السيستاني في الميزان
 النظرية الشرعية
كتابات - زهير الأسـدي *


ملاحظة :
قبل أن أكمل ما بدأته في الحلقات السابقة أسجل هنا ملاحظة للأخوة القراء وهي : إن هذا البحث الذي كنت أنوي في البداية أن يكون بحثاً أكاديمياً محضاً لم يعد كذلك, بل تحوّل- بفعل الرسائل الكثيرة التي تأتيني وطلباتهم المتكررة- إلى سلسلة من مقالات , وهو في جميع الحالات ومهما كانت التسمية والمنهج قد حقق فائدة تنويرية لكثير من الناس , وهذا ما لمسته شخصياً من خلال الرسائل .
فلقد جاءتني الكثير من الرسائل ومن مختلف المستويات الثقافية والعلمية التي تبارك وتشجع ما نشرته في الحلقات السابقة , وطبعاً هناك من يعترض وهم قلة قليلة جداً مقارنة مع المؤيدين , ومن بين الرسائل التي تأثرت بها كثيراً, كانت من أحد الأخوة المؤمنين الذي طلب مني أن أجبر إيمانه ( الفطري) الذي قال إنه قد انكسر بعدما ثبت له بالدليل القاطع – على حد قوله- عدم عدالة بعض المراجع , علماً من أنني لم أكن أقصد إلا الدفاع عن حقوق الفقراء والمساكين التي في ذمة المرجعية, و بيان الحقائق التي اطلعت عليها ولا أريد أعن أعصي ربي بكتم الشهادة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة140) (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة283) فقد امتثلت لأمر ربي الذي يخاطبني بكل وضوح بقرآنه المجيد (..وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ..) ( الطلاق2) ونشرت في الحلقات السابقة ما علمته واطلعت عليه .
 أما في هذه الحلقة فإنني أجد نفسي أمام مسؤولية شرعية أخرى, وهي طرح البديل ألذي أراه مناسباً في مثل هذه الحالات وأيضاً جبر إيمان ذلك الأخ المؤمن الذي أخبرني في رسالته أن أيمانه قد أنكسر وعلي الجبر , وما أدراني لعل غيره كثير , وعلى الرغم من أنني غير مسؤول عن من يسيء فهم مقاصدي إلا أنني أنشر هنا آخر حلقة مما سبق وابدأ في طرح ما أسمية النظرية الشرعية في الإسلام لعل فيها فائدة لأخواني المسلمين ولذلك الاخ المؤمن الذي سألني الجبر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطوط العامة للنظرية الشرعية.
في الفصول التالية أريد أن أبين الخطوط العامة لما أسمية النظرية الإسلامية , وفي بحوث قادمة إن شاء الله تعالى وتحت عناوين مستقلة , سوف أضع القوانين العامة للنظرية الشرعية الإسلامية التي أطمح أن تكون معياراً لتعيير الحق والباطل و معرفة الحلال من الحرام ونحو ذلك , وفي ذات الوقت تجعل من كل متابع لبيب ذو ثقافة مقبولة أن يجتهد بشؤون دينه بوقت قصير جداً مقارنة بالمدارس الكلاسيكية التي يقضي فيها الطالب عشرات السنين وقد يتجاوز عمر أحدهم سبعين سنة ثم يخرج لنا برسالة عملية تتضمن مئات الاحتياطات وعدم اليقين في الكثير من المسائل الشرعية بما فيها الصلاة , ولأجل ذلك أقول:
لما كان الإسلام دين الفطرة , فإن أصوله وفروعه ذات ارتباط وثيق بالكون وقوانينه العامة والخاصة التي هي مظهر لهوية الله تعالى مجده , ولما كان الله هو الوجود الصرف والهوية المطلقة الذي يمنح جميع الموجودات موجوديتها وهويتها, فإنه من هوية الله تنتزع القوانين العامة والخاصة لجميع الموجودات (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر62), فكما من هويته تعالى مجده تنبثق جميع الموجودات , كذلك من هويته تنبثق أصول وفروع الدين القيم الذي تجري قوانينه على جميع الموجودات التي ترتبط بالله ارتباطاً سببياً تكوينياً ومحكومة بقوانينه.
ولأجل ذلك يجب أن نعرف من هو الله ؟ لننتزع من هويته تعالى مجده أصول وفروع الدين , ولنعرف الحلال والحرام .
 هو يجيب:
(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (3) الحديد
ولما كان الله هوية واحدة وهو تعالى مجده أول وآخر , وظاهر وباطن, وهو خالق كل شيء, فإن كل شيء في الوجود سواء كان ظاهراً أو باطناً مادياً أو معنوياً يرتبط بالله ارتباطاً سببياً تكويناً , ويكون مظهراً له في النشأة على حسب حظه من نور الله الذي يوجده في الوجود . وعلى هذا فإن كل شيء في الوجود بما فيها الشريعة عبارة عن المعادلة الموضحة بالصورة التالية التي تبين القانون العام في الكون المنتزع من هوية الله تعالى مجده : حيث الدائرة الكبيرة تمثل هوية الله تعالى مجده , والصغيرة تمثل هوية الموجودات التي تأخذ هويتها من هوية الله , بما في ذلك الإنسان ( حامل الأمانة) طبعاً .
وعند تطبيق ذلك القانون العام على أصول الدين (وفروعه فيما بعد) نجد أن:
 1- التوحيد ما كان ليكون من أصول الدين لولا هوية الله الواحد الأحد , فلأن الله واحد أحد كان التوحيد من أصول الدين, (هذه مقدمة بسيطة ستأتي التفاصيل فيما بعد).
 2-العدل من أصول الدين لأنه من صميم هوية الله الذي فطر الكون كله على العدل والميزان (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (7) الرحمن , تأمل في ابسط وحدات الكون المعتبرة ( الذرة) تجد أن كل كمية من البروتونات الموجبة تقابلها بالضرورة نفس الكمية من الإلكترونات السالبة, وهذا العدل والميزان إنما مظهر لهوية الله العدل الحق, وهو أصل وجودي فطري .
3- المعاد من أصول الدين لأن كل حركة من الله يجب أن تنتهي إليه ( هو الأول والآخر)( كما بدأكم تعودون),
 ولما كان الله أول وآخر وهو تعالى مجده هوية واحدة لا غير, فإن كل موجود بدأ خلقه من الله وأندفع إلى الوجود من مقام (الأول) لا بد وحتماً أن ينتهي –يعود- إلى الله في مقام (الآخر) بعد ان يتم دوره كماله في النشأة , ولهذا كان المعاد من أصول الدين.
 4-النبوة من أصول الدين لأن الله ظاهر وباطن في آن, والله الباطن إنما يظهر في مقام الظاهر من خلال الإنسان وفي أنبياءه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور , فالنبي مظهر لله في مقام الظاهر, بدليل قوله :( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) 10 الفتح , وليس الأنبياء وحدهم مظاهر لله في مقام الظاهر في النشأة فحسب, بل جميع المؤمنين الذين يمتثلون لأمر الله ويفعلون أفعاله في الأرض ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (17)الأنفال, والفرق بين الأنبياء والمؤمنين إنما بالدرجة والوحي المباشر وهم جميعاً يشتركون بسمة الإنسانية وحمل الأمانة التي هي روح الله.
 ولما كانت هوية الله ظاهرة وباطنة ( سالبة وموجبة) في آن, فإن جميع الناس( المؤمنين وغيرهم) حاملي هوية الله التي نفخها في أبوهم آدم عليه السلام مظاهر لله في مقام الظاهر (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (30) الحجر , وهذا الروح المنسوب إلى الله موجود عند جميع الناس المؤمنين وغيرهم بالفطرة.
5- الإمامة نعتبرها – نحن الشيعة الإمامية- من أصول الدين لأنها امتداد طبيعي للنبوة , فطالما الله ظاهر كما هو باطن , فإنه من المحال أن تخلو النشأة من عقل ظاهر فيها مرتبط بالعقل المطلق ( الله تعالى مجده) وهو إما أن يكون نبي أو إمام معصوم , وأن عدم المعصوم يعني بالضرورة عدم الله في مقام الظاهر وهذا باطل كما هو معلوم . ولهذا كانت الإمامة امتداد للنبوة ومظهر لله في مقام الظاهر , وكانت من أصول الدين وليس من فروعه.
 فروع الدين
1- الصلاة تعتبر الصلاة من الواجبات الشرعية التي يحرم تركها وهي عمود الدين , والسؤال هو: لماذا جعل الله الصلاة واجبة وحرّم تركها وما فائدتها للإنسان؟؟
نحن هنا نرفض الأجوبة القمعية التي يمارسها البعض باسم الدين , ولا يجوز هنا أن يكون الجواب : إن الله قد أمر بالصلاة ونحن نمتثل لأمره ولا ننقاش .. هذا القمع الفكري ( لا تناقش) مرفوض بالإسلام . بل يجب ان يكون الجواب بطريقة علمية وواضحة , لنعرف فيما بعد كيف نصلّي بلا على الأحوط, لا وجوباً ولا استحباباً, ولأجل هذا نقول :
الصلاة شيء أصيل في الوجود لأنها منتزعة من هوية الله , لأن الله يصلي والدليل على ذلك قوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (43) الأحزاب إن صلاة الله المشار إليها هنا ليست كما صلاة العبد ( ركوع وسجود ونحو ذلك) بل هي صلة الله بالعبد , صلة رحمة ومحبة وتسديد وتوفيق ورزق وقضاء الحاجات واستجابة الدعاء ونحو ذلك من مظاهر الصلاة, فأنت حينما تصل رحمك ( أقرباءك) بعلاقة حميمة وتتفقدهم , تكون قد أديت نوع من أنواع الصلاة ( الصلة – العلاقة- الارتباط) , ولما كان الله هو الوجود الصرف الذي يمنح الموجودات هويتها وهو تعالى مجده يصلي ( يصل نفسه بالموجودات ويمنحها سمة الوجود وما تستحق من حيثيات الهوية), فإن الصلاة من مصاديق الوجود و كل موجود يتسم بسمة الوجود يجب أن يصلي كما الوجود ( الله) يصلي , هذه هي الحقيقة المؤكدة التي يشير إليها تعالى مجده بكل وضوح بقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (النحل49) (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..) (41) النور, فكما موجودية الموجودات منتزعة من هوية الله وهو تعالى مجده الوجود الصرف , كذلك صلاة الموجودات منتزعة من هوية الله الذي يصلي, ولهذا كانت جميع الموجودات تصلي كما الله يصلي, والإنسان بما أنه موجود كما الله موجود , فإنه يجب عليه أن يصلي كما الله يصلي , ولما كان الإنسان حامل هوية الله الروح ( ونفخت فيه من روحي ) وخليفته في الأرض , فإنه يجب عليه أن يصلي كما الله يصلي , بل يجب عليه أن يكون ممثل الله في الأرض يحمل جميع سمات هويته الوجودية ويفعل أفعاله , نحو الصلاة الصيام الحج , الزكاة والخمس , وقتل الكفار والمفسدين ( سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى).
 ولما كان الله كامل وهو تعالى مجده يصلي والملائكة أيضاً يصلون, فإن الصلاة من مصاديق الكمال, فالشخص الذي يصلي أكثر كمالاً من الشخص الذي لا يصلّي, لأن الذي يصلي يصل ذاته ( روحياً) بالله الكامل فيكون على صلة – علاقة- مع الكامل ويكون طرفاً بالعلاقة معه تعالى مجده , بينما الذي لا يصلّي لا يمت للكمال من صلة , بل يكون فرداً بلا علاقة مع الكمال , وها هنا مصاديق النقص الذي يقابل الكمال .
 وعلى هذا فإن أهم ما في الصلاة هو أن تتصل حقيقتك( روحك- ذاتك) بالله بدرجة عالية من الصلة والعلاقة الحبية والخشوع, أما بقية مظاهر الصلاة فـتاتي بالعنوان الثانوي مع أهميتها .
2- الصوم يعتبر من فروع الدين وهو واجب على جميع المسلمين البالغين في شهر رمضان , وصوم الكفارة واجب على البعض المشمولين به ,وهناك الصوم المستحب الذي يبادر به المؤمن تطوعاً منه لله تعالى مجده لتكميل النفس والتقرب به إلى الله , والسؤال هو:
 لماذا المسلم أثناء الصيام يمتنع عن الأكل والشرب ولا يقرب الزوج- الزوجة , ونحو ذلك ,ما الفائدة المرجوة منه ؟؟
 ونحن هنا أيضاً نرفض الجواب الذي يقول إن الله أمر بالصيام وعلينا الطاعة ولا نناقش , بل يجب ان يكون الجواب على درجة كبيرة من العلمية ونعرف لماذا نصوم وما الغاية منه وما أصل التشريع فيه , لكي نؤديه وكل حيثياته بمعرفة تامة دونما على الأحوط , وقد يقول البعض أن للصيام فوائد على الصحة النفسية والجسدية ويقدم طروحات مبنية على تفاصيل طبية , نقول لا بأس بذلك ولكن ليس هذا هو الأصل في التشريع .
بل الصوم كما الصلاة منتزع من هوية الله وبذات الأصالة, فهو تعالى مجده لا يأكل ولا يشرب وليس له صاحبة, حاشاه منزه عن ذلك, وقد أخبرنا بذلك بكل وضوح قال :(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ..) (14) الأنعام (..وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ..) (101) الأنعام , فلأن الله كذلك كان على المؤمن حامل هوية الله أن يتخلق بأخلاق الله ويفعل أفعاله في الأرض باعتباره حامل الهوية والوريث الشرعي لله في الأرض, ولما كان الله كامل وهو تعالى مجده لا يأكل ولا يشرب وليس له صاحبة , فإن الصيام من مصاديق الكمال , والمؤمن الصائم إنما يتكامل ويتقرب إلى الله درجات عند امتناعه عن الأكل والشرب والمعاشرة الزوجية ونحو ذلك من المحرمات لأن الله منزه عنها.و لهذا كان الصوم من فروع الدين وتكليف واجب محرّم تركه إلا لأسباب قاهرة , ويقضى فيما بعد (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )(البقرة184)
3- الحج يعتبر من فروع الدين وهو واجب عند الاستطاعة, والسؤال هو :لماذا ؟
نحن هنا أيضاًَ نرفض الأجوبة الكلاسيكية القائلة ( الله أمر ونحن نمتثل ولا نناقش) بل الحج من فروع الدين وهو واجب عند الاستطاعة لأن الله ( الواجب) يحج ,أي يتحرك بذاته من الظاهر إلى الباطن ومن الباطن إلى الظاهر, وبحركة الواجب تعالى مجده تتحرك جميع المتحركات (الممكنة), فهذه الحركة تبدأ بالواجب المتحرك بذاته وتظهر في جميع الموجودات ( الممكنة) التي تتحرك بحول الله وقوته من الذرة إلى المجرة وما كان أصغر من ذلك أ وأكبر, تأمل في حركة مكونات الذرة ( الالكترونات والبروتونات) تجدها تدور ( تطوف) حول النواة (المركز), أنظر حركة الكواكب السيارة وأقمارها , تجدها تدور ( تطوف) حول الشمس (المركز) ,والإنسان عند الحج يدور (يطوف) حول الكعبة (المركز) , والسبب في ذلك أن الحركة حول المركز من مصاديق الوجود لأنها مظهر لحركة الواجب تعالى مجده الذي يحرك جميع المتحركات , والإنسان باعتباره حامل الأمانة ( روح الله) وممثل الله في الأرض, يجب عليه أن يتحرك حول مركز ( رمز لله ) كما الله تعالى مجده , أما اتجاه الحركة فهو على العكس من دوران عقرب الساعة وبنفس اتجاه حركة الكواكب حول الشمس , لأنها أصل الحركة في السماء التي تحكم الأرض وما عليها بما فيها الإنسان. فالإنسان الذي يتحرك بنفس حركة السماء إنما ينسجم مع حركة الله الذي يحرّك السماء والكون كله, فيكون هو جزء من الحركة الكونية التي مصدرها الله وقوة دفع فاعلة فيها باعتباره يحمل روح الله المشتمل على مقدار من علم وإرادة , فالمسلم الحاج الذي يتحرك بإرادته ويؤدي طقوس الحج إنما يمثل حركة الله الذي أعطاه روحه ( نفخت فيه من روحي ) وأمره أن يفعل أفعاله في الأرض بقوة الإرادة .لهذا السبب كان الحج من فروع الدين لأنه تمثيل لحركة الله الأصيلة في الوجود. كما في الطواف كذلك في جميع طقوس الحج منتزعة من هوية الله تعالى مجده ( نسأل الله أن يوفقنا لبيانها بالتفصيل في فرص اخرى)
 الشفاعة: بمناسبة ذكر الحركة الكونية العامة نتطرق إلى الشفاعة التي هي من العقائد الأصيلة في الإسلام المنتزعة من هوية الله تعالى مجده, فكما يطوف الحاج حول رمز لله وهو الكعبة , كذلك يطوف الزائر عند زيارة الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام وأولياء الله الصالحين, وهم رموز لله باعتبارهم خلفاء له في الأرض , فالإنسان الكامل (المعصوم , أو الولي الصالح ) رمز لله في مقام الظاهر وهو أعلى مقاماً من جميع الموجودات بما فيها الملائكة بدليل سجود جميع الملائكة للإنسان لحظة نفخ الروح فيه , وحركة الزوار حول مراقد أولياء الله بنفس حركة الطواف حول الكعبة إنما انسجام مع الحركة الكونية التي مصدرها الله المحرك للكون , وهي بهذا المقام تشبه حركة الأقمار الصغيرة حول الكواكب العظيمة التي تدور حول الشمس , وهنا أصل الشفاعة في الدين الإسلامي الحنيف , فكما الكوكب العظيم يسحب معه الأقمار الصغيرة السابحة في فلكه ويجعلها تدور معه حول الشمس ( المركز) خلال دورته هو حولها , كذلك المعصوم - ولي الله الصالح يسحب معه المؤمنين السابحين في فلكه والمقلدين لأعماله ويجعلهم يدورون معه في فلك طاعة الله , فحيثما يكون المعصوم يكون مصير التابعين معه المنجذبين له بالتقليد والإتباع, ( من أحب قوماً حشر معهم ) .
وحركة إتباع المعصومين السابحين في فلك الله وتقليد سلوكهم, إنما تمجيد لحركة الله الكبرى ومساهمة فيها باعتبارهم جزء منها, (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (23) الشورى.
4- الزكاة ( الخمس) من فروع الدين وهو من الواجبات الشرعية... لماذا ؟؟
كما قلنا من قبل نرفض الأجوبة القمعية ( ان الله قد أمر وعلينا الطاعة دونما نقاش), بل نبحث عن أجوبة علمية توصلنا إلى أصل التشريع لكي نمارسه عن دراية وقناعة تامة لا عن تقليد أعمى, فالله يرفض أن يتخلى الإنسان -الذي خلقه في أحسن تقويم ومنحه هويته ( روحه)- عن عقله ويصبح مجرد ببغاء يقلد دونما علم أو دراية , بل ويعاقب على ذلك إلا مع العذر.
 للجواب نقول : الزكاة \ الخمس من فروع الدين وهو واجب لأنه منتزع من أصل الوجود( من هوية الله) تعالى مجده , ولما كان الله رزاق كريم , فإن على الإنسان المؤمن حامل الأمانة ( هوية الله- روح الله) أن يتخلق بأخلاق الله ويفعل أفعاله ويعطي للناس كما الله يعطي ويرزق الفقراء كما يرزقهم الله . فكما الله يرزق الناس مما يملك , كذلك الإنسان حامل روح الله يرزق الناس ( الفقراء) مما يملك .
والسؤال هو : لماذا الخمس 20 % من مجموع ما يكسب الإنسان وليس اقل من ذلك ولا أكثر ؟؟ هل لهذه النسبة أصل تكويني في الواقع ؟؟
أقول: والله اعلم , بما أن دفع الخمس من العبادات الواجبة بدليل قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الأنفال(41).. فإن دفع الخمس يعتبر حركة تقرّب نحو الله تعالى مجده , وكل حركة نحو الله إنما حركة نحو عشرة تامة كاملة بدليل قوله: (الحسنة بعشرة أمثالها), ولما كانت حركة العبد الحسنة تساوي عشرة أمثالها من الواحد إلى عشرة, فإن حركة الرزق من الله إلى العبد تعتبر حركة معاكسة, أي من العشرة إلى الواحد .
 فالله يعطي ( يرزق) العبد, وهي حركة من العشرة إلى الواحد, ودفع الخمس حسنة وهي حركة من الواحد نحو العشرة ( الحسنة بعشرة أمثالها), ومن تقابل هاتين الحركتين تحدث عملية ضرب وجمع في آن , هكذا (( 10 × 10 =100 و 10+10 = 20 )), فينتج عن ذلك نسبة مئوية(20%) 20 ضمن ألـ100 المتولدة من عملية الضرب , هي فائضة عن حاجة المستفيد من الحركتين تكون من حق المستحقين الذين عينهم الله في الآية أعلاه (آية الخمس).
5- الجهاد من فروع الدين وهو واجب بتصريح عشرات الآيات القرآنية ومارسه رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته النبوية الشريفة , ولا يعنينا هنا من تركه واسقطه من واجبات المسلمين ولم يذكره بمسألة واجبة أو مستحبة , والسؤال هو لماذا الجهاد من فروع الدين كما الصلاة والصيام والحج والخمس ,, ومحرّم تركه في وقته ؟؟
كما قلنا من قبل لا يجوز أن يكون الجواب : إن الله قد أمر بالجهاد ونحن نمتثل لأمره ولا ننقاش .. بل يجب أن نعرف لماذا أمر به وحرّم تركه ؟؟ كي نعرف فيما بعد كيف نجاهد ومتى نجاهد وأي نوعية من الناس نجاهد .
للجواب نقول : إن الله لا يرضى بالفساد في الأرض ويعاقب المفسدين اشد العذاب سواء كانوا كفار أو منافقين ,بل يعاقب المنافقين أشد مما يعاقب الكافرين (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا) (النساء145), وعلى الإنسان حامل الأمانة (هوية الله) أن يتخلق بأخلاق الله ويفعل أفعاله في الأرض ليكون مظهر لله في مقام الظاهر ويعاقب المفسدين بحول الله وقوته, قال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال (17) هكذا يظهر فعل الله في الإنسان في مقام الظاهر عن طريق الروح الذي يحمله الإنسان المرتبط ارتباطا سببياً تكويناً مع الله, والفعل الذي يفعله المؤمن المجاهد ليس فعل الإنسان بالأصل بل هو فعل الله المتحرك بذاته والمحرك لغيرة , فإذا ما انسجم فعل الإنسان مع ما يريد الله أن يفعله , يكون ذلك الفعل مظهر لله في مقام الظاهر وكأن الله هو الفاعل ,يقول: ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (16) التوبة.
وهذا هو أصل تشريع الجهاد وجعله من الواجبات ,انه فعل الله يظهر في الأرض بواسطة الإنسان , وبالتأكيد ان تركه يعني غياب ذلك الفعل من الأرض وبالتالي فساد كبير يستوجب عقوبة الله .ولما كان الجهاد يحتمل فيه أن يتعرض المجاهد للقتل, فإن القتل في هذه الحالة لا يشبه أي قتل آخر بل هو من أنبل وأشرف أنواع الخاتمة( وهي الشهادة) التي يختم بها الإنسان حياته ليلتقي بالله تعالى مجده (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت 35), وكانت الشهادة من أرقى الدرجات العلى في الجنة لأن الإنسان أثناء الجهاد وقبل الشهادة ,كان يمارس فعل الله في الأرض كان الله يرمي ويقتل ويعاقب الكفار بيديه , كان مع الله والله معه يحركه وينسب الفعل إلى نفسه سبحانه وتعالى , وبمجرد أن يخرج روحه لا يذهب عالم الأموات بل إلى عالم الأحياء لأن الله الحي الذي كان معه ويحركه وينسب الفعل إليه يبقى معه في ذلك المقام الشامخ الفريد , فهنيئاً للذين جاهدوا وكان الله يرمي ويقتل الكفار والمنافقين بسواعدهم وهنيئاً للشهداء الذين فازوا الفوز العظيم , والخزي والعار والعذاب الأليم لكل المنافقين والجبناء وكل من أستهتر بفريضة الجهاد الواجبة ولم يعطها حقها عليه ولو بكلمة حق يقولها أمام سلطان جائر أو احتلال غازي أو حكومة عميلة أو مرتزقة باعوا دينهم وشرفهم ورضوا بالانبطاح تحت بسطال الغزاة المحتلون.
أوقات الفرائض
لما كانت فروع الدين وأصوله منتزعة من هوية الله تعالى مجده, و هي مظاهر لحركته في مقام الظاهر, فإن لكل ركن من أركان الدين وقت طبيعي معين يجب العمل به طاعة لله تعالى مجده , فأوقات الصلاة الواجبة معينة على حسب دورة الأرض اليومية وظهور نور الله الظاهر بالشمس , الأوقات هي: الفجر وهو بداية ظهور نور الشمس ( رمز لنور الله) ومنتصف النهار وهو تمام ظهور النور , وغرب الشمس نهاية ظهور النور, والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى مجده: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (78) الإسراء
من هذه الآية نفهم أن الصلواة الواجبة الخمسة أوقاتها ثلاثة وهي الفجر ومنتصف النهار وغروب الشمس وتتعين طبيعياً من خلال دورة الأرض اليومية . وهناك نوافل أوقاتها في غير ذلك .
ووقت الصيام الواجب هو شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ويتعين طبيعياً من دورة القمر السنوية ورؤية الإنسان للهلال , (..فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..) البقرة 185,
و وقت الحج الواجب مع الاستطاعة فهو شهر ذو الحجة ويتعين طبيعياً من دورة القمر كما شهر رمضان ,
و وقت دفع الخمس \ الزكاة الواجب مع الاستطاعة يتعين على حسب ظروف كل إنسان وله دورة سنوية قمرية كما الواجبات المذكورة آنفاً .
أما الجهاد الواجب في سبيل الله فيجب أن تكون له أوقاتاً تتعين على حسب الظروف والحالات التي تحفظ حياة وأمن ومصالح المسلمين وتحقيقاً لأهداف الله التي سجلها في كتابه المجيد هي إظهار الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون , وعلى هذا فيجب على كل مسلم مستطيع إلا تدور سنة قمرية إلا وقد أدى واجب الجهاد في سبيل الله كما يؤدي واجبة في الدورات السنوية في الصوم والحج والخمس\ الزكاة , لأن هناك أراضي للمسلمين محتلة ومصالح المسلمين وحياتهم ليست على ما يرام .
 وليس الغرض من الجهاد الدفاع عن ارض وحياة ومصالح المسلمين عند تعرضهم لغزو خارجي فحسب, بل لنشر الإسلام وإظهار دين الله على الدين كله ولوكره المشركون .( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (33) التوبة . ونعني بالجهاد هنا كل جهد مبذول في سبيل الله ومن اجل مصالح المسلمين , وهو بالطبع لا ينحصر بالقتال وساحات المواجهة فحسب بل هو شامل وفي جميع الميادين الفكرية والإعلامية والاقتصادية و العسكرية ,و العلمية و و ,, الخ .
وبكلمة واحدة نقول: بما أن الله كامل وهو تعالى مجده نفخ الروح في الإنسان ليظهر كماله في الأرض, فإن جميع الأفعال التي تصلح الإنسان وتحقق له الكمال تكون من الأعمال الواجبة على الإنسان وهي أساسيات الدين القيم ,وجميع الأعمال التي تسلب الإنسان كماله وتجعله من السافلين هي من المحرمات الشرعية.
ولما كان الله هو ينبوع الوجود السرمدي, فإن هويته تعالى مجده هي القانون العام الذي يحكم جميع الموجودات وحركتها الظاهرة والباطنة على السواء , وهذا القانون العام هو البنية التحتية التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية بقوانينها وتفريعاتها الفوقية .
 (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)( الأعراف43)

تابعوا البقية في المرات القادمة تحت عنوان ( النظرية الشرعية في الإسلام)
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة