لاستقبالها ببشاشتها


( 10 )

الهادئة ، فصافحتها بحرارة وسارتا حتى استقر بهما الجلوس في غرفة عفاف ، وبنغمة طيبة تصحبها رنة عتاب قالت عفاف : لقد اوحشتيني طيلة الأسبوع الماضي يا فاطمة فأهلا بك وسهلاً . ولم تكد فاطمة تستمع الى صوت عفاف ، ونغمتها الرصينة الحنون ، حتى سكنت جذوة ثورتها وكادت ان تنسى ما أتت لأجله ، ولهذا فقد اطرقت دون ان تجيب ومرت فترة ، كانت خلالها عفاف تحدق في وجه فاطمة حتى قرأت مشاعرها مرتسمة عليه ، ثم تقدمت بمجلسها نحو فاطمة ، وابتسمت ابتسامة عطف وتشجيع وهي تقول أراك لست على طبيعتك يا فاطمة فهل لي ان أعرف السبب ؟ وكأن هذا السؤال قد فتح امام فاطمة باب الحديث ، فقالت وصوتها يتهدج ما أراني الا منكرة لحالي يا اختاه ، فقد تنكرت لي عواطفي ، وخانتني الشجاعة بعد أن حسبت أني قد تدرعت من ايماني بدروع تعصمني من الشيطان ، وتصد عني كل ما من حقه ان يصل الى غايتي او هدفي من قريب او بعيد ، ولكن ... وسكتت فاطمة تحاول أن تستحضر العبارة الواضحة التي تكشف عما تعانيه ، ولكن عفاف سبقت افكارها وقد توصلت الى معرفة المحنة التي تعيشها صديقتها ، والدور الذي تمر فيه ، فقالت وكأنها تحاول ان تفتح امام فاطمة باب الحديث ، لتتعرف على جميع ما لديها وما تحسه من مشاعر قالت ولكن ماذا يا فاطمة ؟ قالت فاطمة ولكن شجاعتي بدأت تخونني يا أختاه ، فلم أعد اطيق هذه


( 11 )

الصعوبات التي تعترض طريق الدعوة الدينية ، قالت عفاف : وأي صعوبات هذه يا فاطمة ؟ حدثيني بما لديك فلست سوى أختك في الإيمان . قالت فاطمة ، لقد آمنت بواجبنا نحن المسلمات ، ومسؤوليتنا تجاه ديننا واسلامنا الحبيب ، فاندفعت أدعو اليه ، واحاول ان استنقذ من اتمكن عليهن من بنات الإسلام من الواقع المرير الذي يضللهن ، ولكن المجتمع يا عفاف . وسكتت فاطمة فقالت عفاف وماله يا فاطمة قالت فاطمة إنه مجتمع فاسد لا يقيم للمفاهيم والمثل وزنا ولا ينظر إلا من وراء منظار المصالح والغايات ، هذا المجتمع جعلني أشعر بمرارة لم أكن أريدها أو ارغب فيها قالت عفاف او كنت تحسبين ان طريق الخدمة الدينية مفروش بالأزهار ؟ خال من المتاعب والمصاعب ؟ نحن لا ينبغي لنا ان ننكر وجود المصاعب والمتاعب ، ولكن المطلوب منا أن لا نحس بقساوتها ومرارتها ما دمنا قد سرنا في طريق الله ، وفي طريق الحق ، ألم تسمعي قسم الفتاة المؤمنة الذي ينطق عن لسان كل من مشت في طريق الله ؟

اسلامنــا انت الحبيب * وكل صعب فيك سهــل
ولأجل دعوتك العزيـزة * علقـم الأيـام يحـلــو

والآن . حدثيني بهدوء عما آثارك يا فاطمة ؟ قالت فاطمة أنه ليس بالشيء المعين يا عفاف ، قالت عفاف ، ولكنه


( 12 )

الجبن امام التيارات المنحرفة ، والخوف من الأفكار المسمومة ؟ وكانت عفاف تحاول بكلماتها هذه ان تثير الحمية في فاطمة وفعلا فقد نجحت بمحاولتها فما كادت فاطمة تسمع كلمة الجبن والخوف حتى انتفضت مستنكرة وهي تقول : أبدا أبدا أنا لا اجبن اما تيار ، ولا اخاف من فكرة ، ولكنها المضايقات ، المعاكسات ، عدم التجاوب عدم التفهم و و و
قالت عفاف وماذا أيضاً يا فاطمة ؟ اكملي ما لديك لاجيبك عليه : قالت فاطمة لقد آمنت أن عليَّ أن أخدم ديني بكل صورة وبأي مجال من المجالات ، وآمنت أيضا أن العقيدة الإسلامية لا تعرف حدودا ومقاييس عدا مقاييس الدين والعمل له .. وهنا سكتت فاطمة وكأنها لا تعرف ما تريد ان تقول ، فقالت عفاف ولهذا فقد آلمك ان وجدت المجتمع لا يزال يرزح تحت وطأة المقاييس الخاطئة ، وينظر للأفراد بمنظار المادة وداخل أطار من القشور الزائفة ، أليس كذلك يا فاطمة ولكن لو كان مجتمعنا مجتمعا مثاليا يؤمن بالفاهيم الإسلامية وينظر للفرد والمجتمع بمنظار الحقيقة لما استطاعت الدعوة التي حملنا على عاتقنا مهمتها ان تصقل نفوسنا وتتسامى بعزائمنا من خلال صعاب الطريق ومشاكله وأشواكه ولو كنا ندعو في مجتمع فاضل ونهدي بنات جنسنا في بيئة صالحة بصورة مواكبة للتيار بدلا عن مجابهته كما نصنع اليوم لما كنا من الصابرين والصابرات الذين عنتهم الآية المباركة ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات


( 13 )

والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ) (1) قالت فاطمة ولكنهم يستهزؤن يا عفاف ، انهم يضحكون ، ويشمتون ، عندما نصبح في شدة او نمر بتجربة قاسية ، فابتسمت عفاف وهي تقول دعيهم يضحكون قليلاً فسوف يبكون كثيراً يا فاطمة ، ألم تسمعي الآية القرآنية التي تقول ( لتبلون في اموالكم وانفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا اذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) (2) والآية القرآنية المباركة الأخرى ( ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب اليم ) (3). ان القرآن الكريم قد أوضح امامنا كل شيء ، وخطط لنا طري الدعوة بما فيه من عقبات ، وبما يليه من نعيم وجنان ، اذن فنحن حينما ندعو الى ديننا يجب أن نكون على ثقة من مواضع أقدامنا لكي لا نتأرجح للعقبات ، او نتداعى امام السدود ، علينا أن نتذكر دائماً
____________
(1) سورة الاحزاب الآية 35.
(2) سورة آل عمران الآية 186.
(3) سورة آل عمران الآية 187.


( 14 )

المرحلة الاولى للدعوة الاسلامية ، والمصاعب والأهوال التي صادفت الرسول الأعظم (ص) ، وهو يدعو الناس الى أن يخرجوا من عبادة اصنام ينحتونها الى عبادة الله الواحد القهار ، ثم وهو يهذب امة بدائية تغلغلت فيها العادات الهمجية من النهب والسلب ، والقتل ، والسكر والفحشاء ، والمجون ، ويغرس فيها المفاهيم السماوية ، والأخلاق المثالية ، لتكون خير أمة أخرجت للناس ، علينا ان نتصور محمد بن عبد الله وهو سليل اشرف اسرة عرفتها الجزيرة العربية ، ثم وهو انبل رجل في قريش يقر له بالكمال الكبير والصغير والرفيع والوضيع ولا يسمى إلا بالصادق الأمين ، علينا أن نتصور هذا الرجل العظيم وهو يبعث بالنبوة ، ويختاره الله لحمل الرسالة ، فتتألب عليه العشائر ، وتتكاتف ضده القبائل ويحاصر بالتهديد والوعيد ، وهو صامد ثابت ، لا يرجع عن دعوته ، ولا يفتر عن تبليغ رسالته ، ثم يقاطع ويعزل هو ومن معه من المؤمنين وكأنه انسان منحرف ، أو زعيم عصابة ضالة ، ثم يتحمل اشكالا من اساليب الأهانة والاستهزاء فيقال عنه ساحر وهو النبي ، ويقال عنه كذاب وهو الصادق الأمين ، ويقال عنه معلم وهو الذي يتلقى الوحي من السماء ويقال عنه مجنون وهو اكبر عقل تقبل افكار النبوة ، علينا ان نتصور كل هذا ثم نتذكر دعاء النبي (ص) حينما ذهب ليدعو الناس في الطائف ، فأرسلوا اليه بأطفالهم يستهزئون ويسخرون ،


( 15 )

ويرمونه بالحجارة والسباب ، حتى التجأ الى جدار هناك ورفع يديه نحو السماء وهو يقول : « اللهم اليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا رب المستضعفين وربي ، الى من تكلني ؟ الى قريب يتجهمني ! أم الى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضب ؟ فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي اوسع لي » إن علينا يا فاطمة أن نتذكر خاتمة هذا الدعاء حينما يقول ، ان لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، بعد بدايته الناطقة بالألم والأسى ، فنحن ما دمنا على ثقة من صواب فكرتنا ، وصدق عقيدتنا ، ينبغي أن لا نتداعى امام التهاويل والأباطيل ، او امام المشاكل والعقبات ، تذكري يا فاطمة ان السيدة زينب بنت امير المؤمنين لما وقفت على جثمان أخيها الإمام الحسين في يوم عاشوراء ، وهو الأخ والحامي والمعيل ، قالت زينب وهي تقف على جثمان الإمام رافعة يدها نحو السماء اللهم تقبل منا هذا القربان ، نعم يا فاطمة علينا أن نتذكر كل هذا ، لكي لا نستهول الأحداث التي تعترض طريقنا . وما أن سكتت عفاف حتى استعبرت فاطمة وهي تقول ، لا حرمني الله منك يا عفاف فما أنت الا بلسمي الشافي ، ومناري الهادي ، فقد اعدت لي بكلماتك الروح التي كدت ان افتقدها ، نعم أعدتيها إلي ولكن بشكل ثابت لا يمكن أن يتزعزع أو يتأرجح ، ما كان اغباني وأنا أندفع الى اليأس يا عفاف ؟ قالت عفاف أبدا يا فاطمة أنك لم تيأسي لحظة ، ولم تكوني غبية قط ، ولكنها مشاعر تتولد


( 16 )

من جراء بعض العوامل في المجتمع والمحيط ، وان أحسن دليل على صمودك وايمانك انك اتجهت الي لأساعدك على الوقوف في المزالق التي لا يد لك بإيجادها ، وإنما هي نتيجة انحراف المجتمع الجاهل المسكين ، ثم لعلك قد هجرت المطالعة كما هجرتيني منذ فترة يا فاطمة ؟ قالت فاطمة أنا لم اهجرك يا عفاف ، ولكنني كنت اعيش في دوامة ، وكنت اخشى ، وسكتت فاطمة وكأنها تتردد في اكمال جملتها فاردفت عفاف قائلة كنت تخشين مصارحتي بما يعتلج في افكارك يا فاطمة ؟ أليس كذلك ، ولكنك في هذا فقط كنت غلطانة يا عزيزتي ، اتخشين مصارحتي وتنطوين على هذه المشاعر دون ان تخشي من عواقبها عليك ومضاعفاتها بالنسبة لأفكارك ؟ قالت عفاف هذا ثم حدقت في عين فاطمة وهي تبتسم بلطف فما كان من فاطمة إلا أن قالت كوني على ثقة يا عفاف من اني سوف لن ادع للضعف سبيلا الي بعد اليوم ، واعاهدك أيضا أن ابثك ما لدي من الالام والآمال ، لتكوني ملاكي الهادي كما كنت دائما وأبدا فقالت عفاف أنا لست ملاك ، يا فاطمة وما أنا إلا اختك المحبة الناصحة لك ولجميع فتيات الإسلام .

التالي  || الفصول || السابق

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها