مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

صراع من واقع الحياة

ثبات

 
كان المساء كئيبا تلبدت سماؤه بالغيوم ، وزمجرت الريح فيه تنذر بقرب هبوب العاصفة ، وقد ضمت خديجة اليها اولادها الثلاث في غرفة متواضعة وهي تفترش بساطاً بالياً لم يبق من معالمه شيء ، وكانت ترفع طرفها الى السماء خلسة عن أطفالها لتتابع تطوراته خشية ان تهب العاصفة قبل أن يعود زوجها من الخارج ، حتى سمعت صوت المفتاح وهو يدور في الباب فنهضت مسرعة وأهابت بأطفالها قائلة قوموا فاستقبلوا أباكم فهتف صغيرهم قائلا وهل جاء لنا بالخبز يا أماه ؟ فنهرته بلطف قائلة ان هذا لا يهم لا تلق عليه هذا السؤال. واندفع الأولاد نحو الأب مهللين ومعهم أمهم وقد انطبعت على وجهها ابتسامة طيبة وكأنها لم تكن تعيش ساعات القلق المريرة من قبل وكان الأب يحمل على يديه بعض الأرغفة من الخبز مع قطعة من الجبن فسارعت الأم الى استلامها منه ولم تمض فترة حتى أعدت وجبة العشاء المتواضعة في أوان نظيفة وان كانت قد فقدت لونها لكثرة الاستعمال ، وتحلقت الأسرة حول هذه المائدة البسيطة


( 28 )

وحاولت الأم ان توجد جوا من المرح والسعادة بين افراد الأسرة وما أن فرغوا من الطعام حتى استسلم الأطفال لنوم عميق يحلمون فيه بأنواع الحلوى واشكال العرائس واللعب ومضت فترة سكوت على الأبوين قطعها الأب قائلا في مرارة : وهكذا ترين هذه السنة وهي تكاد تنتهي دون أن احصل على عمل ، وقد استنفدنا كل ما كنا قد ادخرناه وبعنا ما تمكنا من بيعه من أثاث البيت ، ولم يبق لدينا ما يمكننا من مقاومة الجوع ، فقالت الأم بصوت حاولت أن تجعله متفائلا لقد بقي لدينا الإيمان ، وبقيت لدينا الإرادة ، وهما الطريق الى كل خير وسعادة ، فقال الأب واي خير وسعادة ونحن نرى الإيمان يجرنا الى ان نجد اولادنا يتضورون جوعاً في اسمال بالية ، أما وربي أنه الايمان الذي جعلني اتحمل هذا الشظف من العيش وانها الهداية التي جرعتني كؤوس الفقر والحرمان واحدا بعد واحد ، فقد كنت اتقلب في بحبوحة من العيش قبل أن .. فقطعت الأم كلام زوجها قائلة واية بحبوحة تلك ؟ ومتى كان القمار رصيداً للأسرة ؟ وما قيمة الغذاء الذي يملأ الجوف نارا ؟ والكساء الذي تعقبه سرابيل النار ؟ نحن لم نكن سعداء ومصيرنا تحدده الصدفة او الخدعة ، نحن لم نكن سعداء حينما كنا نشبع على حساب جوع غيرنا ، ونلبس في الوقت الذي يتعرى فيه سوانا ، أية سعادة في ذلك الجحيم ؟ قال الأب ولأجل هذه المفاهيم اقلعت عن القمار ، ولأجل هذه المفاهيم أيضا وصلنا الى ما


( 29 )

نحن عليه ، قالت الأم ان لقمة خبز يابسة نأكلها ونحن بها احقاء لهي افضل بكثير من الموائد العامرة بأطائب الطعام نأكلها بعد ان ربحنا ثمرها على الموائد الخضراء ، وبعد أن سبب ربحنا الخسارة لسوانا من الناس ما أهمية اكلة لذيذة او بزة انيقة يعقبها عقاب الله ، قال الأب أنا أعرف كل هذا يا خديجة وأنا احمد الله الذي هداني للإيمان واشكرك لمساعدتي على النهوض من ذلك الحضيض ولكن حياة الفقر مريرة وعذاب الحاجة لا يطاق .. قالت خديجة مهما كانت حياة الفقر يا حسان فهي حياة زائلة يخالطها الأمل ويعتمل بها الرجاء وقد يعقبها اليسر او يتبعها الرخاء ولكن الحياة الأخرى الحياة الحقيقية التي لا تنتهي ولا انقضاء لها تلك الحياة التي يجب ان نحسب لها حسابنا ونهيء للرحيل اليها امتعتنا من الأعمال الصالحة الخيرة ، فلا تأسف على ما فات ، واحمد الله على ما أعده لك من نعيم التوبة ومثوبة الصبر على الفاقة وسبيل رضاء الله واجتناب معاصيه ، ولا تدع لليأس اليك سبيلا . قال الأب أنا لست يائساً يا خديجة ولكني اخشى ان أنهار امام هذه الصعاب فيزلني الشيطان وأعود الى ما ابتعدت عنه . قالت الأم لا تزال لدي حلية حرصت عليها كذكرى لزواجنا وسوف ابيعها منذ الغد ونعيش بثمنها لفترة من الزمان سيمدنا الله خلالها بعونه ويفتح امامك طريقاً للعمل الحر الشريف ، قال الأب اذن فلا كن على ثقة من نفسي الى فترة اخرى ! قالت الأم نعم كن على ثقة يا حسان فإن الله


( 30 )

لن يترك عباده ييأسون من رحمته ، ولا يزال في الدنيا أشخاص يثمنون الاعتدال ويقدرون الصلاح ، وسوف ترى كيف يبتسم لك المستقبل ويفتح لك الحظ السعيد ذراعيه ، فتأوه الأب ثم قال اذا صحت امالك يا خديجة فما هي الحكمة من هذه الأزمة التي نجتازها ؟ فقالت الأم انها فترة اختبار ومرحلة تجربة لك ولنا جميعاً ألم تسمع الآية التي تقول ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) (1) فقال الأب ومتى سوف تنتهي هذه الفترة القاسية ؟ قالت الأم متى ما اجتزنا الامتحان بنجاح فقال الأب وما هو النجاح المطلوب ؟ قالت هو ان نتحمل آلام الجوع وويلات الفقر دون ان نمد أيدينا الى المال الحرام واني لعلى ثقة من أن فترة الأمتحان تكاد أن تنتهي بنجاحنا والحمد لله .. والى هنا انتهى حوار الزوجين فاستسلما للنوم وقد أوكلا امرهما لله الواحد القهار ، واستفاقت الام عند طلوع الفجر فأيقظت الأب ليؤديا صلاة الصبح ثم انصرفت الأم لتهيء الشاي قبل ان يستيقظ الأطفال وانهمك الأب يقرأ بعض سور القرآن الكريم واشرق الصبح ، واستفاق الأولاد ، فقدمت الأم لهم أكواب الشاي ولكن احدهم احتج قائلا اين الخبز إذن يا ماما ؟ إن صديقي حامد واخوته يفطرون على الخبز والزبد والبيض في كل
____________
(1) سورة البقرة الآية 155.

( 31 )

صباح ، فشعرت الأم بفؤادها وهو يتمزق لوقع هذه الكلمات ، ولكنها طبعت على قسماتها ابتسامه جريحة وقبلت طفلها وهي تقول سوف يكون افطارك منذ الغد كما تحب وتشتهي يا عزيز الروح ان شاء الله ، فتساءل الطفل ببراءة لما قلت ان شاء الله يا ماما ؟ قالت الأم لأن الله هو الذي يرزقنا يا ولدي وهو الذي يمكننا من تهيئة الغذاء والكساء ، ولولا ارادة الله تبارك وتعالى لما تمكنا حتى من استنشاق الهواء ، فقال الطفل وهل سوف يرزقنا الله الخبز والبيض عند الإفطار يا ماما ؟ قالت الأم نعم نعم يا ولدي ان ذلك سوف يكون ان شاء الله ، وكان الأب يستمع الى ما يدور بين ابنه وزوجته وهو مذهول امام قوة الإيمان التي تشد هذه الزوجة الصالحة ورأى ان عليه ان يؤازر هذه الأم المجاهدة ويساعدها على بعث روح الأمل والثقة في نفوس الأطفال فبدأ يتحدث اليهم عن المستقبل ، وكيف ان الله سوف يهديه الى عمل يدر عليه الربح الكثير ، فيشتري لهم ما يشتهون ، من الحلوى ، والفواكه ، فيأكلون كما يأكل حامد واخوته ، ويلبسون كما يلبسون ، وما أن اتم حديثه الذي استحوذ على اهتمام الأطفال حتى سمع طرقا على الباب فتوجه ليفتح الباب وهو يتساءل في سره عن الطارق ؟ وقد قل من يطرق بابه بعد أن انفصل عن جماعة اللهو والمجون ، وكأن قلب الأم قد آمل ان تكون هذه الطرقات فاتحة خير في حياتهم فوقفت في مكانها تنتظر ومضت فترة ليست بالقصيرة وان كانت في حساب


( 32 )

الانتظار طويلة جدا وعيون الأم متجهة الى مدخل الدار ، وعاد الأب وقد تهلل وجهه واشرقت اساريره فاندفعت اليه الأم وهي تقول ظني بأن فترة امتحاننا قد انتهت يا حسان فأخذ بيدها في حب وخشوع وقال نعم يا شريكة حياتي ، ورفيقة آلامي وآمالي ، نعم يا عزيزتي ، لقد انهى الله تبارك وتعالى فترة الاختبار واجتزناها بنجاح والحمد لله ، ولكن بجهودك وبصمودك وايمانك .. حقا لقد تمثلت فيك كلمة امامنا جعفر الصادق حينما قال « المرأة الصالحة خير من الف رجل غير الصالح » ويبدو ان انكشاف الأزمة كان بتوفيق من الله تبارك وتعالى وبسبب من جهودك ايضاً ؟ وهنا قالت خديجة بصوت تهدج من التأثر لعله كان رسول الحاج صاحب اليك ؟ قال بل انه الحاج صاحب نفسه ، انه زوج صديقتك أم جهاد ، وكان يقول انه منذ مدة يفتش عمن يتمكن ان يأتمنه على ادارة تجارته ومساعدته في انجاز الأعمال وقد علم متأخرا من زوجته بحاجتي الى العمل وبملابسات وضعي الماضي ، والحاضر ، فرأى ان عليه ان يختارني أنا دون سواي ، ليكون الأداة التي يهيأها الله لانتشال عباده الصابرين من وهدة اليأس والقنوط ، وقد قال ضمن ما قال انك الآن اطهر واعف من سواك لأن التائب عن الجرم يكون كمن ولدته امه.

التالي  || الفصول || السابق

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها