مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب شرفات غربية
لمحة عن ماهية الاستشراق وميلاده
عبد الجبار الرفاعي


الاستشراق إختراع أوروبي، يتصرف بخامات شرقية، ويتحرك بأدوات غربية، لخدمة المصالح الأوربية، وتعزيز هيمنة الغرب على الشرق، وتأكيد تفوقه وسيادته، وهو التعبير الواضح للمركزية الغربية، القائمة على نفي الآخر.
وليس الاستشراق _كما يحلو للبعض أن يقول _ خطاب علمي ومعرفي موضوعي عن الشرق، أنجزه الباحثون الغربيون، الذين تخصصوا بدراسة المجتمعات الشرقية وتراثها، وظلوا أوفياء لتخصصهم طوال حياتهم حيث حرصوا على تصنيف الكتب، والتنقيب عن الآثار الشرقية، واصدار الدوريات، وعقد المؤتمرات والندوات والترحال بين البلدان الشرقية، وتأسيس مراكز البحوث والمعاهد الدراسية، لأجل ذلك.
ويمكن ان نعرف مدى سعة وكثافة انتاج الاستشراق، إذا لاحظنا إنه نشر في الغرب اكثر من "60" ألف كتاب، في قرن ونصف "1800 _ 1950"، مما يُعنى بالشرق العربي وحده، هذا فضلاً عن "41470" مقالة وبحث، نُشرَت حول الاسلام في الدوريات الغربية، منذ مطلع القرن الحالي، في حوالي ستين عاماً "1906 _ 1965"، كما وثّقَ ذلك "جي.دي. بيرسن "J.D.pearson مدير مكتبة كلية الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن، في كتابه: Index Islamicus الذي نشره في لندن عام 1958م، ثم أتبعه بملحقين نُشرا عام 1962، و 1967.
وان كنا لانعدم استثناءً لهذا الكلام في المستشرقين _وهم الأقل _، الذين تغلبوا على سلطنة المنهج الاستشراقي في الحديث عن الشرق.
ذهب بعض الباحثين الى ان الاستشراق نشأ في القرن التاسع (الميلادي) في الأندلس، حيث تمثل في إقبال المستعربين من الأوروبيين على دراسة العربية، وجمع المعلومات عن المسلمين، ثم ترجمة الكتب العربية الى اللاتينية.
واستدل على ذلك بوجود مدوّنات إسبانية محملة بتأثيرات عربية واضحة في مضمونها، مما يثبت أن مؤلفيها أخذوا مادتهم التاريخية، وقواعدهم الحسابية، من مصادر عربية، ومن تلك المدوّنات (مخطوطات مختلفة وجدت في أوبيط Oviedo، وهي محفوظة في مكتبة الاسكوريال، وقد احتفظ لنا بها القديس أولوجيوس القرطبي المتوفى سنة 859م، ونقلت الى اوبيط عام 884م.
كما نجد الطريقة ذاتها في "المخطوطة المتنبئة Cronica Albeldenso" التي كتبها مؤلف مجهول عام 883م، وفي "مخطوط البلدة Cronica Albeldenso" التي كتبها الراهب فيجيلا Vigila، وأتمها عام 976م.
فيما ذهب آخرون الى ان بداية الدراسات العربية الاسلامية في أوروبا، ترجع الى القرن الثاني عشر، ففي عام 1143م تمت ترجمة القرآن لأول مرة الى اللغة اللاتينية بتوجيه من الاب "بيتروس فينيرا بيليس" رئيس دير كلوني وكان ذلك على أرض اسبانية، وفي تلك الفترة كذلك وضع أول قاموس عربي لاتيني.
إلاّ انه من المؤكد ان بعض الرهبان من البلدان الاوروبية قصدوا الاندلس، في أبّان عظمتها ومجدها، ودرسوا في مدارسها وترجموا القرآن وبعض الكتب العلمية الى لغاتهم، ودرسوا على علماء مسلمين مختلف العلوم، وخاصة الفلسفة والطب والرياضيات، ومن أوائل هؤلاء الذين وصلتنا أسماؤهم الراهب الفرنسي "جربرت"، الذي أصبح فيما بعد بابا لكنيسة روما عام 999م، و "بطرس المحترم 1092_1156م" و "جيراردي كريمون 1114 _ 1187م"، وبعد ان عاد هؤلاء الرهبان الى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد التي تعنى بالدراسات العربية أمثال مدرسة "بادوي العربية"، وأخذت الأديرة، والمدارس الغربية تُدرّس مؤلفات العرب المترجمة الى اللاتينية، واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب، وتعتبرها المراجع الاصلية للدراسة قرابة ستة قرون.
بيد أن حركة الاستشراق لم تكتمل لحظة ميلادها، وانما تدرجت في نموها وتطورها عبر مراحل، حتى ان الدراسات والتوجهات الاكثر أهمية وفعالية، لم تبدأ إلاّ مع القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وأما ما سبق ذلك فكان تمهيداً جاداً وارهاصات أولى لانبثاق هذه الحركة التي ترعرت عدة قرون، منقبة في التراث والانتاج الحضاري الشرقي عن تلك المرآة التي اصطنعتها وأرادت ان ترى الشرق من خلالها.
----------------------------------------
المصدر : (ماهية الاستشراق وميلاده) 3/1

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة