مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب الاستشراق من منظار غربي
بدايات الاستشراق السياسي
د0محسن جاسم الموسوي


اذا كان الاستشراق السياسي سهل التحليل والادانة والتشخيص والدحض بصفته مادة وظيفية موضوعية في سياقات النهج السياسي الغربي للمرحلة الاستعمارية, فإن مكوناته الأخرى تحتوي على عدد من المشكلات التي تستدعي هي الأخرى قدراً من البحث والتحليل والمناقشة, لا على اساس الاتهام والادانة في مثل هذه الحالة, بل على اساس الاضافة والتعديل المعرفي, وهو أمر لا يتحقق دون ان تتحول المعرفة المغايرة او التصحيحية الى بناء جاد غني وخصيب ينهل من مصادر اضافية في الموروث الذي شكل في بواكيره عند الباحثين الغربيين مادة التحليلات والاستنتاجات والمقترحات والتوصيفات الخاصة بالمجتمع العربي وبالحضارة الاسلامية, اي ان الحدود الضيقة للبواكير المعرفية يمكن أن تصبح سبيلاً الى الاستنتاج المبتسر او المخطوء على الرغم من براءة النوايا أوحسنها0
ولهذا تآلفت بعض الاتجاهات او الطرائق في تكوين مادة الاستشراق السياسي الذي يمكن ان يتوزع في أكثر من نهج, بين ساع للانفتاح على مجتمعات غربية ومعاد لها يبتغي الاستفادة منها والهيمنة الكلية عليها, واخر يجد نفسه مأخوذاً بها كلما تعمق في دراستها ليرتبط بها عاطفياً او نفسياً او حتى فكرياً , واخر يسقط حالته على واقع هذه المجتمعات او على تصوراته عنها فيتوحد مع هذا الوقع تارة ومع هذه التهيؤات تارة اخرى ليقدم مادته الشعرية التي لا تعني الاستشراق السياسي لنها تمنحه حماسة القديسين في بعض الاحيان, كما هو الحال عند ريتشارد بيرتن مثلاً 0
وبكلمة اخرى فأن الاستشراق السياسي له مشكلاته الواضحة التي تنبثق عن اهدافه وغاياته ووظائفه, وتستمر في اعطاء اثارها وتغذيتها لمرحلة لاحقة ليست قصيرة:
اي ان مشكلات الاستشراق السياسي لا تتحدد عند التبعات المباشرة للمعرفة المحدودة او المجزوءة او المبتسرة , بل تتعدى ذلك الى التجزيئية ذاتها, عندما تحيل ما لديها الى حقائق مطلقة في تعربف الشخصية العربية والعقل العربي, كما يتبدى ذلك في تلك الانماط الدارجة للتخيل الشعبي الغربي العام لما تكون عليه هذه الشخصية او ظروفها, وهو تخيل يتولد عادة في رحم الدعاية ذاتها, حيث لا تحتاج هذه عادة , الى الوقائع او الحقائق قدر احتياجها الى ماتقدر ان تطرحه على انه هذا الواقع 0 وغالباً ما يصبح " المتخيل " مادة السلوك الواقعي للوكيل الرومانسي, اذا ما كان هذا الوكيل مأخوذاً بأفكار أخرى تتيح له ان يبدو في صدارة الصورة مغامراً لا يبحث في مجابهات حقيقية بل على نمور ورقية تتهاوى أمام قدراته وطاقاته العاطفية والجسدية والذهنية0 واذا ما كانت هذه المشكلات محدودة الاثار والتبعات , فان تلك المترتبة على المدرسية الاستشراقية الضيقة او المريضة ( في تمييزها عن ذلك النزوع الدراسي الاستشراقي العلمي والمنصف ) يمكن ان تؤدي الى اثار سلبية في تكوين القرارات , كما انها يمكن ان تصبح مولدة الاتجاهات ضيقة اخرى داخل الوسط المدرسي الاستشراقي الغربي او العربي , وكان ان ظهرت هذه النزعة عند دارسين من امثال بتاي , تماماً كما ظهرت عند دارسين عرب تتلمذوا على بعض هذه النزعات 0 حتى بدا امامهم الفكر العربي مجموعة من التناحرات الفقهية الصغيرة والمكائد والنزعات التي لا تتمخض عن منتوج مؤثر , كما انها لا تظهر في سياق الاستنتاج الذي تقود اليه اجتهاداتهم الا عن ذهن بسيط يعوزه التعقيد الفلسفي 0 وعلى الرغم من ان الفكر الاستشراقي السياسي تنامى ظاهراً في أطار الاهتمامات اللغوية والرحلات داخل المؤسسة الاكاديمية الغربية التي اقترن تأسيسيها ببدايات النوع التوسعي في أوربا منذ قرون , الا انه لم يكن معزولاً عن نزعة مسايرة في ميدان الفكر السياسي الدولي او الخارجي الذي قد تفصح عن بعض سماته كتابات شأن تلك التي ظهرت عن جون ويستليك john Westlake بعنوان فصول في مبادئ القانون الدولي, وهو كتاب ظهر عام 1899 متوجاً لمجهود سياسي معني بالساحة الدولية كما يراها منظرو الامبراطورية في مرحلتها الاستعمارية : فاخلاصة التي يأتي بهاالكتاب لا تعدو التصريح بأن العالم ينقسم الى مناطق متحضرة واخرى متخلفة , يلزم الغرب ان يعزلها او يحتلها0 أي ان الفكرة كانت قائمة في التفكير الغربي وعلى الرغم من مسعى رجال التنوير في القرن الثامن عشر الى تغليب وجهة النظر الانسانية الداعية الى اغفال التفريق الجغرافي او العنصري الا ان النزوع الاقوى كان يشغل اخرين , ويتحول الى هاجس مقبول لدى ديفو وغيره وهو يتخيل انسانه الأسود او الملون يحتاج الى تثقيف اخر يتيح له حياة مختلفة عن حياة رهطة0
كما ان هذه النظرة لا يمكن ان تكون معزولة عن التفسير العنصري الذي طرحه رينان واقتبس عنه دي ساسي وغيره, حيث يتوزع عالمه الى جنسين آري وسامي, الى مبدع منتظم خلاق , مركب وآخر وصفي , ظاهري, ناقل, وهو توزيع بدا مقبولاً لعقول كثيرة خلطت بين التخلف الاجتماعي وبين التركيب العنصري للاجناس البشرية0
يقول رينان في محاضرات القاها في الكولج دي فرانس (1862) : الاسلام هو احتقار العلم والغاء المجتمع المدني انه البسلطة المروعة للعقل السامي, التي تحد الدماغ الانساني, وتحول بينه وبين كل فكرة مرهقة, وكل احساس رقيق, زكل بحث عقلاني, ولتجعله في خدمة توتولوجية أزلية : " الله هو الله "0
ومرة إخرى لم تكن نظرة رينان فريدة, بل هي امتداد اخر لما جاء عند بعض الرحالة امثال فولني, ليتقبلها بعض الساسة في مشاريعهم التوسعية, وهم يرون امكانية استعباد الاخر من خلال الرضوخ المفتعل لشعاراته , كما هو امر نابليون في حملته على مصر مثلاً 0 ويظهر الاستنتاج السياسي مبنياً على الاراء المجزوءة او الضيقة عند عدد كبير من أصحاب القرار السياسي طيلة العهد الاستعماري بعصريه, كمتهو الامر عند بلفور مثلاً عندماكان يستمرئ فكرة الخضوع للاستبداد, مشيراً الى ان المجتمع العربي الاسلامي يجهل معنى الادارة الذاتية جراء اعتياده على الخضوع للاستبداد 0 ويجري الخلط بين انظمة الحكم السياسي في المجتمع العربي الاسلامي وبين طبيعة الفكر الاسلامي طيلة العصر الاستعماري الأول , عندماكانت نتاجات الدارسين من المستشرقين تقرأ بشغف واهتمام من قبل الساسة ولأصحاب القرار لتنبعث عنها اجتهادات مشحونة بحماسة خاصة جراء الاحتكاك العدائي المحتدم مع الامبراطورية العثمانية0 وحيث بدت المعلومات المنقولة عن المجتمعات العربية الاسلامية من خلال الملاحظة والاختلاط كما هو الأمر عند ادوارد لين او جراء الدراسة عند دي ساسي وغيره او من خلال التفحص الجغرافي الانثروبولوجي , مالكة لصفة القطيعة , بدت اشارات اصحاب القرار السياسي حبلى هي الاخرى بشحنات مماثلة من التأكيد والجزم, فالمجتمع الذي يبصره سير الفرد لايل من خلال ازقته الملتفة ودروبه المتقاطعة ومتاهاته يجهل الدقة ومن ثم الانتظام والصدق, أما الشارع الغربي فانه يبدو لذهنه بوابته نحو الاعتراف والتفاليد والاخلاق , حتى كان كرومر يصادق على ما جاء به (سير الفرد) مقتنعاً ان المصري مثلاً يستحيل ان يماثل الغربي, ويعجز ان يبلغ العلم ويحقق الدقة, بينما يتم توزيع الافراد بين فلاحين جهلة متخلفين, و(افندية) جشعين تعوزهم الكفاءة, يراهم (وايزمن) عاجزين عن تحقيق ذاتهم في كيان مستقل كالدولة الفلسطينية0 اي ان الساسة الغربيين كانوا يبلغون الاستنتاجات من خلال كل ما هو جزئي وتخيلي وقطعي0
-----------------------------
المصدر:الاستشراق في الفكر العربي

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة