مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 عبد الجبار الرفاعي
نظرة الغربيين للاسلام


قراءة سريعة لملامح الزلل المنهجي لدى المستشرق كولسون في دراسة للتشريع الاسلامي
في بحثه حول: "النظام القانوني الاسلامي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة: دراسة لمنهج نويل ج. كولسون" الذي نشره ضمن كتاب "مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الاسلامية"، يؤكد الدكتور محمد سليم العوّا، بأن السمة المميزة لدراسات كولسون، هي ان نقطة البدء عنده في دراسة الفقه الاسلامي، تخالف نقطة البدء عند الجيل السابق من أساطين الاستشراق وأساتذته، فبينما يبدأ الآخرون _ ولا زال أتباعهم يقلدونهم في ذلك_ من افتراض ان القانون الاسلامي نظام بالٍ قد بلغ مرحلة الجمود عن التطور اللازم لأي نظام قانوني حي أو قابل للاستمرار حياً، وهو لذلك قد غدا مهجوراً في موطنه، منبوذاً من أهله _بينما يبدأ الآخرون من هذا الافتراض _ يبدأ كولسون من افتراض مغاير تماماً، مؤداه ان النظام القانوني الاسلامي حي متفاعل، مطبق في المجتمعات الاسلامية، وقائم في ضمائر افرادها، وينبغي ان يعتمد عليه في تشكيل النظم القانونية في البلاد الاسلامية لتأتي هذه النظم معبرة عن روح البلاد التي تطبق فيها.
ولكن الدكتور العوّا يشير الى انه:
لايعني هذا التقدير لمنهج الاستاذ كولسون اتفاقنا معه في النتائج التي يتوصل اليها في بحوثه ودراساته للقانون الاسلامي، بل لعل مواضع الخلاف في جزئيات نتائجه أكثر من مواضع الاتفاق معه.
من هنا قام الاستاذ العوّا بتتبع آراء كولسون، ووضعها تحت عناوين موضوعية، ومن ثم الكشف عن التناقضات التي وقع فيها هذا المستشرق.
فمثلاً تارة يقرر، بأن التعبيرات القانونية للشريعة الاسلامية لم تفتقر الى الاعتبارات العملية الملائمة للحاجات الحقيقية للمجتمع، ثم يقول في موضع آخر: ان أحكام الشريعة الاسلامية المثالية "اضطرت لتفسح المجال للأحكام المحققة لحاجات المجتمع العملية"، التي يصفها بأنها مثلت انحرافاً عن الاحكام الشرعية الدقيقة، فكيف يمكن التوفيق بين هاتين المقولتين؟
كما نجده يقرر بوضوح قاطع أن "القرآن الكريم قد أرسى بشكل قاطع المبدأ المتمثل في أن الله، هو وحده مصدر كل حكم، وان أمره يجب أن يطاع في كل شأن من شؤون الحياة"، نراه يقرر في موضع آخر انه بعد مائة وخمسين سنة "ظهر فريق بين العلماء المسلمين الذين حاولوا تبيين أصول العقائد الاسلامية اتخذ موقفاً مؤداه أن كل شأن من شؤون الحياة يجب بالضرورة ان يكون محكوما بارادة الله، وفي تصورهم لفلسفة القانون كانت السيادة التشريعية لله شاملة لكل شيء".
فكيف يستقيم القول بأن القرآن الكريم أرسى هذا المبدأ بشكل قاطع، مع نسبته بعد ذلك الى فريق من العلماء ظهروا بعد قرن ونصف قرن من اكتمال الوحي؟
ثم يقدم الاستاذ العوّا ايضاحاً تحليلياً للمسارب التي نهل منها المستشرق كولسون، في فهمه لدور القرآن الكريم في التشريع، فيُجمِل هذه المسارب في أربعة أمور، هي:
1_ تأثره بطريقة التقنين الحديثة:
ادعى كولسون انه "لم يقدم القرآن تقنينا مباشراً ومحدداً للمسلمين الملتزمين في سلوكهم وحياتهم بمقاييس الشرع وقواعده، وهناك كثير من المسائل التي يثيرها القرآن من حيث كونه نصاً تشريعياً".
اذا كان الامر كذلك، فمن اين جاءت تلك المدونات التي لا تحصى صفحاتها في آيات الاحكام ودلالات القرآن التشريعية؟.
وما هي المشكلات التي يثيرها القرآن باعتباره نصاً تشريعياً؟
وهل يتعين أن يكون النص التشريعي في صيغة معينة واسلوب محدد، حتى يستحق مجموع نصوص وصف النظام القانوني أو البناء التشريعي؟.
أليست العبرة بصلاحية النص للتطبيق، ووفائه بالحاجات المتجددة للمخاطبين، وليس في اسلوبه وصيغته أو الشكل الذي يصب فيه المشرع حكمه؟
2_ طبيعة النص القرآني
لقد نشأ عن الخطأ المنهجي في النظر الى النص القرآني وادراك طبيعته، وفهم أسلوب القرآن الكريم في التشريع، أن ينظر كولسون للقرآن الكريم كنظرته الى أي مجموع للنصوص القانونية، فرأى أنه لكي يكمل له وصف المجموع التشريعي يجب ان يستقصي العناصر الأساسية للعلاقات القانونية التي يعالجها، ورأى أن القرآن الكريم لم يترجم المفاهيم الأساسية للعلاقات القانونية التي يقوم عليها أي مجتمع متحضر، مثل وجوب الرحمة، وعدم جواز الظلم، والحيف في المعاملات، ووجوب تطبيق العدل _وهي كلها واردة في القرآن _ لم يترجمها الى بناء قانوني للحقوق والواجبات، ولم يستهدف أولاً تنظيم علاقة الانسان بالانسان، بل استهدف أولا تنظيم علاقة الانسان بخالقه.
لكن كولسون لو تأمل حقيقة القرآن الكريم، فلا يمكن أن يتطرق الى مثل هذا القول، لأن القرآن كتاب الهداية غايته، والبيان المعجز أداته، فكيف يطلب فيه، أو يتصور له وجوب اشتمال نصوصه التشريعية على استقصاء مكونات العلاقات القانونية، كمثل ما هو معهود في التقنينات البحتة؟
ان القرآن الكريم _كما أوضح الشيخ محمد مصطفى شلبي _ "لم يلتزم في بيانه الأحكام أسلوباً واحداً شأن القوانين والكتب الفقهية المألوفة... وفوق تنوع الأساليب في التعبير عن المعنى الواحد، فانه لم يجمع هذه النصوص في مكان واحد، ولا في سورة واحدة شأن التشريعات الاخرى، بل جاءت الاحكام مفرقة في سور القرآن، مبثوثة في ثنايا آيات العقائد والأخلاق، وآيات الله في الكون، وأخبار الامم السابقة، كما اننا نجد الحكم الواحد وردت فيه عدة نصوص في مواضع عديدة بأساليب متنوعة، ليكون القارىء متذكراً له في كل حين، وهذا يدلنا على أن القرآن الجامع لهذه الانواع من البيان نزل بهذه الصورة، لا ليكون كتاب تشريع فقط، بل ليكون كتب هداية للناس، ليخرجهم من الظلمات الى النور، وليكون معجزة لرسول الله تؤيد صدقه في دعواه الرسالة...".
3_ كيف يفهم النص القرآني التشريعي؟
هل يستقيم في منطق البحث العلمي فهم القرآن في اسلوب بيانه للاحكام الشرعية، بمعزل عن السنة الشريفة ومأثور التفسير، وما طبق عليه النص من وقائع في زمن التشريع؟.
ان السنة الشريفة قد تؤكد معنى الحكم القرآني، أو تشرحه، أو تكون مخصصه لعمومه، أو مقيدة لإطلاقه، وبذلك لا يستقيم فهم التشريعات القرآنية، خارج اطار السنة الشريفة، وقطعها عنه.
فضلاً عن ان فهم تلك التشريعات لايتم من دون وعي اسباب نزول القرآن.
4_ الطبيعة التكاملية للنظام القانوني الاسلامي:
لم يتنبه كولسون الى الطبيعة الخاصة للقانون الاسلامي فالتشريع الاسلامي، لايلتزم بايراد شقّي التكليف والجزاء لكل قاعدة قانونية في محل واحد، بل لايلتزم بالنص الصريح على جزاء مخالفة كل تكليف مما ورد به النص القرآني، بينما يكون الجزاء في النظم القانونية والوضعية بنص تشريعي، لكن الجزاء في النظام القانوني الاسلامي حين لايكون منصوصاً عليه في القرآن أو السنة، يكون متروكاً لاجتهاد الفقهاء، الذي سيختلف ضرورة باختلاف الزمان والمكان، وفهم النص وتحديد نطاق إعماله، وغير ذلك من الظروف المحيطة بكل واقعة أو بالحكم فيها، ومصدر الجزاء دائماً هو الرد الى قاعدة من قواعد الشرع، اما نصيّة أو مستنبطة.
لكن كولسون يعتبر ذلك مظهر نقص في التشريعات القرآنية، فيقول:
"يعلن القرآن تحريم شرب الخمر والتعامل بالربا في عبارات متماثلة، تغلب عليها هذه السمة (سمة التوجيه الأخلاقي) دون أن يتضمن اشارة الى النتائج القانونية العملية لهذا التحريم، والذي حدث في الواقع ان شرب الخمر أصبح فيما بعد جريمة يعاقب عليها بجلد الشارب على حين استمر الربا موضوعاً من موضوعات القانون المدني بحكم كونه عقداً من العقود الفاسدة أو غير الملزمة"، ويذكر بعد ذلك مثالاً آخر هو أكل مال اليتامى ظلماً.
ولكن كولسون لم يتنبه الى ان شرب الخمر جريمة تعزيرية، ورد العقاب عليها في السنة القولية والعملية للرسول (ص)، وليس (فيما بعد) كما ظن كولسون، وتعاطي الربا جريمة تعزيرية يعاقب عليها بمقتضى القواعد العامة في نظام التعزير، وأكل مال اليتامى ظلماً جريمة تعزيرية يعاقب عليها بمقتضى القواعد العامة في التعزير كذلك، ويلزم آكل المال برد مثله أو عينه حسب الأحوال الى أصحاب الحق فيه.
وبذلك يتضح ان ترك تحديد الجزاء، لم يكن إلاّ دليلاً على مرونة قواعد التشريع الاسلامي، وصلاحيتها للتطبيق على الرغم من التصور الملازم للبُنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لأي مجتمع من المجتمعات.
ثم يمضي الدكتور العوّا في مناقشة كولسون في قضية اخرى لا تقل عن سابقتها اهمية، تحت عنوان: "السنة النبوية في بحوث كولسون"، فيدرسها دراسة تحليلية وافية، وبعدها ينتقل الى دراسة مسألة أخرى تحت عنوان: "كولسون والنظام الجنائي الاسلامي"، فيدرسها دراسة نقدية مفصلة، متتبعاً لموقفه من "جرائم الاعتداء على النفس وقواعد القصاص في النظام الجنائي الاسلامي"، و "حق الدولة في العقاب وارادة المجني عليه في جرائم القصاص"، وكون "الاعتداء على الاشخاص ليس مجرد خطأ مدني"، و "التشريعات الحديثة وتعويض المجني عليهم في جرائم الأشخاص"، و "جريمة شرب الخمر وعقوبتها في القرآن والسنة"... وغيرها.
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة