مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 د. عامر الحافي
ابن رشد واللاهوت المسيحي في العصر الوسيط


من غير الممكن إنكار تأثير الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا والذي شمل كافة الميادين الثقافية والاقتصادية والفنية والعلمية، وإذا كان وصف رينان لابن رشد بقوله إنه ((آخر ممثل لحضارة تنهار)) حقيقة صحيحة فإن القول بأن الاكويني كان أول ممثل لحضارة تنهض لا يقل صحة عن سابقه. لا شك أن تبعات الانهيار الغربي الذي ترسخت في واقعنا وعقولنا يجعل من إمكانية إنصاف ابن رشد أو حتى فهمه أمراً صعباً. لقد مرَّ ابن رشد من الشرق دون أن يشعر به أحد. كان ابن رشد الامتداد الطبيعي للفلسفة الإسلامية وقد استطاع أن يهضم فلسفة الكندي وابن باجة وابن سينا والفارابي.
إن فهمنا لابن رشد يصبح أكثر عمقاً وأبعد غوراً عندما نحفر في تاريخ الفكر الوسيط لنتعرف على انعكاسات الرشدية في اللاهوت المسيحي في القرن الثالث عشر، وأبرز أعلام اللاهوت المسيحي على الإطلاق القديس توما الاكويني.
إن عملية التأثر والتأثير بين الحضارات والمجتمعات عملية واقعية لا مجال للتنكر لها أو التبرؤ منها فالفكر الإنساني بطبيعته المتراكمة وتركيبه المبدع يسير وفق التاريخ ومن خلاله لا رغماً عنه وفوقه، لقد كان اللقاء الأول بين الحضارة العربية والإسلامية والحضارة المسيحية على أرض بلاد الشام والعراق ومصر وقد أنتج هذا اللقاء علم الكلام وتم دمج العديد م العناصر الثقافية للبلدان المفتوحة حيث كانت المدارس اللاهوتية المسيحية منتشرة، وبعد أربعة قرون كان لقاء ثان في مكان آخر وهو أوروبا وكانت الفلسفة هي أكبر نتاج هذا اللقاء وكانت طليطلة وصقلية أكبر بوابتين لدخول الفكر الفلسفي الإسلامي إلى البلاد الغربية ويؤكد ماسينيون أن الحوار بين المسلمين والمسيحية قد بدأ في القرن الثالث عشر بعد أن كان الجدل والمناظرة هو وسيلة المعرفة الوحيدة بينهما.
نجح العقل الغربي في تحويل الفكر الفلسفي والعقلاني إلى آلية واقعية بعد أن أحسن تتبع مواطن القوة في الفكر الإسلامي وأعاد توظيفها بما يتلاءم مع غاياته وأهدافه. ليس المقصود من هذا البحث تضخيم دور ابن رشد أو الوقوع في التمجيد وكيل المديح دون أساس علمي سديد بل محاولة الوقوف على أثر هذا الفيلسوف الكبير في اللاهوت المسيحي من خلال القديس توما الاكويني.
ـ وصول ابن رشد إلى الغرب:
بدأ الغرب عصر الترجمات قبل ابن رشد وكانت الترجمات مختارة ومختصة وجاءت المرحلة الأولى منها في القرن الثاني عشر مشتملة على كتابات الكندي (في العقل) والفارابي (في العقل) والغزالي (مقاصد الفلاسفة) وابن سينا (مقتطفات من الشفاء). وقد جاءت ترجمة كتب ابن رشد في القرن الثاني عشر والثالث عشر وكان ميخائيل سكوت (ت 1235) أول مَن ترجم شروح ابن رشد على أرسطو ثم تبعه هرمان (ت 1272). تركزت الترجمات اللاتينية حول شروح ابن رشد لأرسطو وهناك نقاش حول وصول مؤلفات ابن رشد التي أظهر فيها إبداعه وأصالته الخاصة: تهافت التهافت، الفصل، مناهج الأدلة. فلم تنحصر مؤلفات ابن رشد على شرح أرسطو وإن كان هذا الشرح في قمة الإبداع والعمق واستيفاء آراء وأخطاء الشراح الآخرين خاصة ابن سينا والفارابي. لم تتعرض المسيحية اللاتينية لترجمة شاملة لكل ما هو إسلامي بل اقتصر اهتمامها على الجوانب الضرورية لها. وهذا بمثابة ما حدث مع ترجمات بغداد عن اليونانية والسريانية التي تركزت حول الفلسفة والعلوم وقد كانت الفلسفة هي الموضوع الأساسي للترجمات اللاتينية وكان أرسطو، الذي أعيد اكتشافه بطريقة مختلفة تماماً، قطب الرحى الذي دارت عليه حركة الترجمات الأولى. ومثلت شروحات ابن رشد على مؤلفات أرسطو البوابة الكبرى التي دخل منها أرسطو إلى الغرب فقد استوفت هذه الشروحات كل عبارة وجملة في مؤلفات أرسطو مؤسسة بذلك أسلوباً جديداً في شرح أرسطو يشبه أسلوب التفسير القرآني الذي يفسر النص عبارة عبارة وجملة جملة وهذا هو نفس الأسلوب الذي اتبعه القديس توما فيما بعد في شرحه لأرسطو. لقد عرف ابن رشد بأنه الشارح الأكبر لأرسطو وأدت شروحاته إلى تأسيس حركة فكرية غربية عرفت باسم الرشدية كان لها أكبر الأثر في استنهاض الفكر اللاهوتي المسيحي وعلى وجه الخصوص الاكويني الذي اتخذ من الفلسفة الأرسطية الأساس الذي أقام عليه مشروعه اللاهوتي الجديد.
من جهة أخرى ساهم المفكرون اليهود في إيصال فلسفة ابن رشد إلى الغرب، فقد كانت الترجمات العبرية جسراً واسعاً انتقل عبره العديد من المؤلفات والمنجزات إلى الغرب. كانت مؤلفات ابن رشد تقرأ بالعربية بين العلماء ا ليهود المتأثرين بالثقافة العربية، وقد أدى تشرد اليهود في مطلع القرن الثالث عشر إلى ما وراء جبال البيرينيه وعلى ساحل البحر الأبيض إلى انتشار أفكار ابن رشد. ورغم النقمة الشديدة الذي كان اللاهوت المسيحي يكنها لليهود فإن الروابط اللاهوتية والثقافية بين اليهود والمسيحيين لم تكن مقطوعة الأمر الذي سهل انتقال ابن رشد بطريقة غير مباشرة إلى اللاهوت المسيحي، واستفادت الترجمات اللاتينية من الترجمات العربية من خلال مقارنة النصوص للخروج بالترجمة الأفضل لأعمال ابن رشد. كما أن تأثر ابن ميمون بابن رشد قد ساهم بنقل العديد من الأفكار إلى الاكويني الذي تأثر بدوره بابن ميمون. لقد أدت مساهمة المفكرين اليهود في نقل الفكر الإسلامي، إلى إضافة مبرر جديد لنقمة وكراهية الكثير من المسيحيين الغربيين لليهود، فقد اعتبر هؤلاء أن اليهود هم وراء إدخال ابن رشد وقيام الحركة الرشدية في الغرب بهدف تخريب المسيحية وتدميرها.
ـ الرشدية اللاتينية:
شكل أتباع ابن رشد في أوروبا تياراً فلسفياً قوياً في القرون الوسطى، بداية من القرن الثالث عشر وحتى السادس عشر، شغل الفكر واللاهوت الغربي وقد أطلق على هذا التيار اسم الرشدية، وقد أطلق الاكويني نفسه هذا الاسم عليهم في كتابه ((وحدة العقل ضد الرشديين))، تركزت قوة الرشديين في كلية الفنون في جامعة باريس التي ازدهرت في القرن الثالث عشر واتجهت نحو الفلسفة والمنطق. وقد أسهمت عدة قضايا في معاداة الكنيسة للرشدية أهمها:
1 ـ تبني الرشدية لمواقف وآراء تعارض اللاهوت المسيحي التقليدي والمقررات الكنسية الرسمية (خاصة قضايا وحدة العقل، خلود العالم).
2 ـ خشية الكنيسة من فقدان سلطتها التعليمية أمام مناهضة الرشديين الذين دعوا إلى كسر احتكار الكنيسة للحقيقة والحد من سلطتها على عقول الناس.
وبصفة عامة كانت آراء المفكرين واللاهوتيين المسيحيين منقسمة تجاه ابن رشد إلى ثلاثة اتجاهات:
1 ـ الاتجاه الرافض (بقايا الأغسطينية).
2 ـ أنصار ابن رشد (الرشدية اللاتينية أمثال دي برابان).
3 ـ التوفيقيون الذين قبلوا أرسطو وحاولوا تخليصه من ابن رشد أمثال الاكويني.
ـ أزمة اللاهوت المسيحي:
يرجع بعض الباحثين بداية الاصطلاحات الدينية في المسيحية الغربية إلى القرن العشر مع إنشاء نموذج جديد للدير (الحركة البندكتيه) الذي يؤسس لنظرة جديدة للمؤمن المسيحي (الإيمان والعمل). وفي القرن الثاني عشر حاول المسيحيون منع شراء المانصب الدينية أو تنصيب أحد منهم على أيدي السلطات المدنية. لكن الإصلاح لم يكن بالأمر السهل فظاهرة الانشقاق متعمقة في اللاهوت المسيحي الذي ضيّع في أغلبه على هامش صراعات دينية وظهور هرطقات وبدع إلى الحد الذي جعل مجامع الكنيسة تكاد لا تجتمع إلا نتيجة الانشقاقات، ويوشك اللاهوت المسيحي أن يكون تاريخاً للاهوت اللاهرطوقي في مواجهة اللاهوت الهرطوقي.
قد كان اللاهوت المسيحي بأمسّ الحاجة إلى الإصلاح وكان ينتظر ميلاد لاهوت عقلاني أرسطي بعد قرون من ظهور أوغسطين العرفاني الأفلاطوني. تأثر الاكويني في بداية حياته بالأغسطينوية الأغسطيني التقليدي، وكسائر هؤلاء الأغسطينيين تأثر الاكويني بابن سينا وظهر ذلك جلياً في مؤلفاته. فقد استشهد الاكويني بأقوال لابن سينا في حوالي 400 موضع، وقد أحس الاكويني بالهوة التي أحدثتها الرشدية في اللاهوت المسيحي وعجز الأغسطينية عن مواجهة الأسئلة المتواصلة للعقل الغربي، لذلك انتقل من قيود الأغسطينية وراح يؤسس لمذهب فكري جديد بهدف إلى إعادة النظر في الأصول الدينية المسيحية على أساس من العقل والفلسفة، الأمر الذي جلب له عداوات الأغسطينيين الذين راحوا ينتقدون (رشدية) الاكويني.
ـ الاكويني رشدي أم ضد الرشدية؟
تكمن أهمية الاكويني باعتباره أكبر اللاهوتيين الفلاسفة الذي مهدوا الطريق أمام الفكر الأوروبي الحديث والنهضة الشاملة للحضارة الغربية. كانت جامعة باريس والتقائه بالرشدية أهم مراحل حياة الرجل حيث دخل أثناء تدريسه في تلك الجامعة (1269 ـ 1272) في حوارات بل وصراعات مع الرشديين الذين تكاثروا في كلية الفنون، وكان جل تلك الحوارات يدور حول فهم أرسطو وكانت مسألة وحدة العقل قطب الرحى الذي دارت عليه كثير من الحوارات. لقد تأثر الاكويني بأستاذه البرت الأكبر صاحب الثقافة الأرسطية الواسعة والمطلع على الكثير من المؤلفات العربية المترجمة لكن الاكويني تجاوز أستاذه في تعمه الشديد في الفلسفة الارسطية وشروحاتها الرشدية، انطلق الاكويني في تأسيس علم اللاهوت يقوم على الفهم والمنطق الصحيح. وقد عرف الاكويني اللاهوت بأنه علم مستقصى مضمون العقيدة بمعاني العقل مستنيراً بالإيمان، واستخدام الاكويني الفلسفة الأرسطية في سبيل تحقيق هذا العلم وصياغة نظرية معرفية تنطلق من الواقع المحسوس بشقيه سواء كان خارجياً (الحواس) أم داخلياً (الصورة) فكلاهما يرتبط في وحدة متكاملة وهو يتبع مذهب أرسطو في هذه النظرية. تقوم نظرية المعرفة عن الاكويني على وظيفة التجريد الذهني الذي يختص بها العقل البشري وتقابل هذه الفكرة العقل المفارق عند الرشديين والسينويين والإشراق عند الأغسطينيين. عمل الاكويني على إدخال الأرسطية العقلانية في اللاهوت المسيحي خدمة للدين وطمعاً في استجلاب أنصار الرشدية والعقلانية من المسيحيين والمسلمين مظهراً مدى انسجام العقيدة المسيحية تدافقها مع الفلسفة العقلانية. منتقداً الفكرة الرائجة بين بعض اللاتيين الذين يعتقدون بأن اليونان والعرب وحدهم القادرون على التفلسف والقبول بالحقيقة العقلية. عند النظر إلى موقف الاكويني من ابن رشد لابد لنا من استرجاع بعض الحقائق:
أ ـ تأثير الصراع مع الرشديين اللاتين في موقف الاكويني من ابن رشد وبصورة أوسع الصراع بين المشرق المسلم والغرب المسيحي.
ب ـ محاولة الاكويني الحثيثة تجريد الأرسطية من الرشدية.
ج ـ إخضاع الفلسفة لخدمة العقيدة المسيحية.
لذلك لم يكن من المستبعد أن ينتقد الاكويني ابن رشد والرشدية فقد أطلق على ابن رشد لقب المحرف واتهمه بتحوير آراء الفلاسفة اليونان، ولكن الاكويني لم يكف عن الاستشهاد بابن رشد وشروحاته بعيداً عن موضوع وحدة العقل أو ازدواجية الحقيقة. إن ما يجمع بين ابن رشد والاكويني أكثر بكثير مما يفرقهما فكل منهما معجب بالفلسفة الأرسطية ويرى بأنها لا تتعارض مع الدين والوحي. استخدم الاكويني الأدوات الصناعية لابن رشد وهي تشمل التعريفات والتمييزات في المفاهيم وقام بتطوير بعضها بحسب الحاجة ولا ننسى اتباع الاكويني أسلوب ابن رشد نفسه في شرح أرسطو وتتبع فلسفته.
ويتردد كثير من اللاهوتيين المسيحيين في تقييم الحقائق التي خلص إليها هؤلاء الباحثون تقييماً إيجابياً وهذا يؤكد استمرار عقدة الإسلام في الفكر الديني المسيحي وكأن وجود هذه العلاقة يؤثر في صحة المسيحية ونقائها. كما ويحاول هؤلاء نفي تأثير علم الكلام في اللاهوت المسيحي عموماً والاكويني على وجه الخصوص، وهذا التأثير يظهر جلياً في مؤلف الاكويني (الخلاصة في الرد على الأجانب) الذي ألفه الرهبان المبعوثون إلى الأندلس والمغرب الإسلامي. ورغم محاولة الاكويني الرد على المتكلمين المسلمين إلا أنه استعمل أدواتهم ونظرياتهم من قبل الجزء الذي لا يتجزأ ونظرية نفي العلل الوساطية وغيرها من القضايا. وفي سياق الحديث عن تأثير الاكويني بابن رشد يثار السؤال عن وصول مؤلفات ابن رشد (تهافت التهافت، الفصل، مناهج الكشف عن الأدلة) إلى الاكويني خاصة وإن قد عرف التهافت ورسائل ابن رشد الصغيرة (فصل المقال، الكشف عن مناهج الأدلة، العلم الإلهي) من خلال آثار ريمون مرينوس.
ـ التوفيق بين الفلسفة والشريعة:
لم تكن قضية التوفيق بين الفلسفة والدين وليدة تأثير ابن رشد في الثقافة الأوروبية فقد شغلت هذه المسألة اللاهوت المسيحي منذ عهد مبكر، لكن مساهمة ابن شد جاءت في طريقة فهمه ومعالجته لهذه الإشكالية. يعتبر فيلون الإسكندري (ت 50م) العالم اليهودي صاحب التأثير الأكبر في تأسيس التوفيقية المسيحية، فقد تأثر عدد من اللاهوتيين المسيحيين الذين حاولوا فهم معاني النصوص المسيحية بطريقة تناسب معاني الفلسفة اليونانية مستخدمين التأويل كأداة لتحقيق هذا الغرض.
ومن أشهر هؤلاء كليمنضوس، أوريجينوس (ت 254م) أغسطين (ت 430م) وقد شكلت معالجة هذا الأخير، الحل المسيحي الرسمي الذي استمر حتى الاكويني ولكن الطبيعة الوعظية التبشيرية كانت طاغية على التوفيقية الأغسطينية ((ليست الفلسفة الحقة إلا الدين الحق، وبالمقابل فإن الدين الحق ما هو إلا الفلسفة الحقة)).
لا شك أن التوفيقية الإسلامية هي أكثر وضوحاً من التوفيقية المسيحية نتيجة السببية التعليلية التي تصبغ القرآن الكريم، ويؤكد ذلك بعض اللاهوتيين المنصفين بقوله: ((إن الذي يزيدها (التوفيقية) ضبطاً وتعييناً في الإسلام هو أن غياب عقيدة التثليث يتيح لنا القول: إن الإله الذي اكتشفه العقل والله الذي يوحي به القرآن هما إله واحد))، هذا بالإضافة إلى عدم اعتراف الإسلام بطبقة خاصة لرجال الدين تفرض تفسيراً نهائياً ومطلقاً للنص فالتفسير من حقل كل واسع في العلم. وقد اهتمت الفلسفة الإسلامية، خاصة تلك المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة ببحث موضوع الإتفاق بين العقل والوحي والفلسفة والعقيدة. وقد ساهم كل من الكندي (ت 875م) والفارابي (ت 950م) وابن باجة، وابن طفيل في التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية ورآى هؤلاء جميعاً بأن الوحي قد جاء مطابقاً لما وصل إليه العقل من حقائق. آمن ابن رشد بالعصمة المطلقة للقرآن وفي الوقت نفسه آمن بوحدة الحقيقة وتكافؤها بين الفلسفة والشريعة، وكان تأليف (فصل المقال) لأجل هذا الغرض وقد استخدم ابن رشد التأويل كآلية فاعلة لتحقيق التوافق والوحدة بين معاني النصوص الشرعية والفلسفة العقلية. سعى ابن رشد إلى تأصيل العقيدة تأصيلاً معرفياً عقلانياً وفي الوقت نفسه إيجاد تأسيسات عقدية لبنائه المعرفي الفلسفية مستخدماً أدوات إصطلاحية جديدة ومحددة.
ـ بين وحدة العقل والحقيقة المزدوجة:
غالباً ما يتم معالجة موضوع وحدة العقل مستقلاً عن موضوع الحقيقة المزدوجة أو ثنائية الحقيقة وهذا يؤكد اضطراب الفهم في هذه المسألة غياب التصور الدقيق لها.
ويمثل هذان الموضوعان أخطر الموضوعات وأكثرها جدلاً في القرن الثالث عشر بين الرشديين من جهة والإكويني من جهة أخرى. فقد آمن الرشديون أن الناس جميعاً يشتركون في العقل وهو ثابت بصفته وطبيعته، لكن تفاوت الناس يكون في استمدادهم منه وكلما كان الاستمداد أكثر كان قرب الإنسان إلى الكمال والسعادة لكن بعض الباحثين يرون أن الرشدية اللاتين هم الذين ابتكروا قضية وحدة العقل ونسبوها إلى ابن رشد لا شك أن ابن رشد يؤمن بوحدة الحقيقة وإمكانية الوصول لها بالجهد الإنساني العقلاني وما كان للتوفيق بين الشريعة والفلسفة أن يكن لولا وجود هذه الفكرة عند ابن رشد والحق أن القول بوحدة الحقيقة يعود إلى الأفلاطونية المحدثة التي رأت وجود حقيقة واحدة لها مظاهر متعددة. وقد وقع تحت تأثير هذه الفكرة كل من الكندي وابن سينا والفارابي وإخوان الصفا والمدرسة الإشراقية بصفة عامة مثلت المقولة المنسوب لابن رشد والتي استشهد بها الاكويني في كتابه ((وحدة العقل ضد الرشديين)) المعنى السائد لمفهوم وحدة العقل. ((العقل يجعلني أعتقد بالضرورة بأن ليس هناك سوى عقل واحد غير أنني بالإيمان أعتقد بشدة نقيض ذلك)) وهذه العبارة تخلط أيضاً بين موضوع وحدة العقل وموضوع ثنائية (ازدواجية) الحقيقة.
هنا مجموعة من الاقتراحات يمكن أن تقدم للتعرف على أصول فكرة الحقيقة المزدوجة منها:
أ ـ أن هذه الفكرة هي مجرد حل اخترعه الرشديون اللاتين في محاولة منهم للتخفيف من حدة النزاع مع الكنيسة.
ب ـ يعتقد مارتين جريمان بأن مبدأ الحقيقة المزدوجة قد ظهر في القرن السادش عر مع بومبانازي، وهذا رأي يخالف الواقع فالإكويني نفسه قد قام بالرد عليه في القرن الثالث عشر!!
ج ـ ويذهب إدوار جونو إلى أن الرشدية لم تقل بالحقيقة المزدوجة بل كان ذلك ناتجاً عن سوء فهم اللاهوتيين لهم فقد ذهب الرشديون إلى أن الحقيقة شيء والفلسفة شيء آخر غير الحقيقة وهذا يلغي النزاع بين الفلسفة (كعلم) والإيمان فلا علاقة لأحدهما بالآخر.
د ـ ويمكن أن يكون هذا الموقف ناتجاً عن توجه (لا أدري) في المدرسة الرشدية لا يسعى إلى التعرف على الحقيقة بقدر سعيه إلى فهم معانيها لدى أصحابها.
ويظهر أن احتمال اختراع الرشديين لهذه الفكرة محتمل جداً خاصة وأن إغراق اللاهوت المسيحي ما كان ليسمح بظهور مذاهب دينية تتكلم عن الحقائق المطلقة لكنه قد يسمح بوجود حقيقة مخالفة لا تشكل مذهباً دينياً بل اتجاهاً فكرياً. كما أنه يمكن القول أن إزدواجية الحقيقة قد شكلت مرحلة تمهيدية للوصول بالعقل المسيحي إلى الوحدة والانسجام مع الفلسفة الأرسطية.
انشغل القديس توما وأستاذه ألبرت الأكبر في الرد على أطروحة وحدة العقل فقد قام ألبرت بتكليف من الباب بتحرير رسالة الفلسفة، سنة 1256م أطلق عليها اسم في وحدة العقل رداً على ابن رشد.
وهنا يظهر التباين بل التناقض في موقف اللاهوت المسيحي تجاه موضوع وحدة العقل فقد هرب ألبرت من القول بوحدة العقل إلى الحد الذي جعله يقول بثنائية الحقيقة!! فكيف يكون من المعقول أن ينتقد ابن رشد والرشديةبقولهم بثنائية الحقيقة ثم نجد اللاهوت المسيحي الرسمي يقع بها. يقول ألبرت: ((الأمور اللاهوتية لا تتفق في مبادئها مع الأمور الفلسفية، فإن اللاهوت يقوم على الوحي دون العقل، وإذن فلا نستطيع في الفلسفة الخوض في مسائل لاهوتية)). اعتبر كل من الإكويني وألبرت أن مكمن الخطر في القول في وحدة العقل هو إنكار الخلود الشخصي للنفس وبعث وخلود الجسد الأمر الذي رأوا فيه تهديداً لعقيدة الثواب والعقاب.
ويحتج الإكويني في سياق رده على الرشدية في قضية وحدة العقل، بأنه من غير المحتمل أن لا يكون في النفس العاقلة مبدأ بموجبه تستطيع أن تظهر فعاليتها الطبيعية وهذا مبدأ يتحقق في حال قبولنا بمبدأ وجود عقل فعال واحد سواء سميناه الله أم العقل.
وقول الإكويني هذا مستمد من قول ابن سينا الذي ذهب إلى أن لكل فرد عقلاً منفعلاً خاصاً به في حين يوجد عقل فعال واحد للجنس البشري قاطبة ويرى الإكويني إن امتلاك كل إنسان لعقل فعال مستقل وخاص به يشكل تعد على خصوصية الإنسان وكرامته ويؤدي إلى تجريد الإنسان من نشاطه وتعطيل السببية. لكنه وكما أشرنا يقر بوجود نور صادر عن الله موجود في كل إنسان (النور الذاتي) يرد عليه عقله ويتيح له أن يدرك نوعاً من الحقائق لا يتسع لها هو وحده.
ويبقى أن نشير إلى أن الأصول العامة التي ارتكز عليها كل من الإكويني وابن رشد في نظرتهما إلى العقل تقوم على:
أ ـ اتفاق العقل والإيمان ((العقل الطبيعي لا يمكن أن يكون متعارضاً مع حقيقة الإيمان فكل من العقل والإيمان منبثق عن الله)).
ب ـ السببية: رفض كل من ابن رشد والإكويني تعطيل الأسباب ورأي ابن رشد أن يستلزم إبطال مفهوم الفعل ويقوض الأسس التي يمكن أن تنسب بحسبها ظواهر الكون والفساد ي العالم إلى الله، فالسببية هي أساس العلم الذي هو في الحقيقة علم بالأسباب التي تكمن وراء ظاهرة معينة وبمقدار جهلنا بالأسباب نجهل حقائق الأشياء، وإذا ما قدرنا رفع الأسباب رفع العقل.
يرفض الإكويني إغراق كل سببية مخلوقة في محيط السببية الإلهية ويرى أن مَن ينفي سببية الإنسان يقع في عكس ذلك تماماً، فالسببية في المخلوقات تأت من السببية في الخالق.
ـ الأدلة على وجود الله:
يرى كل من ابن رشد والإكويني أن العلم بوجود الله كعلة أولى واجب عقلاً وهو سابق على التعرف على ماهيته وصفاته، فالعقل الطبيعي قادر على التعرف على علل الموجودات الطبيعية ويؤدي بنا إلى الإيمان بالله (وجوده ووحدانيته).
وأما فيما يتعلق بماهية الله وصفاته فهي خاضعة للوحي ومن الجدير بالملاحظة إقرار الإكويني لضرورة وحدانية الله من خلال العقل في حين لا يمكن فعل ذلك مع الثالوث الذي يتجاوز العقل.
اختلف ابن رشد مع أرسطو في تصور الله فهو يرى الله على صلة مع العالم عبر الوحي. ويؤمن ابن رشد بأنه حي خالق فاعل يحدث الأحداث باستمرار ويهب الوجود والحياة للموجودات في حين يتصوره أرسطو كجوهر أول وعقل محض مكتف بذاته ولا علاقة له مع الكون.
وفي كتابه الكشف عن مناهج الأدلة يرفض ابن رشد الدليل السببي لأرسطو ودليل الجواز لابن سينا ولبعض المتكلمين ويؤثر دليل الاختراع والعناية لإتفاقهما مع مدارك الناس كافة وارتكازها على النصوص القرآنية. أما الإكويني فيضع في خلاصته اللاهوتية خمس طرق توصل إلى الله وتدل عليه على ضوء العقل وهي:
1 ـ الحركة.
2 ـ العلة الفاعلة.
3 ـ الإمكان.
4 ـ درجات الكمال.
5 ـ النظام أو (غائية الكائنات).
وهذا الدليل الخامس هو دليل العناية عند ابن رشد، يقول الإكويني في شرحه لهذا الدليل: ((الدليل الخامس من جهة نظام الطبيعة وله وجهان، أما الأول فإننا نرى الموجودات العاطلة من المعرفة تفعل لعناية، وهذا ظاهر من أنها تفعل دائماً أو في الأكثر على نهج واحد وبحيث تحقق الأحسن مما يدل على أنها لا تبلغ إلى الغاية اتفاقاً بل قصراً وما يخلو من المعرفة لا يتجه إلى الغاية ما لم يوجه إليها من موجود عارف، فإذن يوجد موجود عاقل يوجه الأشياء بالطبيعة كلاً إلى غايته، وإما الوجود الثاني فهو أن جميع الكائنات منظمة فيما بينها لانتفاع بعضها ببعض والمتباينات لا تتفق في نظام واحد ما لم تكن منظمة من واحد)).
ـ خلق العالم:
ويتفق كل من الإكويني وابن رشد في موقفهما من قضية خلق العالم التي قال بها الفلاسفة.
فكل ما خلا الله فهو مخلوق من الله ضرورة، لأن الوجود القائم بذاته لا يمكن أن يكون إلا واحداً يقول ابن رشد بخلق الله وصنعه للعالم لكنه ينكر في سياق رده على (تهافت الفلاسفة) أن يكون خلق الله للعالم مشابهاً لخلق الفاعل في الشاهد، فالعالم في حدوث مستمر وليس بمنطقه (في زمان محدد).
لقد اعتقد كثير من المسلمين والمسيحيين أن القول بقدم العالم يفضي إلى القول بوجود قديمين (الله والعالم) وهذا يجعل العالم يشارك الله في أخص خصائصه، ويفضي في الوقت نفسه إلى نفي الحدوث عن العالم. يجتمع ابن رشد في رده على الغزالي، الذي جعل قدم العالم أحد الاسباب المكفرة للفلاسفة، بالتفريق الذي استمده من ابن سينا (بين القديم بالذات والقديم بالزمان) رغم اشتراك لفظ القدم بينهما فالأول هو ما ليس له علة أوجدته فهو واجب الوجود والقديم بالزمان موجود بعلة خارجة فهو محدث بالذات. يذهب الإكويني إلى أن قدم العالم ممكن (غير مستحيل عقلاً) وهو في ذلك يتبع البرت الأكبر وابن ميمون، اللذين تأثرا بابن رشد، ويعتبر الإكويني أن العقل غير قادر على البرهنة والقطع في حدوث أو قدم العالم والوحي وحده قادر على حسم هذه القضية ويعتبر الإكويني أدلة أرسطو على قدم العالم جدلية وليست برهانية ولذلك لا مجال لإثبات حدوث العالم إلا بالإيمان.
ـ الخاتمة:
لقد سعى كل من ابن رشد والإكويني إلى إصلاح العقل وبناء المعرفة على أسس منطقية تقوم على مراجعات شاملة للفكرين الإسلامي والمسيحي واستطاع كل منهما تجاوز العثرات والتغيرات التي ارتكز فيها العقل والدين وقدّما فهماً عقلانياً جديداً لحقائق الإيمان.
استطاع اللاهوت المسيحي أن يعيد ترتيب المعارف الفلسفية الوافدة من الفكر الإسلام بما يتناسب وأغراضه وكان الإكويني في طليعة اللاهوتيين الفلاسفة الذين قاموا بهذا العمل وقد كان تطويبه قديماً في القرن الرابع عشر تحولاً ذكياً في إدارة السلطة الكنسية وتوجهها نحو المعرفة الإنسانية الأوسع ..
* المصدر : مجلة الكلمة /العدد21/1998 م
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة