معالم مرجعية نموذجية ..
قراءة أولية في رؤى و سلوك السيد الشهيد الصدر (قدّه)
كتابات - أحمد أبو زيد


لا يخفى على أحد خطورةُ الدور الذي لعبته المرجعية الدينية الشيعية على مرّ العصور في الحفاظ على عنصر ثبات الأمة على مبادئها و هي تخوض غمار الحياة و تجاربَها المرّة. و قد حدّثنا التاريخ عن العديد من النوادر الذين تألّق نجمهم في سمائه و هم يخطّون بفكرهم الحيّ و سلوكهم الصادق أروعَ لوحات الذوبانِ في المبدأ و الإخلاصِ للعقيدة. و من أسطع و أجلى الأرقام التي تطالعنا في قرننا المنصرم شخصيةُ الفقيد الرباني آية الوعي و الع لم و العمل الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدّه).(1)
و سنكون بريئين من تهمة المبالغة إذا قلنا بندرة المجالات التي لم تطلها إبداعاتُ و تجديداتُ هذا الراحل الغريب على الصعيدين الحوزيّ(2)و العالمي.. إلا أننا سنحاول في هذه المقالة إن شاء الله تعالى الاكتفاءَ بالوقوف –و لو استشرافاً- على معالم ما رآه و سلكه (قدّه) إلى آخر يوم في حياته في ما يتعلّق بموضوع المرجعيّة الدينيّة و "جوانبِ التجديد" فيها و قراءتها بـ"نظرة فاحصة" شيئاً ما –و إن كانت أوّلية- بعد أن كان قد أراد لها التحرّرَ من إطارها الضيّق لتبلغ مرحلةَ "النموذجيّة". و لم نملك و نحن نستطلع معالم هذه "المرجعية النموذجية" التي عاجلتها يد المنون، إلا التعجّب مما ذهب إليه بعض علمائنا المعاصرين في دعواه عدول السيد الشهيد (قدّه) عن طرحه نظرياً و عملياً و اقترابه من نمط مرجعية السلف..(3).حيث أعملنا "حساب الاحتمالات" في القرائن المتوفرة كلّها و لم يحالفنا الحظّ في التوفّر على مبرّر منطقي لهذه الدعوى بل أفضى هذا الحساب في مرحلة "التوالد الذاتي" (الذووي) إلى يقين بالبطلان. أما عدم خروج نظرياته (قدّه) إلى عالم الفعلية بشكل كامل فلوجود المانع لا انتفاءِ المقتضي.
طابع البحث:
بعد أن أضفنا إلى مصادرنا النظرية (من قبيل "أطروحة المرجعية الموضوعية أو الصالحة" (4)من "المباحث" و "المحنة" و "الإسلام يقود الحياة" و غيرها) مصدراً عملياً متمثلاً بسيرته الذاتية، كان الحديث عن معالم المرجعيّة عند الشهيد الصدر (قدّه) مبنياً على رؤاه النظرية من ناحية و سلوكه العملي من ناحية أخرى. و قد دمجنا بينهما في معظم الأحيان فخرج البحث مرصّعاً بشواهد حيّة أضفت إليه نفحاتٍ طفيفةً من روح ذلك العظيم.
المرجعية و مراحلها في الحوزة العلميّة:
قسّم (قدّه) في محنته الأولى (1389) المراحل التي مرّت بها الحوزة العلمية إلى أربع مراحل: مرحلة الاتصال الفردي، مرحلة الجهاز المرجعي، مرحلة التمركز و الاستقطاب و مرحلة القيادة.
أما فيما يتعلّق بمفهوم "المرجعية"، فأبرز ما يطالعنا في هذا المجال و يسمح حجم المقالة بذكره هو توسعته (قدّه) لهذا المفهوم متحرّراً من تأطيره بالمجال الضيّق للإفتاء ليطال كافة أبعاد الحياة، و عدمُ تفكيكه بين المرجعية و واقع الحياة المعاش، و كأنه – أي الواقع- مأخوذ في مفهومها لأنها في الحقيقة ليست إلا مرجعيّة للواقع نفسه و بكافة أبعاده و ظروفه. و نشير على نحو الاختصار إلى أبرز أهداف المرجعية التي يراها (قدّه) في "أطروحته" و هي:
1- نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين.
2- إيجاد تيّار فكريّ واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكّد بأنّ الإسلام نظام كامل لشتى جوانب الحياة.
3- إشباع الحياة الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلامي.
4- القيمومة على العمل الإسلامي و الإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام.
5- إعطاء مراكز العالِمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأمة بتبني مصالحها و الاهتمام بقضايا الناس..
مشكلات تعصف بالحوزة:
كان واضحاً لديه (قدّه) وجود العديد من المشكلات التي عصفت بالكيان الحوزي و عملت على تفتيته و تضعيفه، فراح يمعن النظر في طبيعتها لتحديد مناشئها و مواطن الخلل التي أدت إلى ظهورها. و قد تناول (قدّه) في محنته الثانية عواملَ الأرضيّة النفسيّة التي عاشتها الحوزة و التي كانت و لا تزال تساهم في خلق المشكلات و تكوين المحن. إلا أنّنا سوف نعمّم البحث مضيفين إلى ما ذكر العديد من المشكلات، منطلقين تارةً من تحديده (قدّه) لمفهوم المرجع يّة و أخرى من مجمل ما كتبه و قاله و سلكه في هذا المجال، و ثالثة مستكشفين بعض المشكلات على نحو "الإنّية" انطلاقاً من بعض العلاجات التي كان (قدّه) قد وضعها. و سنحاول قدر الإمكان أن نردفها بالحلول الناجعة التي ارتآها (قدّه).
1- المشكلة الأولى: عدم الشعور التفصيلي بالله تعالى: يرى السيد الشهيد (قدّه) أنه عادةً ما يكون دافع الطالب لترك الوطن و الدخول في الحوزة هو الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالى لـ"يتعلّم على يد ورثة الأنبياء ثم يواصل خط الأنبياء"، لكن سرعان ما تضعف تدريجياً جذوة شعوره بالاتصال بالله تعالى ليعاني بعد فترة من فراغ في ضميره و وجدانه، ثمّ لينقلب ذلك الشعور إلى شعور مبهم. و يرجع السيد الشهيد (قدّه) ذلك إلى أن الطالب في الحوزة يعيش حياة مدرسيّة خالصة، تفتقد إلى مؤهلات تنمية الضمير و الوجدان نظرياً و عملياً. أما نظرياً فلأنّ مطالب الفقه و الأصول (و نضيف إليها المواد المدرسيّة كلّها حتى دروس العرفان و الأخلاق على تقدير وجودها) تملأ عقل الإنسان لا ضميره و وجدانه. و أما عملياً فلأنّه لا يعيش تجربة الاتصال بالله تعالى بل كثيراً ما يعيش المبعّدات عن الله تعالى، حتى إذا أصبح مهيّئ اً من الناحية العلمية لتجسيد الشعور التفصيلي بالله تعالى، يكون بحسب الواقع قد انقلب عنده حتى ذاك الشعور المبهم ليصبح شعوراً سلبياً في علاقته مع الله تعالى.
2- المشكلة الثانية: فقدان أخلاقية التضحية من أجل المصلحة العامة: يرى السيد الشهيد (قدّه) في "محنته" أنّنا مدينون للإسلام بوجودنا و كلّ ما نملك، فعلينا أن نصبر على المحن كي لا يتفتّت. و يرى (قدّه) أنّ أبرز العوامل التي تؤدي إلى هدر طاقات الحوزة (بنسبة 80% بحسب تعبيره) و استفراغها في معارك داخلية ضمن إطار يحكم عليه بالفناء يوماً بعد ي وم، هو تحكّم عقليّة النـزعة الفردية و الخاصة بأفراد الحوزة، و عدم تعاملهم مع هذا الكيان على أساس المصلحة العامة. و يرى (قدّه) أنّ جو الحوزة نفسَه يساعد على تفعيل مثل هذه العقليّة و إنمائها في اتجاهها السلبيّ، لأنّ جوّ الحوزة ابتداءً هو جوٌّ غير منظم لا بدّ فيه لكل إنسان من أن يبني نفسه بنفسه..
3- المشكلة الثالثة: "النـزعة الاستصحابية" و "فقدان أساليب العمل": بعد أن يؤكّد السيد الشهيد (قدّه) على أنّ الصيغة النظرية للإسلام صيغة ثابتة فوق التغيّر و التجدّد، بل إنها هي التي تحكم عوامل التغيّر و ا لتجدّد كلَّها، يرى أننا تعاملنا مع الواقع بذهنيّة أصوليّة محضة، حيث طبّقنا على أساليب العمل ما درسناه في مبحث "الاستصحاب" من أصول الفقه. و يرى (قدّه) أنّ التعامل بهذه النـزعة الاستصحابية جعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤوليّتنا، لأنّ مؤدّى هذا التعامل هو التعامل مع أمّة ميْتة انتهت بظروفها و ملابساتها، علاوة على أنّ التأثير الفعلي على الأمة الحيّة سيكون تأثيراً سلبياً.. و يؤكد (قدّه) على أنّ موضوع عملنا هو الإنسان الموجود في عالم الخارج و الذي يتطوّر و تتغيّر ظروفه و ملابساته، فعلينا أن نكيّف أساليب العمل انسج اماً مع ظروفه. و يركّز (قدّه) على هذه المسألة مظهراً جدّية تامّةً، مرتفعاً بها ليجعلها من أولويّات طالب الحوزة قائلاً بأنّ علينا أن نفكّر بأساليب العمل وفق ظروف الإنسان الخارجيّ تماماً كما نفكّر في مباحث "الترتّب" و "اجتماع الأمر و النهي" في باب أصول الفقه. و ما ذلك إلا لأنّنا لا نتعلّم كي نجمّد العلم في رؤوسنا و لسنا عالمين لنعلم، بل لنعمل. لكنّ سيدنا الشهيد (قدّه) يقرّ بصعوبة طرحه هذا، و يعترف بأنّ الإجابة عن مسألة أصوليّة أسهل لدينا من الإجابة عن هذه الأسئلة، و ما ذلك إلا لأنّنا من ناحية تمرّسنا في الأ صول و لم نولِ أهمية لما يتعلّق بالعالم الخارجي، و من ناحية أخرى فإنّ هذه المهمّة مهمّة دقيقة و مرتبطة بخبرة الإنسان و تجاربه. و يعود (قدّه) إلى أداة نقد الذات، منتفضاً على واقع الخمول السائد في أوساطنا، و يتعرض (قدّه) منذ 30 سنة إلى ما نعاني منه اليوم بشكل واضح، و هو ظاهرة إفلاس الحوزة اجتماعياً و ظاهرة الحقد و العداء التي يظهرها الناس تجاهها. و السيد الشهيد (قدّه)، و إن كان لا يلقي بكامل المسؤولية على عاتق الحوزة، إلا أنه يصرّح بأنّها جريمة الحوزة قبل أن تكون جريمةَ الناس، لأنّ الحوزة لم تتعامل مع الناس الخارجي ين، و إنما تعاملت مع أجدادهم. و من الواضح أنّ الشريعة ربطت مصير العالَم بمصير العالِم لا العكس.
4- المشكلة الرابعة: الفراغ بين المرجعية و الطلبة: لا شكّ باتجاه العلاقة بين طلبة العلوم الدينية و المرجع نحو الفتور فالجفاء في حال اقتصار دور الأخير على إعطاء درسه الفقهي و الأصولي و ممارسته لبعض ما لا يخرج غالباً عن حد "الروتينيّة". و مهما اتّسمت نظرة الطالب إلى المرجعية بالإيجابية، فإنّه لن يعدو كونه إنساناً ذا مشاعر و أحاسيس، يترقّب من أيّ طرف آخر أن يبدي له اهتماماً بالقدر الكافي معزّزاً له شعوره بدوره في الحياة كمؤدٍّ لدور الأنبياء. و قد أولى السيد الشهيد (قدّه) هذا الجانب اهتماماً بالغاً لإدراكه الآثار السلبية التي يخلفها الفراغ المرتقب.. و كان (قدّه) يرى لزوم الصعود بالحوزة إلى مرحلة تؤهّلها لإدارة العالم كلّه بعد أن لم يكن من الممكن لأيّ كيان آخر تولّي مهمّة إصلاح هذا العالم. غير أنّ وضع الحوزة آنذاك – و كذلك اليوم- لم يكن يخولّها ذلك، إذ "بدت المؤسسة الدينية في النجف متخشبة جبانة إلى حدّ أنها كانت تجهض كلّ محاولة و لو بسيطة و سطحية لتحديث بعض الجوانب أو المظاهر في حياة المؤسسة المذك ورة" (5) و هنا يلوح للسيد الشهيد (قدّه) دورٌ في الأفق و هو في مقتبل عقده الثالث، فيشمّر عن ساعد العمل مؤسّساً من الصفر، لاعتقاده بـ"ضرورة الفكر أولاً" لأنّه الضامن الوحيد للديمومة و الاستمرار. و قد دفع (قدّه) ثمن تصدّيه هذا باهظاً، متجشّماً بالغَ العناء متحمّلاً الكثير من الأذى من الداخل و الخارج على حدّ سواء، غير أنّه مضى متابعاً مطمئنّاً صابراً في الله و لله، يزيده اندفاعاً صدى ما كان يلقاه فكره في مختلف أرجاء المعمورة، (6)إلى أن شاء الله تعالى أن يريحه من غربته المرّة مختتماً حياته المفعمة بالعطاء شهيد اً..
و نعود أدراجنا للوقوف على أبرز الحلول التي يمكن تلمسها من رؤاه و سلوكه:
1- التربية و التواصل العاطفي: يرى السيد الشهيد (قدّه) أنّ العلاقة بين المرجع و طلبة العلوم أعمق من أن تتأطّر بالحياة المدرسية الخالصة، لأنهم جميعاً أعضاء منظومة عقائديّة واحدة و تجمعهم مع "تنوّع أدوارهم وحدة الهدف". و تأسيساً عليه نجد أنه كان متميّزاً إلى ما يقرب من حدّ التفرّد في علاقته مع الطلاب، حتى قد تخرج هذه العلاقة في الدائرة الخاصة لطلابه عن حدّ الاعتياد. فهو بالدرجة الأولى أبوهم الذي يتابع دروس هم باستمرار، و يتفقّد نشاطاتِهم العلميةَ، و لا يغيب عن باله السؤالُ عن أحوالهم و إن حالت بينهم نوائب الدهر.. و كان يوكل إليهم مسؤولية التصدّي لبعض الأفكار ليشعرهم بدورهم الرساليّ، فيكتب ما يراه صالحاً للردّ لينشر باسمهم.. و لم يقتصر دوره على ذلك، بل خاض في مشكلاتهم كلّها، الخاصة منها و غيرها..
2- تلبية حاجاتهم المعيشيّة: أمّا على الصعيد الطلابي عموماً، فلم يكن (قدّه) يتعامل معهم بأقل من طلابه المقربين إلا بحكم ما يمليه عليه القرب بطبيعته. و كان (قدّه) يرى ضرورة تفرّغ الطلاب للدرس و الت حصيل إلى جانب مواكبتهم لأوضاع المجتمع، فسعى بجهود جبّارة إلى تأمين ما يلزمهم لذلك، و كانت أولى الخطوات محاولة تأمين طعام جاهز يصل إلى المدرسة [لكنه توقف](7) و غسّالة كهربائية، و كانت هذه الأعمال تعتبر غريبة في وقتها..
3- تنظيم أوضاع الدراسة: "يكفي للدلالة على عدم واقعية النظام الدراسي القائم فعلاً أنه نظام لا يفشل فيه طالب و لا يرسب فيه طالب، و أنّ جميع المنتسبين إليه يتخرّجون علماء".(8).و بحسب تعبير السيد الشهيد (قدّه) فإنّ "جرّ الوجوديّة إلى التعليم النجفي يفتقر إلى معرفة الجار و ال مجرور.(9) و علاجاً لهذه المشكلة رأى (قدّه) في "الأطروحة" إنشاء " لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلمية، و هي تمارس تنظيم دراسة ما قبل (الخارج) و الإشراف على دراسات الخارج، و تحدد المواد الدراسية، و تضع الكتب الدراسية، و تجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية (الحوزيّة) بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعية الصالحة و تستحصل معلومات عن الإنتسابات الجغرافية للطلبة و تسعى في تكميل الفراغات و تنمية العدد". و قد عمد (قدّه) إلى تنظيم هذه الأوضاع "عن طريق استقراء للعلماء و الأساتذة مع ا لتعرّف على قدراتهم و عددهم، و هذا يوفّر للمرجع الإشرافَ على الدراسة –على الأقلّ- و تنظيمَها فيلجأ الطلاب إلى الهيئة التي أوكلت إليها [مهمة] القيام بعملية الاستقراء هذه لتعيّن لهم الأستاذ المناسب و ترشدَهم إليه، كما أنها تعينهم على اختيار المناهج الدراسية التي تعود بمزيد من الفائدة عليهم" (10) وأمر (قدّه) "بعض تلامذته بتدريس أي مادة علميّة حتى لو كانت أقلّ بكثير من مستواهم العلمي بل كان يهتمّ شخصياً بمراجعة بعض الطلبة له بخصوص تحصيل أساتذة لهم" (11) كما و أعلن (قدّه) عن:"وضع زيادة في الراتب بنسبة خمسين بالمائة و (ربط) الزيادة بامتحان يتكرّر و توضع له سجلات و يلاحظ في كل امتحان السعي المستمرّ بين الامتحانين و يزوّد الطالب بشهادة النجاح في الامتحان و سيكون هذا بتطويره مدخلاً لإصلاح الأوضاع الدراسيّة في الحوزة و حفظ الرتب فيها.(12)
4- إيجاد المراكز العلمية: كان (قدّه) يعمل على تربية جيل متميّز من الطلاب يمكن الاعتماد عليهم في نشر الإسلام عالمياً. يقول في رسالة خطية:"..و إني منذ مدة أفكر في أن من المهمّ جداً تربيةَ جملة و التركيز عليهم ليكون بعضهم من الأساتذة المحققين في الداخل و بعضهم من المبلغين على مستوى العصر في أرجاء العالم..". و رأى (قدّه) في "أطروحته" إنشاء "لجنة للإنتاج العلمي، (و) وظائفها إيجاد دوائر علمية لممارسة البحوث و متابعة سيرها و الإشراف على الإنتاج الحوزوي (الحوزيّ) الصالح و تشجيعه و متابعة الفكر العالمي بما يتصل بالإسلام و التوافر على إصدار شيء كمجلة أو غيرها و التفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة أو التعاون معها إذا كانت في الخارج".
5- تدوين المتون الدراسية: لعلّ من أجلى مظاهر اهتماماته (قدّه) بالطلاب تصدّيَه لتدوين الكتب الدراسيّة. و كان (قدّه) يقول بأ نه لا بدّ في مثل هذه الأمور من التعامل بعقلية اجتماعية لا رياضية، و أنه لا يمكننا في مقام الاقتناع بتغيير كتابٍ دراسيٍ إقامةُ برهان لزوم اجتماع النقيضين لو لم يدرّس الكتابُ الجديد، لأنّ هذا الأمر يتعلّق بالحسّ الاجتماعي. و كان (قدّه) قد أمدّ قديماً "كلية أصول الدين" بمحاضرات في "علوم القرآن" (1964) و الحلقة الأولى من "دروس تمهيدية في علم الأصول" أي "المعالم الجديدة للأصول" (1965) الذي تبلور فيما بعد ليخرج باسم "دروس في علم الأصول" أو "الحلقات" (1977) للحلول مكان الكتب الدراسية المتداولة و التي سجّل عليها (قدّه) في "مقدّمة الحلقات" العديدَ من الملاحظات أهمّها ما يتعلّق بالأسلوب و المنهج. و بعد انتشار "الحلقات" عقد (قدّه) النية على تدوين كتاب دراسي في "الفقه" على وزان "الحلقات" حيث يكتب في رسالة خطية:"..الأمر الذي جعلني أفكر –على الخط الطويل- في كتابة مشروع مماثل لما يدرّس من الفقه في السطوح أيضاً" كما وكان (قده) "مصمماً على إيجاد درس في كتاب المكاسب بشكل مقارن بالفقه الغربي.(13). و باشر (قدّه) بتدوين كتاب دراسي حديثٍ في أصول الدين يكتب فيه:"..و أرجو أن أتوفّق إذا ساعد حالي و أعانت صحتي إلى كتابة كتاب دراسي في أصو ل الدين فيه المقدمة المعهودة للطبعة الثانية من الفتاوى الواضحة بقدر كبير من أبحاث فلسفتنا [1959] بجزء معتد به من نظريتنا في الأسس المنطقية للإستقراء، لكي يكون كتاباً دراسياً حديثاً في أصول الدين إن شاء الله تعالى". و قد حوى هذا الكتاب ذخائر المطالب على ما يبدو حيث يكتب فيه (قدّه) :" لأني أشعر بأنّ ما تجمّع لديّ من المطالب في ذلك الحقل إذا لم أوفق إلى تسجيله فعلاً فقد لا يسجّل بعد ذلك إطلاقاً..". و كان (قدّه) ينوي تداولَه كمتن دراسي في الحوزة مواكبةً منها للمسيرة الفكرية المعاصرة، إلا أنّ السلطة صادرته عند اعتقاله (قدّه). و ينقل عنه أحد طلابه أنه كان يتحسّر على هجر الطلاب لكتاب "الأسس المنطقية للإستقراء" (1972) و يضيف بأنه (قدّه) كان يرغب في أن يتحوّلوا من دراسة "حاشية الملا عبدالله" [مثالاً] إلى دراسة "الأسس" و تحقيقه و مناقشته.كما و جرى الحديث في رسالة له مع أحد طلابه المقرّبين حول كتاب في الأخلاق يقول فيه:"..و أما بالنسبة إلى كتاب الأخلاق فأنا أرى أن الحد الأدنى من التعبير السليم إذا كان متوفراً فيه و أن الجانب العلمي للأخلاق إذا كان متضمناً فيه فهو كافٍ ليكون كتاباً دراسياً أو شبه دراسي أو مرجعاً للطلب ة أنفسِهم، فإن طلاب الحوزة أنفسَهم بحاجة إلى أخلاق علمية لا وعظية فقط تعمّق تصوراتهم و تعمق (تغني) فكرهم من هذه الناحية..".
و إذا ارتفعنا إلى مستويات أعلى وجدنا أنّه كان يرى ضرورةَ تنظيم تطوّر علم "أصول الفقه"، متخوّفاً من ظاهرة طغيانه على علم الفقه. و على الرغم من أنّ له (قدّه) اليدَ الكبرى في توسعة الكثير من مجالات هذا العلم، إلا أنّه قد يندرج ضمن خطواته الحكيمة في إصلاح الحوزة حيث يجب أولاً إثباتُ التفوّق العلمي التقليدي ليكون غطاءً نفسياً للتجديد. و لعلّه (قدّه) كان ينوي تهذيبَ هذا العلم و إرجاعَه إلى نص ابه "منطقاً لعلم الفقه" و ذلك على ضوء ما أسّس له في "الحلقات". و الفهم القاصر لمنهجه (قدّه) في الإصلاح قد يسمح لنا –بعد الاستئذان من المعنيّين- باستقراب عزمه على تدريس "الخارج" على ضوء الحلقات في الدورة الأصولية الثالثة.(14) كما و يمكن أن نفهم من مقدّمته (قدّه) على "بحوث العروة" (1971) عدمَ رضاه عن المنهج التقليديّ المتّبع في إلقاء دروس الخارج الفقهيّة منتظراً توفّر "الظروف الموضوعية" لتطوير المنهج و لغة البحث...و لـ"كم أعطى لهذه الحوزة من روحه! و كم سايرها و داراها لكي يهيئ الظرف المناسب لأداء رسالته" فق د "كانت سياسة الصدر المستنيرِ المجدّدِ أن يساير و يداري النهج التقليدي المسيطر على حوزة النجف الأشرف العلمية، متربصاً الفرصة لكي يثوِّرَ الفقه الإسلامي في مجالاته الفسيحة الأخرى. لكنها كانت الخسارة، فقد اختطفته يد المنون، وهو في ذروة نضجه، ولم تمهله الأقدار لكي يضع حجر الأساس لمشروعه الأساسي في ميدان الدرس الفقهي عامة، هذا الطموح الذي تتطلع إليه الأجيال".(15).
6- إمداد الحوزات: كان (قدّه) يرى ضرورة نشوء حوزات خارج النجف الأشرف تمثّل الحوزة الأمّ و تعدّ لها الكوادر. و راح يمدّ الحوزات الفتيّة التي تمّ إنشاؤها في مختلف المناطق بالمساعدات و الكتب الدراسية اللازمة و غيرها(16)..
7- التواصل مع العلماء: لم يكن فراغ العلماء من دراستهم في النجف تعني له (قدّه) انقطاع علاقتهم مع الحوزة الأم، لأن العلاقة مع الحوزة ذات جذور روحيّة تمتدّ بامتداد الهدف و الخط الإسلامي الذي يجمعهما. فالعلماء ممثلون عن الحوزة الأم في المجتمع هدفاً و سلوكاً.. و من هنا رأى (قدّه) في "أطروحته" إنشاء "لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة و ضبط أسمائهم و أماكنهم و وكالاتهم و تتبع سيرهم و س لوكهم و اتصالاتهم و الاطلاع على النقائص و الحاجات و الفراغات و كتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب أو عند طلب المرجع".
5- المشكلة الخامسة: الفراغ بين المرجعية و الأمة: و الفراغ الحاصل بين المرجعية و الأمّة أشدّ جلاءً من سابقه، بل قد يكون من النادر أن يعرف المقلِّد من شؤون مقلَّده غير اسم رسالته العمليّة أو صورةٍ تم إهداؤها إليه. و التواصل بهذا المقدار لا يفي بتفعيل العلاقة المفترضة بين المرجع و الأمّة للوصول إلى الغاية المنشودة. و من المناسب هنا الحديث عن:
6- المشكلة السادسة: الانعزال عن قضايا المجتمع: المرجع إنسان من لحم و دم و مشاعر تلعب الظروف التي ينشأ و يترعرع فيها دوراً خطيراً في صياغة شخصيته و رسم معالمها و تطلعاتها، و في تحديد وجهة تعامله مع الواقع. و قد يكون من المبالغة في التعبّد و التقديس تجاهل هذا العامل و الإصرار على نفيه. بعد هذا نقول: مما يزلزل أرضيّة العلاقة بين المرجع و الأمّة انعزاله عن قضايا عصره، لأنّ المرجع كما أسلفنا مرجعٌ للواقع بكلّ ظروفه المتقلّبة و ملابساته المتغيّرة. و إذا لم يواكب قضايا عصره في مختلف الصعد، فسيصبح بالتدريج مرجعاً للأمّة الميْتة، ما يضطر ابنتها الحيّة إلى اللجوء إلى طرف أجنبيّ تستلهم منه حلول مشكلاتها، و هو ما صرنا نلمسه في عقر دار الحوزة العلمية..
نحن و الواقع: و نحن في هذا لا نرمي إلى تجاهل ما قدمته الأيادي المعطاء لعلمائنا الأبرار، فإنّ معظم من يمكن إبرازه من السلف كنموذج للتدليل على مواكبة المرجعية لعصرها كان بالفعل كذلك إذا ما أضفناه إلى واقعه آنذاك. إلا أنّ "المواكبة" كما لا يخفى نسبة متقومة بطرفين "بهما امتيازها"، و الحال أنّ أحدهما دائم التطور و هو "الواقع"..و عليه فلا ريب بأنّ من تصدّى للماركسية أيام مجدها مواكبٌ لعصره، خل افاً لمرجعية اليوم التي لن تعدّ كذلك حتى تتصدى –بالمباشرة أو الإيعاز- للموضوعات الفكرية الحيّة و المستجدّة و التي لا تعدّ و لا تحصى.. و مفهوم الواقع الذي يدّعى مواكبتنا له مفهومٌ مشكّك على كل حال، فهو بالنسبة إلى بعضنا قد لا يتعدّى المسجد، فإذا ارتاده كان مواكباً للواقع. و هو الحوزةُ بالنسبة إلى ثانٍ، فإذا اطلع على ما مجرياتها كان كذلك..و هكذا.. و فريق قد لا يعترف بواقع أضيق من أرض الله تعالى بتمامها، و هذا لا يكون مواكباً للواقع في تغيراته إلا بمتابعة شؤون الأرض بمختلف ألوانها و مجالاتها..و يقف على رأس ه ؤلاء سيدُنا القائلُ بـ"نظرية الواقع الأعمّ" (قدّه).. نعم، لا شكّ بأن الشخصيات المؤهلة لذلك نادراً ما يجود بها الزمن..
خطوط عامة للحل:
ورد في "المباحث" أن السيد الشهيد (قدّه) كان قد أنشأ "في بيته ضمن العشرة الأخيرة من سني عمر ه المبارك، مجلسا أسبوعيّا كان يضمّ عينة طلاّبه، و كان يتداول معهم البحث في مختلف الأمور الاجتماعية و القضايا الأساسية، و كانت تطرح في هذه الجلسات الكثير من مشاكل المسلمين في شتى أرجاء العالم، و كان يبرز لمن يحضر هذه الجلسات مدى تبنّي (الأستاذ) الشّهيد لتلبية حاجات المسلمين في كل مكان من البلاد الإسلامية و غيرها، و تفكيرُِه الدائب في كل ما ينفع الإسلام و المسلمين، و تخطيطُِه الحكيم للحوزات العلمية، و لملأ الشواغر العلمائية في كل بلد يوجد فيه تجمّع إسلامي، و لإرشاد العاملين ضدّ الكفر و الطّاغوت في جميع البل دان، و تنشيط الحيويّة في المسلمين جميعاً، و ما إلى ذلك". هذا و يمكننا –حلاً للمشكلتين معاً- استلهام عدة حلول من رؤاه (قدّه) و سلوكه:
1- التعامل بعقلية اجتماعية لا رياضية: من أهمّ ما ينصح به (قدّه) في مقام العلاج هو أنّنا إذا عزمنا على الدخول في المجتمع لنتعامل مع أمّة اليوم، فعلينا أن نتحرّر من العقليّة الأصولية و الرياضيّة التي نتعامل بها داخل الحوزة مع مباحث "الترتّب"، و لننـزل إلى المجتمع بعقليّة مرنة و اجتماعية قائمة على أساس الحدس الاجتماعي المتكوّن من الخبرة و التجربة و الاطلاع ع لى ظروف العالم و ملابساته.
2- "التكيّف مع لغة الأمة": بعد الفراغ من كون اللغة وسيلةً من وسائل التواصل بين المرجعية و الأمّة، كان لا بدّ للمرجعية في مقام التخاطب مع الأمة في "الرسالة العملية" من اعتماد لغتها، بعد أن كانت الرسالة العملية هي "الواجهة النظرية للمرجعية أمام الأمة" (17).و كان من غير الممكن عملياً إلزامُ الأمّة باعتماد اللغة الخاصّة للدائرة الحوزيّة، لكونه نحواً من أنحاء "التكليف بما لا يطاق". و "اللغة المستعملة تاريخياً في الرسائل العملية كانت تتفق مع ظروف الأمة السابقة إذ ك ان قرّاء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقهين لأن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة لم تكن متعلمة، وأما اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ إذا كتب بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث فكان لابد للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلدين وفقاً لذلك".(18)
و قد نظر السيد الشهيد (قدّه) في مبرّرات إبقاء الرسالة العملية على ما هي عليه، حيث يواجه المكلّف تعقيداً لفظياً ممزوجاً أحياناً بخلل في التعبير العربي السليم، و غموضاً في تشخيص الاح تياطات قد يعجز عنه فطاحل العلماء، و تفنّناً في التعبير لمجرد الإشارة إلى نكات في مجال الاستنباط مع خلوّه من أي مدلول عملي للمكلّف إضافة إلى تشويشه عليه، و تنقّلاً غامضاً و مربكاً بين الجواز و عدمه و أولوية الترك و عدمها و قرب الوجه و بعده.. و إذا بالمكلّف قد أصيب بدوار أليم.. فلم يصمد أمام سيّد "التزاحم الحفظي" (قدّه) الحريصِ على سلامة مقلّديه -في مقام تزاحم الملاكات و تقديم الأهمّ على المهمّ منها- أيٌّ من هذه المبررات، و ذلك بعد تحديده للغرض من وراء طرح الرسالة العمليّة، و هو تعريف الأمة على أحكامها الشرعيّة و الحرص على تطبيقها لها لا إرهاقها في تحصيلها. و لما كان تحديد أسلوب الرسالة العمليّة مرتبطاً بتحديد أساليب العمل الاجتماعي، فقد رأى (قدّه) اعتماد أسلوب جديد لم تعهده الأوساط من قبل، محاولاً فيه تفادي المشكلات التي تعاني منها الرسائل العملية التقليديّة. و كانت الخطوة الأولى "موجز أحكام الحج" (1395هـ) حيث سجّل (قدّه) في المقدّمة عدة ملاحظات في غاية اللطافة تجدر مراجعتها..أما في الخطوة الثانية، فلم يكتف (قدّه) بكتابة رسالته النموذجية على أساس نظري بحت، بل عمد قبل ذلك -و بعد استعفاء الشيخ محمد جواد مغنية (ره)- إلى عرض بعض النماذج التجريبيّة على مختلف الشرائح الاجتماعية، و كان له تركيز خاص على طلاب الصفوف المتوسّطة..
و بعد أن تحدّدت معالم "الرسالة العملية النموذجية"، يتحرّك القلم الشريف الذي طالما خاطب صاحب الكفاية و العراقي و الأصفهاني (قدّهم) في تعقيداتهم، و الذي طالما هابته أخطر التيارات الفكرية، نازلاً بإعجاز و وقار من عرشه الفكري العالي ليخاطب عامة الناس و بمستوياتهم الفكرية المختلفة.. و ولدت "الفتاوى الواضحة" (1396هـ) التي جسّد فيها سيدنا الشهيد (قدّه) "جانباً من جوانب التجديد في المرجعية".(19).مقدّماً لها في الطبعة الثانية بـ"موجز في أصول الدين" لشدّ المكلّف إلى "الفقه و أحكامه شداً مبتنياً على الوعي التام". ثم اختتمها بـ"نظرة عامة في العبادات" ليرى المكلّف بعد مروره على العبادات "ما يبيّن له مضمون العبادة و حاجاته الثابتة إليها".
و نفذت الطبعة الأولى منها في أقلّ من شهر و طبعت بعد ذلك حوالي ستّ مرات خلال ثلاث سنوات، و هذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على "مدى عمق تمسّك الأمّة بعقيدتها و رسوخ صلتها بمرجعيّتها القادرة على التفاهم و التخاطب معها". و من الملفت للنظر رجوع شرائح من أهل السنّة إلى السيد الش هيد (قد ّه) في الفتوى بعد نشر "الفتاوى الواضحة"، فطبعت في مصر، و نفذت بالسرعة نفسها التي نفذت فيها في العراق. "وبعد استشهاده، توقف المشروع الذي لم يصدر عنه سوى جزء واحد ما يتعلق بالعبادات".
أما دعوى المدّعي كونَ تبسيط لغة الرسالة العملية إلغاءً لمهمة العلماء فمدفوعةٌ لأنّ من ضيق الرؤى و الأفق جعلَ فكّ رموز الرسالة العملية واجهةً تحكي عن مهمةِ العلماء و دورِهم خاصةً في عصر التسابق الزمني. ثمّ فليوازَن بين ملاكِ طرح رسالة عمليّة مبسّطة تستفيد منها الأمة قاطبة، و ملاكِ إبقاء الرسالة العملية على تعقيدها و حصرِ فهم ها –على تقدير حصوله دائماً- ضمن الدائرة الحوزيّة الخاصة إرجاعاً للناس إلى العلماء.. فلعلّه يكون واضحاً لزومُ تقديم ملاك الطرح على ملاك العدم، تقديماً للأهمّ على المهمّ.. أما إذا كان الهدف حكّ أدمغة العلماء و تنمية قدراتهم الذهنية، فلتؤلّف لهم "رسالة نظرية" خاصة تتجاوز في صعوبتها اللفظية "كفاية" الشيخ الآخوند (قدّه)..و يكفيك أنّه "لو اقتضى التضادُّ توقّفَ وجودِ الشيء على عدم ضدّه توقّفَ الشيء على عدم مانعه، لاقتضى توقّف عدم الضدّ على وجود الشيء توقّفَ عدم الشـيء على مانعه، بداهية ثبوت المانعية في الطرفين و كون المطاردة من الجانبين، و هو دور واضح.".(20)
3- إنشاء مجالس تبليغية: يقترح (قدّه) على الطلاب تأسيس مجالس تبليغيّة تضمّ خمسة من أبناء المدينة بدل تبذير الوقت في السباحة و إنشاد الشعر، و ينتهي (قدّه) إلى أنه لو قام ألفٌ من الطلاب بذلك لتشكّلت قاعدة شعبية تشعر بأنّ وجود الحوزة مصدر خير لها، و بأنّ الحوزة تفكّر بالناس و تهتّم لهم.
4- وسائل الإعلام: لم تغب عن السيد الشهيد (قدّه) أهمية الوسائل الإعلامية المختلفة في تأدية رسالة المرجعية، فكان (قدّه) يتدخّل شخصياً في قضا يا نشر الكتب و ترجمتها حتى كيفية الطباعة و حجم الحروف لكي تتيّسر الاستفادة منها لأكبر شريحة اجتماعيّة ممكنة. و تعاظمت لديه هذه المسألة –و هو لا يزال في السبعينات- ففكّر في أن تكون "دروس التفسير الموضوعي" منفذاً له إلى الأمة، فجعل يومين من أيام مجلس درسه مجلساً لعامة الناس، و أمر بتسجيل الأشرطة و نشرها لأنّ سماع الأمة لصوت المرجعية يقوّي من جذوة العلاقة بين الجهتين.(21)
ثم تتحوّل المعادلات .. فالصدر (قدّه) في السبعينات حين وضع مخطّطه الشامل لغزو العالم و عبّأ جيشه الفكريّ و كوادره العاملة، كان يبحث عن و سائل إع لاميّة تفي بغرضه. أمّا اليوم فوسائل الإعلام المتكدّسة تبحث عن مرجع كالصدر ينقذها من براثن المفسدين في الأرض.. و يشار هنا إلى أنّه من الطبيعي و بمقتضى "طبيعة الأشياء" أن يكون الردّ على أيّ فعل بحجم ذلك الفعل. فلا يكفي مثلاً في مقام الردّ على شبهات "الكاتب" و التي بثّت من "الجزيرة" أن يكون الردّ ضمن مدرسة علمية في "قم المقدسة"، لأن صوت "الجزيرة" يطرق آذان الملايين من سكان الأرض، بينما لا يتعدّى صوت "قم" و للأسف الشديد آذان بعضٍ من طلابها.. و من باب أنّ الشيء بالشيء يذكر، يقول الشيخ محمد جواد مغنية (ره) في " صفحات الفراغ": "لو كنت المرجع الأعلى في النجف لأنشأت محطة للتلفزيون و محطة للإذاعة و داراً للنشر و مطبعة على أحدث طراز..نعم محطة للتلفزيون و الإذاعة في قلب النجف تؤدّيان رسالة النجف بأحدث الأساليب و أنجحها و تمهّدان السبيل لبلوغ ما تريده النجف من نشر الدين و الإسلام".
5- التواجد الاجتماعي و الوكلاء: كما إنّ من جوانب التواصل المذكور إمداد الأمّة بوكلاء عن المرجعية يمثّلونها علماً و سلوكاً صادقاً و أنموذجاً عملياً يحتذى به. و لا ينبغي بوجه قصر دورهم على مهمة قبض الحقوق الشرعية و إبراز إج ازات الحقوق و الرواية!! و كان (قدّه) يستهدف "إيجاد امتداد أفقي حقيقي للمرجعيّة يجعل منها محورا قويّا تنصب فيه قوى كل ممثلي المرجعية و المنتسبين إليها في العالم، لأن المرجعية حينما تتبنّى أهدافا كبيرة و تمارس عملا تغييرا واعيا في الأمة لا بد أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ لتستعين به في ذلك و تفرض بالتدريج و بشكل و آخر السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثليها في العالم".و قد رأى في "أطروحته" إنشاء لجنتين: الأولى: " لجنة الاتصالات و هي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعية في المناطق الّتي لم تتصل مع المركز، و يدخ ل في مسئوليتها إحصاء المناطق و دراسة إمكانات الاتصال بها و إيجاد سفرة تفقديّة إمّا على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر و ترشيح المناطق التي أصبحت مستعدة لتقبّل العالم و تولي متابعة السير بعد ذلك و يدخل في صلاحيتها الاتصال في الحدود الصحيحة مع المفكرين و العلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي و تزويدهم بالكتب و الاستفادة من المناسبات كفرصة الحج". الثانية: "لجنة رعاية العمل الإسلامي و التعرّف على مصاديقه في العالم الإسلامي و تكوين فكرة عن كل مصداق و بذل النصح و المعونة عند الحاجة".
6- التصدي لحل مشك لات الأمة: و من جوانب التواصل بين المرجعيّة و الأمّة، التصدّي الدائمُ لعلاج مشكلاتها و وضعِ الحلول لها. و لو صحّ الفصل، قيل على نحو الاختصار: إنّ من مهام المرجعيّة سياسيّاً و تنفيذاً لدورها "الشهادي" رعاية شؤون المسلمين قبل تشكّل المجتمع الإسلامي، و النظر في حاجاتهم المنكوبين منهم خاصّةً، و العمل على تحريرهم من براثن المستعمرين. و ينبغي بعد تشكّل المجتمع الإسلامي على يديها إدارتُها له و تنظيمُ أموره و الرقيُّ به تحقيقاً للهدف الإلهي. كما إنّ من مهامها فكريّاً مواكبةَ مسيرة الفكر المعاصر لتشخيص ال شبهات و الردّ عليها بالطرق العلمية الموزونة، بل الانتقال من حالة الدفاع التي تضع الإسلام دائماً في موقع الضعف، إلى حالة الهجومِ و الدعوةِ التي تظهر الإسلام في صورته الحقيقيّة قائداً للأمّة إلى خيرها المكتوب لها.(22) و من المناسب في هذه الظروف أن يكون للمرجع جهازٌ علميٌّ ضخمٌ يضمّ نخبة المتخصّصين كلٌّ في مجاله الخاصّ، لأنّ الجامعيّة الفكريّة في المرجع نادرة التحقّق عادةً..
أما السيد الشهيد (قدّه) فيعتقد بأنّه "ليس لحياة أيّ إنسان قيمة إلاّ بقدر ما يعطي لأمّته من وجوده و حياته و فكره".و قد كان (قدّه) مثا لاً نادراًً لمن أفنى شمعة وجوده من أجل أن تبصر أمته:
أ- فكرياً: أما من جهة الاطّلاع و الشموليّة فقد كان السيّد الشهيد (قدّه) مثالاً رائعاً لـ"الفقيه المثقف"، و كان يقول :"إنّ ما تعارفت عليه الحوزة من الاقتصار على الفقه و الأصول غير صحيح، و يجب عليكم أن تتثقّفوا بمختلف الدراسات الإسلامية". و قد طالت اهتمامُه مختلفَ الحقول المعرفيّة ابتداءً من الفقه الذي كان "كالعجينة في يده" و أصول الفقه الذي تبلورت نظرياته فيه و هو دون سن العشرين، مروراً بالفلسفة التي أبدع فيها باكراً و ابتكر فيها منهج اً معرفياً جديداً، و الاقتصاد الذي كان أوّل من طرق بابه في الساحة الإسلامية بهذا المستوى، و الاجتماع (غير أنّ "مجتمعنا لم يسمح بإخراج مجتمعنا")، و الرياضيّات التي هضم أعقد مسائلها لوحده، و التاريخ الذي سبر غوره بقديمه و حديثه، وصولاً إلى القصص البوليسيّةً((23)و مجلات الأطفال.(24)..
و من جهة التصدّي الفكري تراه (قدّه) من شبابه يرفِد جسر العلاقة بين الحوزة و الأمّة بما يرسّخ في ذهنها بأنّ لديها من يذبّ الخطر عنها. فترى الأمة كلّها قد دانت لفضل الصدر بعد إصداره لـ"فلسفتنا" و "اقتصادنا" تصديّاً للمدّ الأحم ر الذي غطّت سحبه آفاق البلاد.. و لم ينسَ الصدرُ الحكيمُ أن يضيف جهوده إلى الأمّة ليشعرها بأنّ لها وجوداً يرعاه علماؤها، فأبى أن يتصاغر مستخدماً "ياء" المفرد لأنّه "ضمير المتكلمين جميعاً"، و لهذا قال "فلسفتنا" .. "اقتصادنا".. "رسالتنا" و "مجتمعنا".. و قناعة الساحة السنيّة به (قدّه) ألجأت وزارة الأوقاف الكويتية إليه للتنظير لفكرة تأسيس بنك إسلامي.. و لا ينبغي أن يغيب عنّا "المدرسة الإسلامية"، و تصدّيه لبيان "المحنة" أبان خطر التهجير.. إلى حين تصدّيه لكتابة "الإسلام يقود الحياة" أبان قيام الجمهورية الإسلامية في إير ان..
و مما ينبغي التنبيه إليه أنّ السيد الشهيد (قدّه) في الوقت الذي كان يعتقد فيه بـ"ضرورة الفكر أولاً"، قإنّه كان يوازي بين المدى النظري للأمة و بين مداها العملي. فقد كان (قدّه) "يستطيع نسف الفلسفة الأفلاطونية، بل كان قد بدأ بذلك على مستوى الأحاديث والأبحاث الخاصّة بينه وبين بعض طلابه، ولم يبرز ذلك على شكل كتاب لأن قسماً من الناس يؤمنون بالله من خلال هذا الطريق فلم يجد ضرورة أو حاجة تستلزم الخوض في هذا الموضوع".(25) و عندما سئل عن "كتابة بعض الأبحاث الفلسفية (ف) أجاب بأن الإسلام اليوم لا يحتاج إلى أفك ار، إنما يحتاج إلى قائد، و كان ذلك قبل انتصار الإسلام في إيران".(26)
لكن عندما تنضج العقول للغوص العلمي النظري و تتهيّأ الظروف للسير بإزائه عملياً، ينتقل الصدر (قدّه) بجيوشه الفكريّة من مرحلة الدفاع و التصدّي الآني إلى مرحلة الهجوم و القيادة. فبعد فراغه من سياسته الدفاعية في الخمسينات و الستينات، ينتقل في السبعينات إلى تنفيذ مخطّطه الهجومي الضخم، ممهّداً لغزو الفكر الغربي "الرومي" بـ"ثمرة عمره" "الأسس المنطقية للاستقراء" الذي ملأ فيه "فراغاً في الفكر البشري دام ألفي عام" و الذي أوضح خلاله "تهافت نظرية البرهان الأرسطية، كما عالج بنبوغ أخطاء التفكير الغربي في تفسيره لنظرية الاحتمال. و قدم بالتالي نظرية متكاملة في تفسير حساب الاحتمال أقام على أساسها بناء متكاملاً لفهم جديد لنظرية المعرفة البشرية بكامل تفاصيلها. فثار على أرسطو في بيئة تقدس نظرية القياس الارسطية، و هضم قمة الانتاج الغربي واقفاً على نقاط الضعف في تفكير أساتذة المنطق الحديث أمثال راسل، و كينـز، و أعطى للبشرية طرزاً جديداً من التفكير".(27) و قد كان الأسس نواة "دراسة حديثة تفصيلية عن الفلسفة الإسلامية المعمقة مقارناً مع أدق و أحدث نظريات الفكر الفلسفي القديم و المعاصر كان قد شرع في تحريرها في ضوء منطق الاستقراء" كان قد بدأها ببحث دقيق و رائع حول "كيفية تحليل الذهن البشري"، و كان (قدّه) قد عقد العزم على أن يغزو بها العالم فكرياً بعد أن كان "يتحفّظ على كثير من آراء السلف، و رغم تحفظه العام تسرّبت على لسانه الكريم أسرار تطلقها كلمات موجزة، أصغى إليها بعض المقربين من طلابه، تنبئ بتحوّل كبير سيطرأ على نظرية الوجود و أبحاث الميتافيزيقيا، و قد كان السيد الشهيد في خيفة و تردّد و هو على أعتاب طرح هذا التحوّل. و لعلّ العقل لم يبلغ الرشد الكافي لقبول تلك الأفكار فقدّر ربّ العقل لتلك الأفكار أن تلحق في عالمه، و بقيت نفوس مخلصة تتوق إليها، عسى الله أن يحدث بعد ذلك أمراً".(28).. و تتمّ مصادرة هذه الدراسة المقارنة القيّمة .. و يُهجَر كذلك كتاب "الأسس"..و للمرّة الثانية يتوقّف إنفاذ جيش "أسامة"، و كأنّ الأقدار شاءت أن تبقى "الروم" منه في راحة.. و يلقى نبيّ "أسامة" ربّه، و "أسامة" في "جرف المدينة" إلى يومنا هذا ينتظر من ينفض الغبار عنه..
أما اليوم فإنّ ظهور الكثير من الآراء التجديديّة و الشاذة غالباً، لا يرجع بالضرورة إلى خبث أصحابها و لؤمهم على الدين كما يحلو لبعض أوساطنا الحوزيّة أن تصوّره، إذ قد يكونون مخلصين في ما يذهبون إليه.. غاية الأمر أنّ خلوّ الساحة نسبياً ممن يشبع حاجاتها الفكريّةَ من أبناء الحوزة يؤدي إلى ظهور الشبهات..
ب- سياسياً:نقول إجمالاً: إنّ شهادته (قدّه) و إن كانت تكفي دلالة على اهتماماته السياسية، إلا أنه لا بأس بالتذكير بأنّه كان –قديماً- يتابع من لبنان ما ألمّ بالنجف الأشرف حتى استطاع تحريك قضيّة النجف على صعيد العالم العربي.(29) و كان في أوائل الستينات يتابع تحرّكات الإمام الخميني (قدّه) (30)و لم يغب عن اهتماماته كلّ من الساحة الفلسطينية ( 31)و المصرية) (32)و اللبنانية)(33), و كذلك الأفغانية(.(34) و كم أثلج قلبَه الكبيرَ انتصارُ الثورة الإسلامية في إيران.(35). فانصرف إلى سدّ حاجاتها الفكريّة في "الإسلام يقود الحياة" لانشغال المسؤولين الإيرانيين بتركيز دعائم السلطة الجديدة. و تواصل مع الإيرانيين العرب درءاً للفتن و داعياً إياهم للانضواء تحت لواء الإمام الخميني (قدّه)..
7- عالمية الطرح: و في إطار مشروعه العالمي، نجد أن السيد الشهيد (قدّه) كان يعمل على غزو البحار.(36) و قد قام (قدّه) ضمن هذه الرؤية بالعديد من الخطوات لتعزيز هذا ال تطلع، منها:
أ- النـزعة الاجتماعية العالميّة في الفقه: كان السيد الشهيد (قدّه) يعتقد بأنّ "استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة لا بدّ و أن يقوم على أساس النـزعة الاجتماعية و العالميّة في فهم الأحكام من أدلّتها، لا على أساس النـزعة الفرديّة الضيّقة، و أنّ كثيراً من أدلّة الأحكام الشرعيّة لو نظرنا إليها وفق النـزعة الاجتماعيّة العالميّة اختلف فهمنا لها عمّا إذا نظرنا إليها وفق النـزعة الفرديّة الضيّقة".(37) و يرى (قدّه) أنّ "الفقيه بسبب ترسّخ الجانب الفردي من تطبيق النظريّة الإسلاميّة للحياة في ذهنه و اعتياد ه أن ينظر إلى الفرد و مشاكله عَكَسَ موقفه هذا على نظرته إلى الشريعة فاتخذت طابعاً فردياً و أصبح ينظر إلى الشريعة في نطاق الفرد و كأنّ الشريعة ذاتها كانت تعمل في حدود الهدف المنكمش الذي يعمل له الفقيه فحسب و هو الجانب الفردي من تطبيق النظريّة الإسلامية".(38)و لعلّ السيد الشهيد (قدّه) من أبرز المنادين بما يسمّى حالياً بـ"فقه النظريّة".
ب- غزو شرائح الأمة: نكتفي بالقول بأنّ سيدنا الشهيد (قدّه) يرى بأنّ على المرجعيّة أن تنـزل من برجها العالي لمخاطبة الأمة و مشاركتِها مشكلاتها و الالتحامِ ب ها و قيادتِها نحو غايتها. و بعد التذكير بما أسلفناه حول "التكيّف مع لغة الأمة"، نكتفي هنا بالإشارة إلى ما ورد في إحدى رسائله (قدّه) من تكليفه بعض تلامذته "الأكفّاء للتوفّر على تصنيف مجموع روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام إلى أقسام و فعلاً بوشر بالقسم الأول و هو ما نطلق عليه اسم "صحيح أهل البيت" و يشتمل على روايات يتوفّر فيها أولاً صحة السند على جميع المباني الرجاليّة و الأصوليّة المتعارفة ؛ ثانياً عدم شذوذ المتن و عدم كونه مخالفاً للمشهور المتبنّى من علماء الإماميّة ؛ ثالثاً عدم وجود أيّ تحفظّات تجاه ال متن نابعة من الحساسيّة و الذوق الإسلامي أو من وجود بعض المحاذير الإعلاميّة. و هذا القسم سوف يكون غذاءً روحيّاً صافياً و عطاءً تربويّاً متقناً و يمكن تقديمه إلى الأمّة كثقافة مربيّة مضمونة الصحّة إلى حدٍّ كبير و كواجهة فكريّة لمدرسة أهل البيت و طهارتها و نقائها..".
ج- غزو الدوائر المتعلّمة: يؤمن السيد الشهيد (قدّه) بأنّ الحوزة مهما حاولت غزو المجتمع، فستبقى بعض الأوساط و الدوائر الخاصة بمنأى عن متناولها. غير أنّ هذا لم يحدّ من طموحات هذا العالم البصير، فارتأى إيجاد علماء في الفقه و الأص ول والم فاهيم الإسلاميّة في سائر أصناف الناس، ليكون كلٌّ من هؤلاء مصدر إشعاع في صنفه، فليكن في الحوزة أطباء علماء و مهندسون علماء .. و كان يرمي (قدّه) من ذلك الإسراع في تربية علماء يملكون ثقافة عصرية إلى جانب ثقافتهم الحوزويّة (الحوزيّة)، و الارتفاع بالمستوى الاجتماعي للحوزة العلميّة لأنّ وجود عناصر ذات مستوى رفيع في نظر المجتمع كالأطباء و المهندسين، سوف يغيّر من نظرة أولئك الذين يحملون انطباعاً سلبياً عن الحوزة.(39)
د- غزو الساحة السنية: إن عالميّة الطرح قد تعني للكثيرين التنازل عن المبدأ و ا لعقيدة، و لكنّها عنده (قدّه) مستفادة من عالمية الدين الإسلامي نفسِه، و لا تعدو كونها صفة لعملية الدعوة و التبليغ. و كان (قدّه) قد قطع شوطاً كبيراً في هذا المجال، غير أنّه لم يسلم من الانتقاد و الاتهام التعسّفيّين..حتى قد يحاوَل لاحقاً إثبات اتجاهه (قدّه) نحو التسنّن.. و يكفي في مقام دفع هذا التوهّم -الناجم في أفضل محامله عن عدم دراية بحقيقة هدفه و مشروعه (قدّه) - ذكرُ ما يصرّح به نفسُه بعد انتشار "الفتاوى الواضحة" حيث يكتب:"..و قد تحقّقت بدايات بعض الآمال التي أسعى إلى تحقيقها فإنّي كنت أفكّر أنّ المرجعيّ ة النائبة عن الإمام الصادق عليه السلام إذا استطاعت أن تقدّم أحكام الشريعة في إطار فقه أهل البيت إلى العالم بلغة العصر و منهجة العصر و بروح مخلصة فسوف تستطيع أن تقنع عدداً كثيراً من أبناء السنّة بالتقليد للمجتهد الإمامي باعتباره اجتهاداً حياً واضحاً على مستوى العصر و بذلك يكون نائب الإمام الصادق مرجعاً للمسلمين عموماً كما كان الإمام كذلك و يكون هذا التقليد مرحلة للانتقال إلى التشيّع الكامل و هذا ما تحققت بعض بوادره لأنّ بعض المدرسّين المثقّفين من السنّة في بغداد راجعوني طالبين تحويل تقليدهم من أبي حنيفة إل ى الفتاوى الواضحة و على هذا الأساس فقد قرّرنا طبع الفتاوى الواضحة في القاهرة إن شاء الله تعالى..".(40)و من آثار رؤاه هذه تبريكُه افتتاحَ جناح لكتب الإماميّة في دار الكتب المصريّة و الذي سيكون "نافذة لأفكارنا و فقهنا و ثقافتنا المكنوزة..".(41). و قد استطاع السيد الشهيد (قدّه) بمنطقه الهادئ و نقاشه الموضوعي البعيدِ كلّ البعد عن الأسلوب المنفّر السائد حالياً في ما يسمّى تجوّزاً بـ"مجال البحث العلمي"، الحضورَ بشكل بارز في الأوساط السنيّة.(42).بل حتى الإسرائيليّة(43)!!
هـ- غزو الكوادر العالمية: كا ن السيد الشهيد (قدّه) مصرّاً على إعطاء الحوزة العلمية صبغة "العالميّة"، و قد وجد أنّ التواصل مع الكوادر الفكريّة ذات الشهرة العالميّة يعزّز هذه الصبغة في نظر هؤلاء، و من الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى عدم إمكانية تهميش الحوزة العلمية و النظرِ إليها بـ"دونية". فتراه (قدّه) يتواصل مع كبار رجالات الفكر العالميّين من قبيل "برتراند رسل" و"روجيه غارودي" و "زكي نجيب محمود" (44)و غيرِهما. و سينجلي لديك بوضوح كيف تغيّرت نظرة هذه الطبقة إلى الحوزة بعد أن رأوا أنّ فيها من يفكّر و يتصدّى، إذا قرأت ما جرى مع الدكتور الفنجري و عصمت سيف الدولة و غيرهما.(45).
8- المساهمة في تشخيص الموضوعات: نقول إجمالاً: إنّ تشخيص الموضوعات و إن كان بيد المكلف نفسه و خارجاً عن مهام المرجعيّة نظرياً، إلا أنّ هذا قد لا يصلح عذراً لترك المكلَّف يصارع مشكلاته وحيداً. فبدل أن يكون الإفتاء في بعض الموارد تقليديّاً على نحو "إن كان فيه دهن خنـزير فيحرم و إلا فلا" فحسب، فلا بأس بأن تردف الفتوى بعبارة "و قد أرسلنا مندوبنا للتحقّق من المسألة و تبيّن كذا" نظير ما قام به (قدّه) من إرسال مندوبه للتحري حول جبنة "كرافت"..
* * *
و يبقى الكلام في مشكلتين رئيسيّتين: "المشكلة المالية" و "مشكلة الحواشي" إضافةً إلى "دعوة" و "خاتمة"، نأتي على ذكرها جميعاً في "الحلقة الثانية" إن شاء الله تعالى، و الحمد لله رب العالمين..
(*) قد حتّم ضيق المقام تركَ الإشارة إلى المصادر غالباً و إن كان عمدتها "المباحث" و "سنوات المحنة و "شهيد الأمة". كما حتّم تجاوزَ بعض العناوين المثبتة في أصل البحث من قبيل: ظاهرة "النقد الذووي" (الذاتي) و "تقبّل النقد" التي عمل (قدّه) على إرسائها في الحوزة، و المرجعية الموضوعية و اختلاف الرؤى فيها، و مفهومه (قدّه) عن المرجعية و مهامها، و غير ذلك..
(1) ليس ذكرنا لهذه العبارات جرياً على عاد ة حشد الألقاب للمرجعية، بل هو من باب الإشارة السريعة لأبرز خصائص شخصية السيد الشهيد (قدّه).. راجع عنوان "الجمود عند الألقاب".
(2) من الأخطاء الشائعة قولهم "حوزوي" و "ذاتي".. والصحيح "حوزيّ" و "ذووي".
(3) نظرات إلى المرجعية/ص9، 32.بقلم "العاملي" على شبكة الانترنت.
(4)"مباحث الأصول"/ج1/ص 92. و يفرّق السيد الحائري (دام ظله) في حديث صوتي له بين المرجعية الموضوعية و الصالحة حيث يمكن أن تكون المرجعية صالحة غير أنها فردية ذاتية غير موضوعية.
(5) "المرجعية آفاق و تطلعات" / الشيخ محمد مهدي شمس الدين.. س لسلة "اخترنا لك" (7) ص 215.
(6) "وضع الدكتور عبد الباقي الهرماسي في كتابه "الإسلام الاحتجاجي في تونس" جدولاً يحدد فيه نسبة القراءة لأفكار و كتب المفكرين، "فجاء الشهيد الصدر (قدّه) بعد القرآن الكريم مباشرةً و احتل نسبة 54 % فيما احتل سيد قطب 35 % و المرحوم الدكتور شريعتي 31 %".
(7) يكتب (قدّه) :"..و قد قمنا بمشروع كفالة وجبة غذاء كاملة لطلبة المدارس و هو مشروع قد بدأ بنجاح ملحوظ و الحمد لله و المأمول أن يمتد و يساهم في لون جديد من الرعاية المرجعية للحوزة.." ؛ ثم يكتب (قدّه) :"بالنسبة إلى مشروع الإطعا م استمر إلى نهاية شهر رمضان ثم أوقفناه لأن السيد الخوئي حينما تفاوضت معه في الموضوع لم ينفتح عليه و بدا منه بعض السلبيات..". شهيد الأمة/ج1/ص365،431.
(8)"المرجعية آفاق و تطلعات"، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، اخترنا لك (7) /ص 216.
(9) راجع "صفحات لوقت الفراغ"، ص6.
(10) محمد باقر الصدر/الحسيني/ص213.
(11) شهيد الأمة/ج1/ص290.
(12) شهيد الأمة/ج1/ص431-132.
(13) جاء ذلك على لسان سماحة السيد كاظم الحائري.
(14) و هو ما اعتبره سماحة السيد علي أكبر الحائري في حديث معه أمراً طبيعياً و لو لم نكن نملك عليه ر قماً حسياً.
(15) التأسيس في فكر الشهيد الصدر/السيد عمار أبو رغيف.. قضايا إسلامية/عدد3/ص 31.
(16) من الأمثلة إمداده الحوزة التي أسسها الشهيد السيد عباس الموسوي (قدّه) حيث يكتب:"..و إني منذ مدة أسمع عن المدرسة التي كان لكم شرف إقامتها ما يوجب اعتزازي و تقديري..و قد أرسلنا إليكم دورة من شرح اللمعة..و عدد من المنطق الكبير و من المنطق الصغير و دورة من الحلقات و نحن مستعدون لتزويدكم بما تحتاجه حوزتكم من كتب دراسية.." و يكتب أيضاً:"..و أما اقتراحكم بالنسبة إلى العون المالي للمدرسة فهو مقبول.." شهيد الأمة/ج 1/ص424-425.
(17) من رسالة له (قدّه) إلى السيد الغروي.. شهيد الأمة/ج1/ص309.
(18) الفتاوى الواضحة، ص 96.
(19) عبارة مقتطعة من رسالة للسيد الشهيد (قدّه)
(20)كفاية الأصول/ص130.
(21) يكتب (قدّه) إلى الشهيد السيد عباس الموسوي (قدّه) :"..كما إنا أرسلنا مع حامل الرسالة بعض أشرطة بحث التفسير من أجل تعميمها على الأمة كما رغبتم فإن في استماع الأمة إلى صوت المرجع تأثيراً كبيراً في نفسها و سوف نرسل إليكم باقي الأشرطة.." شهيد الأمة/ج1/ص425.
(22) يقول الدكتور حنفي:"وجدت الأنا هويتها في "فلسفتنا" و "اق تصادنا"، من أجل التركيز على خصوصيتها في مواجهة الآخر، و في نفس الوقت تنقد ثقافة الآخر الذي قام بإثبات طرفٍ و إنكار طرف آخر في الأسس المنطقية للإستقراء". "مقدمة في علم الاستغراب،ص751.
(23) يروي السيد كمال الحيدري أن السيد الشهيد (قدّه) راح يحدثهم بعد الدرس حول القصص البوليسية، فسألوه : هل يبقى لديكم وقت لقراءة القصص البوليسية ؟ فقال (قدّه) :"نعم و هي تعجبني كثيراً"..و لعله (قدّه) كان يقرأ لـ"أغاثا كريستي".
(24) حدثني أحد العلماء المشايخ (رحمه الله) أن السيد الشهيد (قدّه) سأله ذات يوم عن حال أخيه الصغ ير –و كان قد انتسب إلى الحوزة في سن مبكرة (و لعله كان ابن 11 سنة)- فأجابه الشيخ بطريقة سلبية : إنه لا يزال طفلاً يقضي وقته بقراءة مجلات "سوبرمان" –أو "باتمان" و التردد مني و لعله قال الاثنين معاً-، فأجابه (قدّه) مستنكراً سلبيته في الجواب :"و ما المشكلة في ذلك؟ أنا أيضاً أقرأ هذه المجلات.. ألا يجب علينا أن نعرف ماذا يبثون لأولادنا في المجلات ؟"..
(25) سنوات المحنة و أيام الحصار/ص 79 نقلاً عن السيد كاظم الحائري دام ظلّه.
(26) عن السيد صدر الدين القبانجي..مقدمة كتاب "المذهب السياسي في الإسلام".
(27) السيد عمار أبو رغيف،"ماذا جاء حول فلسفتنا"/ص47.و يقول الدكتور زكي نجيب محمود :"إن فلاسفة الانكليز سيقرأون فكراً جديدا إذا أتيح لهم أن يقرأوا ترجمة الأسس المنطقية للاستقراء".
(28) السيد عمار أبو رغيف، "نظرية المعرفة في ضوء الأسس المنطقية للاستقراء" مجلة المنهاج العدد 17، ص 133.
(29) يكتب (قدّه) من لبنان :"..أما ما تم من عمل فهو كما يلي: أولاً: خطاب استنكار وقع عليه حوالي أربعين عالماً. ثانياً : ملصقة جدارية.. ثالثاً: برقيات طيرها أبو صدري –السيد موسى الصدر- إلى جميع رؤساء و ملوك الدول العربية و الإسلامية.. وقد جاء الجواب حتى الآن من جمال عيد الناصر و فيصل و الأرياني الرئيس اليماني.." و يقول:"الشارع الشيعي في بيروت مكهرب بالقضية..".
(30) كتب (قدّه) سنة 1963م"..و أما بالنسبة إلى إيران فلا يزال الوضع كما كان و آقاي خميني مبعّد في تركيا من قبل عملاء أمريكا في إيران و قد استطاع آقاي خميني في هذه المرة أن بقطع لسان الشاه.." (شهيد الأمة/ج1/ص224)..و عن رحيل الإمام (قدّه) من النجف يقول (قدّه) :"إن رحيل السيد الخميني من النجف خسارة كبيرة".و يكتب (قدّه) إلى "بختيار" بعد قيامه بإغلاق مطار طهران بوجه طائرة الإمام (ق دّه) العائدة من باريس :"..باسم المرجعية و علماء النجف الأشرف أقدم استنكاري الشديد لغلق مطارات البلاد في الوقت الذي عزم فيه آية الله العظمى الخميني على العودة..". شهيد الأمة/ج2/ص225.
(31) حثّ السيد (قدّه) بعد إحراق المسجد الأقصى السيد الحكيم (قدّه) على إصدار بيان لكافة المسلمين، و يقول:"و قد شعرت بالرغم من الآلام التي لا تطاق بشيء من الارتياح لإيصال بيان سيدنا الأعظم عن حريق المسجد الأقصى..".
(32) حين إقدام السادات على زيارة تل أبيب و المحادثات التي تمخضت عنها اتفاقية "كامب ديفيد" بعث (قدّه) ببرقية ا ستنكار عاجلة للسادات أنذره فيها بعاقبته التي ينالها على أيدي أبناء المسلمين..
(33)راجع شهيد الأمة/ج1/ص365،368. و من اهتماماته (قدّه) بلبنان ما يكتب بشأنه :"دأبت منذ دخلت لبنان على تكرار مفاهيمنا عن الإسلام التي تبدو هنا غريبة كل الغرابة و تباحثت في تلك المفاهيم مع عدة من الأشخاص كالشيخ محمد جواد مغنية..".
(34) يكتب (قدّه) :"..كما نهيب بالمسلمين جميعاً في مشارق الأرض و مغاربها أن يدركوا عمق المحنة التي يواجهها أخوان لهم مسلمون في الأفغان..". محمد باقر الصدر/الحسيني/ص381.
(35) حين انتصار الثورة أعل ن (قدّه ) عن تعطيل أبحاثه ابتهاجاً و فرحاً و تحدّث لطلابه عن ضرورة دعم الثورة و إسنادها. و كتب (قدّه) إلى الإمام الخميني (قدّه) :"..و نحن .. نضع جميع وجودنا و إمكاناتنا في خدمة وجودكم العظيم و النهضة الإسلامية المقدسة..شهيد الأمة/ج2/ص226.
(36) يحدّث الشيخ محمد سعيد النعماني بأنّه (قدّه) قد دعا إليه يوماً بعض طلابه بعد أن طرق سمعه خبر تقصيرهم الدراسي، فحثّهم بلغة أبوية على المثابرة قائلاً :"أريد أن أغزو بكم البحار"..
(37) مستفاد من مقدّمة السيد علي أكبر الحائري على كتاب الحلقات ص 65-66، عن مباحث الأصول/ ج1/ص62.
(38) الاتجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد من مجموعة "اخترنا لك" ص 226.
(39) مباحث الأصول / ج1 / ص 99
(40) من رسالة خطية له (قدّه)، راجع شهيد الأمة ج1/ص312.
(41) من رسالة له (قدّه) إلى السيد مرتضى الرضوي.
(42) يقول الدكتور الشرقاوي:"إنني لم أقرأ نقداً موضوعياً هادئاً لنظرية الشورى كما قرأته في المقال الموجز للشهيد السيد محمد باقر الصدر".
(43) يذكر أن كتب السيد الشهيد (قدّه) من المصادر المعتمدة في الجامعات الإسرائيلية و أبرزها "الأسس المنطقية للإستقراء".
(44) كان بين السيد (قدّه) و الدكتور إعجاب متبادل..
(45) الشهيد الصدر سنوات المحنة و أيام الحصار / ص 61-77.
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة