نحو دراسات مستقبلية إسلامية
 بحث في علوم المستقبل
الحلقة الثالثة
كتابات - زهير الأسدي *
التخطيط


يعتبر التخطيط من أهم التطبيقات الرئيسية في علوم المستقبل, وهو المجال العلمي المنظم الذي تستخدمه الدول المتقدمة في وضع الخطط المستقبلية الدقيقة التي تبنى عليها سياستها ونُظُمها العامة لخمس أو عشر أو حتى عشرين أو ثلاثين سنة قادمة , بهدف تحقيق التوازن بين مستلزمات الأمن القومي للدولة على المدى البعيد، ومسار النمو والتطور المنظم المراد تحقيقه , وذلك بتكليف خبراء لوضع خطط مستقبلية مستقرة للحيلولة دون حدوث أي ثغرات قد تسفر عن انهيار الخطط الموضوعة في كل مجال وتخصص , وهم بهذا يضعون الدراسات المستقبلية معياراً وحكماً على مدى استقرار الخطط وكفاءتها في الصمود أمام المتغيرات المفاجئة والمتوقعة , وبذلك تصبح الدراسات المستقبلية من أهم الأعمال التي تساهم في الحفاظ على الأمن القومي للأمة وتصون استقرارها على المدى البعيد.
ما هو التخطيط المستقبلي؟
هو علم جمع الطاقات وتنظيم استخدامها في سبيل تحقيق أهداف معلومة في مسار زماني متحرك. وفي المعنى العام هو كلّ محاولة لوضع خطة شاملة تعمل المؤسسات الرسمية على تنفيذها خلال فترة زمنية قد تم تحديد بدايتها ونهايتها مسبقاً, على أن تكون مواكبة للتطورات المتسارعة للأحداث ومتجاوبة معها ,بحيث تسبق الأحداث والتطورات الحاصلة ولا تُفاجأ بها , وأهم الركائز التي يستند عليها التخطيط المستقبلي الناجح هي :
أن يكون مبني على الأسس الصحيحة لحركة كمال النشأة وشاملاً لكل الجوانب المتعلقة بالخطة المبحوثة ويراعي التطورات التي تحصل في مسار الأحداث.
أ ن تتبناه وتتولى تنفيذه قيادة واعية، تتوافر لها الإمكانيات والطاقات، ولديها القدرة على تذليل الصعاب والمرونة على تقويم التخطيط طبقاً للمتغيرات من دون أن تحيد عن الهدف الرئيسي.
أن يكون المنفذون على دراية كاملة بأهداف الخطة ومراحلها، وعلى اقتناع كامل بها ويمتازون بملكة الإبداع في وضع التصورات "السيناريوهات".
ان يكون هناك تأييد للخطة، واقتناع كامل بضرورة تنفيذها؛ لِما ستعود به على الدولة والمواطنين، عند اكتمال تحقيق أهدافها.
أن تكون سيناريوهات الخطة مرنة، وقابلة للتقويم، عند حدوث متغيرات حادة وبما يسمح بالوصول إلى الهدف في النهاية.
ويعتمد التخطيط باستخدام السيناريوهات، على أنظمة آلية، تحقق يسر الحصول على المعلومات الرئيسية وتخزينها وبرمجتها وتحديثها باستمرار، طبقاً للمتغيرات السريعة، والمتلاحقة مع الاستفادة من شبكات المعلومات، التي جعلت العالم كله مثل كتاب مفتوح ,والمعروف عن آلية القيادة أنه كلما كانت المداخل دقيقة وصحيحة ومكتملة، كان التخطيط دقيقاً والسيناريوهات سليمة.) (3)
التخطيط المستقبلي الإسلامي
 لما كانت النصوص الدينية ( القرآن والأحاديث الشريفة) من أهم الوثائق الصادقة في علوم المستقبل التي تحدثنا بكل صراحة ووضوح عن أهم الأحداث المستقبلية , ووضعت لنا السبل الكفيلة لمواجه كل أزمة بعد أن أخبرتنا بها, فإن السبيل إلى الحفاظ على الأمن القومي للمسلمين ووضح الخطط والبرامج الناجعة يجب أن يعتمد على تلك الوثائق الصادقة التي لا يسلك الخطأ إليها من سبيل .
ولما كانت النصوص الدينية تخبرنا عن حتمية ظهور المهدي عليه السلام الذي يملأ الأرض قسطا ًوعدلاً, وهو بلا شك محطة مشرقة في مستقبل الأمة , فإن السبيل إلى مسار مستقبلي ناجح يتضمن أكبر قدر ممكن من الاستقرار والنجاح هو ربط الخطط المستقبلية والمشاريع السياسية والتنموية بمسألة المهدي, وليس هذا فحسب بل التكليف الشرعي للمسلمين ( الشيعة بالذات) يوجب عليهم العمل المتواصل لتمهيد السبيل لظهور جنابه المقدس, وهذه حقيقة علمية وشرعية في آن يجب ان ينهض بها الفقهاء وعلماء الأمة الأكاديميين قبل غيرهم , لأن المستقبل شئنا أم أبينا يتحرك نحو تلك المحطة المشرقة التي تتجه صوبها النشأة بكل عناصرها الغيبية والشهودية على السواء .
وعلى ضوء ما سبق فإن التخطيط السليم لمؤسسات الدولة (العراق مثلا) يجب أن يبتني على المسار التاريخي المحتوم الذي يتحرك نحو ظهور الإمام المهدي عليه السلام , أقول محتوم لأن القرآن الكريم يخبرنا بذلك ( ومن أصدق من الله قيلا ؟؟) ولأن الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يخبرنا بذلك , فعلى الأحزاب والمنظمات والمؤسسات والجماهير العراقية التي تدعي أنها على خط الإمامة أن تربط جميع مشاريعها وطموحاتها المستقبلية ومنها صياغة الدستور بمسألة المهدي المنتظر , سواء كان ظهوره قريباً جداً أو بعيداً , عليهم أن يعطوا للإمام المفترض الطاعة حقه عليهم وأن يكونوا له عوناً في تمهيد السبيل , أو على الأقل لا يكونوا مع أعداءه ويركنوا إليهم .
وأنا كباحث مسلم مهتم بهذه المسائل التي تهمني وأبناء قومي , ارصد حركات العناصر المؤثرة في بلدي العراق , فأجد أن الخطوط والمسارات التي تتجه نحو المهدي المنتظر عليه السلام , هي من عمل المجاهدين الشرفاء الذين لم يخونوا الله ورسوله بالركون إلى الذين ظلموا ولم يسكتوا على ظلم الظالمين وبغي قوات الأحتلال, ولم تغرهم الحياة الدنيا ولا الكراسي المشبوهة ولا أموال السحت الحرام التي مصدرها الاحتلال,ولا قصور المنطقة الخضراء التي يصلي فيها البعض وهم يعملون أنها غير مقبولة في الأماكن المغصوبة , هؤلاء المجاهدون عناصر ايجابية خيرة وفاعلة في دفع المسارات المستقبلية نحو ظهور الحق والامتثال لأمره , كلهم مجاهدون شرفاء وخيرون ولكن أقربهم إلى مسألة التمهيد – على ما ارى-هم الخط الإسلامي الصدري وجيش الإمام المهدي عليه السلام الذي جعل من صلاة الليل- وليس الدعايات الحزبية الكاذبة- معيارا للانتماء إلى الخط , هؤلاء هم الذين تصفهم لنا الروايات ( المفتقدون في فراشهم ليلاً ))و يصفهم لنا الإمام عليه السلام بقوله ( قلوبهم كزبر الحديد ..وفي محل آخر .. تدرّعوا قلوبهم وحملوا الإيمان قبل سيوفهم ))
اعتقد أنني في الفقرات السابقة – أعلاه- لم أخرج عن النهج الأكاديمي في البحث العلمي , بل اعتبر الإيمان ودرجاته العالية من أهم العناصر الفاعلة في المسارات المستقبلية , هكذا يخبرنا الله و رسوله في الكثير من النصوص الدينية وأنا أؤمن وامتثل. وفي الجداول الحسابية أضع للإيمان أكبر العلامات الايجابية واعتبره من المحركات المؤثرة بقوة في المسارات المستقبلية , ومن خلال إطلاعي على البحوث المستقبلية والإستراتيجية العالمية أجد أن أعداءنا يفعلون نفس الشيء في حساباتهم الإستراتيجية والمستقبلية حيث يضعون المؤمنين الشرفاء في خانة الأعداء وقد وجدوا من خلال التجارب المتكررة , ان الاستشهاديين من أهم العناصر الفاعلة في المسارات المستقبلية التي تؤثر عليهم -كقطب أرضي متغطرس يقابل الإيمان- ويهدد بنسف كل مقومات الباطل التي يبنون عليها ركائزهم الرسمية, ولا يوجد أعلى منهم مرتبة في التأثير , ولديهم أدلة وبراهين تثبت ذلك , وعلى ضوء تلك الحقائق المؤكدة صاروا يبتدعون مصطلحات مثل الإرهاب , محور الشر, ونحو ذلك, وهي تدخل ضمن تصورات (سيناريوهات) خلق الأزمة , يحاولون عبثا أن تكون من ضمن الذاكرة الجماعية للشعوب , أو على الأقل يريدون منها أن تكون مانعا سيكولوجيا لشعوبهم يحول دون انهيارها والانقياد لتأثيرات الروح الجهادية وجاذبيتها التي لا تقاوم على حسب زعمهم , وكأنهم بتلك الدراسات يفسرون لنا أهمية تشريع الجهاد وروح التضحية في سبيل المطلق ( الله) من حيث لا يشعرون .
التخطيط على حسب القوانين العامة في الكون
لما كانت العناصر الصغيرة تتأثر وتنجذب إلى العناصر الأكبر , وهذا يشمل عالم المعنى أيضاً على اعتبار الله يجذب القلوب المؤمنة بالعشق والمحبة والإيمان, وكانت القوانين العامة هي الحاكمة للقوانين الفرعية والتفصيلية, فإن السبيل إلى معرفة مسارات الزمان بدقة وتفصيل هو معرفة القوانين العامة ورصد حيثيات تأثيرها على الجزئيات والعناصر الواقعة ضمن إحاطتها .
ولما كان الله خالق كل شيء فإن جميع الهويات الوجودية منتزعة من هويته تعالى مجده , ولأجل انتزاع قانون عام للدراسات المستقبلية ينبغي أولا معرفة هوية الله باعتباره الأصل الوجودي الذي تنبثق منه جميع الهويات والقوانين العامة والخاصة الحاكمة لعناصر النشأة بما فيما الزمان والمكان , وخلال البحث في القرآن الكريم عن هوية الخالق العظيم وجدنا الكثير من الآيات ولكن أهمها في المجال العملي الذي نبحث فيه هذه :
(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3) الحديد
وفي سبيل انتزاع قانون عام للعلوم التي نبحث فيها نقوم بالمعادلة البسيطة الموضحة بالرسم الجانبي الأول :
حيث الله تعالى مجده هوية واحدة لا غير ( واحد أحد) ولكن مظاهر وجوده في الوجود تكون أول وآخر , ظاهر وباطن , فمنه تندفع الموجودات الزمانية والمكانية ( الظاهرة والباطنة) للوجود , وعند ترجمة تلك القيم إلى مفردات علمية لغرض تطبيقها في العلوم الحديثة, فإننا من القيم المتقابلة (أول وأخر) ننتزع السالب والموجب في المحور الذي يسمى بالمحور السيني , ومن القيم المتقابلة ( الظاهر والباطن) ننتزع السالب والموجب في المحور الذي يسمى بالمحور الصادي . لنحصل في النهاية على تفسير علمي أصيل للزمان والمكان منتزع من هوية الخالق العظيم مبيناً بالرسم الجانبي الثاني .
 ومن خلال هذه المعادلة نستطيع أن ندرس كل ظاهر تاريخية زمنكانية ( زمانية ومكانية ) , بل يمكن أن نخوض إلى أعمق من ذلك وندخل إلى كنه الأحداث حينما نجرّد المعادلة السابقة إلى ابسط وحداتها الزمنكانية لتصبح الصورة الموضحة بالرسم الجانبي الثالث :
وهذه الأخيرة لها تطبيقات في مجالات علمية دقيقة جداً مثل أبحاث الذرة وأجزاء الذرة نحو الكواركات والأوتار الفائقة, وبها نتجاوز ما يسمونه بجدار بلانك لنصل في النهاية إلى كنه الحقيقة العلمية التي حيرت عقول العلماء إلى يومنا هذا:
(..وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس61)
ولو تجاوزنا التفاصيل والتفرعات الدقيقة في المسائل المستقبلية وفكرنا في الأمور العامة التي تحكم تلك الجزئيات والتفاصيل الصغيرة , نجد أن هناك مسارين في النشأة لا ثالث لهما منتزع من قانون الزوجية العام الحاكم لجميع عناصر النشأة دونما استثناء, أحدهما إيجابي يتجه نحو لقاء الله في مقام الجمال في عالم الجنة التي عرضها السموات والأرض , والآخر سلبي يتجه نحو لقاء الله في مقام الجلال في عالم الجحيم,(انظر الرسم الجانبي الرابع)
وكل عالم من هذين العالمين يتم بناءه من عناصر ومواد إنشائية متحركة في الحياة الدنيا وتتجه صوبه في كل لحظة وكل حين, أهمها أعمال الإنسان اليومية,( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه )(8)الزلزلة
ولما كانت كل ذرة خير أو ذرة شر سوف تظهر للجميع في النشأة الآخرة, فإن الآخرة عبارة عن تراكم ذرات خير أو شر قد أنجزت مسبقاً في الحياة الدنيا بفعل أعمال الإنسان نفسه .
ولما كانت النتيجة النهائية المستحصلة من حركة مسارات الزمان عالمين اثنين ( عالم الجنة الموجب و عالم الجحيم السالب) فإن الجزيئات الصغيرة الداخلة في بناء أي منهما يكون من نفس جنسه والفارق في الكم لا غير , فعالم الموجب النهائي إنما مجموع تراكم الوحدات الزمانية الموجبة ( ذرات الخير), وعالم الجحيم السالب يكون من مجموع الوحدات الزمانية السالبة ( ذرات الشر). وتلك الوحدات الزمانية السالبة والموجبة إنما من ضمن وحدات زمان عالم الدنيا وهي تتراكم لحظة من بعد لحظة ,ذرة من بعد ذرة , حتى تظهر كلها في عالم مستقل, إما موجب أو سالب .
 وعلى ضوء ما سبق فإن في الحياة الدنيا التي نحياها مساران للزمان أحدهما موجب يتجه نحو عالم الموجب ( الجنة), والآخر سلبي يتجه نحو عالم السالب ( الجحيم).
إلى الآن نكون قد حددنا أهم العناصر الرئيسية التي تستند عليها الدراسات المستقبلية الإسلامية , التي تفتقر لها الدراسات العلمانية البعيدة عن السماء بكل تأكيد, وهي:
1-أن هناك جهة معلومة يتحرك نحوها مسار الزمان , وهي جهة فاعلة ذات إرادة قاهرة ومؤثرة في جميع مسارات الزمان ( الله تعالى مجده ). هذا المعلوم ( الله) يجعلنا نكتشف معلومات اخرى تتصل به سببياً وتكوينياً .
2-هناك مسارين للزمان , أحدهما موجب نهايته عالم موجب ( جنة عرضها السموات والأرض) والآخر سالب نهايته عالم السالب ( عالم الجحيم).
3- وحدات كل عالم من هذين العالمين تتعين من تراكم كمي ونوعي لمسارات الزمان الموجبة أو السالبة في نشأة الحياة الدنيا .
4- إن كل حدث زمنكاني يحدث في الأرض مهما كان كبيراً أو صغيراً – ولو على مستوى ذرة- إنما هو من ضمن المسار العام للنشأة المتجهة نحو عالم الموجب , السالب .
5- لما كانت العلاقة الإيمانية هي السبيل اكتشاف الجهة المعلومة المؤثرة في مسارات الزمان , فإن تلك العلاقة ذات تأثير على الدراسات المستقبلية يتعين مقداره على حسب شدة المؤثر .
إن هذه النتائج المستحصلة التي انتزعناها من هوية الله تعالى مجده الحاكم للكون بجميع عناصره ,هي التي سوف نبني عليها نظريتنا في الدراسات المستقبلية الإسلامية , وهي بلا شك تختلف جذريا عن جميع النظريات الأرضية البعيدة عن السماء , وهذا من فضل الله علينا بواسطة القرآن الكريم الذي هو (...تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (89)النحل
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة