مستقبل الهوية ومصيرها
( بحث في النفس الإنسانية في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات)
كتابات - زهير الأسدي


ليس أصل الإنسان قرد كما يدعي الملحد دارون , ولم ينبثق من مصدر مجهول أو يتحرك إلى مجهول كما يدعي البعض الضائع من أتباع المذهب المادي , بل أصله منبثق من الله تعالى مجده وإليه يتحرك خلال رحلته الممتدة ما بين النطفة والموت الذي تعقبه الحياة الأبدية الخالدة, (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ( الحجر30) فمن الله يأخذ الإنسان هويته الوجودية والقدرة على الحركة نحو الكمال وإليه يرجع في حياة الخلود.(.. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الاعراف29)
وليس الإنسان ( المحدود) أصل القيمة والمعيار في الأحكام والمفاهيم ومصاديقها كما يدعي المنكرون , بل القيمة المطلقة المنتزعة من هوية الله تعالى مجده هي المعيار في الأحكام والمفاهيم ومصاديقها .
ولما كان الوجود دائرة مغلقة وهو مظهر للمطلق غير المتناه (الله تعالى مجده) الذي لا يسلك النقص إليه من سبيل , فإن دائرة الإمكان كما في كل دائرة هندسية نقطة البداية هي عينها نقطة النهاية , فأنت مثلاً حينما ترسم دائرة هندسية وتعيّن على محيطها نقطة ما وتدور حول محيطها بالقلم لتكمل الدائرة فأنك بالتأكيد سوف تنتهي إلى النقطة التي ابتدأت منها وهذا هو معنى(.. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) دائما النهاية تكون عودة إلى نقطة البداية ( انظر الرسم 1), فكل نقطة على محيط الدائرة التامة هي بداية ونهاية في آن, وهذه حقيقة كونية كبرى منتزعة من هوية الله تعالى مجده الذي يصف لنا هويته بكل صراحة ووضوح حيث يقول: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (3الحديد)
فالله أول وآخر في آن وفي هوية واحدة , وهو ظاهر وباطن في آن وفي هوية واحدة . والإنسان الذي أخذ هويته من الله تعالى مجده خلال عملية الخلق ونفخ الروح فيه , يكون في كل جزء من كيانه ظاهر وباطن في آن , وفي كل لحظة زمانية في وجوده أول وآخر في آن , هو أول بالنسبة للمستقبل القادم الذي لم يأتي من بعد (نقطة) لحظة الآن , وآخر بالنسبة للماضي الذي انتهي في (نقطة) لحظة الآن .
ولأجل بيان هذه الحقيقة ببساطة ووضوح والحيثيات المتعلقة بها وبالذات النفس الإنسانية (روح الله الذي نفخه في الإنسان) وبيان النظرية التي تقوم عليها المعارف في الإسلام وبالتالي بيان المعيار والحكم الشرعي العادل الذي يجب ان يحكم سلوك الإنسان, سوف نستعين بمبادئ الرياضيات والرسوم التوضيحية ما أمكن, والسبب في ذلك هو أن الرياضيات علم يدخل في جميع العلوم دونما استثناء بما فيه علم النفس وعلم التجريد والترميز, والعرفان أيضا , وهو خال من العاطفة وهوى النفس والأحكام المسبقة.
 وكما هو معلوم فسيولوجيا ان العمليات الحسابية التي يقوم بها العقل إنما تحدث في عالم التجريد والترميز القريب جداً من المطلق والبعيد كل البعد عن العاطفة والأحكام الشخصية , المسبقة والمستحصلة على السواء.
ولما كان العدد هو الوحدة الأساسية والموضوعية التي تقوم عليها جميع العمليات الرياضية دونما استثناء , فإنه يتعبر أصل العلم وأصل التجريد والترميز , وبالتالي هو الأصل في كل شيء , ومن خلال هوية الله تعالى مجده الذي يصف لنا نفسه بكل صراحة ووضوح في سورة الإخلاص -السهل الممتنع- نستطيع أن نستدل على جميع الحقائق المنبثقة من هوية الحق تعالى مجده ( المفاهيم ومصاديقها )حيث يقول (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) الأخلاص
نستفيد من الآية المباركة- فيما يخص بحثنا - ان الله واحد أحد , وهو فرد صمد أي حقيقة واحدة بسيطة غير قابلة للقسمة والتجزؤ , وهو لم ينبثق من شيء غير ذاته تعالى مجده , وليس له مثيل يكافئه .
 ولما كان الله (صمد) غير قابل للقسمة , وليس له كفواً ولا مثيل , فإن العدد واحد (1) لا يمثل حقيقة الله تعالى مجده في عالم الترميز والتجريد , لأن الواحد (1) له كفؤ يماثله , وهو ليس بصمد بل يقبل القسمة على أثنين فيكون نصفين اثنين, ويقبل القسمة على أربعة فيكون اربعة أرباع , ويقبل القسمة على ثمانية فيكون ثمانية أثمان , وهكذا يستمر الحال إلى غير المتناه , إذاً ليس الله واحد بالعدد كما بينّا وكما يقول الإمام علي عليه الصلاة والسلام ( واحد لا بعدد , و دائم لا بأمد ..) نهج البلاغة ج 13 ص231
بل هو الصفر المطلق في مقام لا شيء وفي مقام كل شيء في آن والدليل على ذلك قوله (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فالأول الذي قبل الشيء هو الصفر في مقام اللاشيء , والآخر بعد جميع الأشياء هو الصفر المطلق في مقام كل شيء ( كل الكمال) الذي لا يسلك النقص إليه من سبيل .
أرى أن النقطة في محيط الدائرة الهندسية تعد من أعظم البراهين على هذه الحقيقة التي أوضحتها بإيجاز. حيث تكون صفر في مقام البداية والنهاية في آن . هي في مقام البداية لا دائرة ( لاشيء) لأنها سابقة للدائرة , وهي ذاتها كل الدائرة ( كل شيء) في مقام الآخر , حينما يكتمل رسم الدائرة . فالصفر هو لا شيء وكل شئ في آن . وهو الواحد الأحد الصمد الذي لا يقبل القسمة والتجزؤ , لم يلد من هوية أو عدد ولم يولد ( في البدء كان الصفر وفي النهاية يبقى ) وهو الاسم العلمي لله تعالى مجده الذي يدخل في تفسير جميع العلوم والظواهر بلا استثناء .
 فهو تعالى مجده منزه تنزها تاماً ومطلقاً عن المادة , أي أن نسبة المادة إليه = صفر . فالواحد شيء وهو لا يمثل حقيقة الله في عالم التجريد والترميز لأنه مخلوق مثل( رجل واحد ,امرأة واحدة, كوكب واحد , شجرة واحدة ...ونحو ذلك ) وهذه كلها أشياء لها ما يماثلها في المفهوم والمصداق , بينما الله تعالى مجده الواحد الصمد موجود قبل الأشياء(الأعداد) وبعدها في آن , فلا يوجد إلا الصفر المطلق يشير إلى الحقيقة المطلقة في مقامات (الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ومقامي اللاشيء وكل شيء في آن. فمن هذه الحقيقة تنبثق جميع الحقائق في الكون .
ملاحظة: إن هذا البرهان الموجز في السطور السابقة غير مسبوق من قبل وهو سبق علمي سجل باسم زهير الأسدي الذي يبني عليه النظرية التي تفسر كل شيء . وقد تناولناه بالتفصيل والكثير من الأمثلة العلمية والرياضية في مقدمة كتاب ( النظرية التي تفسر كل شيء) حيث تناولنا ثلاث مستويات من البراهين المعززة بالرسوم التوضيحية تثبت الحقائق المتعلقة بالصفر .
 المستوى الأول الذي يثبت أن الصفر قيمتان متقابلتان ( سالب وموجب).
المستوى الثاني الذي يثبت أن الصفر قيمة مطلقة ( كل شيء ولا شيء في آن ).
المستوى الثالث الذي يثبت إن الصفر المطلق هو الاسم العلمي لله تعالى مجده (هو لأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)الحديد 3 وهو الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
بعد أن بينا إن الصفر يشير إلى هوية الله تعالى مجده في العلوم والترميز والتجريد , نأتي إلى البديهيات العلمية والعقلية المنبثقة من الصفر والتي لا يختلف عليها اثنان , وهي مقدمات ضرورية لبيان حقيقة النفس الإنسانية ( موضوع بحثنا).
 أمثلة وتطبيقات
أقول : إن الصفر هو الحق المبين وما سواه باطل , وأن نتيجة كل حركة وكل عملية سواء كانت مفاهيم او مصاديق تحدث في الكون من الذرة إلى المجردة وما كان أصغر من ذلك أو اكبر تكون في النهاية = صفر, (.. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وإليكم الدليل بإيجاز مع بعض الأمثلة .
 مثال :
2 × 2 = 4 وهذه حقيقة بديهية لا ينكرها عاقل.
ولو حاولنا إعادة نفس العملية مع نفس العدد ولكن بالقيمة السالبة (-2) فإننا سوف نحصل على نفس النتيجة وهي الأربعة الموجبة (4) .
هكذا -2 × -2 = 4 بالموجب أيضا.
من هذا المثال البديهي البسيط يظهر لنا –بوضوح ـ ان الجذر التربيعي للأربعة التي قلنا أنها موجبة هو ( 2 و -2) في آن , فالحقيقة الرياضية المجرد من الهوى والعاطفة أظهرت لنا أن أصل الأربعة موجب و سالب في آن, وليس موجب فقط . وليست هذه كل الحقيقة بل الحقيقة الكبرى ( المطلقة) تظهر في الخطوة التالية التي تثبت وحدانية الله تعالى مجده.
لما كان أصل الأربعة (2 ,-2) في آن , فإن هذه الهوية تساوي صفر , 2- 2 = صفر , وهكذا نبرهن على أن الصفر أصل جميع الأعداد وهو قيمة سالبة وموجبة في آن بدليل ( 2-2= صفر , مليار – مليار = صفر). فالصفر إنما حقيقة مطلقة (لا شيء ولا عدد من بعده) وهو سالب وموجب في آن , وهو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد , وهو سالب وموجب في آن , أي قيمة متقابلة قد أشار إليها القرآن المجيد بكل وضوح بقوله تعالى :(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الحديد 3
 وكما هو معلوم ان التعبير العلمي للقيم المتقابلة (الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) هو السالب والموجب , وكل من السالب والموجب = صفر , والصفر هو الصمد الذي لا يقبل القسمة, فالأول والآخر والظاهر والباطن هوية واحدة وهو الصمد تعالى مجده , كما السالب والموجب هوية واحده وهو الصفر .
 لقد كان 2 × 2 = 4 مجرد مثال بسيط لبيان حقيقة كبرى ,ويمكن استخدام نفس الطريقة مع جميع الأعداد إلى غير المتناه دونما استثناء والنتيجة النهائية تكون دائما = صفر .
ويمكن ايجاز ما سبق بالصورة التالية :
ان 2 × 2 = 4  موجبة و -2 × -2 = 4 أيضا موجبة , وعلى هذا فإن الجذر التربيعي للأربعة هو (2 موجبة و -2 سالبة) في آن . فالأربعة إذن حقيقة واحدة وهي سالب وموجب في آن , وكل من السالب والموجب = صفر . وعلى هذا فإن الصفر أصل جميع الإعداد ( في البدء كان الصفر) وأن جميع العلميات الحسابية تنتهي بالصفر كما بينما في السطور السابقة ( وفي النهاية يبقى) . وليس هو لا شيء فحسب بل هو كل شيء أيضا وهذه حقيقة يتعامل معها جميع من يتعاطى مع الرياضيات وتطبيقاتها الحديثة في العلوم وفي الحاسوب أيضا , فلولا الصفر لما كان هناك حاسوب ( كمبيوتر), وكذلك الحال لولا الصفر لما كان هنالك خلق وما كان هنالك عقل.
تأمل في هذا الرسم تجد أن الصفر بداية ونهاية كل قيمة سواء كانت موجبة أو سالبة ( التفاصيل في البحث الموسوم بـ الرياضيات الحديثة من القرآن الكريم – زهير الاسدي).

تطبيقات في عالم الطبيعة
نأتي الآن إلى مصاديق وتطبيقات ما سبق في عالم الواقع ( عالم الطبيعة) .
لو استبدلنا المفهوم المجرد (4) الذي كان في المثال السابق بأي مصداق أو قيمة واقعية نشهدها في عالم الطبيعة سوف نجد أن القيم المتقابلة ( السالب والموجب) هي الأصل في تلك الموجودات الواقعية , فمثلاً لو استبدلنا القيمة المجردة اربعة(4), بأربعة أولاد ( أطفال) سوف نجد أن أصل هؤلاء قد انبثق من الآباء والأمهات أي من الذكر والأنثى ,وهذا شأن كل الكائنات الحية , إنها تنبثق من اجتماع الذكر والأنثى , والتعبير العلمي المجرد لهما هو (الموجب والسالب) باعتبارهما قيمتان متقابلتان , إذن الأصل السببي والتكويني للأولاد الأربعة هو السالب والموجب ( الذكر والأنثى ) في آن , وكل من السالب والموجب ( الذكر والأنثى) ينتهي إلى الصفر ,أي إلى الله الواحد الصمد الذي منح هويته الوجودية للإنسان , (نفخت فيه من روحي) فالله تعالى مجده هوية واحدة كامل تام , في مظاهر متقابلة (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهو الواحد الصمد , ولكن حينما يمنح هويته للإنسان تظهر في الواقع بصورة ذكر وأنثى, يكمّل احدهما الآخر وكأن تلك الحادثة عملية انشطار (فلق) للهوية الواحدة. ومن اجتماع الهوية المنشطرة (الذكر والأنثى) يحدث الكمال وتحدث عملية الخلق فينجبون الأولاد والبنات . وهذه العملية تحدث لجميع الكائنات الحية دونما استثناء, بل حتى الجامدة أيضا , حيث السالب والموجب ( البروتونات والكترونات) قيمتان متقابلتان كما الذكر والأنثى, من تفاعلهما في عناصر الطبيعة تنبثق العناصر الأخرى وتتنوع , وكأنها عملية خلق تحدث من اجتماع الذكر والأنثى .

قانون الزوجية العام الشامل

من خلال ما سبق تظهر لنا حقيقة كبرى وقانون عام شامل وهي إن أصل جميع الموجودات ( المفاهيم ومصاديقها) يرجع إلى قيمتان مقابلتان ( ذكر وأنثى أو موجب وسالب), وأصل القيمتان المتقابلتان هوية واحدة هو الله تعالى مجده (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فتلك القيم المقابلة في هويته تعالى مجده ( اول وآخر , ظاهر وباطن) أو حتى السالب والموجب أو الذكر والأنثى ..الخ , إنما هوية واحدة لا غير (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )
فكما أصل وجود الأبناء الأربعة – وجميع الأبناء- هما الذكر والأنثى اللذان أخذا هويتهما من الله الواحد الأحد, كذلك أصل العدد أربعة- وكل الأعداد- هما السالب والموجب اللذان أخذا هويتهما من الصفر وإليه تنتهي جميع العلميات الحسابية, وعلى هذا أقول : إن جميع العمليات الحسابية في الرياضيات والعلوم الأخرى تعتبر غير مكتملة ما لم تنتهي في النهاية إلى الصفر , فيجب تصفير جميع العمليات الحسابية , كما في الأمثلة التي ذكرناها لكي يكون توحيد عملي لله تعالى مجده في جميع العلوم التي نتعاطاها بما فيها علم النفس الذي سنخوض فيه على ضوء هذه الحقائق التي أوضحناها .
فكما من المحال أن تنبثق الكائنات الحية في عالم الطبيعة من الذكور فقط أو من الإناث فقط , بل من كلاهما , كذلك لا يمكن أن تنبثق الأعداد الرياضية ومصاديقها من القيمة الموجبة فقط أو من القيمة السالبة فقط, بل لا بد من كلاهما في آن, وهذا ينطبق على جميع الحقائق الكونية الأعداد ومصاديقها الواقعية في عالم الطبيعة, فحقيقة كل شيء إنما زوجين اثنين , قيمتان مقابلتان , والدليل على ذلك من القرآن الكريم أنه قال : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(49الذاريات ) وقال (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يس 36) فالله خلق من كل شيء زوجين أثنين وهناك أزواج لا نعلمها نحن- قد تكون باطنة أو في عالم الغيب- لكنها موجودة في الكون . وعلى هذا فإن قانون الزوجية إنما عام شامل لجميع عناصر الكون الظاهرة والباطنة , المعلومة والمجهولة على السواء .
وكما هو بيّن ومؤكد إن أصل الزوجين يرجع إلى ينبوع الوجود السرمدي ,( الله تعالى مجده) الذي تتضمن هويته زوج من المقامات والقيم المتقابلة (الأول مقابل الآخر) و(الظاهر مقابل الباطن) وكما أشرنا مرات إن التعبير العلمي لهذه المقامات المتقابلة هما: السالب والموجب, او الذكر والأنثى , أو الخير والشر , أو النور والظلمات ,او الحق والباطل , او الخير والشر ..الخ وفي النهاية الجنة والنار حيث تتجلي أسماء الله الجمالية (الموجبة) في عالم الجنة الذي من مظاهره الجمال, الخير , المحبة, الرحمة, السعادة, اللذة, ونحو ذلك , وتتجلى أسماء الله الجلالية (السالبة) في عالم الجحيم الذي من مظاهره سلب الجمال ( القبح), وسلب الخير ( الشر), وسلب المحبة ( الحقد), وسلب الرحمة (الشدة) وسلب السعادة ( الشقاء) وسلب اللذة ( العذاب) .. ونحو ذلك .
 لما كان الإنسان يحمل هوية الله (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ( الحجر30), فأنه مظهر مصغر لله في الأرض تظهر في شخصه إما الجنة أو النار , أي أن الإنسان (الموجب) السليم الذي حافظ على فطرته الإنسانية التي أخذها من الله تظهر فيه أسماء الله الجمالية الموجبة مثل (الخير,المحبة, الرحمة, الإحسان ,الكرم, العلم, الشجاعة, العزة , الكرامة, ونحو ذلك ).
 والإنسان المريض النفس المنحرف في أخلاقة , يكون الصورة السالبة للهوية , فتظهر فيه أسماء الله الجلالية السالبة مثل( الشر , الحقد , الحسد , الغيرة, العدوان , الغضب , الشقاء , القسوة , ونحو ذلك ) وكما أوضحنا منذ قليل إن الشر هو القيمة السالبة للخير, أي سلب الخير , وأن الحقد هو القيمة السالبة للمحبة أي سلب المحبة , و كذلك حال جميع أسماء الجلال السالبة . وسيظهر تفصيل ذلك في بحوث قادمة إن شاء الله تعالى .
الإنسان يصنع عالمه ومصيره
ما سبق كان مقدمة ضرورية, لبيان حقائق وبنى فوقية تقوم عليها تلك المقدمة, أرى أنها في غاية الأهمية في حاضر ومستقبل الإنسان , فأرجو الانتباه لما سيأتي لأنه أهم ما في موضوع البحث .
أقول: لما كان الإنسان خليفة الله في الأرض وحامل هويته , فإنه يكون صورة مصغرة عن الله في الكثير من الأمور التي يتعاطى معها خلال حياة التكليف التي هي خلق مستمر ريثما يكتمل الخلق في اليوم السابع الذي يسميه القرآن الكريم بـ ( يوم القيامة), ( يوم الحساب) , ( يوم التغابن), ( يوم الفصل) الخ .
فكما الله ظاهر وباطن و هو تعالى مجده مصدر الطاقة في الوجود يخلق بقوة الإرادة الموجودات ( كن فيكون) كذلك الإنسان ظاهر وباطن ويتوفر على مقدار محدد من الطاقة , يستطيع بقوة الإرادة أن ينتج (يخلق) الكثير من مظاهر العالم الذي يتعاطى معه .
 اطلب من أخواني القراء برجاء أخوي كبير ألا يتحسسوا من كلمة ( الخلق) حينما انسبها لخليفة الله في الأرض الإنسان, فهي وبتصريح القرآن الكريم ترادف كلمة أنتاج أو صناعة أو ابداع أو عمل, حيث يقول (..فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (14 المؤمنون) لاحظ أنه استخدم كلمة ( الخالقين) وجعل نفسه أحسنهم باعتباره خالق هؤلاء , وهو هنا لا يقصد الخلق الذي ينسبه لغيره بمعنى الإيجاد من العدم بل الخلق بالعنوان الثانوي ,أي تحويل العناصر إلى هيئات اخرى , نحو قوله عن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) لاحظ أنه قال مخاطبا عيسى ع ( إذ تخلق ) وهو عليه السلام – وبتصريح القرآن- كان يحوّل الطين إلى طير بإذن الله , وهذا خلق , كما الله يحوّل الطين إلى إنسان, حيث التراب والماء يتحولان إلى نبات , والنبات يتحوّل إلى لحم في جسد الحيوان الذي يتغذى عليه , وكل من النبات والحيوان يتحول إلى نطفة في جسد الإنسان المتغذي عليهما , وهذه النطفة تتحول إلى إنسان , فالطين يتحوّل في نهاية المطاف إلى إنسان بعد أن يمر بمراحل التحول المشار إليها . هذه هي عملية الخلق الجارية في الكون إنها تحويل المادة ( الطاقة) إلى هيئات أخرى .
 وأنت حينما تحوّل الطين إلى طبق فخار أو آنية , أو تحفة فنية أو أي شيء أخر , إنما تخلق ( تنتج) من الطين وليس من العدم تلك الأشياء . وحينما تجتمع جهود كبيرة يتم تحويل عناصر الطبيعة إلى طائرات وقطارات وسيارات وسفن فضائية وكمبيوترات وأجهزة دقيقة تعمل بالطاقة , انها عملية خلق ,أبداع ,أنتاج , بواسطة تحويل المادة من هيئة إلى اخرى , وهذا ما يرصده الإنسان في الواقع .
 ولكن هناك عمليات خلق أخرى غير مرئية يقوم بها الإنسان بصورة مستمرة دونما توقف وقد لا يلتفت إليها في العادة, وهي تحويل المواد الغذائية الى طاقة ( حركية , حرارية , فكرية , عاطفية , وجدانية .الخ ) انها عملية خلق تشبه تماماً عملية تحويل الطين إلى طير أو تحويله إلى إنسان أو تحويله إلى كمبيوتر أو سيارة ونحو ذلك . وإليك تبيان ذلك ببساطة ووضوح في الفصل التالي من بعد المقدمة العلمية:
عالم الغيب والشهادة
لما كان الله (أول وآخر وظاهر وباطن) وهو أصل الهوية في الوجود , فإن جميع مظاهر الوجود المخلوق عبارة عن هذه الهوية ( أول وآخر , ظاهر وباطن) فلو بحثنا في ابسط وحدات المادة التي تؤلف جميع عناصر الكون وهي الذرة , نجدها تتألف من قيم متقابلة (بروتونات موجبة +, والكترونات سالبة -) وهاتان القيمتان المتقابلتان إنما متساويتان بالتمام في جميع عناصر الكون دونما استثناء , فإذا ما كانت الذرة تتألف من بروتون واحد فإنها بالضرورة تتوفر على إلكترون واحد , وإذا ما كان في الذرة عشرة بروتونات فإنها بالضرورة تتوفر على عشرة الكترونات وهكذا في جميع عناصر الكون دونما زيادة أو نقصان , إنه ميزان العدالة الإلهي الموجود في صميم هوية الوجود, وهذا هو معنى قوله تعالى مجده (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) ( الرحمن7) إنه وضع الميزان في صميم الفطرة الكونية من الذرة إلى المجرة وما كان أصغر من ذلك أو أكبر , لأنه حينما يخلق إنما يمنح هويته ( يظهرها) في الواقع في مقام الظاهر وهو العدل الحق .
ولما كانت كل ذرة تتألف من ( الموجب والسالب) في هوية واحدة, وجميع الموجودات في عالم الطبيعة- بما فيها الإنسان- تتألف من ذرات , فإن جميع الموجودات عبارة عن سالب وموجب في آن , إنها كما البطارية (+ - ) المشحونة بالطاقة ولو لم تكن كذلك لما كانت هناك طاقة في الكون ولا حركة أبداً . فسر الطاقة والحركة في الكون هو هذه البطاريات الصغيرة الموجودة في الذرات , وهي لا تتحرك بذاتها بل بحركة الواجب تعالى مجده المتحرك بذاته والمحرك لغيره , فهوية الله التي تحرّك الموجودات عبارة عن قيم متقابلة سالب وموجب (+ -) في هوية وحدة .
 ولما كنت جميع ذرات الكون تتألف من الموجب والسالب , الموجب ظاهر والسالب باطن ( غير مرئي) فإن الكون عبارة عن ظاهر وباطن في آن , وهو عبارة عن عالمين أثنين ( عالم الغيب والشهادة) في هوية واحدة كما الله ظاهر وباطن في هوية واحدة . أما عالم الشهادة فهو مجموع القيمة الموجبة في ذرات الكون , وأما عالم الغيب فهو مجموع القيمة السالبة في ذرات الكون .
 ولما كانت جميع ذرات العناصر تتألف من السالب والموجب , فإنك حينما تذهب إلى السوق وتشتري الخبز واللحم والفاكهة والخضروات التي هي عبارة ذرات (+ -) مجموعة في تلك المواد, لا تشتري قيمة موجبة فحسب , بل تشتري السالب والموجب (+ -) الذي فيها معا . وحينما تأكل تلك المواد لتولد طاقة تحتاجها للحركة والتفكير والعمل , إنما تأكل (+ -) معا , فأنت تأكل بطاريات صغيرة أسمها ذرات موجودة في المواد الغذائية . تلك البطاريات الصغيرة ( + -) هي الطاقة التي تحرك كيانك الظاهر والباطن على السواء , و لو لم تكن بطاريات لما حصلت على طاقة وما عملت أجهزة كيانك المتنوعة أبداً .
بقي أن تعرف أنك حينما تشتري تلك المواد والمواد الاستهلاكية الاخرى , لا تدفع قيمة المادة الموجبة التي تشهدها بحواسك فحسب , بل تدفع القيمة السالبة التي تلازمها أيضا , فهناك قيمة سالبة مع تلك المواد لا تراها عينيك ولا تتحسسها بحواسك ولكنها موجودة في صميم تلك المواد التي تتعامل معها وتدفع ثمنها دون أن تراها , بل كيانك كله عبارة عن سالب وموجب في آن , انه ذرات ,بطاريات صغيرة ( + - ), خلايا معبأة بالطاقة . حتى عقلك الذي يفكر ويحرّك كيانك المادي ويجعلك تتحرك وتعمل وتفكر وتتكلم , إنما عبارة عن بطارية, تحرّك منظومة الأجهزة التي تؤلف كيانك . فكل شيء عبارة عن ظاهر وباطن في هوية وحدة , كما الله ظاهر وباطن في هوية واحدة .
كيف يخلق الإنسان عالمه ومصيره ؟؟
بعد ان أوضحت تلك المقدمة العلمية أقول : إنك ببساطة تأكل مواد غذائية ( خبز , لحم ,خضروات, فاكهة) كانت طيناً قبل أن تتحول إلى تلك المواد , إنها كما البطارية( + -) تتألف من الموجب والسالب , و ذات قيمة مادية (وزن وكتلة ) معلومة لديك لا تستطيع نكرانها مهما حاولت .
 لنفترض ان شهيتك مفتوحة وتأكل في كل وجبة ما مقداره ( كيلو ونصف غرام ) من المواد الغذائية , والسؤال هنا , أين تذهب تلك المواد الغذائية بعد أن يتم هضمها ؟؟
للجواب أقول : أنت تأكل طاقة ( + -) بطاريات صغيرة , لا تذهب إلى العدم بعد هضمها , لأن العدم لا يسلك إلى الوجود من سبيل, طالما هنالك وجود فالعدم غير موجود . ولو وجد العدم لابتلع هذا الوجود واختفى بكل مظاهره وعناصره , بل الطاقة التي تدخل كيانك تتحول إلى شيء آخر أو هيئة اخرى , إنها ببساطة تتحول إلى طاقة حرارية , وطاقة حركية , و طاقة فكرية , وطاقة عاطفية .. الخ .
 تلك المواد الغذائية المرئية التي كانت صلبة وسائلة , خلال عملية الهضم والتحول إنما تتجزأ إلى وحدات مادية اصغر مما كانت عليه , يطلق العلم عليها تسمية طاقة ( + -), ولأنها أصبحت وحدات اصغر مما كانت فإنك لا تستطيع رؤيتها بنفس الحواس التي ترى فيها وحدات عالم الطبيعة , بل تحتاج إلى حاسة ارقي من تلك , ولو كان الغطاء مكشوفاً عنك بدرجة ما واطلعت على عالم الغيب والملكوت لرأيت تلك الطاقة والأفكار والعواطف - الفرح والغضب والغيرة والحسد والنميمة التي تصدر من الناس - بكل وضوح كما ترى عناصر عالم الطبيعة الظاهر , حتى أنك ترى النور والظلمات التي تحيط بالناس نتيجة أعمالهم وأفكارهم . حيث ترى هالة من نور ساطع يحيط بالمؤمنين وذوي الأفكار الإيجابية الخيرة , وترى الظلمات بعضها شديد الظلام كما الدخان المنبعث من إطارات السيارات المحترقة, تحيط بالناس الأشرار الذين يحملون أفكار الحقد والغيرة والحسد ونحو ذلك .
أنقل هنا تجربة شخصية لأحد المؤمنين لعلها تنفع القاريء في هذا المجال يقول: ( أذكر إنني في احد الايام كنت أتجوّل في السوق لأشتري بعض الحاجيات الضرورية , فجأة وبدون مقدمات لفت انتباهي وبصورة واضحة جداً , كتلة ضخمة من سواد شديد الظلمة , كان يخيم على رجل يدير ظهره لي وكانت معه إمرأة ( زوجته) ولهول المشهد وكثافة السواد الذي فوق رأسه وعلى جوانبه, دفعني الفضول لمعرفة من هذا الرجل السيئ الحظ صاحب هذه الظلمات الكثيفة (..ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) ( النور40) وبعد أن صرت أمامه وحدقت فيه , وجدته أحد الذين أعرفهم , فارتبكت ولم اصدق , فهذا الرجل الملتحي رأيته مرات في المسجد , وكان أحيانا ينظّر ويتفلسف أمام الناس على أنه ينتمي إلى أحد الأحزاب الإسلامية المناضلة, وبعد أن دققت علمت أن هذه الظلمات التي تحيط به وتخيم على رأسه كما السحابة إنما حقد اسود و غيرة وحسد يخلقها ( ينتجها) في اغلب أوقاته وهناك ذنوب عجيبة غريبة ( مقززة) لا تستطيع ان تراها وتحافظ على مزاجك النفسي مهما حاولت , تركت المشهد المرعب , وفررت إلى اقرب بائع خضار .
 ونفس هذا الرجل , في إحدى المرات رأيته في غاية القبح , كائن يشبه الخنزير بل أقبح بكثير , حينما دخلت المسجد وكنت مبللا بالتمام من المطر الذي هطل علي طوال الطريق إلى المسجد , كان معه اربعة أو خمسة اشخاص , نهضوا لمصافحتي , وبمجرد أن رايته على تلك الهيئة القبيحة والمقززة جداً (كأنه وحش يشبه الخنزير بل أقبح ينهض ويتقدم نحوي للمصافحة) نفرت بصورة لا إرادية وكأنني اهرب من وحش كاسر , فاعتذرت عن مصافحة احد بحجة انني مبلل من المطر ولا أريد أن انقل البلل إليهم . وحينما جلست بعيداً عن هذا الوحش المتربع في بيت الله ( المسجد) ازدادت صورته قباحة حينما فتح دفة المكتبة وحمل القرآن وجاءني يطلب مني أن أعمل له استخارة بالقرآن , فنفرت بشدة واعتذرت منه مرات وهو يصر , وقد اتضح لي فيما بعد أن السبب في صورته القبيحة المقززة أنه كان مجنباً ولم يغتسل , و أسوء ما عمله هذا الرجل انه لم يترك القرآن بل صار يتصفحه وقد جاء بتفسير الميزان أيضا وأخذ يناقشني في أحدى الآيات ( وكأن الله يريد ان يكشف لي حقيقة هذا الرجل ), فدفعتي الغيرة على كتاب الله وبيته أن ألفت نظره إلى أنه لا يجوز للمجنب ( بل محرّم عليه) أن يدخل بيت الله ,أو يملس كتاب الله إلا بعد أن يغتسل , ففهم قصدي بوضوح ولكننه لم يترك تفسير الميزان الذي يتضمن آيات القرآن الكريم ولم يغادر المسجد , بل صار يجادل بهذه المسالة وكأنه أخذته العزة بالإثم . فغادرت وأنا كلي أسف وحزن على هذا الشخص الذي يظلم نفسه ويكبلها بتلك الممارسات الخاطئة ( الذنوب) . ولا أدي بأي ذوق كان هؤلاء المساكين الغافلين يصافحونه ويتحاورون معه وكأن شيء لم يكن .. ( انتهى)
===================
المستحصل إن أعمال الإنسان وما يصدر عنه من أفكار وممارسات لا تذهب سدى , بل تبقى محفوظة في العالم الذي لا تراه عيون الناس في العادة كما لو كانت شريط لفيلم وثائقي يصور كل صغيرة وكبيرة يقوم بها الإنسان, يطلق عليه القرآن تسمية كتاب الغيب الذي يحفظ إعمال الناس ويسجل كل صغيرة وكبيرة (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )(49 الكهف )
 فهذه الأعمال الحركية أو الفكرية التي يخلقها ( ينتجها) الإنسان خلال يومه المعاش وطوال حياته, إنما مواد إنشائية لبناء الآخرة التي تقوم على أعمال الناس وما ينتجوه من خير أو شر على السواء , وهذه الحقيقة يخبرنا عنها القرآن الكريم بوضوح في آيات كثيرة منها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8) ( الزلزلة) .
 ولما كانت كل ذرة خير أو شر من أعمال الناس سوف تظهر يوم القيامة وتكون مرئية للعيان , فإن عالم الجنة عبارة عن مجموع الأعمال الخيرة التي ينتجها ( يخلقها) الإنسان المصلح خلال حياته وعمره الشرعي, وأن عالم النار عبارة عن مجموع أعمال الشر التي ينتجها ( يخلقها) الإنسان المفسد خلال حياته . وهذه الحياة الدنيا إنما عملية خلق مستمرة ريثما يأتي اليوم السابع ( المرحلة السابعة) الذي يكتمل فيه الخلق ويتحقق الخلود .
 وبهذه المناسبة انصح كل أخواني وكل من يقرأ هذه السطور, ان يحرصوا وبقوة على أن لا تصدر منهم أي فكرة سلبية فيها حقد على احد أو غيرة او حسد أو نميمة او ..الخ , لأنها تضر صاحبها قبل ان تضر الآخرين , فهي ببساطة كما الأبناء الذين يخرجون من الصلب لا يمكن نكرانهم أو التملص منهم , فكما تحرص على أن يكون ابنك شرعيا وجميلاً وذكياً ولطيفا ومحبوبا..الخ , كذلك افعل مع ابناء وبنات أفكارك وأعمالك .
 فأعمالك وأفكارك وعواطفك ومشاعرك , كما ابنك الذي يخرج من صلبك , مرتبطة بك ارتباطاً سببياً وتكويناً لا فكاك منه مهما حاولت , وأعلم أنها تحيط بك من جميع الجهات , ولسوف تظهر في الآخرة حتى ولو كانت ذرة واحدة , فكيف وهي عمل مستمر ضمن منظومة لا تفتر من الأفكار والمشاعر والممارسات التي تصدر في الليل والنهار؟؟
النتائج تقوم على المقدمات
يمكننا القول إن عملية خلق الآخرة ( الجنة والنار) قائمة على هذه الحياة الدنيا , فكما يخلق الله الناس من الطين بعد أن يتحول إلى مواد غذائية وإلى نطفة, والنطفة تتحول إلى إنسان , والإنسان ينمو ويتكامل شيئا فشيئاً من خلال الطاقة التي تدخل كيانه, كذلك الآخرة يخلقها الله شيئاً فشيئاً خلال هذه الحياة الدنيا ومن خلال الطاقة التي ينتجها الإنسان نفسه, فقد جعل الله الإنسان -خليفته في الأرض وحامل هويته- واسطة ضرورية في عملية الخلق , بل جعله هو الذي يخلق ( يبني)آخرته والعالم الذي سوف يخلد فيه من خلال أعماله التي ينتجها خلال عمره الشرعي في فترة الحياة الدنيا .
فكما جعل الله الإنسان سبباً في عملية خلق المواليد الجديدة التي تندفع إلى الوجود ( الرجل + الأنثى = مواليد جديدة تندفع إلى الوجود) كذلك جعل الإنسان سبباً في خلق الآخرة القائمة على أعمال الإنسان نفسه , فأعمال الإنسان الخير , او الشر , إنما عبارة عن مادة تتحول من حال إلى حال , الإنسان هو الذي يعطيها الصورة والهيئة التي ستكون عليها . إنه من خلال ما أعطاه الله من علم وإرادة , يقلد دور الله في الأرض , يخلق ( ينتج) كما الله يخلق , لكنه لا يوجد الأشياء من العدم .
 فأنت حينما تفكر بأي فكرة إنما تقوم بتحويل المادة التي استحصلتها من المواد الغذائية إلى أشياء لها حضور حقيقي في عالم الغيب , وكأنك تقول لذلك الشيء الذي تفكر فيه كن فيكون, إنه يكون فعلاً في عالم الغيب , عالم الأفكار والملكوت , يستطيع أي إنسان صاحب بصيرة  ان يشاهد الأفكار التي تفكر بها كما لو كانت شريط سينمائي متحرك . مما يعني أنها ليست موجود في عالم خيالك أنت فحسب بل في عالم الغيب الذي يعتمد على الطاقة التي أصلها مادة , فكل ما في الأمر أن المادة التي تأكلها قد تحولت إلى شيء آخر أنت خلقته بفكرك ( قلت له كن فكان ذلك الشيء ) ولسوف يظهر في الآخر كما خلقته ( صنعته )أنت بلا زيادة أو نقصان إلا ما شاء العلي القدير .
 أنظر الرسم الجانبي الذي يشير إلى ثلاث حركات متتابعة لفكرة مجردة ( دائرة) , تجد أن الحركة الموجبة في عالم الطبيعة -أياً كانت قيمتها- تقابلها بالضرورة حركة سالبة في عالم الغيب بنفس القيمة بلا زيادة أو نقصان , وهذه حقيقة علمية رياضية مبنية على المحورين السيني والصادي , لا يسلك الشلك إليها من سبيل . وهي تأكيد علمي على أن كتاب الغيب ( السالب) يسجل كل صغيرة وكبيرة في عالم الطبيعة (الموجب) ولا يتجاوزها أبداً, (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8) ( الزلزلة) .
 يتضح مما سبق إن علمية خلق الأفكار والأعمال ودفعها إلى الوجود ضمن عالم الغيب , تشبه تماماً عملية خلق الأطفال ودفعهم إلى الوجود ضمن عالم الطبيعة , تتطلب قطبين متقابلين ( موجب وسالب ) كما في الذكر والأنثى , أو البطارية ( + -) التي تحرك الأجهزة والمنظومات , وبدون هذين القطبين لا يمكن أن تحدث عملية الخلق والإبداع أبداً . واعلم أن سر النفس الإنسانية وما يصدر عنها من ممارسات سلوكية أو أفكار يكمن في هذين القطبين , فعلى حسب مواصفاتهما تكون المنظومة النفسية للإنسان وما يصدر عنها من سلوك وأفكار .
وأن الحالة الطبيعية المثلى للمنظومة النفسية هو التوازن والانسجام ما بين القطبين ( العدالة الداخلية في محكمة الضمير) , أما الفساد أو المرض النفسي والممارسات والأفكار الخاطئة فإنما تحدث نتيجة عدم التوازن وعدم الانسجام والزيادة والنقصان في احدهما على حساب الآخر .
وكلنا يعلم أن اجتماع الذكر والأنثى ( السالب والموجب) يولد المواليد الجديدة التي تندفع إلى الوجود , واي تغيير في قيمة الإشارة ( Y, X) يؤدي إلى تغيير في جنس المولود فيكون ذكراً أو انثى ( سالب أو موجب) على حسب قيمة تلك الإشارة , كذلك المواليد ( الأفكار) التي ينجبها ( يخلقها) العقل البشري , تكون موجبة أو سالبة ( سوية أو مرضية) على حسب المحتوى الداخلي لكل من القيم المركوزة في العقل (+ -) .
و لما كانت النفس الإنسانية صادرة من الله ( نفخت فيه من روحي ) فأنها بالأصل تتوفر على سمات الكمال والعدالة التي لا ظلم فيها , إنها بالفطرة تحب العدالة والخير والصلاح , وكل عمل يخالف عدالة الله , فإن هذه النفس المرتبطة سببياً بالله تعالى مجده سوف ترفضه , يجب على الإنسان أن يعتذر عن أي خطأ يقوم به ويطلب السماح من عدالة الله (يستغفر) لكي تطمئن وتستقر نفسه الباطنة التي هي روح من الله وتستعيد توازنها الذي اختل نتيجة طغيان الذنوب ( الأخطاء) , وإذا لم يفعل - لا سامح الله- ولم يستغفر , فإن مشلكة سوف تحدث في نفسه الباطنة , ولسوف تشعر بالتعاسة وربما اضطرابات أخرى ولا شيء عندئذ يحقق لها التوازن والاستقرار إلا أن تنال عقابها على تلك المخالفات , وفي مثل هذه الحالات تصبح تصرفات الإنسان في المجالات التي تتعلق بتلك الأخطاء والذنوب كما لو كانت تطلب العقاب . و ليس ظاهر الإنسان هو الذي يطالب بذلك العقاب بل روح الله العادل الباطن في أعماقه ( نفخت فيه من روحي ) هو الذي يريد أن يمارس عدالته على الذي أساء له ويجلب له العقاب .
 فعلى سبيل المثال الإنسان الذي يقصّر في مسائل الجهاد والدفاع عن الدين والوطن و أخوه الإنسان بالتأكيد أن نفسه الباطنة سوف تشعر بالذنب والتقصير , وهذا يحدث اضطرابا وعدم توازن ما بين العدالة الإلهية المغروزة في صميم الذات , وبين الظاهر الظالم الذي يرفض تلك العدالة ولا يمتثل لها ولا حتى يعتذر (يستغفر) عن الأخطاء ويطلب السماح من الأصل الذي منحه تلك الهوية ( الله تعالى مجده), في هذه الحالة تصبح العقوبة هي العلاج الوحيد الذي يجلب التوازن والاستقرار وبالتالي السعادة للنفس , وها هنا تظهر حيّل الدفاع التي تمارسها النفس الباطنة لتعبر عما فيها من اضطراب ولتجلب لها العقاب الذي تستحق لكي ترتاح وتتخلص من ثقل تلك الذنوب المزعجة , طبعا ظاهر الإنسان أو ما يسمونه بالعقل الواعي , لا يدرك هذا الذي يحدث في الباطن وخصوصا عند الغافلين والذين يهتمون بالظاهر وعالم المادة واللذات الحسية ونحو ذلك .
 ومن أوضح أنواع حيل الدفاع التي يمارسها الإنسان المريض ( المذنب في العادة) في سبيل استجلاب العقاب المريح هو أن يلقي ما عنده من ذنوب وممارسات وأخطاء ونواقص على الآخرين , ليس أي احد من الآخرين , بل الذين تعتقد نفسه الباطنة أنهم العلاج لنقصها , فلو كان نقصها هو التقصير في مسائل الجهاد أو العزة والكرامة أو الإيمان , فإنها في العادة تتخذ المؤمنين والمجاهدين وأصحاب العزة والكرامة مرآة متممة لنقصها تظهر فيها نواقصها وما تعانيه من عيوب وأخطاء , كأنها تمارس عملية كشف ومعاقبة في آن , وأحيانا تطلب العقاب من هؤلاء لكي ترتاح دون ان يشعر ظاهر الإنسان بهذه الأمور , وإذا لم يأت العقاب الذي يحقق التوازن والاستقرار فإن الاضطراب يستمر وقد يلجأ المريض إلى الاستفزاز بممارسات أو كلمات تتطلب ردة فعل مماثلة أو عنيفة فيها الم لكي ينال العقاب الذي يحقق التوازن , وفي حال حصول العقاب فإن نفسه الباطنة التي تحب العدالة سوف تحب تلك الجهة التي وفرت لها الراحة في العقاب أو الألم وأعادت لها توازنها المفقود.
 وعلى هذا أقول : إن الذين يسبون ويشتمون إخواننا المجاهدين والخيرين من أبناء بلدنا العراق ضمنهم الخط الإسلامي الصدري ويستفزونهم بلا مبرر ولا مناسبة , إنما يمارسون حيل دفاع مكشوفة بوضوح لأي مهتم بعلم النفس , لكنهم لا يعلمون بها . وأنا على يقين بان هؤلاء الذين كرروا كتابتهم ضد الخط الصدري وغيرهم من الخيرين من ابناء بلدنا العزيز ,بمجرد ان ينالوا أي الم نفسي ( سب, شتيمة , اهانة , لكمة , رفسة ..الخ ) تأتي من الطرف المقابل بما يناسب وحجم ما يعانوه من نواقص سوف يتحقق توازنهم المفقود بدرجة ما, وترتاح نفوسهم المريضة على حسب تلك الدرجة , لأنه لا يوازن القيمة السالبة ( النواقص) الموجودة في أنفس هؤلاء إلا القيمة الموجبة , والمجاهدون الأبطال والخيرين الشرفاء في هذا الزمان (الأغبر) هم القيمة الموجبة . هذا إذا كان النقص الذي يعانيه البعض بسيط وغير مركب , أما النقص المركب فهو مصيبة أكبر, علاجها يتطلب توفر أمور كثيرة منها الصدمة المباشرة التي تهبط بالوعي إلا ادني مستوياته , وأنه في حركة عودته إلى المستوى العالي ( المعتاد) لا يسلك نفس الاتجاه الذي كان من قبل بل نحو جهة مغايرة, ولهذا تجد أن البعض من عيادات الطب النفسي تستخدم صدمات كهربائية على رؤوس المرضى في سبيل علاجهم ولكي تسلك الحركة المتوقعة من العقل ( النفس ) اتجاه غير ذلك الذي كان من قبل .
 وأنا شخصيا أرى أن التوصيات الدينية التي تأمر باستخدام الشدة والغلظة مع الكفار والمنافقين إنما لدفع الضرر عن المسلمين وإصلاح هؤلاء أيضا , حيث العقوبة في الحالات المرضية إنما علاج وسبيل إلى استعادة التوازن المفقود في النفوس المريضة, إنها على الأقل ترادف الصدمات الكهربائية التي يستخدمها المعالج النفسي لأجل شفاء مرضاه .
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(73 التوبة)
(قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (123التوبة)
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة