مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الباحثة عن الحقيقة

عدت الى البيت مبكرا لأن سندس كانت على موعد مع احدى صديقاتها للذهاب الى الخياطة وقد حاولت ان استغل ساعات فراغي في مطالعة الكتاب ، والحقيقة انني انسجمت مع الكتاب واندمجت مع ما فيه بجميع مشاعري واخذت اسجل في مسجلتي الصغيرة بعض الحقائق التي استفدتها منه .. لكن وحوالي الساعة العاشرة مساء رن جرس الباب فاستغربت ذلك ولم يكن لدي موعد مسبق مع أي صديق اما الصديقات فقد كنت قد قطعت علاقتي معهن بشكل نهائي منذ عرفت سندس ، وخمنت انه صديق متطفل ، فعز علي ان يقطع سلسلة افكاري فذهبت لكي افتح الباب وانا احمل معي مسجلتي الصغيرة وكتابي ليعرف القادم ان لدي ما يشغلني عنه ، وما ان فتحت الباب حتى طالعني وجه فتاة في مقتبل الشباب تراجعت خطوات عندما رأتني وكأنها فوجئت من رؤيتي ثم قالت بصوت متهدج :


( 56 )

آه أراني قد اخطات الباب في هذه المرة ايضا ، قلت لها :
اي باب تطلبين ؟ قالت وهي ترتجف :
انني غريبة عن هذا البلد وقد وصلت لتوي اليه ولدي بعض الأقارب فيه وقد اعطوني العنوان مغايرا على ما يبدو فإن بابك هو اخر باب طرقته في هذا الشارع دون ان احصل على من اريد ، قالت هذا وقد انطبعت على وجهها علامات الذعر الشديد فالمني حالها وودت مساعدتها بشكل من الاشكال فقلت لها :
اعطني العنوان لكي افتش أنا عنهم ، قالت :
انهم اعطوني اسم نفس هذا الشارع مع رقم الدار التي امام دارك ولم اجد في تلك الدار سوى عائلة غريبة ، فاستغربت الأمر وقلت :
الا تعرفين احدا سواهم هنا لكي اخذك إليهم ؟ فنخرطت في البكاء وهي تقول :
كلا فقد اتيت بمهمة خاصة تتعلق بهم ، ولا انكر ان الموقف كان محيرا بالنسبة لي ولهذا فقد بقيت ساكنا لا اعرف ماذا عليّ ان اقول ، فقالت وهي تبكي :
يبدو ان عليّ ان ابقى اتجول في الشوارع حتى الصباح ؟ وهنا نظرت اليها في تمعن فوجدتها جميلة وصغيرة ، فعز عليّ


( 57 )

ان ادعها لرحمة الليل ووحوشه ، ومن ناحية ثانية فقد صعب عليّ أن ادخلها البيت وليس فيه احد سواي ، فترددت برهة ثم خطر لي خاطر فقلت لها :
أنني وحيد في هذا البيت ولهذا فلا يسعني الا ان ادعوك للدخول والمبيت فيه على ان اخرج انا عنه حتى الصباح ، فظهرت عليها بعض علامات الهدوء ثم قالت :
ولكن اين سوف تذهب انت ؟ اجبتها :
ان ذلك لا يهم ، المهم ان تأمني انت في ليلتك هذه حتى الصباح قالت :
ولكن كيف ارضى لك بهذا ؟ قلت : !
لا عليك ، انني رجل ويسعني ان انام حيثما اتفق ، قالت :
ان هذا كثير ، وكانت طيلة هذه الفترة تقف على عتبة الباب الخارجي وانا اقف داخل البيت ، ولما وجدتها تتمنع عن امر لا مناص منه خرجت الى ما وراء الباب محاولا اقناعها بالدخول وانا اقول :
هذا الباب مفتوح فادخلي ولن اعود الى البيت حتى الصباح ، وهنا لمح امامي برق خاطف من بعيد لم اتمكن او اعرف مصدره فتلفت باحثاً عنه ثم سألتها :


( 58 )

هل لا حظت نورا قد برق من ورائنا ؟ فتلفتت هي بدورها وقالت :
آه نعم لعله ضوء سيارة من بعيد ، فلم احاول ان ابحث عن الموضوع اكثر ، فقالت بشيء من الارتباك :
ولكنني اخاف ان اقضي الليل بمفردي هنا قلت :
إذن ؟ قالت :
إذن انام انا في الصالون وتنام انت في غرفتك قلت :
كلا بل تنامين انت في الغرفة وانام انا في الصالون ، دخلنا البيت وقدتها الى غرفة منامي وقلت لها وانا اغلق الباب ورائها :
سوف انام انا في الصالة ولن افتح عليك الباب حتى الصباح فكوني مطمئنة ، قالت :
اشكرك يا اخي ويؤسفني ان لا اعرف اسمك ، فاجبتها ببرود قائلاً :
لا حاجة لان تعرفي اسمي ان اعرف اسمك ، ثم توجهت الى الصالون وهناك انتبهت الى ان المسجلة كانت لا تزال تعمل وتسجل فحمدت الله ان الفتاة لم تلتفت الى وجودها او الى كونها تشتغل وتسجل ، وكان الشريط يكاد ان ينتهي فاغلقتها واستسلمت للنوم ولكن فكرة صغيرة اقلقتني


( 59 )

وهي انا الهاتف كان في غرفة المنام فماذا لو طلبني احد ؟ ثم عدت فابعدت هذه الفكرة عن ذهني فليس من المحتمل ان يطلبني احد في منتصف هذا الليل وهي سوف تغادر الغرفة عند الصباح واستيقظت في الساعة السابعة صباحا فخرجت من الصالون فوجدتها واقفة امام باب الغرفة وكأنها تنتظرني ثم قالت :
لست ادري كيف اشكرك وها انا ذاهبة ولكنني ارجوك ان لا تحدث احد بامري لأن ذلك سوف يجلب لي المتاعب ، فضحكت في شيء من السخرية ثم قلت :
وكيف لي ان اتحدث عنك وانا لا اعرف عنك حتى اسمك ؟ قالت .
آه نعم انت لا تعرف اسمي ان اسمي هو فدوى ناجي ، قلت بشيء من اللامبالاة :
تشرفنا ، وبعدها ودعتني وخرجت ، فدخلت غرفتي فوجدت اعقاباً سكاير اجنبية ولا حظت صورة سندس تحركت من مكانها فابتسمت وقلت لنفسي :
ان مجرد رؤيتها لهذه الصورة كفيلة ببعث الاطمئنان الى نفسها وعلمها بانني لا اعبأ بمثلها مع وجود مثل صاحبة هذه الصورة ، ثم دخلت الحمام لأغسل فلاحظت انها قد دخلت الحمام ايضا لأن باب الحمام كانت مغلقة باحكام في الوقت


( 60 )

الذي لم يكن من عادتي ان احكم اغلاق الباب لصعوبة فتحه بعد ذلك ، واستغربت منها هذا التجوال ولكنني اوعزته الى الفضول ثم لبست ملابسي وتوجهت نحو الجامعة ، وهناك رأيت سندس تقف بمفردها في ناحية من الساحة الأمامية فتوجهت نحوها كعادتي في كل صباح ولكنني فوجئت بانها ردت علي بشيء من الفتور ، وفوجئت ايضاً بانها تجاهلت يدي التي مددتها اليها والتي طالما احتضنت يدها دقائق طويلة في كل صباح ، وحاولت ان اغالب نفسي فسألتها قائلاً :
ماذا بك يا سندس هل انت مريضة ؟ فسكتت لحظة ثم قالت :
مريضة ، كلا ، انني لست مريضة ، فقلت :
إذن ماذا بك ؟ فبقيت ساكتة ولم تجب ، فعدت أقول :
هل سهرت البارحة مع المذاكرة فاتعبك السهر ؟ وهنا نظرت اليّ نظرة طويلة وعميقة وحزينة ثم قالت بصوت مبحوح :
وانت هل سهرت البارحة للمذاكرة ؟ والحقيقة بانني في تلك اللحظة كنت قد نسيت كل شيء عن ليلة البارحة تلك ولهذا فقد ترددت قليلا ثم قلت :
كلا لقد نمت حتى الصباح ، فابتسمت هي في مرارة وقالت بشيء من التهكم :


( 61 )

لا اشك ان نومتك كانت مريحة جداً ، وهنا تذكرت نومتي في الصالون وكيف انها لم تكن مريحة ابداً واردت ان احدثها عن ذلك ولكن وعدي الذي قطعة لفدوى منعني من الحديث ، ولهذا فقد تلكأ لساني وانا اقول :
كلا انها لم تكن مريحة جدا ، فعادت تنظر اليّ تلك النظرة العميقة الحزينة ثم قالت :
اتمنى لك نوما مريحا اكثر في المستقبل ! ، قالت هذا اوستدارت متوجهة نحو مدخل الجامعة فمشيت بجانبها وانا افكر فيما تعنيه كلماتها ولكنها تجاهلت وجودي حتى دخلنا الصف ، وبعد انتهاء الدوام مباشرة طلبت منها موعدا للعصر فقالت انها مشغولة وتركتني نهيا للحيرة وانصرفت بخطوات متعبة ...
وفي اليوم الثاني توجهت للجامعة فافتقدت وجود سندس هناك وعرفت انها لم تداوم في ذلك اليوم فقلقت من اجلها واتصلت بها تليفونيا حال وصولي لا البيت فردت علي المشرفة فطلبت منها ان اتحدث مع سندس ، فذهبت ثم عادت لتقول انها مشغولة ! قلت :
هل هي مريضة ؟ قالت :
كلا انها بخير ، ثم انهت المكالمة ، فاستغربت ذلك وصممت ان امر عليها عصرا وبقيت اعد الساعات بانتظار


( 62 )

العصر وانا بين الحيرة والقلق حتى حان العصر ، فذهبت اليها وطلبت من المساعدة ان تستدعيها فذهبت فترة ثم عادت لتقول :
انها مشغولة ! فهالني هذا الجواب وعدت اسألها هل هي مريضة ؟ قالت .
كلا انها بخير ولم يسعني ان استسلم بهذه السرعة فقلت لها متوسلاً :
ارجوك ان تعودي اليها لتقولي لها بانني اريدها لأمر هام ومستعجل فذهبت وبقيت انتظر على احر من الجمر ولكنها عادت لتقول :
لقد قالت انها مشغولة ولا تستطيع مقابلتك الآن ، قلت :
الا يمكن ان اذهب انا اليها ، قالت بشيء من الحدة :
انت تذهب اليها ؟ اذهب رحم الله اباك ولا تسبب لنا فضيحة يا شاب ، وهنا لم يسعني الا ان اعود الى البيت وانا في اشد حال وأقسى وضع .


( 63 )

كانت ساعات الليل بطيئة ومريرة لم تذق عيناي فيها النوم ، وانى لي ان انام ؟ وحبيبتي غاضبة عليّ دون أن أعرف السبب ، وفي الصباح تعجلت الذهاب الى الجامعة على امل ان القاها هناك وفعلا فقد وجدتها تقف بين مجموعة من الطالبات وقد على وجهها المشرق شيئاً من الشحوب فحاولت ان اتقدم نحوها محييا ولكنني جبنت عن ذلك ما دامت وسط هذه المجموعة وبقيت اتابعها حتى وجدتها تسير بمفردها فاسرعت وراءها وناديتها بصوت متهدج :
سندس ، سندس ، وكأنها ارادت ان تلتفت ثم عدلت عن الالتفات واسرعت في خطواتها فلحقت بها ووصلت اليها وانا اقول :
سندس ماذا بك يا حبيبتي ؟ فوقفت ونظرت اليّ نفس نظرتها العميقة الحزينة ثم هزت رأسها وقالت :
لا شيء ، قلت هل انت غاضبة عليّ ؟ فترددت لحظة ثم قالت بمرارة :


( 64 )

نعم ، فهالني الأمر ، فأنني قد اتصور اي شيء ولكن ان تكون سندس غاضبة عليّ فهو فوق ما أتصوره وأتحمله ولهذا فقد ارتج على لحظات وثم اعرف بماذا أجيب ، وكانت سندس قد تركتني خلال هذه اللحظات بعد أن ألقت عليّ نظرة عتاب عميقة اخرى ، فتهاويت على اقرب مقعد ، ولا اريد أن أقول بأنني رحت في بكاء حار لأن حالي كان يجل عن البكاء ، ثم انتبهت على نفسي بعد فترة فوجدت ان عليّ ان أعود الى البيت لأن حالي لم يكن يساعد على دخول المحاضرات ، وفعلا فقد توجهت نحو البيت وهناك رحت افكر وافكر دون ان اصل الى السبب الذي اغضب سندس عليّ ثم خطر لي ان مبيت فدوى عندي هو الذي أغضبها ولكنني عدت فاستبعدت ذلك لأنها لا تعلم بالموضوع وكيف لها ان تعلم ، ثم خطر لي أن احدثها بالأمر ولكنني تذكرت العهد الذي قطعته لفدوى بالكتمان ، ثم ان سندس لم تكن ممن يشك في حبي ، ولا ريب انها كانت ستفاتحني بالأمر مستفسرة قبل ان تعلن ثورتها عليّ بهذا الشكل ، وقضيب ليلتي تلك لم يغمض لي خلالها جفن ولم يهدأ لي فكر ، وفي الصباح خرجت من البيت مبكراً وذهبت لأنتظرها عند مدخل الكلية ولكن انتظاري لم يسفر عن شيء لأنها لم تأت في ذلك الصباح ، ولهذا فقد تركت الجامعة بدوري وخرجت وانا لا أعلم ماذا اصنع ؟ والى أين أتوجه ؟ فرحت اتجول في الشوارع على غير هدى واذا بي أتذكر صاحبنا العالم الديني


( 65 )

وانه منحرف الصحة وتذكرت وعدي له بالمرور عليه فوجدت ان عليّ أن اذهب اليه ، ثم ان قلق روحي في حاجة الى هدوء نفسه المريح وفعلا فقد قصدت بيته مسرعا ، وأمام الباب حاولت ان اسبغ على وضعي بعض آثار الهدوء ، ثم طرقت الباب ففتحه لي الصبي الصغير الذي فتحه في أول مرة فسألته عن صحة الاستاذ ، فقال :
ان صحته أحسن وسألني اذا كنت احب أن ادخل اليه ؟ والحقيقة انني كنت احب ذلك فإن الاحساس الذي يشدني اليه كان قويا جدا سيما وانا في ساعاتي الحرجة تلك ، كان مثلي مثل الغريق الذي تعوزه اسباب النجاة ثم يلمح منارا هادياً من بعيد فيتوجه نحوه متأرجحاً بين النجاة والغرق ، ولهذا فقد طلبت من الصبي ان يقودني اليه ، فسار الى جواري خطوات ثم رفع رأسه نحوي ونظر اليّ ببراءة قائلاً :
لماذا جئتما متفرقين في هذه المرة ؟ ولم أفهم بالوهلة الأولى ماذا يعنيه ولهذا فقد سألته :
ماذا تعني يا عزيزي ؟ قال بشيء من الخجل :
أقصد لماذا لم تأتيا معا كالعادة ؟ ففهمت عنه في هذه المرة واجبته باختصار انها مريضة يا عزيزي ، قال :
مريضة ! ولكنها كانت هنا قبل دقائق ، فتوقفت عن السير والتفت نحوه في لهفة قائلاً :


( 66 )

كانت هنا قبل دقائق ؟ وكأن الصبي فطن إلى انه قال مالا ينبغي ان يقال فعلى الأحمرار وجهه ولم يرد عليّ ، فحاولت في هذه المرة ان ابدو طبيعيا ثم عدت اسأل :
إذن لقد سبقتني في الزيارة وهل انتظرت كثيراً ؟ قال بأسلوب مما يريد ان يختصر الحديث :
أنها لم تدخل ، استفسرت عن صحة ابي من عند الباب وذهبت ، وحدثت نفسي قائلاً اذن فهي قد سبقتني الى هذه المبادرة ، وهي مازالت مشدودة لهذا الاستاذ كما انني ما زلت مشدودا اليه ، ودخلت على الاستاذ فوجدته احسن حالا وان كانت اثار الحمى لم تفارقه بعد ، وجلس يحدثني بمختلف الاحاديث فارتحت اليه وودت لو تحدثت اليه بمشكلتي ولكن الخجل منعني عن ذلك وكنت انتظر منه ان يذكر هو شيئاً عن سندس ولكنه لم يتعرض لذكرها ولم أطيل البقاء فقد خشيت ان اثقل عليه وهو مريض فاستأذنت منه مع طلب موعد للمجيئ ، فظهر عليه بعض التردد الممزوج بالاستغراب ثم قال :
الساعة الرابعة من عصر يوم غد ان شاء الله ، فشكرته على ذلك وخرجت متوجها الى البيت ، ومن هناك اتصلت بدار الطالبات مرتين فلم ترد عليّ سندس وكنت أريد ان اخبرها بالموعد عساها تذهب فنلتقي هناك ، ولما يأست من


( 67 )

ردها عليّ اعتراني شعور مرير باليأس وانطلقت مني كلمات غير معينة بالنسبة لي وهي تقول :
ماذا اصنع يا الهي ؟ كيف يمكنني أن أعرف السبب ؟ وفجأة قفزت الى ذهني كلمات الاستاذ وحديثه عن ضرورة الإيمان بالغيب وحاجة الإنسان لذلك الإيمان ، فها أنا الذي لم أتذكر من قبل أن لي رباً يعبدها أناذا الوذ به في ساعة العسرة بشكل فطري وعفوي ، وكان في استعادة هذه الكلمات ما دفعني لأن اجبر نفسي على العودة لمطالعة الكتاب الذي اعارني اياه الاستاذ على أمل أن أنصرف اليه عن أفكاري وفعلا فقد حاولت ان اقرأ ، ولكن وجه سندس الغاضب الحزين كان يتراءى لي من بين الكلمات فيشدني نحوه ، ونظرتها العميقة العاتبة كانت ترتسم أمام عيني فتحول بيني وبين رؤية كل شيء عداها ، كنت احس بها وقد ملكت زمام وجودي بأجمعه واستحوذت على مشاعري برمتها ، ولهذا فقد عز عليّ ان اقرأ مالا أفهم فاغلقت الكتاب وقد خطر لي أن أكتب بضع كلمات أرسلها لها عند الصباح ، وفعلا فقد أخذت القلم وكتبت واذا بالبضع كلمات تتكاثر حتى تملا صفحات وصفحات ، وختمت رسالتي بهذين البيتين :

فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والانام غضاب


( 68 )

وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب

وكأن هذه الكلمات قد حققت لي بعض الراحة لأنني توهمت أنها سوف تكون شفيعتي لديها ، وانها كفيلة بمسح الشوائب التي خالطت فكرها عني ، ولهذا فقد تمكنت من نوم متقطع وبكرت في الذهاب الى الجامعة على أمل أن أوصل رسالتي اليها بأسرع وقت ، وفعلا فقد وجدتها تسير وسط مجموعة من الطالبات فأعطيت الرسالة لأحد المساعدين وطلبت منه أن يوصلها لها ولم تمض دقائق حتى عاد المساعد وهو يحمل بيده الرسالة قائلاً :
لقد رفضت ان تستلمها ، فعرفت انها خمنت ان تكون الرسالة مني ، والعجيب انني لم احس تجاهها بأي غيظ فقد كنت أعتقد بأنها معذورة وان لديها ما يدفعها الى هذا الموقف ، وهذا ما كان يحيرني بالأمر ، ولم أعد ظهر ذلك اليوم الى البيت ، فقد كان لدي ما يدعوني الى البقاء في الكلية ولهذا فقد توجهت من هناك رأسا الى بيت الاستاذ ، وعندما وصلت الى هناك وجدت سندس تقف أمام الباب تنتظر الأذن بالدخول ، ففهمت من ذلك بأنها قد أخذت موعداً من الاستاذ كما اخذت انا موعداً منه ، فتقدمت نحوها محييا فردت بشيء من البرود واللامبالاة ولا حظت ان الهزال والاصفرار قد بدا واضحاً عليها وان هالة زرقاء تحيط بعينيها


( 69 )

وتحكي عن ساعات طويلة من السهر فمددت نحوها يدي وانا اقول :
هل انت سندس حقا ام انني في حلم ؟ فأ طرقت ولم تجب ، فاردفت قائلاً :
لطيف ان يشدنا حبل واحد نحو هذا البيت ، وفي هذا دليل جديد على اتحاد وجودينا ، فرفعت رأسها ونظرت اليّ نفس نظرتها الحزينة العميقة ثم قالت :
صحيح ان طبيعة الحبل الذي يشدنا الى هذا البيت واحد ولكن لم يعد في هذا دليل على اتحاد وجودينا يا فؤاد ...
فطار لبي لهذه الكلمات الرصينة الحزينة وقلت في صوت جريج :
أرجوك ان ترحميني يا سندس فأنا لا أعرف الحياة بدونك ولا أعترف بوجودي منفصلاً عن وجودك ، أنت لي الحياة برمتها ، لماذا تقولين هذا وأنت نفسك لا تعترفين به ؟ فهزت رأسها بأسف وقالت :
سواء اعترفت ام لم اعترف فانه هو الواقع الذي يجب أن يعاش ، فقلت في توسل :
لماذا ؟ لماذا يا سندس ؟ بماذا أسأت اليك يا ترى ؟ صارحيني بكل ما لديك يا حبيبتي فأنا لا أكاد أفهم شيئاً يا


( 70 )

سندس ، وهنا عادت تنظر اليّ بعمق وحزن أيضاً ثم قالت :
انت لا تريد أن تفهم شيئاً يا فؤاد ، قلت :
كلا بل انني اريد وأقسم لك بأنني على استعداد لأن اسمع منك كل شيء ، فهزت رأسها في انكار ثم قالت :
ليس هذا وقت الحديث فإن لدي موعد مع الاستاذ في الساعة الرابعة ، قلت وأنا ايضاً لدي نفس الموعد ، قالت :
طيب اذن دعنا نتناسى مشاكلنا الشخصية لنتمكن من الاستفادة ، قالت هذا وطرقت الباب ، وسرعان ما فتح لنا فدخلنا الى الاستاذ .


( 71 )

وبعد أن استقر بنا الجلوس قال :
أرجو ان تكونا قد استمتعتحا بقراءة الكتاب ؟ فشعرت بشيء من الخجل لأنني لم أكمل مطالعة الكتاب ، ومما أخجلني اكثر هو ان سندس أجابت ( ولأول مرة تجيبه بشكل مباشر ) ولكن بشيء من الاستحياء قائلة :
أما أنا فقد استمتعت به واستفدت منه كما انني سجلت بعض ملاحظاتي او استيضاحاتي عنه وعن الكتاب الأول وقد اتيت بالدفتر معي لتطلع عليه اذا سمحت ، قالت هذا وقدمت دفترا صغيراً على شكل دفتر المذكرات ، فظهر الارتياح على الاستاذ وأستلم الدفتر قائلاً :
ان هذه بادرة تبشر بالخير وسوف اطالع الدفتر بكل دقة وعناية ان شاء الله ، ثم التفت اليّ ينتظر جوابي عما سأل وكأنه قرأ الجواب مرسوما على صفحة وجهي فلم يشأ أن يجرجني ولهذا انصرف عني بسرعة وقال :


( 72 )

والأن فلنعد الى الحديث لقد سبق منا القول بأن الدين المطلوب هو الدين الذي يشتمل على خصائص انسجامه مع الفطرة ، وذكرنا لذلك أمثلة استخلصناها من العقيدة الإسلامية كالإيمان بالغيب ، والنظرة الوحدوية للكون ، ولقد قلنا أيضاً ان من شروط الدين المطلوب هو ملائمته للعقل لأن الدين هو اختياري لا سبيل للجبرية في ( لا اكراه في الدين ) لأنه عقيدة يجب ان ترتكز في الصميم الصميم من العقل والقلب ، وما لم يكن الدين عقيدة راسخة في الفكر والقلب فهو لا يعدو ان يكون طقوسا وعادات وأسلوب من أساليب الحياة ، اذن فهو اختياري للإنسان ولا يمكن أن يؤخذ عن طريق الجبر ، فإن الاجبار قد ينجح في سبيل التطبيق أما في سبيل اليقين والاعتقاد فلا فائدة للاجبار بل ان المطلوب هو الاقتناع واليقين ، وعن طريق الاقتناع واليقين ، يحصل الاختيار للدين الاصلح ثم وان حسن الاحتيار ومعرفة الاصلح ، وسبر أغوار كل حقيقة تعتمد على مدى تكامل الرشد وتصاعد الوعي لدى الإنسان ، وتصاعد الوعي ، وتكامل الرشد امران اختياريان للفرد ، إذن فإن الدين أمر اختياري يعتمد على العقل وينطلق منه ، والإسلام هو دين العقل ولا يوجد في احكامه وقوانينه ما يخالف قاعدة من قواعد العقل او يتنافر مع حقيقة من حقائق التصور الصحيح ، ولهذا فنحن نجده يتحدث الى


( 73 )

العقل ويدعو الى التدبر والتفكير ونبذ التقليد في العقيدة والتفكير كما جاء في الآيات المباركة التي تقول :
( قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغنى الأيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ).
( او لم ينظروا في ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شيء ).
( أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) وغيرها كثير من الآيات .
هذا هو الاسلام في آياته المباركة يدفع الانسان الى التفكر والتعقل ثم يعطي للعقل حريته في الاختيار بعد ايضاح الحجة له وتقديم الدليل ...
وبما أن طريق الاقتناع يحتاج الى وضوح في البيان ، ورسوخ وجلاء في البرهان ، وحكمة متكاملة الجوانب في الاستدلال فقد جمع الإسلام كل هذه في رسالته التي قدمها للبشرية وهي القرآن ، ولهذا فنحن نتمكن ان نقول ان هذا هو مما اختصت به رسالة الإسلام دون سواها من الرسالات ، فإن كل دين في حاجة الى بيان لطبيعة الرسالة وإلى معجزة تؤكد او تدعم وجود الرسالة ، أما الإسلام فإن بنيان رسالته هو أولى معاجزه وأهمها فقد عجز عن مجاراته أكابر علماء اللغة وافذاذ اصحاب البيان بعد أن تحداهم القرآن وطلب منهم :


( 74 )

أولا : أن يأتوا بكتاب مثله ( قل لئن اجتمعت الجن والانس على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
ثانياً : ولما عجزوا عن ذلك تحداهم بما هو اقل ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين ) .
ثالثاً : ثم وبعد أن عجزوا عن ذلك فبسورة مثل سورة ( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتو بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم صادقين ) فلم يتمكنوا من مواجهة أي من هذه التحديات مع أنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكذلك أن كل دين في حاجة ايضا الى رسالة ، والى برهان يستدل به على الرسالة ، والإسلام جمع هذين الامرين في رسالته التي هي ( القران ) فإن البراهين العلمية سواء منها الاجتماعية ، او الإقتصادية ، او الفلكية ، او ما يتعلق بجسم الإنسان كلها مجموعة ضمن هذه الرسالة فكم من الحقائق العلمية كشف العلم بعضها ولم يكشف البعض الآخر بعد قد ذكرها القرآن الكريم منذ اكثر من الف وثلاثمائة سنة على لسان رسول امي لا يعرف الكتابة والقراءة .
وكم من الافكار الاجتماعية التي دعا اليها الإسلام قبل اكثر من الف وثلاثمائة سنة قد توصل العلم اخيرا الى


( 75 )

ضرورة تطبيقها مثل اعلان حقوق الانسان ، ومحاربة الرق ، ووضع الحلول الإقتصادية التي تحول دون الاحتكار والاستغلال وغير ذلك مما تتمكنان من مراجعته مفصلاً في كتاب ـ الإنسان في القرآن ـ للعقاد و ـ التعصب والتسامح ـ للغزالي اذن ، فإن رسالة الإسلام قائمة بذاتها وهي تدل بنفسها على نفسها ويكون استقلالها هذا مستندا الى اسس قوية يرضاها العقل وتنسجم مع واقع طبيعة الإنسان لأنه ومن خلال نظمه يحفظ للإنسان كرامته وحريته في حسن الاختيار ، فلا يكبل افكاره بخيوط من الجهل ولا يخدر احاسيسه بحبوب من الشعور بالخطيئة والذنب والصغار ، ولا يملي عليه اطروحته مرتكزة على الجانب العبادي فقط متجاهلا حياته ومتطلباتها فيما عدا ذلك ، فهو يشمل بالتشريع مختلف النواحي ولا يهمل جانباً دون ان يضع له القواعد الصالحة لكل زمان ولكل فرد من الأفراد ويمكننا ان نقدم على ذلك دليلا صغيراً مستمداً من أسماء السور القرآنية ، فإن سور القرآن التي يبلغ عددها ( 114 ) سورة وقد تعددت اسماء بعض السور فكان لها اكثر من اسم واحد ونحن لو راجعنا هذه الاسماء التي لم توضع بدون هدف وغاية وقد وضعها رسول الإسلام بأمر من الله تبارك وتعالى ، لو راجعناها لوجدنا ان قسما من اسماء السور تشير الى الكائنات الطبيعية مثل البقرة ، الرعد ، النحل ، النمل ، العنكبوت ، الذر ، الشمس ، النجم ، القمر ، الدخان ، الحديد ، وغيرها مما


( 76 )

تندرج ضمن الموجودات الطبيعية ، ثم ان قسما من اسماء السور ايضاً تشير معانيها الى المواقف الإجتماعية والسياسية مثل الأحزاب ، والمؤمنون والشورى ، والنساء ، والصف وهذه الأسماء تدور حول اوضاع واشكال المجتمع ، والقسم الثالث من الأسماء هو ما يحمل معه اثارا تاريخية مثل آل عمران ، الانبياء ، يونس ، هود ، يوسف ، ابراهيم ، سبأ ، محمد ، الروم ، مريم ، نوح ، وهذه الأسماء كلها تدور حول التاريخ وابطاله واحداثه ، والقسم الرابع تشير الى المصير وما وراء العالم مثل القارعة ، والحاقة ، والواقعة اما القسم الخامس فهو ما يشير الى المسائل الإقتصادية مثل الانفال والانعام ، والمائدة ، اما السادس مثل عبس ، والهمزة ، والمطففين فهي تدور حول الأخلاق وقواعد السلوك ، والقسم السابع من الاقسام هو ما يدور حول العبادات كالحج ، والسجدة ، اذن ، فنحن نتمكن ان نتوصل الى هذه النتيجة وهي ان اسم ( 32 ) سورة وضع للكائنات والموجودات الطبيعية ، وان اسم ( 29 ) سورة وضع للعقيدة والمبدا الفكري واسم ( 27 ) سورة وضع للمجتمع بما فيه من اصناف اجتماعية وسياسية واسم ( 17 ) سورة وضعت للتاريخ وفلسفته واسم اربع سور وضع للاخلاق والسلوك ، واربعة ايضا للقضايا المادية والإقتصادية ثم سورتان فقط خصص اسمها للعبادات والشعائر الدينية ، وهذا مما يوضح لنا فكرة الشمول في رسالة الإسلام فهي حينما تريد أن تربط


( 77 )

الإنسان بالله لا تربطه عن طريق العبادة المحددة فقط ولكنها تربطه مع الله عن طريق مختلف أدوار حياته ووجوده حتى تستحيل العبادة من الجهاد في سبيل الله الى الإبتسامة في وجه الأخ المؤمن ، ونتمكن من هذا ايضاً ان نعرف ان هذا ايضاً هو مما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع حيث انها تجعل من جميع متطلبات الحياة الروحية منها والجسدية ، إذا أديت بالشكل الصحيح ، عبادة ، خلافاً للشرائع التي تجعل العبادة وقفاً على الجسد فقط ولهذا فهي لا تعدو ان تكون طقوس وعادات تنتهي بمجرد انتهاء ادوارها ولا تخلف أي أثر في حياة الفرد والمجتمع ولا تعنى بتربية الروح من قريب او بعيد وخلافاً ايضا للشرائع التي تجعلها من خصائص الروح وعلى حساب الجسد حيث يفرض على الجسد احكاماً صارمة قاسية من التعذيب والحرمان وفي احاديث قادمة نوضح ذلك اكثر ان شاء الله . وسكت الاستاذ فسكتنا لسكوته لحظات ثم طلبت منه موعدا جديدا فقال انه بعد يومين في تمام الساعة الرابعة من بعد الظهر ، فنهضت ونهضت سندس معي وودعنا الاستاذ وخرجنا شاكرين معجبين .

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها