مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب رياح الاسلام
ملامح من تأثيرات كتاب "المعراج" في الكوميديا الالهية
عبد الرحمن بدوي


يمكن تلخيص أوجه الشبه بين كتابي "المعراج" و "الكوميديا الإلهية" لأكبر شعراء ايطاليا دانته، فيما يلي:
(أ) إن الكتب الأدبية التي عالجت موضوع الرحلة إلى الجنة والنار كان دور الدليل فيها بيان الطريق والمناظر. أما في كتاب "المعراج" فإننا نجد دور الدليل مختلفاً عن ذلك، فالدليل هو جبريل الذي يناقش ويحل كثيراً من الشكوك والمعضلات التي يشاهدها النبي محمد (ص) ليس فقط المتعلقة بترتيب العالم الآخر، بل وأيضاً مسائل جزئية في التوحيد والفلك: الجنة بعد يوم الحساب (ص45)؛ تركيب الجحيم (ص 135 _ 138)؛ يوم الحساب (ص 162_165) والقيامة (ص 189)؛ قسمة اللطف الإلهي بين الأحياء (ص174)؛ توزيع المذنبين في الجحيم ( ص 181)؛ المرور على الصراط (ص 192 _ 198)، مساحة الجنة ( ص 76)؛ المسافات بين الأرض والسماوات، والمساحات بين السماوات بعضها وبعض (77_79)؛ مساحات الأرضين ( ص 158)؛ بناء العالم (ص166)؛ الأرضون السبع والمحيط (ص 152_157). كذلك يشرح الملك جبريل للنبي المناظر الرمزية التي تتجلى له طوال الرحلة (الأصوات الثلاثة، ص8؛ الأشربة الأربعة، ص 131) وكثيراً ما يعتذر النبي لجبريل عن كثرة أسئلته له (ص 158،166،174،181،192).
وهذا الدور "الجديد" الذي يقوم به الدليل، ولا يوجد في كل الكتب الغربية التي موضوعها الرحلة إلى العالم الآخر، هو أيضاً الجديد في "الكوميديا الإلهية". فقد استفاد دانته من صحبة الأدلاء الثلاثة (فرجيل وماتيلده وبياتريتش) من أجل إثارة استطرادات غريبة تتناول أسئلة في التوحيد والفلك وشكوكا تثار ويحلها الدليل. فالتشابه هنا بين كتاب "المعراج" و "الكوميديا الإلهية" تشابه واضح كل الوضوح.
***
(ب) وتشابه آخر بين الكتابين هو اهتمام كليهما بالجغرافيا الفلكية، وهو أمر لا نجده في الرحلات الأخرى إلى الآخرة.
ثم أن عبارات عربية في نفس الترجمة الفرنسية واللاتينية لكتاب "المعراج" ترن غريبة في الأذن الغربية، ويشابهها تماماً ما صنعه دانته فيما نسبه إلى بلوتو ("الجحيم"، النشيد السابع، البيت 1) ونمرود ("الجحيم" النشيد الحادي والثلاثون، البيت رقم 67) من عبارات بلغة غير مفهومة، اقترح البعض أنها مأخوذة من لهجات عبرية، وقال البعض الآخر إنها عربية، وهي ظاهرة غريبة جداً في "الكوميديا الإلهية".
***
(ج) وتشابه ثالث نبه إليه المستشرق الاسباني أسين بلاثيوس من قبل ("الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية" ط 2 ص 50_53) وهو التشابه بين نسر السماء في "جنة" دانته وبين ديك الجنة الإسلامية. وهذا التشابه أوضح في كتاب "المعراج" (ص 69). صحيح أن النسر يلعب دوراً في الإمبراطورية وفي سفر حزقيال (أصحاح 17: 3) وسفر أشعيا (أصحاح 40: 31) وإنجيل متى (أصحاح 24 : 28)، ولكنه ليس الدور الذي يفرده دانته هنا للديك في الأناشيد 18 _ 20 من "الجنة" في "الكوميديا الإلهية"، أعنى دور التغني بمديح الرب والتسبيح بحمده. وهو نفس الدور الذي يقوم به الديك الأبيض والأخضر الهائل الذي ينادي ديوك الأرض كي "يؤذن لصلاة الفجر" في "كتاب المعراج". هذا الديك يستند إلى الأرض السابعة ولكن عرفه في السماء حيث عرش الله؛ ويغني منشدا: تباركت يا ربي أينما كنت؛ وهذا الديك حين يفرد جناحيه يشمل كل السماوات والأرضين من المشرق إلى الغرب.
***
(د) والمعراج نفسه، وهو بمثابة "سلّم"، يبدأ من عتبة المسجد الأقصى وينتهي عند السماء الأولى في الجنة. وكانت تحيط به الملائكة تحرسه؛ وعليه صعد النبي (ص) في صحبة جبريل وكل الملائكة.
وهذا المعراج يشبه المعراج الذي وجده دانته في سماء زُحل، وهو سلم يمتد حتى يبلغ آخر أفلاك الامبريو. صحيح أن المعراجين يرجعان إلى سلم يعقوب الوارد ذكره في سفر "التكوين" (أصحاح 39: 12)، لكن التشابه في التفاصيل يدعو إلى الظن بأن دانته إنما استلهم معراج "كتاب المعراج" لا مجرد سلم يعقوب. ذلك أن دانته استعمل هذا السلم للصعود إلى السماء العليا في الجنة تقتاده بياترتشى، وكذلك استعمل النبي (ص) المعراج ليعرج به إلى السماء الأولى في الجنة يقتاده جبريل: "وأخذ جبريل بيدي ورفعني فوق التراب ووضعني على الدرجة الاولى من المعراج وقال لي: اصعد يا محمد! فصعدت".
***
(ه‍) وتشابه خامس، أشار إلى شيء منه أسين (ص 180ـ184)، وهو التشابه بين الصراط في التصورات الأخروية الإسلامية وبين "الأعراف" Purgalorio في "الكوميديا الإلهية". فهذا الصراط هو نوع من "القنطرة" أو "الجسر" أو "العقبة" التي يصعب المرور عليها. و "الأعراف" عند دانته صراط (طريق) منزلق وعقبات يصعب اجتيازها وصخرة عالية جداً.
وقد أبرز أسين هذا التشابه اعتماداً على وصف ابن عربي للصراط في "الفتوحات المكية". قال ابن عربي (ج 1 ص 211)، "والطائفة التي لا تدخل النار إنما تمسك وتسأل وتعذب على الصراط؛ والصراط على متن جهنم غائب فيها، والكلاليب التي فيه بها يمسكهم الله عليه. ولما كان الصراط على النار، وما ثم طريق إلى الجنة إلا عليه، قال تعالى: (وإن منكم إلاّ واردها، كان على ربك حتما مقضياً). ومن عرف معنى هذا القول عرف مكان جهنم ما هو". وقال ابن عربي في موضع آخر ("الفتوحات" ج3 ص 573): "ويوضع الصراط من الأرض علواً على استقامة إلى سطح الفلك المكوكب فيكون منتهاه إلى المرج الذي هو خارج سور الجنة. وأول جنة يدخلها الناس هي جنة النعيم".
ويتجلى التشابه الكبير بين الأعراف في الإسلام والأعراف عند دانته إلى درجة الاتفاق التام فيما أورده ابن عربي في "الفتوحات المكية" (ط 1 ص403_406) على هيئة حديث مروي عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): إن في القيامة لخمسين موقفاً: كل موقف منها ألف سنة. فأول موقف إذا خرج الناس من قبورهم فإنهم يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة حفاة عراة جياعاً عطاشاً. فمن خرج من قبره مؤمناً بربه، مؤمناً بنبيه مؤمناً بجنته وناره مؤمناً بالبعث والقيامة، مؤمناً بالقضاء والقدر خيره وشره، مصدقا بما جاء به محمد (ص) من عند ربه نجا وفاز وغنم وسعد.
ومن شك في شي من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمه وكربه ألف سنة، حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر. فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران وفي حرّ الشمس، والنار عن أيمانهم وعن شمالهم ومن بين أيديهم ومن خلفهم، والشمس من فوق رؤوسهم، ولا ظل إلا ظل العرش. فمن لقى الله _تبارك وتعالى _ شاهداً له بالإخلاص، مقراً بنبيه (ص) بريئاً من الشرك ومن السحر وبريئاً من إرهاق دماء المسلمين ناصحاً لله ولرسوله، محباً لمن أطاع الله ورسوله مبغضاً لمن عصى الله ورسوله استظل تحت ظل عرش الرحمن، ونجا من غمه.
ومن حاد عن ذلك ووقع في شيء من هذه الذنوب بكلمة واحدة، أو تغير قلبه، أو شك في شي من دينه بقي ألف سنة في الحشر والهم والعذاب حتى يقضي الله فيه بما يشاء ثم يساق الخلق إلى النور والظلمة فيقيمون في تلك الظلمة ألف عام. فمن لقى الله تبارك وتعالى لم يشرك به شيئاً ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق، ولم يشك في شيء من أمر دينه، وأعطى الحق من نفسه، وقال الحق وأنصف الناس من نفسه، وأطاع الله في السر والعلانية، ورضى بقضاء الله وقنع بما أعطاه الله خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة عين مبيضاً وجهه، وقد نجا من الغموم كلها.
ومن خالف في شيء منها بقي في الغموم والهم ألف سنة ثم خرج منها مسودّاً وجهه وهو في مشيئة الله يفعل به ما يشاء.
ثم يساق الخلق إلى سرادقات الحساب، وهي عشر سرادقات، يقفون في كل سرادق منها ألف سنة فيسأل ابن آدم عند أول سرادق منها عن المحارم فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثاني، فيسأل عن الأهواء، فإن كان نجا منها جاز إلى السرادق الثالث فيسأل عن حقوق الوالدين... وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال بقي في كل سرادق منها ألف عام جائعاً عطشان حزناً مغموماً مهموماً لا تنفعه شفاعة شافع.
ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بإيمانهم وشمائلهم، فيحبسون عن ذلك في خمسة عشر موقفاً، كل موقف منها ألف سنة، فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض اللهم عليهم في أموالهم. فمن أداها كاملة جاز إلى الموقف الثاني... وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب ثم خرج من الدنيا غير تائب من ذلك، بقي في كل موقف من هذه الخمسة عشر موقفاً ألف سنة في الهم والغم والهول والحزن والجوع والعطش حتى يقضي الله _عز وجل _ فيه بما يشاء.
ثم يأخذ الناس في قراءة كتبهم ألف عام. فمن كان سخياً قد قدم ماله ليوم فقره وحاجته وفاقته قرأ كتابه وهوّن عليه قراءته وكسى من ثياب الجنة وتوّج من تيجان الجنة وأقعد تحت ظل عرش الرحمن آمناً مطمئناً. وإن كان بخيلا لم يدّم ماله ليوم فقره وفاقته أعطى كتابه بشماله وقطع له من مقطعات النيران، ويقام على رؤس الخلائق ألف عام في الجوع والعطش والعري والغم والحزن والفضيحة حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
ثم يحشر الناس إلى الميزان فيقومون عند الميزان ألف عام، فمن رجح ميزانه بحسناته فاز ونجا في طرفة عين، ومن خف ميزانه من حسناته وثقلت سيئاته حبس عند الميزان ألف عام في الهم والغم والحزن والعذاب والجوع والعطش حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
ثم يدعى الخلق إلى الموقف بين يدي الله في اثني عشر موقفاً، كل موقف منها مقدار ألف عام فيسأل في أول موقف عن عتق الرقاب.
ثم يؤمر بالخلائق إلى الصراط المستقيم فينتهون إلى الصراط وقد ضربت عليه الجسور على جهنم، وهو أرقُّ من الشعر، وأحدّ من السيف، وقد غابت الجسور في جهنم مقدار أربعين ألف عام ولهيب جهنم بجانبها يلتهب، وعليها حسكٌ وكلاليب وخطاطيف، وهي سبعة جسور يحشر العباد كلهم عليها، وعلى كل جسر منها عقبة مسيرة ثلاثة آلاف عام: ألف عام صعود، وألف عام استواء وألف عام هبوط وذلك قول الله _عز وجل _ إن ربك لبالمرصاد، يعني على تلك الجسور ملائكة يرصدون الخلق عليها ليسأل العبد عن الإيمان بالله. فإن جاء به مؤمناً مخلصاً لا شك فيه ولا زيغ جاز إلى الجسر الثاني... وإن كان قصر في واحدة منهن حبس على كل جسر منها ألف عام. ثم يقضي الله _عز وجل _ فيه بما يشاء".
وهذا الوصف المفصل الدقيق لمرحلة الأعراف نجد له نظائر عديدة ومطابقة إلى حد بعيد في الكوميديا الإلهية، يأخذ أسين في بيانها.
غير أن الأمر الذي أخذه النقاد على أسين هنا هو أنه لم يُعرف حتى الآن أن كتب ابن عربي قد ترجمت إلى أية لغة أوروبية في عصر دانته. وهذا ما اعترض به مثلا كارلو الفونسو نلينو في "مجلة الدراسات الشرقية" اللهم إلا إذا كان دانته قد عرف مؤلفات ابن عربي بواسطة صديق له يعرف العربية، لكن افتراض وجود هذا الصديق أمر مستبعد تاريخياً. ولهذا استبعد نلينو أن يكون قد وقع تأثير مباشر من ابن عربي في دانته.
ولكن الأمر _كما يلاحظ اتشرولي _ يتخذ وجهاً آخر بعد اكتشاف كتاب "المعراج" ذلك لأن هذا الكتاب يتحدث عن "الصراط" بالتفصيل (ويستعمل نفس اللفظ العربي: الصراط). ولكنه لا يتحدث عنه إلاّ بوصفه قنطرة ومعبراً لا على أنه مصعد وسلم، ولا على أنه يمضي من الأرض الى الجنة، وهو بمثابة مكان امتحان للايمان.
-----------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الاوربي"

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة