مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 تفجيرات نيويورك وواشنطن من منظور شرعي
رؤية إسلامية حول التفجيرات في نيويورك وواشنطن
بقلم الشيخ فيصل مولوي/ الأمين للجماعة الإسلامية في لبنان


تؤسس التفجيرات التي وقعت يوم 11/9/ 2001م في نيويورك وواشنطن، لمرحلة جديدة ستكون لها انعكاسات كبيرة على النظام العالمي الجديد، من حيث قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في قيادة العالم، وفي ممارسة دور الوصيّ على الشعوب.
وظهرت الولايات المتحدة كالأسد الجريح، وارتفعت الأصوات تطلب الانتقام، حتّى ذكرت بعض المصادر أنّ 90% من الشعب الأمريكي يطالب قيادته بالثأر من الفاعلين ومن وراءهم ومن يؤويهم. وبدأت المعلومات تشير بإصبع الاتهام إلى العرب والمسلمين، ثمّ إلى أسامة بن لادن على وجه التحديد وإلى أفغانستان التي تعيش فيها. رغم أنّ جميع القوى الشعبية الإسلامية، والدول العربية والإسلامية استنكرت التفجيرات وأدانتها.
وهنا أجد من المفيد الإشارة إلى عدة ملاحظات:
1ـ إنّ من أهمّ أخلاق الدعاة الرفق بالناس، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، ومقابلة السيّئة بالحسنة، وبذل الجهد في المساعدة فيما يحتاجونه من أمور الدنيا، والتواصل معهم في كلّ معروف، وغير ذلك ممّا كثر فيه التوجيه القرآني والحديث النبوي، وظهرت فيه نماذج رائعة على يد الدعاة إلى الله.
2ـ القتال كان ممنوعاً على المسلمين في مكّة، ثمّ أصبح جائزاً للدفاع عن النفس في المدينة، ثمّ أصبح واجباً للدفاع عن النفس وعن الدين، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم استقرّ تشريع القتال على المنع أو الإباحة أو الوجوب بحسب الظروف التي تمرّ بالمسلمين. ولكن تبقى الدعوة إلى الله هي المهمّة الأولى في جميع الظروف، ويكون القتال في سبيل الله مطلوباً إذا وُجدت أسبابه الشرعية وهي ردّ الاعتداء، ومنع الفتنة، وهي إكراه الناس على دين لا يريدونه.
3ـ إنّ من أهمّ أسباب الاختلاف بين المسلمين اليوم في كيفية التعامل مع غير المسلمين، هو معرفة القاعدة التي يقوم عليها هذا التعامل:
ـ هل هي قاعدة الدعوة بما تقتضيه من أخلاق؟
ـ أم قاعدة القتال بما يقتضيه من أحكام؟
ويجد كلّ فريق دليله في كتاب الله، أو في سنّة رسوله، ولذلك كان لابدّ من تحديد القاعدة أولاً، حتّى يمكن أن يقوم عليها ما تقتضيه من أحكام.
إنّ العالم اليوم أصبح منفتحاً على بعضه في كلّ بقاع الأرض. والمسلمون موجودون في أوروبا وأمريكا وأسترالياً فضلاً عن آسيا وأفريقيا، وهم يشكّلون أقلّيات كبيرة في أكثر البلاد غير الإسلامية، وعدد كبير منهم من أهل البلاد الأصليين. وإنّ المحافظة على حقوق الإنسان ومنها حرّية الاعتقاد أصبحت سائدة في أكثر دول العالم بحيث لم يعد القتال لمنع الفتنة حسب التعبير القرآني وارداً؛ لكن القتال دفاعاً عن النفس وردّاً للاعتداء لا يزال قائماً بين حين وآخر، ومنه القتال الذي وقع في البوسنة وكوسوفا والشيشان وأفغانستان وفلسطين.
إنّنا نعتقد أنّ "الدعوة" هي قاعدة التعامل مع غير المسلمين من حيث المبدأ. ويجب الالتزام بأخلاقها وأحكامها، ولا يصحّ استعمال أحكام القتال في الظروف الحاضرة. بل حتّى حين يقع مثل هذا القتال دفاعاً عن النفس في أيّ بلد من بلاد العالم. فإنّه يبقى محصوراً في ذلك البلد، وبإمكان المسلمين ومن واجبهم أن يساعدوا إخوانهم بما يستطيعون ضمن ظروفهم ومواثيقهم.
4ـ إنّ الولايات المتحدة بموقفها المنحاز بشكل كامل مع العدوّ الصهيوني، وبتبنّيها الكامل لجميع أعماله الإجرامية، وبالدعم غير المحدود مالياً وعسكرياً وسياسياً، جعلت نفسها في موقع العداء للشعوب العربية والإسلامية. هذا الموقف تجب مواجهته بالمستطاع. ولقد طرح علماء وقادة الحركات الإسلامية فكرة مقاطعة المنتجات الأمريكية، وهي مواجهة مؤثّرة لو عمّت جميع البلاد العربية والإسلامية. ويطرح الكثيرون على الدول الإسلامية ضرورة اتخاذ مواقف أشدّ تجاه الولايات المتحدة. ولكن لم يطرح أحد فكرة نقل المعركة إلى الأرض الأمريكية، فإنّ ذلك غير مفيد في الصراعات المحلّية، ومضرّ ضرراً بليغاً بالوجود الإسلامي في دول الغرب.
5ـ إنّ الإسلام من حيث المبدأ ينهى عن قتل النفس، قال تعالى (مَن قَتلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (سورة المائدة/ 32) وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) (سورة الأنعام/ 151) والنفس هنا تشمل المسلم وغير المسلم. وقد أذن الله تعالى بقتل النفس المسلمة حَدّاً أو قصاصاً لأسباب محدّدة. كما أذن بقتل النفس غير المسلمة لظروف محدّدة أيضاً. ولكن لم يرد الإذن الشرعي بقتل أيّ إنسان بسبب عمل أو جريمة قام بها غيره، لأنّ القاعدة الشرعية المتفق عليها التي نصّ عليها التي نص عليها القرآن أنّه (لاَ تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (سورة الإسراء/ 15) أي لا يتحمّل أيّ إنسان مسؤولية عمل غيره.
6- يظنّ بعض المسلمين أنّه يجوز قتل غير المسلم ولو بدون سبب. ويبنون ذلك على أنّ الكافر حربيّ في رأي أكثر الفقهاء، وأنّ الحربي غير معصوم الدمّ، فيجوز بالتالي قتله كيفما كان. هذه مسألة مهمّة للغاية، وأحبّ توضيحها بما يلي:
ليس كلّ كافر حربياً. بل هو يصير كذلك إذا أعلن هو أو دولته الحرب على المسلمين، أو إذا أعلن المسلمون الحرب عليهم.
وحتّى الكافر الحربيّ، لا يُقتل لمجرّد كفره، بل يُقتل حين يحارب المسلمين وبسبب محاربته الفعلية، ولذلك يقول جمهور الفقهاء أنّ "علّة القتال هي الحرابة ـ أي المحاربة ـ وليس مجرّد الكفر" هذا القول هو الصحيح يؤيّده:
قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُ المُعْتَدينَ) (سورة البقرة/ 190) وهو هنا ينهى عن مقاتلة غير المقاتلين، بل يعتبر مقاتلتهم اعتداء.. وهذا ممّا لا يقبل النسخ.
منع الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث الصحيحة مِن قتل مَن لا يقاتل من الكفّار: كالمرأة والصبيّ غير المقاتل والعسيف ـ وهو الأجير المستخدَم في أمور لا تتصل بالقتال، والشيخ الفاني. واستنبط الفقهاء من هذه النصوص منع قتل "الرهبان في الصوامع" والتجّار، والمقعد والأعمى والمشلول والمعتوه والسائح ومقطوع اليد والرجل، والمريض مرضاً مزمناً".
لو كان القتل جائزاً لمجرّد الكفر، لكان هذا مناقضاً لعدم الإكراه في الدين. وهذه مسألة لا نعلم خلافاً حولها لورود النصوص القاطعة فيها كقوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..) (سورة البقرة/ 256).
7- حين تقع الحرب الفعلية بين المسلمين وأعدائهم، يجب أن يلتزم المسلمون بأحكام الإسلام في الحرب. ومنها:
عدم جواز قتل غير المقاتلين، وقد تضافرت على ذلك النصوص القاطعة والروايات تذكر نهي رسول الله عن قتل النساء والصبيان بالتحديد.
وقد أباح الإسلام ـ استثناءً من هذا الأصل ـ قتل غير المقاتلين حين شنّ الغارات على العدوّ، أو حين رميه من بعيد، لأنّه لا يمكن هنا التفريق بين المقاتل وغير المقاتل، وطبيعة الحرب قد تقتضي شنّ مثل هذه الغارات، وقد أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم "تبييت المشركين" أي مهاجمتهم ليلاً على حين غفلة، لكن من الواضح أنّ جميع هذه النصوص وردت عند قيام حرب فعلية معلنة، بحيث لا يقع بها غدر.
8- في ضوء ما تقدّم نقول بوضوح إنّ التفجيرات التي وقعت في نيويورك وواشنطن لا يمكن أن تكون مقبولة من وجهة النظر الشرعية، وبالتالي لا يمكن تسميتها عمليّات استشهادية ـ إذا صحّ أنّ الذين قاموا بها مسلمون ـ للأسباب التالية:
ـ أنّ الظروف التي يعيشها المسلمون اليوم في أكثر بقاع الأرض هي ظروف الدعوة وليس القتال. وإنّ اللجوء إلى القتال في مثل هذه الظروف يضرّ ضرراً بليغاً بالدعوة. لقد بذل المسلمون في أوروبا وأمريكا جهوداً كبيرة من أجل عرض الإسلام على الشعوب الغربية بصورته الحقيقية الجذّابة، فجاءت هذه التفجيرات لتعلن الحرب على الشعوب وليس على الحكومات، وتحقّق ما يريده أعداء الإسلام في إيقاف مسار الدعوة، وهو أثقل في الميزان الشرعي من شهوة الانتقام ضدّ الإدارة الأمريكية الظالمة.
ـ إذا دخل شخص بلداً بتأشيرة رسمية، فهي تعتبر من وجهة النظر الفقهية عقد استئمان، "ولا يحلّ للمسلم خيانتهم في شيء، لأنّهم أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم، وإنّ لم يكن ذلك باللفظ، فهو معلوم في المعنى، فلا يحلّ له خيانتهم لأنّه غدر، ولا يصلح الغدر في الإسلام".
ـ الإقدام على خطف طائرات مدنية، يوجد فيها نساء وشيوخ وأطفال، ومسلمون وغير مسلمين، هو في الأصل حرام لأنّه ترويع للناس، وهو لا يجوز كما هو معروف إلاّ أثناء القتال وضدّ المقاتلين فقط. والله تعالى يقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (سورة التوبة/ 6) هذا في المشرك المقاتل، فكيف بغير المقاتلين؟
فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الخاطفين ضربوا بهذه الطائرات المخطوفة وركّابها المدنيين برج التجارة العالمي في نيويورك حيث يوجد آلاف من الموظّفين وآلاف من المراجعين كلّهم في الأصل غير مقاتلين، وفيهم نساء وشيوخ، وفيهم مسلمون وغير مسلمين ـ وقد ورد عن جابر بن عبد الله قال:" كانوا لا يقتلون تجّار المشركين" فضلاً عن النصوص القاطعة التي تمنع قتل من لم يقاتل ـ أدركنا حجم المخالفة الشرعية التي وقع فيها هؤلاء، خاصّة إذا كانوا قاصدين لقتل المدنيين، ولم يكن قتلهم عرضاً أثناء مقاتلة العسكريين.
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة