بين الطاغية .. والامام
قصة الصراع بين صدام والشهيد السيد باقر الصدر
قبل ان يتواقح البعض بالدفاع عن (القاتل) .. فليستمع الى صوت (المقتول)
الحلقة الثانية
كتابات - د.رفعت سيد أحمد


لم يكن صدام حسين حين شرع فى التفكير فى قتل السيد باقر الصدر ؛ يهتم فحسب بالجانب الحركى للرجل ، بل كان يشغله ويقض مضاجعه ، الرؤية الفكرية الثورية له ، خاصة فى مجال مقاومتها للاستبداد ، وللهيمنة الداخلية والخارجية ، لقد كان ما يخيف (صدام) من (باقر الصدر) هو هذا العمق ، والتألق فى فهم الاسلام ، وفى بناء نظرية سياسية له تتجاوز الرؤى المذهبية الضيقة ، الى رحابة النظر وثقابة الفهم ، فى هذا الاطار كان للشهيد رؤية عميقة للشورى فى الاسلام وفى مقاومة الطغيان ، والذى تمثل بوضوح فى حالة صدام حسين ، فعلى المستوى الفكرى رأى (الامام) ضرورة الاستفادة من آية الشورى (وأمرهم شورى بينهم) [الشورى 38] للدلالة على امكان اقامة الحكم الاسلامى على قاعدة الشورى باعتبار ان الحكم وإقامة الدولة يمثل أمراً مهماً من أمور المسلمين ، ولا يمكن تجاهله فى مجتمعهم ، لأن التجاهل يؤدى الى تهديد أصل الدين ، بالإضافة الى سيطرة الكفار وعقائدهم على المجتمع الاسلامى ، ولابد من الالتزام بحكم الأكثرية فى الشورى لأن الاجماع فى الامور الاجتماعية امر نادر وهذا يعنى ان اقامة الحكم على أساس الشورى يعنى الرجوع الى الأكثرية والا تعطلت آية الشورى ولم يكن لها مدلول عملى 0
هذه النظرة العامة للشورى والديمقراطية ومقاومة الطغيان ترجمها الامام الى سلوك عملى مباشر ضد (نظام صدام حسين) ، وكانت حياته الحافلة ، كلها ، خير مثال على هذا السلوك السوى المقاوم للطاغية الا ان أعلى درجات المواجهة بينه كمرجع أعلى وكقائد ثورى للمستضعفين ضد حكم هذا الطاغية تمثل فى (نداءاته السياسية الشهيرة للشعب العراقى كى يقاوم الطاغية ويثور عليه وهى نداءات مثلت نقلة نوعية فى الصراع بين الامام وما يمثله من قيم وخيارات وجمهور ، وبين (الطاغية) وما مثله من قيم مُبتذلة ، واستبداد متشعب وفساد أهلك الحرث والنسل فى بلاد كانت اذا ذكرت يهتز أصحابها فخراً (وبين الناس نختال) – كما قال الجواهرى آنفاً عليه رحمة الله – ونظراً للقيمة التاريخية لهذه البيانات خاصة فى لحظات الفتن الراهنة التى يعيشها العراق فإن سنوردها نصاً ، فقط يهمنا الاشارة الى انه لكل زمان ولكـل مجتمع لحـظات من الابـتلاء بـطغاة متـجبرين والـعراق كان نموذجـاً هامـاً فى هذا الابتلاء خـلال تاريخه المعاصر ، وبخاصة إبان الحكم البعثى البائد ، وكان للبيان السياسى الدينى دوره البارز فى رفض الاستبداد وكشفه وكان لبيانات أو إن شئنا الدقة ( لنداءات ) الامـام الشهيد السـيد محمد باقر الصدر دورها الـبارز والمـؤثر فى العـلماء وفى الشعب ، فـماذا تـقول البـيانات ( النداءات ) ذات الـدلالة التى أعلنها الشهيد الصدر وبثها لشعبه ، والتى نـقدم هنا نمـاذج لها – وليس كلها بالطبع – وهى إجمالاً ليست بـحاجة الى تعلـيق لأنها تـقدم بنفسها نموذجاً للوعى الثورى الاسلامى 0
نص النداء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين أيها الشعب العراقى المسلم : انى اخاطبك أيها الشعب الحر الأبى الكريم وأنا أشد الناس ايماناً بك وبروحك الكبيرة وبتاريخك المجيد وأكثرهم اعتزازا لما طفحت به قلوب ابنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية ، اذ تدفقوا الى أبيهم يؤكدون ولائهم للاسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحمية والتقوى ، يطلبون منى ان أظل أواسيهم 0
وإنى أود أن أؤكد لك يا شعب آبائى وأجدادى انى معك وفى أعماقك ولن اتخلى عنك فى محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمى فى سبيل الله من أجلك ، وأود أن أؤكد للمسئولين ان هذا الحكم الذى فرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقى وحرمه من أبسط حقوقه وحرياته من ممارسة شعائره الدينية لا يمكن ان يستمر ، ولا يمكن ان يعالج دائماً بالقوة والقمع ، وان القوة ما كانت علاجا حاسما دائما الا للفراعنة والجبابرة 0 اسقطوا الآذان الشريف من الاذاعة فصبرنا ، اسقطوا صلاة الجمعة من الاذاعة فصبرنا وطوقوا شعائر الامام الحسين ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا ، وحاصروا المساجد وملؤوها أمنا وعيونا فصبرنا ، وقاموا بحملات الاكراه على الانتماء الى حزبهم فصبرنا ، وقالوا انها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا ، ولكن الى متى ، الى متى تستمر فترة الانتقال ، اذا كانت فترة عشر سنين من الحكم لا تكفى لإيجاد الجو المناسب لكى يختار الشعب طريقه فأية فترة تنتظرون ؟
واذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم أيها المسئولون اقناع الناس بالانتماء الى حزبكم الا عن طريق الاكراه فماذا تأملون ؟ واذا كانت السلطة تريد ان تعرف الوجه الحقيقى للشعب العراقى فلتجمد اجهزتها القمعية اسبوعاً واحداً فقط ولتسمح للناس بأن يعبروا خلال أسبوع واحد كما يريدون 0
اننى اطالب باسمكم جميعا أطالب باطلاق حرية الشعائر الدينية وشعائر الامام ابى عبد الله الحسين (ع) كما وأطالب باسمكم باعادة الآذان وصلاة الجمعة والشعائر الاسلامية الى الاذاعة ، وأطالب باسمكم جميعا بإيقاف حملات الاكراه على الانتساب الى حزب البعث على كل المستويات ، وأطالب باسم كرامة الانسان بالافراج عن المعتقلين بصورة تعسفية وايقاف الاعتقال الكيفى الذى يجرى بصورة منفصلة عن القضاء وأخيراً أطالب باسمكم جميعاً وباسم القوى التى تمثلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية حقة فى توفير شئون البلاد وذلك عن طريق اجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الأمة تمثيلا صادقا وانى أعلم ان هذه الطلبات سوف تكلفنى غاليا ، وقد تكلفنى حياتى ، ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد لتموت بموته ولكن هذه الطلبات هى مشاعر أمة ، وطلبات أمة وارادة أمة ولا يمكن ان تموت أمة تعيش فى أعماقها روح محمد وعلى والصفوه من آل محمد وأصحابه 0 واذا لم تستجيب السلطة لهذه الطلبات فإنى أدعوا أبناء الشعب العراقى الأبى الى المواصلة فى هذه الطلبات مهما كلفه ذلك من ثمن لأن هذا دفاع عن النفس ، دفاع عن الكرامة ، دفاع عن الاسلام ، رسالة الله الخالدة والله ولى التوفيق 0
محمد باقر الصدر
النجف الأشرف 20 رجب 1399 هـ
النداء الثانى
وكان هذا النداء بتاريخ 10 شعبان 1399 هـ وقد تضمن مواساة الشعب العراقى على ما يلاقيه من محن وأذى واذلال وقتل وارهاب ويؤكد الشهيد فى ندائه على ان الجماهير هى الأقوى والنصر لها وأن راية الاسلام هى العليا ، كما تضمن كذلك الاعلان للشعب العراقى أنه قد صمم على الشهادة ، وهو أهم ما سمعه شعبه منه ، كما أفتى بوجوب العمل على ادانة الجهاز والنظام الحاكم فى العراق وعلى الجميع داخل وخارج العراق مقاومة هذا النظام ولو كلف ذلك الحياة 0
نص النداء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين 0 يا شعب العراق العزيز ، يا جماهير العراق المسلمة التى غضبت لدينها ، لكرامتها ولحريتها وعزتها ولكل ما آمنت به من قيم ومثل 0
أيها الشعب العظيم ، انك تتعرض اليوم لمحنة هائلة على يد السفاكين والجزارين الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير بعد أن قيدوها بسلاسل من الحديد ومن الرعب ، وخيل للسفاكين أنهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزة والكرامة وجردوها من صلتها بعقيدتها وبدينها وبربها العظيم ، لكى يحولوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبى الى دمى وآلات يحركونها كيف يشاؤون ويزقونها ولاء عفلق وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار بدلا عن ولاء محمد وعلى (صلوات الله عليهما) 0
ولكن الجماهير دائماً هى الأقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة وقد تصبر ولكنها لا تستسلم0 وهكذا فوجىء الطغاة بأن الشعب لايزال ينبض بالحياة وماتزال لديه القدرة على ان يقول كلمته ، وهذا هو الذى جعلهم يبادرون الى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم حملات السجن والاعتقال والتعذيب والاعدام وفى طليعتهم العلماء والمجاهدون الذين يبلغنى انهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط التعذيب ، وانى فى الوقت الذى أدرك عمق هذه المحنة التى تمر بك يا شعبى وشعب آبائى وأجدادى أؤمن بأن استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة ، لن يزيدك الا صموداً وتصميما على المضى فى هذا الطريق حتى الشهادة أو النصر 0
وأنا أعلن لكم يا أبنائى بأنى صممت على الشهادة ولعل هذا هو آخر ما تسمعونه منى وأن أبواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر ، وما الذ الشهادة التى قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انها حسنة لا تضر معها سيئة والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت فعلى كل مسلم فى العراق وعلى كل عراقى فى خارج العراق ، ان يعمل كل ما بوسعه ولو كلفه ذلك حياته من أجل ادمة الجهاد والنضال لازالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وتحريره من العصابة اللاانسانية وتوفير حكم صالح فذ شريف طيب يقوم على أساس الاسلام ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
محمد باقر الصدر " شعبان 1399 هـ "
* * *
النداء الثالث والأخير
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه الميامين 0
يا شعبى العراقى العزيز 00 أيها الشعب العظيم 00 أنى أخاطبك فى هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية بكل فئاتك وطوائفك بعربك ، وأكرادك ، بسنتك وشيعتك ، لأن المحنة هى محنة كل الشعب العراقى فيجب ان يكون الموقف الجهادى والرد البطولى والتلاحم النضالى هو واقع كل الشعب العراقى ، وانى منذ عرفت وجودى ومسئوليتى فى هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعى والسنى على السواء ، ومن أجل الدفاع عن العقيدة التى تهمهم جميعاً ولم أعش بفكرى وكيانى الا للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع 0
فأنا معك يا أخى وولدى السنى بقدر ما أنا معك يا أخى وولدى الشيعى ، انا معكما بقدر ما أنتما مع الاسلام وبقدر ما تحملون هذا المشعل العظيم لانقاذ العراق من كابوس التسلط والاضطهاد ، ان الطاغوت وأولياءه يحاولون ان يوحوا الى أبنائنا البررة من السنة ان المسألة مسألة شيعة وسنة ، وليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك ، وأريد ان أقولها لكم يا أبناء على والحسين وأبناء أبى بكر وعمر ان المعركة ليست بين الشيعة والحكم السنى ، ان الحكم السنى الذى مثله الخلفاء الراشدون والذى كان يقوم على أساس (الاسلام والعدل) حمل الامام على السيف للدفاع عنه ، إذ حارب جنديا فى حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول أبى بكر وكلنا نحارب اليوم دفاعاً عن راية الاسلام وتحت راية الاسلام مهما كان لونها المذهبى ، إن الحكم السنى الذى كان يحمل راية الاسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله ، وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الاسلام ومن أجل حماية الحكم السنى الذى كان يقوم على أساس الاسلام (*)، ان الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً وان كانت الفئة المتسلطة تنتسب تأريخياً الى التسنن فإن الحكم السنى لا يعنى حكم شخص ولد من أبوين سنيين بل يعنى حكم أبى بكر وعمر الذى تحداه طواغيت الحكم فى العراق اليوم فى كل تصرفاتهم وهم ينتهكون حرمتهم للاسلام وحرمة على وعمر معاً فى كل يوم وفى كل خطوة من خطواتهم الاجرامية 0
* ألا ترون يا أولادى واخوانى انهم أسقطوا الشعائر الدينية التى دافع عنها على وعمر معاً ؟ ألا ترون أنهم ملئوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكل وسائل المجون والفساد التى حاربها على وعمر معاً ؟ ألا ترون انهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب ؟ ويزدادون يوما بعد يوم حقدا على الشعب وتفننا فى امتهان كرامته والانفصال عنه والاعتصام ضده فى قصورهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات بينما كان على وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفى وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم ، ألا ترون ان احتكار هؤلاء للسلطة احتكاراً عشائرياً يضفون عليه طابع الحزب زوراًَ وبهتاناً ؟ وسد هؤلاء أبواب التقدم أمام كل جماهير الشعب سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم الذل والخضوع وباعوا كرامتهم وتحولوا الى عبيد أذلاء ، ان هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربى الاشتراكى حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدى الى عصابة تفرض الانضمام اليه والانتساب اليها بالقوة ؟ انهم احسوا بالخوف حتى من الحزب نفسه الذى يدعون تمثيله ، انهم أحسوا بالخوف منه اذا بقى حزبا حقيقيا له قواعده التى تبناها ، ولهذا أرادوا ان يهدموا قواعده بتحويله الى تجمع يقوم على أساس الاكراه والتعذيب ليفقد أى مضمون حقيقى له ، يا اخوانى وأبنائى من أبناء الموصل والبصرة من أبناء بغداد وكربلاء والنجف من أبناء سامراء والكاظمية 00 من ابناء العمارة والكوت والسليمانية 00 من أبناء العراق فى كل مكان : انى أعاهدكم بأنى لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً وانكم هدفى فى الحاضر والمستقبل فلتتوحد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الاسلام ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة وبناء عراق حر كريم تحكمه عدالة الاسلام وتسوده كرامة الانسان ، ويشعر فيه المواطنون جميعا على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم اخوة يساهمون جميعا فى قيادة بلدهم وبناء وطنهم وتحقيق مثلهم الاسلامية العليا المستمدة من رسالتنا الاسلامية وفجر تاريخنا العظيم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 0
(*)  هذه الرؤية المبكرة والمتجاوزة للخلافات المذهبية المقيتة بين الشيعة والسنة ، تحتاج من أبناء المذهبين اليوم الى تأملها والعمل على هداها ، فهى الرد العملى على ما يروجه المرجفون وعملاء الغرب من فرقة مصطنعة بين السنة والشيعة ، خاصة بعد سقوط النظام الصدامى فى العراق 00 لنتأملها جيداً 00 ولنعمل بها 0 (المؤلف)

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة