مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب رياح الاسلام
الغرب الفيلسوف في القرون الوسطى واستاذية الفلسفة الاسلامية
عبد الرحمن بدوي


دور المسلمين في تكوين الفلسفة الأوربية في العصور الوسطى دور مزدوج: دور الرسول الحامل لهم رسالة اليونان في الفلسفة، ودور الفاعل المؤثر بما ابتكر وأنتج. فعن طريق المسلمين عرفت أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر مؤلفات أرسطو وقطعاً من فلسفة أفلوطين وأبرقلس، ومعالم من فلاسفة أفلاطون. إذ قام المترجمون في طيطلة وفي صقلية، وهم الذين تحدثنا عن نشاطهم في مستهل هذا البحث، بترجمة كتاب "البرهان" من منطق أرسطو أعني "التحليلات الثانية"، و "السماء والعالم"، و "الكون والفساد" و "السماع الطبيعي" و "الآثار العلوية"، كما ترجموا كتاب "الخير المحض" المنسوب إلى أرسطو، وهو في الحقيقة فصول منتزعة من "إلهيات" أبرقلس.
وعن هذا الطريق عرفت أوروبا أرسطو وأبرقلس، فكان لهما أثر هائل في إخصاب الفكر الأوروبي الذي سرعان ما خضع لفلسفة أرسطو خضوعاً تاماً.
وأعمق من هذا أثراً بكثير، أثر الفلاسفة المسلمين أنفسهم في أوروبا لما أن ترجمت بعض مؤلفاتهم إلى اللاتينية، وبعض اللغات الاوروبية الحديثة الناشئة. فترجم يوحنا الأسباني "منطق" ابن سينا، وترجم جونديسالفي (غنصالبه) بمساعدة يوحنا الأسباني قسم "الطبيعيات" من كتاب "الشفاء" وقسم "النفس" و "الإلهيات" من "الشفاء" لابن سينا أيضاً، كما ترجموا "مقاصد الفلاسفة" للغزالي. ومن ناحية أخرى ترجم جيرردو الكريموني جملة رسائل للكندي منها رسالة في العقل ورسالة الجواهر الخمسة، كما ترجم _فيما يبدو _ رسالة "في العقل" للفارابي.
فلما ترجمت هذه الكتب ظهر أثرها في الحال. وكان طبيعياً أن يظهر أول ما يظهر على شيخ المترجمين وهو جنديسالفي. فقد ألف كتباً نجد فيها لأول مرة آثار الفلسفة الإسلامية. ففي كتابه "تقسيم الفلسفة" نجد أنه قد أضيف إلى رباع العلوم التي كان القوم في أوروبا لا يعرفون غيرها: الطبيعيات، والنفس، وما بعد الطبيعة، والسياسة، وتدبير المنزل أو الاقتصاد. وفي كتابه الرئيسي، وهو "صدور العالم" يفسر المؤلف كيفية نشأة الكون على النحو الذي بينه ابن سينا في إلهيات "الشفاء" وابن جبرول في "عين الحياة"، كما تأثر ابن سينا أيضا في كتابه "في خلود النفس"، وبدأ تأثير أفلوطين والأفلاطونية المحدثة يظهر في كتابه "في التوحيد".
ولما بدأت عقول ممتازة في قراءة آثار الفلاسفة المسلمين بدأت النهضة الحقيقية للفكر الفلسفي الأوروبي، وذلك في القرن الثالث عشر. فأحدث ابن سينا أولا تأثيراً عميقاً واسعاً، خصوصاً إلهياته، المتأثرة بأرسطو والأفلاطونية المحدثة معاً، والتي يفسر فيها الكون ابتداء من الأول الذي يصدر عنه العقل الثاني، ثم الثالث وهكذا حتى العاشر، وهو العقل الذي يؤثر في الإنسان مباشرة. فهذا التصوير لصدور العالم عن الله الواحد هو الذي سيعتنقه الفلاسفة الأوروبيون، بدلا من التصوير الوارد في التوراة والذي كان سائداً حتى ذلك الحين.
فلنستعرض الآن كبار الفلاسفة الأوروبيين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، لنرى أثر الفلاسفة المسلمين فيهم.
فأولهم هو البرتس الكبير (سنة 1207_1280) الذي درس ما ترجم إلى اللاتينية من مؤلفات الفلاسفة المسلمين دراسة عميقة، وكاد أن ينقل عنهم كل نظرياته الرئيسية في الفلسفة، وإن لم يستطع أحياناً الجهر بذلك خوفاً من السلطات الدينية.
فقد أخذ عن ابن سينا القول بأن النفس جوهر عقلي، وأن كونها صورة للجسم ليس تحديداً لماهيتها، بل هو وظيفة من وظائفها، وأنها تستضيء من إشراق العقل الفعال عليها، وهذا العقل الفعال متصل بالعقل العاشر الذي هو عقل فلك القمر. كما أخذ عن ابن سينا نظرية الواحد وصدور العقول عنه.
وفضلاً عن ذلك فإنه في إدراكه وفهمه للفلسفة الأرسطية، إنما اعتمد كل الاعتماد على الفارابي وابن سينا وابن رشد.
وإذا ما انتقلنا من البرتس الكبير، إلى أكبر الفلاسفة الأوروبيين في القرن الثالث عشر، وهو القديس توما الأكويني وجدنا آثار الفلسفة الاسلامية أعمق وأنضج، وإن كانت أخفى في الظاهر لأنه لم يكن يذكر مصادره، بعكس البرتس الكبير الذي كان يشير غالباً إلى المصادر التي نقل عنها، أما توما فلا يذكر إلا أسماء الذين ينقدهم.
وأول شيء يظهر فيه تأثير الفلاسفة المسلمين في القديس توما هو البراهين التي أوردها لإثبات وجود الله بطريق العقل. فالبرهان الثالث من بين براهينه الخمسة _وهو أقواها إنما أخذه من الفارابي وابن سينا، ويقوم هذا البرهان على أساس تقسيم الوجود إلى واجب وممكن. والممكن لا يمكن أن يستمر في حال الإمكان إلى غير نهاية، بل لا بد من موجود واجب الوجود تنتهي إليه الممكنات، وهذا الكائن الواجب الوجود هو الله، فإن الممكن هو الذي يوجد ثم يفسد، وهو الذي وجد أو سيوجد، وكان من الممكن ألا يوجد، أما الواجب فهو الذي لا يمكن إلا أن يكون موجوداً. والممكن لا يستطيع بنفسه أن يفسر وجوده، إذ لو لم يوجد إلا ممكنات، لأمكن ألا يوجد شيء. فلكي يوجد شيء كان لابد أن يكون هناك موجود واجب الوجود، وهذا الواجب الوجود هو الله.
وكان هذا البرهان عمدة البراهين لإثبات وجود الله. وهو نفس البرهان الذي عرضه الفارابي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وعرضه ابن سينا في الهبات كتابيه "النجاة" و "الشفاء". ومن الثابت بيقين أن توما قد قرأ ابن سينا والفارابي لأنه يشير إلى مؤلفاتهما هذه صراحة. فمن الثابت بيقين أيضاً أن توما إنما أخذ برهانه الرئيسي على وجود الله من الفارابي وابن سينا.
كذلك أخذ القديس توما فكرة ضرورة الوحي الإلهي عن الفلاسفة المسلمين. فقد ذكر في المقالة الثالثة من شرحه على كتاب "الأقوال" في رسالته عن "التثليث"، وفي رسالته عن "الحقيقة" أسباباً ثلاثة لتبرير ضرورة الوحي الإلهي، لأنه بغير هذا الوحي لن يستطيع النجاة غير قليل من الناس، وبعد دراسة شاقة مجهدة لا يقوى عليها إلا القليلون، وبعد زمن طويل، فضلاً عما سيدخل عملهم هذا من أخطاء عديدة. فهذه الأسباب الثلاثة ذكرها ابن رشد في كتابيه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" ثم الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة".
وعن ابن رشد أيضاً أخذ القديس توما مذهبه في النقل والعقل، أي الصلة بين العقل الوحي، أو النظر والإيمان، فكلاهما يقرر أن العقل يقدر على البحث عن الحق شيئاً فشيئاً، وكلاهما يعترف بعجز العقل أمام بعض الحقائق الإلهية، والاتفاق بينهما _كما بين ذلك أسين بلاثيوس _ اتفاق في كل شيء: في الموقف العام الذي وقفه كلاهما من هذه المسألة، واتفاق في الآراء والأمثلة التي أوردها كلاهما، بل اتفاق أحيانا في العبارات التي يستعملها كل منهما. ولا يمكن أن يكون اتفاقا بالعرض ومن طريق توارد الخواطر، وإنما هو في الحقيقة نقل، أعني أن القديس توما أخذ هذه الآراء بحذافيرها من ابن رشد.
وهذا يفضي بنا إلى التحدث عن تأثير هذا الفيلسوف العظيم، ابن رشد، وهو تأثير لا يجاريه فيه أي فيلسوف مسلم آخر؛ لأننا لا نستطيع مثلا أن نتحدث عن فارابية أو سيناوية لاتينية، ولكننا نجد في مقابل ذلك رشدية لاتينية قوية جداً توافر لها أنصارها في أوروبا طوال أكثر من قرنين من الزمان.
وقد بدأت حركة الرشدية اللاتينية، أي اتباع ابن رشد من الأوربيين منذ أن ترجم ميخائيل اسكوت شروح ابن رشد على مؤلفات أرسطو في الفترة الواقعة بين سنة 1228 و 1235 ميلادية، لما أن كان فلكياً في بلاط فريدريك الثاني في بالرمو بصقلية. وتزعمها سيجر البرابنتي (سنة 1235_ سنة 1281 أو 1284م) الذي رأى في مذهب ابن رشد الحقيقة نفسها، لكنه لم يتردد أيضاً في أن يؤول هذا المذهب تأويلاً خاصاً في بعض الأحيان. وأهم ما أخذه أو أوله سيجر في مذهب ابن رشد هو القول بوجود حقيقتين: إحداهما نتأدى اليها من العقل والبرهان المنطقي؛ والأخرى نتأدى أو بالأحرى نتلقاها من الوحي والإيمان، الأولى هي الحقيقة الفلسفية، والثاني هي الحقيقة الدينية؛ وابن رشد كان صريحاً في موقفه هنا عند تعارض كلتا الحقيقتين: فقد رأى وجوب تأويل ما أتى به الإيمان كيما يتفق مع ما قضى به العقل، أما سيجر البرابنتي فلم يكن صريحاً إلى هذا الحد الجرىء، بل اضطر إلى القول بازدواج الحقيقة فآمن بالحقيقة الدينية بوصفه مؤمناً متديناً، وأيقن بالحقيقة الفلسفية بوصفه فيلسوفا.
وقال سيجر أيضا كما قال ابن رشد بقدم العالم، أي أن العالم ليس مخلوقاً في الزمان، بل هو قديم قدم البارى نفسه. وأن الله يعلم الكليات، ولا يعلم الجزئيات، لأن العلم بالجزئيات أي بالتفاصيل يقتضي تغيير العلم الإلهي تبعا لوقوع الأحداث. وليس العالم هو وحده القديم؛ بل أيضا الأجناس والأنواع ومن بينها النوع الإنساني. والحوادث التي وقعت في الماضي ستقع أيضا في المستقبل، أعني أن سيجر كان يقول بنظرية العود الأبدي، أي عودة الأحداث التي كانت من جديد وهكذا دواليك. كذلك قال سيجر بوحدة العقل الفعال فقال إن العقل الفعال واحد في الناس جميعا، وليس لكل إنسان عقل فعال خاص به. ولما كان العقل الفعال هو الجزء الخالد في النفس الإنسانية، فإن الخلود ليس لكل نفس إنسانية، بل للعقل الفعال الواحد المنتشر في الإنسانية كلها. ومن هنا لم يكن يقول بخلود النفس. كذلك لم يقل بالعناية الإلهية فيما يتصل بأفعال الإنسان الفرد، بل إنما تتعلق العناية الإلهية بالعالم ككل، لا بأفراد بني الإنسان.
وعلى الرغم مما لقيته الرشدية اللاتينية من هجوم واضطهاد من جانب السلطات الدينية، في أواخر القرن الثالث عشر، فإنها استمرت تنمو وتنتشر وتكسب الأنصار طوال القرن الرابع عشر؛ فنجد جان دي جاندان (المتوفى سنة 1328م) يخلص كل الإخلاص لمذهب ابن رشد؛ ويدافع عنه ضد القديس توما؛ لأن ابن رشد هو في نظره نصير الفلسفة الكامل المجيد. ونجد كذلك مارسيليو البادوفاني (المتوفى بين سنة 1336 و 1343م) الذي طبق نظرية الفصل بين العقل والنقل على السياسة فطالب بالفصل بين الدين والدولة، وصرح بنظرية ازدواج الحقيقية، أي أن ثمت حقيقتين منفصلتين قد تتعارضان أحياناً، وهما الحقيقة الدينية، والحقيقة الفلسفية واستمر تأثير ابن رشد في نمو مطرد في بعض الأوساط الفلسفية: أما تأثيره بوصفه شارحاً لأرسطو فقد استمر حتى القرن السابع عشر.
وهكذا نرى أن المذاهب الفلسفية الرئيسية والتيارات الكبرى في الفكر الفلسفي الأوروبي في القرون من الثالث عشر حتى السادس عشر تدين بوجودها وآرائها الجديدة الأصيلة للفلاسفة المسلمين.
--------------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الاوربي"

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة