مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 رياح الاسلام
فيلند شاعر وظّف حكايات "ألف ليلة وليلة" لمرام تنويرية
عبد الرحمن بدوي


من أوائل الغربيين الذين تأثروا بقصص "ألف ليلة وليلة" الشاعر القصصي الألماني كرستوف مارى فيلند Wieland (1733 _ 1813) الذي تأثر بالآداب الشرقية قبل أن يرتمى في أحضان الأدب اليوناني. ولئن كان قد بدأ مبكراً يستخدم الأسماء اليونانية للتعبير عن أفكاره وتطوره الروحي، فلم تكن في الواقع غير أقنعة للتعبير عن ظروف العصر. فهو يقلد الأدباء اليونان ويعرض أفكار أفلاطون وأرسطينوس والسوفسطائية، ولكن روحه كانت روح عصر الروكوكو المتأثر بالفكر الفرنسي والإنجليزي في القرن الثامن عشر.
ولكنه ابتداء من سنة 1775 بدأ يتأثر بالشرق، وخصوصاً بقصص "الف ليلة وليلة" يستمد منها مادة لقصائده القصصية الكبرى.
إذ في سنة 1776 نظم قصيدة قصصية طويلة بعنوان "حكاية الشتاء، وذكر صراحة أنها "عن حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة" وهي فعلاً مأخوذة عن حكاية "الصياد والعفريت". وفي السنة التالية نظم قصيدة قصصية بعنوان: "الشاه لولو أو الحق الإلهي لصاحب السلطان: حكاية شرقية"، وهي مأخوذة عن حكاية دوبان في "ألف ليلة وليلة" كذلك قصيدة عنقاء جبل قاف" مأخوذة هي الأخرى من "ألف ليلة وليلة".
ويثبت الباحث المصري عبد الرحمن بدوي ترجمة حكاية الشتاء، ثم يعقّب:
ومن هنا يتبين ماذا فعل فيلند بقصص "ألف ليلة وليلة". لقد أخذ الحادثة بتفاصيلها الحركية، ولكنه أودع فيها معاني اجتماعية وسياسية استهدف منها إلى النقد والتهكم. كذلك أشاع فيها جواً من الفكاهة اللاذعة. ويستطيع المرء أن يتبين المعاني الرئيسية التي بينها فيلند في سائر كتبه وقصصه وقصائده ومقالاته. لقد سعى فيلند إلى تنشئة الإنسان ليصير إنساناً حقا، وتنشئة الفرد ليكون مواطناً في الدولة، وتنشئة المواطن في الدولة ليكون مواطناً في العالم وبالجملة ليبلغ مرتبة الإنسان الجديرة بمكانة الإنسان، ولقد رأى أن واجب الإنسان هو أن يعمل للانسانية كلها، وبالتالي أن يقضي على أسباب التنافر بين الشعوب والدول، حتى تقوم العلاقات بينها على أساس احترام الإنسانية فيها جميعاً على نفس المستوى. ومن هنا نراه يصب جام غضبه على ما نعته في سنة 1798 في (محاورات بين أربعة عيون" باسم: "البقايا الشائنة للبربرية العتيقة، والكراهية القومية آكلة لحوم البشر، وللمعنى المسبق الباقي الذي يزعم أن سعادة الغير تضربنا، والمماحكات الوضيعة والمناورات الدنيئة المتسولة التي كانت تسمى قديما باسم "السياسة"، وهي أمور ينبغي ألا تخدع أحداً بعد اليوم".
لقد كان فيلند من أعلام نزعة التنوير الألمانية في القرن الثامن عشر، وكان أكثرهم اهتماماً بالسياسة، وبالوضع السياسي للانسان. ولقد قال: "إن التنوير الحق العميق لعقل الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلاّ بازدياد النور على نحو بطىء شبه غير مشعور به وعلى درجات. لكن انتشار التنوير رغم ذلك لا يمكن أن يتم بين الناس أو على الأقل بين الجزء الأكبر من الإنسانية، لأن الوسائل لذلك محدودة، وهي موضوعة في أيدي عدد قليل من الناس، وتتوقف إلى حد كبير على الصدفة، وعلى ما هو أسوأ من الصدفة ألا وهو هوى أصحاب السلطان، والغالبية العظمى منهم قد صمموا فيما يبدو على ألا يجعلوا النور ينتشر من حولهم "محاورات بين أربعة عيون"، ص 33.
وكان يدعو إلى تحرير الإنسانية من كل نوع من أنواع العبودية، ومن المعاني والأحكام المسبقة والأهواء والخرافات والإستبداد والطغيان. ودعا إلى ضمان تحقيق كرامة الإنسان، وذلك بالتوحيد بين الواجبات والحقوق. ولهذا قرر حقوق الإنسان الأساسية على النحو التالي:
1_ كل الناس إخوة، ولهم بطبعهم حاجات متساوية، وحقوق متساوية وواجبات متساوية.
2_ والحقوق الأساسية للانسان لا يمكن أن تضيع بالصدفة ولا القول ولا التعاقد ولا التنازل ولا التقادم، بل يمكن فقط أن تضيع بالطبيعة الإنسانية ومن المؤكد أنه لا توجد أسباب ضرورية ولا عرضية تسمح بحرمان الإنسان من واجباته بأي حال من الأحوال.
3_ كل إنسان مدين للآخر بما عسى أن يتوقعه منه في نفس الظروف.
4_ لا يحق لإنسان أن يستعبد إنساناً آخر.
5_ القوة والسلطان لا يعطيان أي حق في هضم حق الضعيف، بل يلزمان أصحابهما بالواجب الضروري عليهم لحماية الضعيف.
6_ كي يكون للمرء الحق في تلقي العون والعطف والإحسان من أي إنسان آخر فإنه لا يحتاج إلى أي لقب غير كونه إنساناً.
وهذا يفضي بنا إلى الحديث عن القصيدة الأخرى: "شاء لولو أو الحق الإلهي لصاحب السلطان: حكاية شرقية" المأخوذة عن حكاية دوبان في "ألف ليلة وليلة". فإنها تبدأ بعرض مشكلة الحكم فتقول: "لابد من حكم الإنسانية العزيرة _هذا أمر يتفق عليه الجميع، ولا شك فيه! لكن _بأي حق وقانون؟ ومن الذي يحكم؟ في هذين المشكلتين نرى الناس يختلفون، وفي عصر الوثنية العمياء (حين كان كرانتور وخروسفوس يعضلان في أمر ما هو حق وفقاً لقوانين خالدة) وجد ابن فيليفوس الماكر أن من الممكن اختصار الطريق بقطع العقدة الغوردية.
وفي العادة كان الناس يصنعون صنيع فوروس وقيصر ومترداتس وجنكيز خان وكثيرين غيرهم لا نود ذكرهم: "أن يسيطروا بأسرع ما يستطاع" ثم يأتي القانون والحق بعد ذلك قدر الإمكان: فهذه حذلقات يستمتع بها المتفيقهون، ولنتركها لهم عن طيب خاطر، "والحق الإلهي"، يا سادتي الأعزاء، ثابت راسخ كما تعلمون، وأرسخ من جبل القوقاز: ليأمر من يملك الأمر، وليطع من لا حيلة له غير الطاعة، وليلعب كل إنسان بما تبقى له، _ وليس في الإمكان أبدع مما كان والله في كل شيء يفعل الأفضل. قد تقولون: "نعم، لكن هل يخلق أن يتولى زمام الحكم وعنان المصير مجنون، أو طفل، أو رجل مثل نيرون أو كاليجولا أو الأجبال؟" _ ولم لا؟ ألا يسيطر الإعصار أحياناً ويثير الإضطراب في العالم الجميل ويسحقه سحقاً، وبضربة واحدة يلقي بأعظم القصور طعمة للنيران، ويحطم السدود والجسور، ويغرق الكثير من الأماكن الجميلة، ويذهب بالصغير والكبير، ويبدّد الشواطىء ويقضي على الغابات؟ وكل هذا لا شك فيه_ وبالحق الإلهي، يا سادتي الأعزاء‍ الأمر واضح وضوح الشمس. وهكذا سيحكم العالم، وسلسلة طويلة من الأقيسة المنطقية لا تجعل الأمر أكثر ولا أقل صدقاً. الآن لديكم شمس مشرقة وأيام دافئة جميلة، كما تهوون. لكن لو زادت الحرارة درجتين لصار إشراق الشمس عذاباً، كما كان المطر منذ قليل وكنتم تتألمون هطوله الغزير. ومن الصعب العدل معكم باستمرار. لكن العالم _وهو يدور دورته باستمرار دون اكتراث، ومن استوى على العرش في وسطه غير منظور وعنده علم عظيم بالكل، يحكمه حسب طريقته".
ويستمر فيلند على هذا النحو من التهكم بالحكم، وبالطغاة، ومن يحيطون بهم من المتملقين، وما يثبت لهم في ديوان الشهرة وأسفار المجد من أمور لم يقوموا بها، وأعمال مجيدة تنسب إليهم بالزور وبالبهتان. ويختم الاستهلال بأن يضرب مثلاً على هذا بما وقع لشاه لولو، الذي كان أكبر أولاد السماء، وعم (أو خال) الشمس والقمر، والسيد في البروج، وابن عم الدب الأكبر، والمتحكم في الرياح والجواء، الخ... وقد كان حاكماً على ششيان الكبرى، وتربع على دست المُلك يحيط به الأمراء والوزراء، ويحفّ بعرشه العبيد، وهو في قصره الفخم ذي الأبهاء العظيمة، وطوائف من المادحين تحيط به إطراء لمجده وجلال سلطانه، وفي وسط هذا النعيم والمجد والسلطان أصابه البرص من رأسه حتى قدميه، وعجز الأطباء والحكماء عن علاجه، بعد أن استنفذوا كل العقاقير التي لم يعرفها جالينوس ولا كلسوس. وتصادف، لما كان لولو في أسوأ أحوال مرضه، أن وصل رجل غريب من بلاد غريبة، رجل جاد يبدو عليه أنه جاهل لا يعرف أن يعد أكثر من خمسة وسمع بمرض السلطان. فأغلق على نفسه غرفته، ثم خرج منها وطلب أن يقاد إلى قصر السلطان. ثم تبدأ حكاية الطبيب الغريب مع الشاه لولو على نحو مشابه لما ورد في "حكاية الملك يونان والحكيم دوبان" في "ألف ليلة وليلة" ولكنه عالج المادة الواردة في هذه الحكاية بنفس الطريقة من التلميحات والتهكم بالحكم ونظامه، والطغيان وما يفضى إليه، على نحو مشابه لما رأيناه في "حكاية الشتاء" ولا حاجة بنا هنا إلى ترجمتها حرفياً كما فعلنا مع القصيدة الأولى، لأننا نريد تقديم نموذج للاستشهاد، لا للإستقصاء.
***
أما عن أساطير الجن والعفاريت عند فيلند فقد كتب ك. أتوماير بحثاً طويلاً في مجلة الأدب، بين فيه بالتفاصيل المشابه بينها وبين القصص الشرقية. فمن قصص "الف يوم ويوم" أخذ قصة "أديس وضاحى" (شوفان ح5 ص17) وقصة "الشمعدان الحديدي" (شوفان، ح5 ص10)، بينما أخذ قصة "هن وجلبنك" من أسطورة تركية.
كذلك قصته المشهورة "أوبرون" فيها ملامح عربية، نذكر منها على الخصوص أسطورة الشجرة المسحورة التي نجد أصلها العربي عند ابن الجوزي.
-------------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الاوربي"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة