حقيقة و أنواع الاختلافات بين العلماء


لا يمكن لنا أن ندَّعي بعدم وجود الإختلافات بين العلماء ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرَح ويجاب عليه هو عن حقيقة وماهيّة هذه الاختلافات، فالاختلاف ليس أمراً جديداً عند العلماء وتعدد الآراء أمرٌ طبيعي فما دام هناك بحوث ودراسات سيكون هناك نتائج وآراء مختلفة وهذا التباين وجد منذ اليوم الأول الذي شرع فيه الاجتهاد وقد أشار السيد روح الله الموسوي الخميني(قدس الله خَفِيُّه) إلى هذا الواقع إذ يقول(قدس الله خَفِيُّه) ((إن كتب فقهاء الإسلام العظام مليئة باختلاف الآراء والأساليب والأذواق والاستنباطات في شتى المجالات العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعبادية حتى في المسائل التي يدعى الإجماع حولها نجد قولاً أو أقوالاً مخالفة لها وحتى في المسائل المجمع حولها قد يوجد قول يخالفها عدا عن اختلافات الأصوليين والإخباريين، ولكن لما كانت هذه الاختلافات محصورة في الماضي بجو الدراسة والبحث والمدرسة ولم تكن مثبتة إلا في الكتب العلمية وبالكتب العربية منها فقط لهذا لم تكن عامة الناس على علم بها وحتى لو علموا بها لم تكن متابعتها تثير اهتمامهم والآن هل يحق لنا أن نتصور أن اختلاف الآراء بين الفقهاء يعني أنهم يعملون خلافاً للحق ولدين الله-نعوذ بالله كلا مطلقاً))(صحيفة النور/ج21 ص98) ،
وكتوضيح بسيط على هذه الاختلافات في الاستنباط أتناول مثالاً بسيطاً وليس على سبيل الحصر ففي التسبيحات الموجودة في الرُكعتين الثالثة والرابعة نجد بعض المراجع قد أفتى بوجوبها مرة واحدة وبعضهم أفتى بوجوبها ثلاث مرات فإذا أخذنا هذا المثال لنقيّمْ طبيعة الخلاف فسنلاحظ أن المراجع العظام لم يختلفوا على وجوب الصلاة ولم يختلفوا في عدد ركعاتها ولم يختلفوا في أركانها من قيام وركوع وسجود فالصلاة هيئتها واحدة عند الجميع ولكن الاختلاف الحاصل في التسبيحات هو اختلاف في أمر فرعي لم يجعل هناك شكلين في الصلاة إلى درجة أننا قد لا نلتفت إلى هذا المائز بين الصلاتين عملياً وهكذا إلى غير ذلك من الأمثلة التي يختلف فيها الفقهاء في استنباطاتهم نتيجة الفهم المتعدد والمتباين للدليل ومن المصادر الشرعية المتفق عليها ،
هذا وقد أكد سماحة السيد روح الله الموسوي الخميني(قدس الله خَفِيُّه) على هذا المضمون بقوله رضوان الله تعالى عليه((قد تكون استنباطات البعض مختلفة معنا فلا يمكننا أن نغلق باب الاجتهاد فالاجتهاد كان موجوداً دائماً إنه موجود وسيبقى كما إن المسائل التي تطرأ اليوم تختلف عن المسائل السابقة كثيراً والاستنباط من أحكام الإسلام مختلف أيضاً لذا علينا أن لا نتقاتل بسبب الاستنتاجات والاستنباطات))(مكانة العلماء في فكر الإمام الخميني/ص45) ،
والخطورة تكمن في استغلال الأعداء لهذه الاختلافات واللعب على هذا الوتر الحساس، خصوصاً إذا علمنا أن الإنسان المكلف البسيط بدأ في العصور المتأخرة يتسائل مستغرباً عن منشأ وسبب هذه الاختلافات بين العلماء والمفترض أنهم يرجعون إلى شريعة مقدسة واحدة وينهلون كل معارفهم من ذلك النبع الصافي من القرآن الكريم والسنة المُطَّهرة التي وردت عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ،
((فلماذا يختلف الفقهاء وتتعدد آراؤهم في قضية واحدة؟أو بعبارة أدق لماذا تتعدد أحكام الفقهاء الخاصة بموضوع واحد..؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من التفريق بين حالتين : حالة يكون فيها الاختلاف قائماً على أسسٍ منهجية سليمة وممارسة عملية مشروعة ،
وحالة أخرى ينتج فيها الاختلاف عن الاجتهاد الكيفي المرتجل الذي لا يقوم على أساس سليم،ولا ينبع من أصول علمية مستقيمة مع روح الشريعة ومصادرها،فالاختلاف الأول نتيجة طبيعية لنشاط علمي سليم،والفقهاء معذورون غير مؤاخذين ، أما الاختلاف الثاني فليس اجتهاداً ، ولا فقهاً ، بل هو عمل اعتباطي مقحم على روح الشريعة ومبادئها ،
فعلم الفقه كغيره من العلوم والمعارف الإنسانية في هذا الجانب،فكما أن لكل علم من العلوم قوانينه وقواعده الواقعية والطبيعية الخاصة به،فكذلك الشريعة الإسلامية لها إحكامها وقوانينها ،
وكما أن عالم الفيزياء يبذل جهده العلمي لاكتشاف قوانين الفيزياء حسب واقعها الطبيعي ، وعالم المنطق يبذل جهده لاكتشاف قوانين التفكير وفق واقعها العقلي،وليس بإمكان أحدهما أن يخلق من عند نفسه قوانين خاصة للمنطق والفيزياء ،فكذلك الفقيه(المجتهد) ليس بإمكانه من الناحية العلمية الشرعية أن يوجد قوانين وأحكاماً إيجادا اعتباطياً،ثم يسبغ عليها صفة الشرعية والعلمية .
وكذلك أيضا ، فكما أن عالم الفيزياء والمنطق يخطئ أحياناً عند اكتشاف القوانين والقواعد العلمية،وأن هذا الاكتشاف الخاطئ لا يمثل القانون الطبيعي للفيزياء والمنطق،بل يمثل فهم العالم المكتشف الذي أخطأ في تشخيص القانون،فكذلك الحال بالنسبة للفقيه عندما يمارس عملية استخراج الأحكام والقوانين الإسلامية من مصادرها الأصلية-الكتاب والسنة-فإنه قد يخطئ أحياناً في عملية الاكتشاف والاستنباط هذه،ولكن خطأه هذا ليس خطأ عشوائياً أو ارتجالياُ كيفياً،بل لقصور في أدواته العلمية ، أو إمكاناته الذاتية،فيقصر به الاستعداد العلمي عن تشخيص القانون والحكم الشرعي كما هو قائم بذاته في عالم القانون والشريعة الآلهية.
ولذا كان الفقيه معذوراً عند الخطأ والقصور عن اكتشاف الحكم الصحيح متى كان هذا الفقيه مستوفياً الشروط ومستنفداً وسعه في عملية الاستنباط.
أما أسباب الاختلاف : بين المجتهدين سواء كان من مجتهدي المذاهب الإسلامية المختلفة-كالحنفي والشافعي والجعفري والمالكي-الخ،أو مجتهدي المذهب الواحد،فيعود بشكل أساسي إلى:.
1- الاختلاف اللغوي حول النص من القرآن والسُنة- في بعض مواردهما –لاختلاف في الإعراب،أو في المعنى أو في القراءة،مما يقود إلى الاختلاف في الفهم واستنباط الأحكام ،كاختلافهم في إعراب آية الوضوء في قوله تعالى:
(( يا أيُّها الذين آمنَوا إذا قُمْتُم إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ))(المائدة: من الآية6)
فالذي اعتبر (أرجلكم)معطوفة على (وجوهكم)أوجب غسلها،والذي اعتبرها معطوفة على (برؤوسكم)أوجب مسحها .
وكاختلافهم في فهم معنى(القُرْء)في قوله تعالى:((والمُطّلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء...)) (البقرة/228)
فقد اختلف الفقهاء في المعنى اللغوي لكلمة(قرْء) فبعضهم فَسَّر القرء بأنه الطُهْر،وبعضهم فهمه وفسره على أنه الحيض،وكل واحد من أصحاب هذين الرأيين يعتمد على فهم وتأويل لغوي،لأن لفظ القرء يطلق في لغة العرب على كل من الحيض والطهر .
وبناء على هذا الاختلاف اللغوي اختلف المجتهدون في مدة عدة المطلقة هل هي ثلاثة أطهار-بعد الطلاق-أو ثلاثة أشهر كاملات لأن المقصود بالقرء:الحيض .
والحيض هنا اسم رمزي لشهر المرأة، باعتباره عادة شهرية تحدث لها في كل شهر مرة ،
وكاختلافهم في قراءة قوله تعالى((حتى يَطْهُرْنَ)) في الآية الكريمة ((ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنَّ حتى يطهرن،فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله،أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين))(البقرة/222) ،
فالذي قرأ(يطهرن) مشددة لم يجز جماع المرأة بعد انتهاء مدة الحيض إلا بعد التطهر (الغسل)،والذي قرأها مخففة أجاز جماعها لمجرد حصول الطهر وهو انقطاع الدم.
أو كاختلافهم في أمر يفيد الوجوب أو الاستحباب،أو أن النهي يدل على الحرمة أو الكراهة،أو أن هذا اللفظ يفيد الحقيقة أو المجاز،أو كاختلافهم في العلاقة بين النصوص كالإطلاق والتقييد،والعموم والخصوص....الخ ،
2- الاختلاف حول المقصود(من الكتاب والسنة)،فقد يختلف المجتهدون في فهمهم لدلالة النص وقصده كاختلافهم في فهم قوله تعالى(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسانٍ....)) (البقرة/229) ،
((فإن طلقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ))(البقرة/230) ،
فقد سبب الاختلاف في فهم قوله تعالى((الطلاق مرتّان)) نشوء آراء وأحكام فقهية بعضها يقرر تحريم الزوجة على زوجها إذا طلقها بقوله ثلاث مرات(أنت طالق) بناء على فهمه للآية( الطلاق مرتّان)،وفي الثالثة تكون قد بانت بينونة كبرى فلا يصح له الزواج منها حتى تعتد وتتزوج زوجاً غيره،فإن طلقها الأخير فلزوجها الأول أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها ،
في حين فهم فريق آخر من قوله تعالى((الطلاق مرتان))أنه لابد من تحقيق الطلاق فعلاً –وليس لفظاً- لكي تحرم الزوجة على زوجها،فالقرآن لم يقصد تكرار اللفظ بل يقصد وقوع الطلاق المسموح بعده مراجعة الزوجة-وقوعاً فعلياً-(مرتان) فإن وقع الطلاق الثالث فلا يحل له الرجوع إليها ،
وتوضيح ذلك ، إذا طلق الزوج زوجته فله أن يرجع بها،فإذا رجع بها وطلقها ثانية فله أن يرجع بها،فإذا رجع بها ثم طلقها مرة ثالثة فليس له حق الرجوع وتحرم عليه،إلا إذا انقضت عدتها وتزوجت غيره ثم طلقها هذا أو مات عنها وانتهت عدة الطلاق أو الوفاة،فللزوج الأول أن يتزوجها ،
-3الاختلاف في أن هذا الحكم قد نسخ أو لم ينسخ،كاختلافهم حول حكم زواج المُتّعة(الزواج المؤقت) مثلاً ،
4- الاختلاف بسبب قبول بعض الروايات والأحاديث أو عدم قبولها،فبعض الفقهاء تحصل لديه-بسبب من تحقيقه العلمي-عدم ثقة بالراوي وناقل الحديث،فلا يصدق حديثه أو يرفض الحديث والرواية بسبب عدم اطمئنانه إلى المعاني والألفاظ الواردة فيه،أو يراه متعارضاً مع مفهوم قرآني، أو سنة ثابتة لديه،فيرفضه ولا يقبله،في حين يقبله مجتهد آخرـ وتتشكل لديه قناعة بسلامة الحديث والرواية فيعتمدها في الاستنباط والاستنتاج .
-5 الاختلاف في اعتبار حجية بعض المصادر وعدم حجيتها،وكيفية الاستفادة منها،كالقياس،والاستحسان،وأدلة العقل،والمصالح المرسلة والإجماع ...الخ .
فبعض المجتهدين يعتمد بعض هذه المصادر ويرجع إليها لتحصيل الأحكام،وبعضهم يرفضها، أو يرفض كيفية الاستفادة منها بالطريقة التي عمل بها مجتهد آخر ...
وهكذا نقف على أهم أسباب الخلاف بين مجتهدي المذاهب الإسلامية،وأصحاب الرأي فيها،لذلك كان من الضروري إخضاع الآراء الاجتهادية الخلافية بين المسلمين إلى النقد والتمحيص العلمي على أسس شرعية وموضوعية نزيهة،وبعيدة عن التعصب والأغراض الشخصية،لتحصيل الحكم الشرعي المبرئ لذمة المكلف من جهة،ولتحقيق غرض الشريعة الإسلامية في الإصلاح وتوحيد الأمة من جهة أخرى .
ومن المبادئ الأساسية التي تسلك كضوابط موضوعية لعملية الاجتهاد هي :.
1- أن الكتاب والسنة هما المصدر الأساس والمرجع في إصدار الأحكام وتقويمها .
2- لا إجتهاد مع النص،ففي كل قضية يرد فيها حكم شرعي في كتاب أو سنة،ليس من حق أحد أن يجتهد مقابل هذا النص أو يرد عليه((وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا))(الحشر/7).
3- ليس للموضوع الواحد في نفس الظروف والشروط إلا حكم واحد يمثل الرأي الشرعي السليم .
ومن هنا كان لابد من التفريق في عملية الاجتهاد بين الهدف والنتيجة،فالهدف تحصيل الحكم الواقعي والكشف عنه،وهو حكم واحد للموضوع الواحد، أما النتيجة فقد يستخرج الفقهاء أكثر من حكم واحد لموضوع واحد .
وهذا لا يعني صحة كل الآراء،ولا السماح بالخلاف في الحكم،لذلك توقفت صحة الاستنباط على سلامة المنهج الاجتهادي، ومصادره التي يعتمد عليها،فليس بوسع كل منهج ومصدر أن يوصل إلى الحكم الصحيح.
-4الأحكام التي يستنبطها الفقيه هي أحكام ظنية وليست قطعية،لذلك فهي خاضعة للنقاش العلمي،والتمحيص الشرعي الدقيق .
-5وبناء على ما تقدم في النقطة السابقة فعلينا أن نفهم أن منهج البحث الاجتهادي هو منهج نقدي يخضع فيه الرأي المستنبط للنقد والتحليل والتقويم العلمي النزيه،بحثاً عن تحصيل الحكم،بأسلم طريقة ممكنة،وليس هناك اجتهاد لا يقبل النقد و المناقشة .
6- لابد من النزاهة والموضوعية والتحرر من كل عصبية ونزعة،أو موروثات سلبية،أو عوامل ذاتية،أو خارجية،كالعوامل السياسية والمذهبية لتبني الرأي سلفاً،والدفاع عنه من غير أن يخضع هذا الرأي للنقد والحوار العلمي النزيه،فالاجتهاد عملية علمية بحتة،تقوم على أساس البحث والتحري العلمي النزيه)) ( الإسلام دين البشرية/ص239-244) .


 



 

              

 

الرئيسية