مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 د. محمد عابد الجابري
آليات تشويه صورة العرب في الإعلام الغربي


العقل الأوروبي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف إلى (الأنا) إلا من خلال (الآخر). ومن هنا فهو لا يستطيع التفكير في المستقبل إلا من خلال (سيناريوهات) يرسم فيها لنفسه (الآخر).. العدو المنتظر.
يمكن للباحث السيكولوجي أن يلتمس لخطاب (الخوف من الاسلام في وسائل الإعلام الغربية دوافع دفينة في الرغبات التي لا يريد الخطاب الغربي التعبير عنها صراحة، والتي تنبع من حاجات أشبه بالحاجات البيولوجية بالنسبة إلى اللاشعور الفردي، مثل الحاجة إلى البترول والرغبة في استمرار الهيمنة عليه، والحاجة إلى المهاجرين المتناقضة مع الرغبة في التخلص منهم تحت ضغط هواجس اقتصادية أو عنصرية، والحاجة إلى بقاء العالم العربي والاسلامي قائماً كـ(آخر) لابد منه والرغبة في أن يظل مشتتاً متخلفاً تابعاً.. وهنا نكون أمام ميكانيزم سيكولوجي من تلك الميكانيزمات التي تمكن الرغبات الدفينة من الإفلات من رقابة (الأنا) تحت غطاء من الأغطية المقبولة، وهو هنا (الاسلام) الذي كان طوال عصور من التاريخ الأوروبي يمثل (الآخر) للأنا المسيحية.
قد يفيد هذا النوع من التفسير في الخروج بالظاهرة التي نحن بصددها من عمومية وضبابية ولا موضوعية الخطاب الإعلامي إلى دائرة البحث الاركيولوجي، أقصد حفريات المعرفة، وذلك بالبحث عن الآليات الايبيستيمولوجية التي تجعل رقابة (الأنا)، رقابة العقل الغربي، تضعف إلى الدرجة التي تجعل الخوف المبني على أوهام شيئاً يعامل كما يعامل المعطى الواقعي. إن هذا يحيلنا إلى أمر هام أعتقد أن الانشغال به صار ضرورياً اليوم وغداً، وهو فحص آليات العقل الأوروبي الراهن، العقل المنتج للخطاب الإعلامي المعاصر والواقع تحت تأثيره في الآن نفسه. وفيما يلي ملاحظات أولية سريعة في هذا المجال:
1 ـ لعل أول ما يلفت نظر الباحث، الذي ينتمي إلى ثقافة أخرى غير الثقافة الأوروبية، وهو يبحث عن تفسير لذلك النوع الذي عرضنا له من الخطاب الذي ينتجه العقل الأوروبي عن الاسلام، هو أن العقل الأوروبي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف إلى (الأنا) إلا عبر (الآخر). وهذا شيء معروف في الفكر الأوروبي منذ القدم. ففي الفلسفة اليونانية لم يستطع بارمينيدس الكلام على (الوجود) إلا من خلال طرح (اللاوجود) ولا الحديث عن المتناهي إلا من خلال (اللامتناهي). وعندما قام تلميذه زينون الأيلي للدفاع عن أطروحاته بنى حججه على فكرة (أن كل سَلب تعيّن). وسيأتي سبينوزا في العصر الحديث ليؤكد العكس فيقول: (إن كل تعيّن سلب). ولم يفعل هيغل شيئاً آخر سوى أنه جمع بين فكرة زينون وفكرة سبينوزا ليؤسس الديالكتيك عليهما: (كل تعيّن سلب وكل سلب تعيّن)، وهذا النوع من الترابط بينهما هو الذي يصنع التركيب.
ومن هنا أهمية النفي عنده وفي التقليد الفلسفي الأوروبي عموماً: فالإثبات لا يقوم إلا عبر النفي والأنا لا تتحدد إلا عبر الآخر، وكما قال سارير: (الآخر ضروري لوجودي). وبكيفية عامة فالعقل الأوروبي لا يرى العالم إلا من خلال تقابل الأطراف، كتقابل الأنا والآخر. وهكذا وسواء تعلق الأمر بالمثالية (هيغل) أو بالمادية (ماركس) أو بالوجودية (سارتر)، أو بغيرها من مذاهب الفكر الأوروبي، فإن الوجود، ميتافيزيقياً كان أو اجتماعياً أو سيكولوجياً، ينظر إليه على أنه صراع بين أضداد. بل إن اللاهوت المسيحي نفسه يحكمه التقابل بين (الخطيئة) و(الخلاص)، بين (الأب) و(الابن) .. الخ.
أما على صعيد التعرف إلى الهوية في الفكر الأوروبي فإن الباحث يستطيع أن يجد من الأمثلة ما يؤكد هذا (الثابت) في طريقة التعرف إلى الأنا في الرؤية الأوروبية للعالم: وهكذا فمنذ اليونان والرومان و(المواطن) يعرف إلى هويته من خلال (العبد) داخلياً و(البرابرة) خارجياً. أما المسيحية فلم تكن تتعرف إلى نفسها خلال القرون الوسطى إلا من خلال وضعها (الاسلام) كآخر خصم وعدو.
أما في العصر الحديث ومع انتشار الرحلات والاستكشافات الجغرافية. وذيوع الفكر العلماني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فإن ثنائية (الشرق) و(الغرب) أصبحت تحكم حديث الأوروبي عن نفسه، وهكذا أصبح الغرب لا يتعرف إلى نفسه إلا من خلال الصورة التي يبنيها لنفسه عن (الآخر): الشرق. واستمرت هذه الثنائية في التعمق داخل الوجدان الأوروبي إلى درجة أن مفكراً انجليزياً لم يستطع تحديد (العرب) إلا بقوله: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا). وكان الشرق يعني: الشرق الأوسط والشرق الأقصى.
وعندما قام الاتحاد السوفياتي بعد ثورة 1917م حلّ (الآخر) الشيوعي محل الآخر (الشرق)، فصار الغرب يتعرف إلى نفسه من خلال نقيضه الاقتصادي الاجتماعي: العالم الشيوعي كان الذي يمتد انطلاقاً من أوروبا الشرقية. وهكذا حل لفظ Est (الشرق الجغرافي النسبي) محل Orient (المشرق: الشرق الأوسط والشرق الأقصى)، كما حل بالمقابل لفظ Ouest محل Occident، فصار الغرب يتعرف إلى نفسه من خلال الآخر الـEst الذي يعني شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي.. الخ. وهانحن نرى اليوم ثنائية شمال/ جنوب تحل محل ثنائية غرب/ شرق بعد أن لم يعد (الشرق) قابلاً للتوظيف في التعرف إلى الأنا (الغرب) بعد سقوط الشيوعية. وكما استعمل العقل الأوروبي الجهات الجغرافية المتقابلة للتعرف إلى ذاته، استعان بالألوان أيضاً للغرض نفسه. وهكذا فـ(الآخر) هو تارة (الخطر الأصفر) وتارة (الخطر الأحمر)، وها نحن نسمع اليوم عن (الخطر الأخضر) = (الاسلام).. وفي جميع الأحوال يسكت الأنا عن لونه (الأبيض).
ومن المصادفات التاريخية أن الشيوعية سقطت في وقت برزت فيه على السطح في بلاد الاسلام تيارات معارضة للحكومات رفعت شعار (الاسلام) بعد أن لم يعد هناك شعار آخر قادر على تعبئة الجماهير، بعد تراجع شعار (القومية العربية)، بعد هزيمة 1967م وأفول نجم الماركسية والطفرة اليسارية التي انطلقت مع أيار/ مايو 1968م في أوروبا وأميركا. ولابد من التفكير هنا بأن الغرب كان يعتبر (الاسلام) حليفاً له في صراعه ضد الشيوعية. ولابد من التذكير كذلك بأن الغرب لم يكن يرى في ثورة الخميني ضد لاشاه، ولا في الإخوان المسلمين في مصر أيام جمال عبدالناصر ما يحمله على النظر إلى (الاسلام) كـ(آخر) عدو، بل بالعكس لقد وجد الخميني في فرنسا مركزاً للدعاية والاتصال، ولم تر فيه الولايات المتحدة ذلك الخصم الذي يستحق أن تغامر بالوقوف ضده وتراهن على الشاه بمساندته مساندة حقيقية. ومثل ذلك يقال عن الهجرة والمهاجرين، فالمسألة كانت قائمة منذ مدة ولم يكن ينظر إليها على أنها ذات علاقة بـ(الاسلام). وكذلك الشأن في (الإرهاب)، فلقد نفذت فصائل من المقاومة الفلسطينية في السبعينات عمليات خارج فلسطين، كخطف الطائرات وتفجير قنابل في أوروبا نفسها، مع ذلك لم تربط هذه العمليات لا بـ(الاسلام) ولا بـ(العرب) جملة، بل ربطت بحركات معروفة بأسمائها وقادتها.
وإذاً فالحملة على الاسلام اليوم هي عملية من قبيل (كل سلب تعيّن)، بمعنى أن الغرب لم يعد قادراً على التعرف إلى نفسه، بعد انهيار خصمه الشيوعية إلا من خلال تنصيب (الاسلام) كـ(آخر) جديد. وكما يفعل العقل الغربي دائماً، فهو عندما يتخذ طرفاً ما (آخر) له، يبنيه بناء جديداً، بل يصنعه صنعاً ليضمنه جميع أنواع (السلب) ـ أو النفي ـ التي تمكنه من تحديد هويته هو ايجابياً. وهكذا يصبح (الاسلام) وعاء لكل ما لا يرغب فيه الغرب ولكل ما يخاف منه، وبالتالي فالاسلام كـ(آخر) يعني في الوقت نفسه (العرب) بوصفهم مصدر تهديد محتمل لتزود الغرب بالنفط، ويضم (المهاجرين) بوصفهم مصدر تهديد محتمل على مستوى التركيب السكاني لأوروبا، كما يضم (الإرهاب) بوصفه يهدد الغرب ومصالحه في العالم العربي الاسلامي.. الخ. وهكذا فكما صنع المستشرقون (الشرق) ليكون (الآخر) للغرب في القرن الماضي، كما أوضح ذلك بجلاء ادوارد سعيد هاهي وسائل الإعلام الغربية تصنع (الاسلام) وتبني صورته بالشكل الذي يمكن أن يجعله يقوم بوظيفة (الآخر). وإذاً فـ(الاسلام) اليوم في وسائل الإعلام الغربية اسلام مُسَلمَن (islamise) إن صح التعبير، كما كان شرق المستشرقين مشرقنا orientalise، حسب تعبير ادوارد سعيد.
2 ـ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من الاشارة هنا إلى آلية أخرى من آليات العقل الأوروبي في صنع صورة الاسلام في الوقت الحاضر، أقصد آلية صنع السيناريوهات. إن العقل الأوروبي لم يعد يرى المستقبل من خلال ما ينبغي أن يكون (اليوتوبيا) ولا من خلال ما سيكون ضرورة (الحتمية التاريخية)، بل إنه يراه اليوم نظرة (ليبرالية) قوامها وضع سيناريوهات، أي استعراض الإمكانيات المحتملة واختيار السيناريو (الأقرب) إلى التحقق. وعملية (اختيار الأقرب) تحددها في كل وقت هواجس الحاضر ومشاغله، وقد تشجع عليها رواسب وذكريات دفينة. وهكذا فبمجرد ما تبين أن الاتحاد السوفياتي آخذ في الانهيار، حتى بادر المحللون إلى وضع السيناريوهات لمعرفة مَن يمكن أن يحل محل الشيوعية كـ(آخر) عدو للغرب في عالم الغد، وكأنه من الضروري أن يكون للغرب عدو، وكأن الأنا الغربي سيظل هوية فارغة إذا لم يوضع في مقابلة طرف (آخر) يتعرف من خلاله إلى نفسه. وبطبيعة الحال فإن واضع السيناريو، عندما يرى انهيار الشيوعية وإقبال روسيا والصين على تبني النظام الرأسمالي والاندماج في (الاقتصاد العالمي) الذي هيمن عليه الغرب.. وعندما يكون صاحب السيناريو يصدر في تصوراته من ذاكرة تاريخية ومخزون ثقافي يكرس ثنائية المسيحية/ الاسلام، والشرق/ الغرب، فإنه ينزلق بسرعة إلى ترشيح (الاسلام) لمنصب (الآخر) العدو للغرب. ويغريه على هذا الترشيح إمكانية توظيف (العرب) –أصحاب النفط- وقضية (المهاجرين) وظاهرة (الإرهاب) والكثرة العددية للمسلمين والقوة التعبوية للاسلام كشعار.. الخ، توظيف كل ذلك في إعطاء مضمون لهذا (الآخر) الجديد الذي لابد من أن يكون مملوءاً غنياً بجميع أنواع السلب التي تتعين بها 0الأنا) الغربية والتي تمكنها من الشعور بالامتلاء والغنى.
*المصدر : مسألة الهوية (العروبة والاسلام ..والغرب)/مركز دراسات الوحدة العربية/1997م
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة