مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب شرفات غربية
نابليون وحقيقة اعتناقه الإسلام في مصر
سمير عطا


لم يكن إسلام نابليون يثير الباحثين في تاريخه إلا من زاوية خداعه للمصريين وتظاهره بالإسلام، حتى نشرت دار "أنوين" في لندن عام 1895م كتاباً عنوانه "كيف أخذ نابليون إلى جزيرة سانت هيلانة" يضم مذكرات جون كلوفر الذي كان أمين سر الأميرال كوكيرن في أثناء سفر نابليون إلى جزيرة سانت هيلانة" عام 1815م، ورافقه على السفينة تشيمبرلن، وجاء كشف هذا الكتاب نفسه والإشارة إليه في إحدى فقرات "صدّق أو لا تصدّق" لرابلي.
موقف نابليون من الإسلام
لعلها كانت البداية لكي تثير اهتمام كاتب أو أكثر للبحث عن حقيقة إسلام نابليون من خلال مقتطفات مما كتب عن موقفه من الإسلام أو صدر عنه من أقوال، ومما أمكن حصره من بعض هذه المصادر:
ما جاء في كتاب وليام هاينمن "منفى جزيرة هيلانة" على لسان نابليون من قوله: "لو كان الدين المسيحي دين العالم الوحيد لآمنت بالمسيح كما يؤمن به البابا بيوس السابع، ولكنني بماذا أومن وأنا أرى المسلمين يتبعون دين البساطة؟، والإسلام أدنى إلى عادات الناس وتقاليدهم؟".. وما أورده لورد آلتون في كتابه "التاريخ الحديث ـ كمبردج 1907م مجلد 18" من قوله: "لقد شغف نابليون بالعقيدة الإسلامية شغفاً عظيماً حتى إنه أعرب مرات كثيرة عن تفضيله لها على العقيدة المسيحية لبساطة الإسلام وملاءمته لمبادئ الأخلاق الأولية".. وهناك كتب ذات شأن مثل "تاريخ نابليون" للانجري، و"نابليون" لتوماس واطسون، و"القاهرة والقدس ودمشق" لمارجليوث، و"نابليون ورفاقه في السفر" لكليمنت شورتر، و"حياة نابليون" لآبوث، و"أيام نابليون الأخيرة" لروزبري، أشارت إلى ما ردده نابليون في سنواته الأخيرة عن "القرآن الجديد" الذي كان في نيته أن يضعه ليحقق به أهدافه ويحمله بيمينه وهو يغزو بلاد الشرق.. وقوله: "إن المسيح لم يتمرد قط على القوة الحاكمة، ومات على الصليب بين لصيّن تنفيذاً لحم موظف وثني، وإنه شخصياً لا يؤمن بألوهية المسيح"، وأنه قبل موته في سانت هيلانة أملى على مرافقه الجنرال كورجوا إشارات تدل على إسلامه منها قوله: "نحن المسلمون".. وقوله في حديثه عن الإسلام: إنه دين يوحد الله.. ودفاعه عن تحديد الزوجات بأربع في الشرق؛ لأن ذلك أفضل من الإباحية الغربية.. وإنه كان يكره لحم الخنزير، ويحرم جميع أنواع المقامرة.
مسلمون قهروا البابا
كما تشير هذه الكتابات إلى أن نابليون قد أباح لمن شاء من جنوده اعتناق الإسلام، وأنه قد رحّب بإسلام مينو أحد كبار قواده، كما رفع علم أمير المؤمنين العثماني إلى جانب العلم المثلث الألوان ـ علم الثورة الفرنسية ـ وجاهر بأنه هو وجيشه "مسلمون"، كما جاهر باعتزاز بأنه قهر البابا، وأباد فرسان القديس يوحنا عندما استولى على جزيرة مالطة، وهو في طريقه لغزو مصر. وفي كتاب "حملات مصر وسورية" الذي كتبه الجنرال برنار الذي نُفي مع نابليون إلى سانت هيلانة فصل عن الديانات في مصر، وأهمها الدين الإسلامي، وتتضح منه اهتمامات نابليون الإسلامية.. وفي الثلاثينيات ربما كان أحمد حافظ عوض صاحب صحيفة "كوكب الشرق" أول من أثار هذه القضية. وكتب عن إسلام نابليون ضمن ما كتب عن الحملة الفرنسية من وجهة نظر صحفية تتميز بالإثارة.. غير أن أهم ما كتب في هذا المجال، جاء في كتاب الجنرال جورج شبيلمان "نابليون والإسلام" الذي صدر عام 1969م، وكانت فرنسا وأوربا كلها تحتفل بمرور 200 عام على مولد ذلك القائد الذي سيطر على تاريخ أوربا كلها فترة من الزمن. يتحدث شبيلمان في كتابه عن "سياسات" نابليون الإسلامية، وليس عن "سياسة" واحدة؛ لأن مواقفه كانت تمليها الظروف والاحتياجات.
وعندما جاء نابليون إلى مصر أصدر أول بيان له في الثاني من يوليو/ تموز 1798م أشار فيه إلى أن الفرنسيين هم أنصار النبي، وقد قهر البابا وفرسان مالطة، فليصدّقنا المصريون إذا قلنا حقاً: إننا مسلمون. وفي بيان خاص موجه إلى العلماء في ديسمبر، كانون الأول 1798م قال: "ليعلم الكل أنه كتب لي منذ بدء العالم أنيِ لم آت من أقاصي الغرب لأخدع أو أخدع، بل لأقهر أعداء الإسلام، ولأثبت أن القرآن الكريم تنبأ عما كان وعما سيكون".
لقد انحسر الإسلام عن أوربا في واقعتين شهيرتين هما واقعة "بلاط الشهداء"، سنة 732ه‍ عندما هزم شارل مارتل القائد الأندلسي عبد الرحمن الغافقي بين "تور" و"بواتييه" جنوب فرنسا، وواقعة فيينا عام 1683م عندما أوقف الغرب زحف الأتراك العثمانيين.. ولو كانت نتيجة هاتين المعركتين جاءت في مصلحة الإسلام لتغير وجه التاريخ.. ولو كان نابليون قد أسلم وعاد بدين الإسلام إلى فرنسا لكان قد عوض الإسلام عن نتيجة هاتين المعركتين. وتاريخ الحضارة البشرية يشير إلى ملوك وقياصرة اعتنقوا ديانات جديدة فتبعتهم دولهم وتغير وجه التاريخ في بلادهم.. فلماذا لم يحدث ذلك في فرنسا على يد نابليون؟ وإذا كان قد أسلم فلماذا لم يدع إلى دينه بصورة واضحة وظاهرة؟ هل اكتفى بما يحس به في صدره وبما يخفق به قلبه أو يوعز به ضميره؟ أم إن الأمر كله لم يعد أن يكون مظهراً "تكتيكياً" أو "إستراتيجياً" اقتضته الظروف من هذا الفاتح الذي كان يحاول أن يقلد الإسكندر المقدوني؟
أول منشور
في الثاني من شهر يوليو/ تموز 1798م، أي بعد وصول نابليون إلى الإسكندرية وزع منشوراً على الشعب المصري هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك في ملكه.. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية. السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنسية بونابرته.. يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدّي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم، وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض مثلها؛ فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمغترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم. وقولوا أيضاً لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء حسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المريحة.. فإن كانت الأرض المصرية التزاماً للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم؛ ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها.. وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كلّه إلا الظلم والطمع من المماليك. أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاولة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب مهم مقاتلة المسلمين.. ومع ذلك فإن الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، ومع ذلك فإن المماليك امتنعوا عن طاعة السلطان غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلاً إلا لطمع أنفسهم. طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم".. ثم يورد المنشور فيما بعد ذلك تحذيرات للمصريين من الإقدام على مساعدة المماليك، وينظم العلاقة بين المصريين والفرنسيين في أثناء عملية الغزو وبعدها.
كتب المنشور باللغات الثلاث الفرنسية والتركية والعربية.. ولوحظ وجود خلافات طفيفة بين النصين العربي والفرنسي، إذ روعي في النص الفرنسي أن تكون عباراته بصورة مخففة؛ لأنه ـ أساساً ـ مجرد تسجيل للفرنسيين وغير موجه للمصريين.. ومن أمثلة هذه الخلافات: في النص العربي "وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأخدم نبيه والقرآن العظيم".. وفي النص الفرنسي "وإنني أخدم الله ورسوله والقرآن أكثر من المماليك".. كما أن هناك عبارة ذات أهمية قصوى وهي: في النص العربي "إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون".. وفي النص الفرنسي "إن الفرنساوية أصدقاء مخلصون للمسلمين". ولعل هذه العبارة بوضوحها في النص العربي مع مظاهر المشاركة الإسلامية لنابليون في احتفالات المسلمين هي التي أثارت قضية إسلام نابليون.
وواضح أن بونابرت كان يحاول استغلال الدين ورجاله إلى أقصى حد.. كتب لكليبر في الإسكندرية يقول له ـ ونابليون في القاهرة ـ: "إننا إذا كسبنا تأييد كبار شيوخ القاهرة كسبنا الرأي العام في مصر كلها. فليس بين زعماء الأمة كلهم من هو أقل خطراً علينا من الشيوخ فهم جبناء عاجزون عن القتال، يوحون ـ كجميع رجال الدين ـ بالتعصب دون أن يكونوا هم أنفسهم متعصبين".
ولم يكن نابليون أو بعض قواده يتركون مناسبة لا يعلنون فيها أنهم "مسلمون" أو "غير مسيحيين" أو أنهم لا يؤمنون إلا بالكائن الأعظم.
وحين يأتي له المشايخ في قصره بالأزبكية يجلس وسطهم على الأريكة ويحاول كسب ثقتهم بالمناقشة في القرآن، ويطلب تفسير الآيات المهمة ويبدي إعجابه العظيم بالرسول.
وحاول بونابرت أن يوهم رجال الدين المصريين بأن النبي (ص) قد خصّه بالرعاية، وإلا: فكيف هزم أولئك المماليك الشجعان؟.. إنه هزمهم بتوفيق الله ومحبة رسوله.
وقد علق نابليون في سانت هيلانة، على ذلك بقوله: إن المشايخ قد نظروا إليه عندئذ بأنه "مقدر من عند الله".. وهو وصف فيه الكثير من المبالغة أو الاعتزاز فإن لم يقدر تماماً أن المشايخ المقربين منه كانوا يداهنونه، أما غالبية الوعاظ فقد انطلقوا من على المنابر يهاجمون الفرنسيين. فجمع نابليون أعضاء الديوان الذي أنشأه كهيئة استشارية له وقال لهم: "أريد من الأزهر فتوى تأمر الناس بحلف يمين الولاء والطاعة لي"، فوجم المشايخ وبهتوا لهذا الطلب.. ثم تشجع الشيخ الشرقاوي وقال: "إنك تطلب رعاية الرسول الذي يحبك، وتريد العرب المسلمين أن ينضووا تحت رايتك، وترغب في استرداد أمجاد العرب وأنت لست مشركاً ولا وثنيّاً.. فاعتنق الإسلام إذن، لأنك لو فعلت لبادر إلى الانضواء تحت لوائك مئة ألف عربي من بلاد العرب ومن مكة والمدينة، ولاستطعت وأنت قائدهم ومنظمهم أن تفتح بهم الشرق وتسترد وطن الرسول بكل أمجاده".. فدهش الجنرال..
جاء هذا في وصف بونابرت في مذكراته لهذه المقابلة في حين لم يذكرها الجبرتي في تاريخه.. وهناك شك في أن تكون هذه الرواية قد حدثت على وجه عكسي، فإن من المرجح أن نابليون هو الذي اقترح أن يعلن إسلامه هو وجيشه وسط دهشة المشايخ، ولعل مما يؤيد ذلك شائعة سرت عقب وصول الفرنسيين إلى القاهرة ـ مصدرها فرنسي ـ بلا شك ـ تصرّح أن النبي (ص) قد ظهر للجنرال وطلب منه أن يجهر بإسلامه حتى تخضع آسيا كلها لسلطانه.. وأن الجنرال قد ردّ على النبي ـ في الحلم ـ بأن يعطيه مهلة عام واحد لكي ينظم فيها أمور جيشه لتقبل هذا التحول العظيم.. أما هو نفسه فإنه يعدّ نفسه مسلماً بشهادة الشيخ السادات والشيخ البكري!!.
مسلمون عصاة
ولا شك أن دهشة المشايخ من هذا الطلب كان مرجعها أن الفرنسيين كانوا يعلنون أنهم لا يمكنهم أن يقبلوا عمل الختان "كالمسلمين واليهود" أو أن يكفوا عن شرب الخمر.. ويدور نقاش بين نابليون والمشايخ للوصول إلى حل وسط.. ورأى بعض المشايخ الممالئين إمكان إصدار فتوى بأن الختان نافلة وليس فرضاً، وأن المسلم يمكن أن يشرب الخمر ولكنه يصبح مسلماً عاصياً.
وكان من السخرية أن يعلن الفرنسيون إسلامهم ثم يدمغون أنفسهم بأنهم عصاة، ولا يسعون إلى دخول الجنة كما يفعل المسلم الحق.
وأيّا كان الأمر فقد أصدر العلماء بياناً بأن الجنرال أو "السلطان الكبير": "يحب المسلمين، ويعز الرسول، ويهذب نفسه بقراءة القرآن كل يوم، ويريد بناء مسجد لا نظير له في بهائه وفخامته، ويود اعتناق الإسلام".
نجحت سياسة التراضي مع المشايخ المسلمين أول الأمر نجاحاً خدّاعاً ولا سيما بعد أن قتل محمد كريم لمقاومته السلطة الفرنسية.. وكان نابليون على إدراك واسع بنوازع المصريين الدينية في عصورهم التاريخية، وقد كان متأثراً إلى أبعد حد بما فعله الإسكندر المقدوني في مصر.
كانت رحلة الإسكندر إلى واحة سيوة وتظاهره بأنه ابن آمون وما لقيه ذلك من ترحاب في نفوس المصريين المتدينين ماثلة في ذاكرة بونابرت، فأراد أن يفعل الشيء نفسه مع المصريين. ويعلق بونابرت على نجاح الإسكندر بقوله: "لقد حقق بعمله هذا من حيث تثبيت دعائم فتحه للبلاد أكثر مما كان يحققه لو بنى عشرين حصناً، وعزز جيشه بمئة ألف من المقاتلين المقدونيين". ويضيف نابليون في معرض إعجابه بالإسكندر: "كان مُنتهى حسن السياسة منه أن يذهب لزيارة معبد آمون فهو بهذا فتح مصر.. ولو أنني مكثت في الشرق لأقمت على الأرجح دولة كدولة الإسكندر بذهابي إلى مكة للحج".
والملاحظ أن بونابرت قد اشتط أول الأمر في مجاملته أو تظاهره بالإسلام.. حتى ألجأته الظروف إلى الكشف عن نفسه كغازٍ ذي أغراض سياسية محددة.. وأهم هذه الظروف شعوره بالحصار في مصر وضرورة تطوير أسلوب الحياة فيها بما يتفق مع المصلحة الفرنسية، الأزمات المالية المتعاقبة، وإعلان السلطان العثماني الحرب على الفرنسيين.. وهكذا عرف المصريون أن السلطان "صديق الفرنسيين" يحاربهم.. وقرأ المشايخ ورجال الدين منشور السلطان على الشعب فكانت ثورة القاهرة الكبرى.
يضاف إلى ذلك ما شاهده المصريون من تصرفات الفرنسيين في الحكم أو الحياة الاجتماعية على السواء، ومن حاول أن يقلدهم من المصريين الذين "ضربت زوجاتهم مثلاً سيئاً بالخروج سافرات وتقليد العادات الأوربية".. ومجاهرة الفرنسيين بشرب الخمور، إلى جانب بعض الرسميات أو الشكليات الفرنسية. وتذكر المراجع منها محاولة منح الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيس ديوان القاهرة طيلساناً مثلث الألوان كالعلم الفرنسي تكريماً له، فغضب الشيخ وألقاه أرضاً، وحين أفهم أن هذا تكريم له ليرفعه في عيون الفرنسيين صاح: لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا المسلمين.
فقد المصريون الثقة في ادعاءات الفرنسيين ونابليون الإسلام بعد ثورتهم، وبعد أن وجهت المدافع إلى الأزهر وانتهك الفرنسيون حرمته فيما وصفه الجبرتي بقوله: ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا الخزائن الخاصة بالطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به وعروه ومن ثيابه أخرجوه".
وكان خليقاً بهذه الأحداث أن تؤثر تأثيراً سيئاً في نظرة المصريين إلى ادعاءات نابليون الإسلامية فحاول أن يلجأ إلى سياسة مكيافيلية بالعفو عن المشايخ والعلماء فيما عدا قلة منهم، ثم قطع رؤوس من اشترك في الثورة سراً، ووجه منشوراً تحذيرياً لم يخل من أسباب التمسك بادعاءاته الإسلامية منها:
"أعلموا أمتكم أن الله قدّر في الأزل هلاك أعداء الإسلام على يدي، وقدّر في الأزل أني أجيء من الغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، وإجراء الأمر الذي أمرت به.. ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه. وأعلموا أيضاً أمتكم أن القرآن العظيم صرحَ به في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، كلام الله في كتابه صدق وحق".
لكن ذلك لم يأت بالأثر المطلوب بعد أن شاهد المصريون عياناً القوة القاهرة المسيطرة للفرنسيين كغزاة وليسوا مسلمين ولا أصدقاء للمسلمين. وقد أشار الجبرتي إلي ما يفيد تشكك المصريين بعد ذلك بقوله عن هذا المنشور أنه "تمويهات على العقول بفاسد التخيلات التي تنادي على بطلانها بديهة العقل فضلاً عن النظر".
ومن الغريب أن يتطابق ما أشار إليه الجبرتي بما ذكره كريستوفر هيرولد مؤلف كتاب "بونابرت في مصر" من أن نابليون وهو في سانت هيلانة أعترف بأن هذا المنشور كان قطعة من الدجل "ولكنه دجل من أعلى طراز".
---------------------------------------------------
المصدر : مجلة الفيصل /العدد 294

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة