مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 قصة إسلامهم
مالكولم إكس.. بطل السود في امريكا
حسن السعيد


كما كان "مالكولم" أو "الحاج مالك" قد هزّ أمريكا في الستينات فانّه هزّها من جديد بعد سبع وعشرين سنة من استشهاده، عبر الفيلم الذي أخرجه عن الزنجي الامريكي "إسپايك لي" وأثار صخباً واهتماماً كبيرين.
وبهذا وذاك، عُدّ "مالكولم إكس" رمز الكفاح الأسود ضدّ العنصريّة البيضاء، لأنّه كان الأكثر صراحة وجرأة على تقديم بديل قويّ، من بين زعماء القوّة السوداء، إذ حاول من خلال دعوته الاسلاميّة تقوية روح الأمريكيين السود بالتحرّر من رقّ العبوديّة والاستغلال، وباستمرار دعوته وصل الى قلوب الكثيرين وعقولهم، فقد رأى الكثيرون، للمرّة الأولى في الاسلام طريقاً للخلاص ومنطلقاً لنور التحرّر في صفوف المستضعفين والمحرومين.
ولد "مالكولم" في أوماها بنيبراسكا، في 19 آيار (مايو) 1925م، وكان أحد أخوته البالغين أحد عشر. ومنذ صغره عاش عداء البيض للسود، ففي السادسة من عمره رأى زمرة من عصابة الـ "كوكلوس كلان" وهي عصابة عنصريّة ارهابيّة بيضاء يحرقون بيت والده، دون أن يحرِّك رجال الاطفائية ساكناً أو يصبّون نقطة ماء على النّار الملتهبة "إنّ النار التي حرقت بيت والدي لا زالت تستعر في نفسي...".
وهكذا تحوّل "مالكولم" إلى الأخذ بالثأر ومقابلة الشرّ بمثله "لقد وُجد والدي مهشّم الرأس والجسم تحت عجلات سيّارة"، ويعتقد "مالكولم" أنّ القتل كان عمداً وعن سابق اصرار. وبعد موت الأب ساءت حالة عائلته، وأضرّ بها الجوع، ممّا أدّى الى أن تُصاب الأم بالجنون. الأمر الذي دعا "مالكولم" الى مغادرة المدرسة الى غير رجعة حين بلغ العاشرة من عمره.. وتلقّفته شبكات المخدّرات والدّعارة وبرز كلصّ محترف في عمليّات السّطو.. واستمرّ في هذه الحياة، الى أن اُلقي عليه القبض في احدى الجرائم، وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات، في شباط (فبراير) 1946.. وفي السجن كان على موعد مع حياة جديدة، حين نصحه أحد أصدقائه بأن يستفيد من مكتبة السجن.
وكان أوّل ما امتدّت اليه يد الرّجل قاموساً للغة حفظه كلّه عن ظهر قلب.. ثمّ اتّجه لدراسة كتب التاريخ والاجتماع التي يعتقد أنّ الاطّلاع عليها يُساعد السود في قضاياهم.. فقرأ "قصّة الحضارة" لـ "ويل ديورانت" و "التاريخ الأسود" لـ "كارتر ودسن" وغيرها.
وبينما هو منكبّ على قراءاته تلك إذا بأشقّائه الذين اقتنعوا بما كان يبشّر به "أليجا محمّد"* يكتبون له من خارج السجن ليدرس الاسلام.. فدرس الاسلام واعتنقه، ولكنّه _كما يقول أحد الباحثين _ أعتنق اسلاماً مشوّهاً ومختلطاً بنزعات العنصريّة والعرق. وقد لوحِظ عليه أنّه أصبح أقل مشاغبة، منذ تعرّفه على حركة اُمّة الاسلام (Nation of Islam) التي كان يرأسها "أليجا محمّد". والأمر الذي شدّ انتباه "مالكولم" أكثر من غيره هو أنّ "أليجا" كان دائماً يصف الرّجل الأبيض بـ "الشيطان" المسؤول عن كلّ مصائب السود. هذا التأكيد المستمر على هذه الفكرة دخل لب "مالكولم"، فقد رأى فيه تفسيراً صحيحاً لكثير من المشكلات ذات الجذور العميقة.
بعد صدور العفو عنه عام 1952م ذهب "مالكولم ليتل" الذي كان يُعرف بهذا الاسم الى حي المسلمين السود في شيكاغو، والتقى بأليجا محمّد لتجديد الولاء واتّباع طريقته، رأى أليجا في "مالكولم" مواهب عديدة، فأرسله لإلقاء سلسلة من المحاضرات في أنحاء البلاد، وبعدها عُيّن إماماً للجامع السابع في نيويورك.
وهكذا أصبح "مالكولم" من الدعاة المرموقين لحركة المسلمين السود، ومن أخلص أتباع أليجا محمّد، الذي عيّنه في منصب نائب الامام في الحركة سنة 1953م. واستطاع أن يجذب الى الحركة ما يزيد على أربعين ألفاً من الأعضاء. واهتمّ بشكل خاص بمجتمعات الدعارة والسّرقة ومرتادي السّجون والمغنّين، وأنقذ أعداداً كبيرة منهم وجذبهم الى الاسلام، وخلال السنوات العشر التي تلت تعيينه تلقّى "مالكولم" تدريباً تحت اشراف "أليجا" المباشر، وظلّ ينشر رسالته في أنحاء أمريكا. وكان "مالكولم" يأمل أن يدفع الحركة بطابع سياسي حتّى تتحدّث بقوّة أكبر، حول القضايا الاجتماعية والسياسيّة التي كانت تواجه السود.. ولكنّ هدف "مالكولم" اصطدم بعقبة "أليجا محمّد" الذي كان يدعو الى "عدم التورّط" في مثل هذه الأمور، وأدّى هذا الخلاف الى ترك "مالكولم" صفوف "اُمّة الاسلام".
ورغم هذا الخلاف "السياسيّ"، فقد ظلّت انعكاسات الطفولة بكلّ ما فيها من بؤس وتشرّد قاسيين على أفكاره وتصوّراته، والتي عمّقها لديه لاحقاً "أليجا محمّد"، حول ما كان يعتقده بأنّ البيض هم شرّ محض، وانّهم مصدر كلّ ما تعرّض له السود من الظلم والقهر... ولم يكن يقبل نقاشاً فيما أخذه عن "أليجا محمّد" من أنّ الرّجل الأسود هو الذي خُلِقَ في البدء، وأنّ بعض السود قد ارتكب سيّئات فاحشة مُسخوا بسببها الى بيض.. وانّ سيادة الرّجل الأبيض قد انتهت، وانّ المستقبل قد أصبح لمصلحة السود.. بل لم يكن يرى الاسلام إلاّ في أمريكا وحدها.
لكنّ اداءه فريضة الحج سنة 1384ه‍ (1964م) كان نقطة تحوّل كبرى في حياته وفي أفكاره وتصوّراته، عبّر عنه في رسالة وجهها الى أصدقائه ونشرتها الصّحف، اعترف فيها قائلاً: "لم أشهد أبداً مثل هذه الضيّافة المخلصة وهذه الروح الأخويّة الفيّاضة من كلّ الأجناس الحاملة لكلّ الألوان هنا، في هذا البلد المقدّس العتيق، موطن ابراهيم ومحمّد وغيرهما من الأنبياء حَمَلة الرسالات السماويّة. لقد ظللتُ عاجزاً عن الكلام بالمرّة ومسحوراً بالكرم الذي شاهدته حولي، في كلّ مكان، ومن اُناس ينتمون الى كلّ الأجناس.. إنّ أمريكا تحتاج الى تفهّم الاسلام، فانّ هذا هو الدّين الوحيد الذي سوف يمسح من مجتمعها مشكلة العنصريّة.. وقد تندهش أن تسمع هذه الكلمات منّي، ولكن الذي شاهدته وجرّبته، خلال هذا الحج، قد فرض عليّ أن أعيد ترتيب أفكاري التي كنتُ أُؤمن بها من قبل وأن أتخلّى عن بعض استنتاجاتي السابقة. خلال الأيّام السّبعة الماضية هنا، في مركز العالم الاسلاميّ، أكلتُ من نفس الطّبق، وشربتُ من نفس الكوب، ونمتُ على نفس السجّادة، عابداً نفس الإله، مع رفقاء مسلمين، عيونهم أزرق ما تكون العيون، وشعرهم أشقر ما تكون الشعور، وجلدهم أبيض ما تكون الجلود.. لقد كنا حقّاً أخوة، لأنّ ايمانهم بالله الواحد قد أزال "البياض" من قلوبهم، و "البياض" من سلوكهم، و "البياض" من اتّجاههم.
وقد ساعده على عمليّة اعادة ترتيب فكره ما كان يتميّز به من عقل متفتّح وقدرة على مواجهة الحقائق وتقبّل الوقائع والمعارف والتجارب. ولعلّ أبرز تحوّل في فكره أنّه لم يعد يتّهم البيض كلّهم بالشرّ بل آمن بأنّ ميثاقاً لحفظ الحريّة والعدالة والمساواة يمكن أن يضمّ السود الى جانب البيض.. كما تراجع عمّا كان يدعو له من فكرة الانفصال عن المجتمع الأمريكي، وما كان يطالب به، في مرحلة لاحقة لذلك من أن تكون للسود ولاية خاصّة بهم من الولايات الأمريكيّة، ولكن ربّما يكون أهم تحوّل في حياة الرّجل خروجه عن حركة "أليجا محمّد" وكفره بكثير من أكفاره المنحرفة.
وقبل أن يستشهد كتبَ "مالكولم إكس" مذكّراته التي طُبعت في أمريكا وحدها حوالي أربعين مرّة، وقُرّرت كمادّة دراسيّة في أقسام دراسات الأقليّة السوداء بالجامعات، وفي فقرة من تلك المذكّرات لخّص مراحل حياته المختلفة:
"أحسب أنّ ما من أمريكي أسود قد غاص عميقاً في الوحل كما فعلت.. وما من أسود كان أشدّ جهالة منّي.. ولا تألّم أكثر منّي.. ولكن النور الوضّاء الصافي لا يتلألأ إلاّ بعد ليل عميق شديد الحلوك.. والفرح الأكبر لا يتفجّر في جوانب النفس إلاّ بعد أعظم المصائب، ويجب على الانسان أن يكون قد عرف العبوديّة والسجن لينعم تماماً بالحريّة".
وبينما كان "مالكولم" في ذروة تألّقه، وهو ما استكثرته عليه الأجهزة الخفيّة وغيرها، لقي مصرعه في ظروف غامضة، فبعد وصوله الى نيويورك، بتسع ساعات فقط، عائداً من الحج، تعرّض الى محاولة اغتيال دُمّر فيها منزله، ثمّ جرى اغتياله، وبعد اسبوع واحد من المحاولة، وذلك في 21 شباط (فبراير) 1965م، في مدينة نيويورك. ولمّا كان قد جمع على نفسه عداء "أليجا محمّد" من "اُمّة الاسلام" والأجهزة السريّة الأمريكيّة، فانّ الشك توجّه الى الطرفين، وبقي مقتله لغزاً محيّراً ولكنّه في الوقت نفسه أصبح شخصيّة اسطوريّة لدى السود في أمريكا، وتزامن تحرّكه مع تزايد الوعي في قطاعات السود، والذي مثّلته شخصيّات معتدلة مثل "مارتن لوثر كنغ" الذي اغتيل هو الآخر فيما بعد، و "كارامايكل" الذي قاد جماعة "القوّة السوداء"، وما تزال في صفوف السود حركة جذريّة للمجتمع الأمريكي يعبّرون عنها بالعودة الجماعيّة نحو الاسلام، واتّخاذ الأسماء الاسلاميّة حتّى من قِبَل اُولئك الذي لم يتحوّلوا الى الاسلام.
لقد قدّم الحاج "مالك شبّاز" حياته على طريق الدفاع عن المحرومين والمستعبدين، بعد أن أعاد الثقة للنفوس والعقول، وأصبح المسلمون الأمريكيّون يقيمون الاحتفالات السياسيّة والدينيّة ويحيون ذكرى مقتله كلّ عام في احتفالات حاشدة.. ففي حياته من الدروس والمواقف الشجاعة الكثير.
ــــــــــــــــــ
* وهو مؤسّس جماعة "اُمّة الاسلام" للأمريكيين السود، ولد عام 1897م. وفي عام 1930 عمل كمساعد لولي فرض محمّد رئيس "المعبد" الاسلامي في ديترويت، والذي كان أتباعه يؤمنون بأنّه تجسيد لله. وبعد اختفائه في عام 1934 تولّى القيادة مكانه، وآمن السود انّه كان نبيّاً ورسولاً اختاروه فرض. من تعاليمه انّ السود هم شعب الله المختار. وانّ البيض "شياطين" اضطهدوا السود على مدى 400 سنة، كما عارض الاختلاط والزّواج بين السود والبيض، ولم يقبل أي عضو أبيض في "أمّة الاسلام". توفّي عام 1975م.
---------------------------------------------------
المصدر :"الاسلام والغرب الوجه الآخر"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة