مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 عمادالدين الجبوري
الإصلاح الديني في أوربا مقارنة بالإسلام 


ما إن تمت نجاح ثورة مارتن لوثر (1483 ـ 1546) ذلك الراهب الألماني على البابوبية وطغمتها المتربعة في روما. حتى بدأت المسيحية في منحى جديد لها إذ تم ترجمة الإنجيل. وفي 31/9/1517 كتب احتجاجاته الـ 95. وفهم الناس من ضرورة الإصلاح الديني حيث لهم الحق في الحكم العقلي على الأشياء والظواهر دونما أن يكون عليهم الدين متسلطاً كالسيد يعاقبهم إن خرجوا عن مضامينه، بل لهم حرية تامة في ذلك. وهكذا تحررت أفكارهم من قيود كبلها بهم رجال الدين باسم الدين.
إن مبادئ الإصلاح الديني كانت بحق ثورة على سلطان الكنيسة ومنح الإنسان حق حرية العقل بالحكم على الأشياء والظواهر. إذ أيضاً قد تمّ فصل الدين عن الفلسفة. فالأولى تخص السماء والأخرى تخص الأرض ولكل منهما شرعه الذي يخدم الإنسان نحو التقدم والتطور.
وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية بدأت تفقد مع الموجة الثائرة الجديدة شيئاً عظيماً من هيبتها فإن الإصلاحات الدينية البروتستانتية لم تغير الشيء الكثير من حيث جوهر العقيدة المسيحية. فإن الحياة الدنيوية هي مرحلة أولى للحياة الأبدية الخالدة في المرحلة الطوباوية القادمة. كما وإن المذهب البروتستانتي لم يتأثر ذلك التأثر في عصر النهضة مثلما حدث مع المذهب الكاثوليكي. غير أن المذهب البروتستانتي أبدى معارضة في مسألة مراتب الرهبان والراهبات التنسكية لكون هذا المذهب الجديد يبحث عن مشاركة ذا فاعلية إلى القساوسة.
وكان جون كالفن (1509 ـ 1564) يتفق مع لوثر على نكران مسألة ((حرية الاختيار)). وأن لوثر كان يبدي نوع من الاعتراف للإنسان في حرية محدودة ضمن الشؤون الحياتية. وهذا كان كذلك، تماماً من موقف كالفن الذي ينص جملة وتفصيلاً لكل نوع من أنواع حرية الاختيار للإنسان. وكان بكل وضوح عن ذلك يقول: ((إنهم لا ينسبون إلى الإنسان أية حرية في الاختيار لا أكثر مما لو أنه كان حجراً وهم يحذفون أي تفريق بين الخير والشر حتى إنهم يرون إن ما من شيء يمكن فعله ويكون شراً ما دام الله هو فاعله)).
وهذا يعني بأن كالفن يقترب هو ولوثر من مذهب الجهمية في مسألة ((الجبر)). ذلك لأنهما ينكران حرية الاختيار للإنسان مع إعطاء حق قليل وبسيط إلى نوع من الحرية الحياتية المحدودة. ومع ذلك فإنهما يقفان على يمين جهم بن صفوان في نفي كل قدرة وإرادة للإنسان وجعلها إلى الله فقط.
مرة أخرى كان لوثر وكالفن يبنيان لبنة مفاهيمهما الدينية الجديدة وبالدرجة الأولى على أن نجاة الإنسان الروحية تتعلق بالله أولاً وآخراً دونما أن تتعلق بالإنسان نفسه.
بين هذا وذاك فإن مذهب البروتستانت قد اعترف على نحو كلي بنظام الشخص الفردي، بل إنه قد قدمه على غيره في حين لم يفعل ذلك مذهب الكاثوليك وإنما بقي ملتزماً على نمط الكنيسة الكاثوليكية حيث تأخذ الفرد من نواحي دينية وأخلاقية، وبشكل رئيسي. ومقابل ذلك فإنه يتوجب من الفرد الذي قد أخذته الكنيسة بعين الاعتبار أن يسلم أمره إلى اعتراف سماعي يكون فقط أمام القس الذي يرشده بدوره نحو التوجيه الروحي الصحيح.
أما من شأن الإصلاح الديني فقد كان وفق مفهوم الكنسي الكاثوليكي بأنه مجرد اعتراض ليس إلا. وهذا الاعتراض أتى في بعض أسبابه وليس في جميع أجزاءه. على بعض المعتقدات والممارسات التي قد اتبعتها الكنيسة الكاثوليكية. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر ((صكوك الغفران)) التي باعها بابوية روما إلى المحرومين في دار الدنيا من أجل إسعادهم في دار الآخرة. وغير ذلك. وفي جميع الأحوال فإن الإصلاحات الدينية التي طرأت على الكنيسة كانت القضاء على شكل من أشكال التسلط البابوي للكنيسة. إنه حصر رجال الدين ضمن نطاق دائرة دينهم لا غير.
إن حركة الإصلاح الديني قد حدثت في مسلكية الكنيسة الكاثوليكية وسيطرة طغمة معينة على سلطانها. هذا الإصلاح بلا شك كان ضروري كيما تصل المسيحية إلى عزل الدين عن الدولة أيضاً والذي ساعد على ذلك إن المعتقدات الدينية المسيحية تنحصر وفق تعاليم تهدف إلى ((السلام)) وإلى ((المحبة)) وشقاء من أجل سعادة. وبذلك فإن مسألة التركيز على الحرية الفردية والحكم الشخصي على الأشياء قد أدى إلى نمو العلم والفلسفة علاوة على تقوية الحكومات السياسية. إنه فتح الأفق إلى سعة مقدرة الإنسان في مدى تفكيره دونما أن يكون عليه من رقيب ديني متسلط يثبط عزيمة فكره العقلي.
وهكذا ما إن تقلصت نفوذ الكنيسة حتى انفجرت علوم القوم نحو الأفضل. وهذه الحالة بالطبع تكون مختلفة جداً مع مفهومها بين الدين والدولة في العقيدة الإسلامية. ذلك أن الإسلام باعتباره نظام وعقيدة وإن ((القرآن)) كتاب الله الجامع الشامل لهيكل النظام وإن سنة محمد (ص) متممة للشرع لذلك النظام. لذا فإن البناء الاجتماعي من كافة نواحيه تكون تامة من حيث الأسس الرئيسية الهامة إلى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. إنه هيكل متكامل لا نقص فيه البتة.
بمعنى آخر إذا تمّ فصل الدين عن الدولة في العقيدة المسيحية فإن ذلك لا يمكن أن يكون في تطبيقه على العقيدة الإسلامية نظراً إلى الكتاب والسنة حيث إنها جامعة وشاملة وملمة وكافية إلى جميع متطلبات الأمور الحياتية في كل عصر وزمان. ونرى بأن بعض المجتمعات الإسلامية التي انتهجت الخط العلماني الأوروبي في عزل الدين عن الدولة قد بقت في صراع فكري بين نظرية الدولة السياسية والشعب المتعلق بدينه والرافض لتلك السياسة التي تبعد فعالية دين الإسلام عن الحياة العملية.
هذا يعني بأن المسلم يستمد مقومات وجوده الديني من القرآن والسنة النبوية. في حين أن المسيحي يرتكز في مقومات وجوده الديني على معتقداته المسيحية. فالذي يستمد لا يمكنه أن يتخلى عنه أي أن إبداعه يكون نابع من ذلك الاستمداد الذي ناله عنه. أما الذي يرتكز على شيء فليس شرط أن يكون إبداعه رد فعل إلى ذلك الارتكاز. وهو ذا الفارق الذي لا يمكن أن يتغير في المعتقد الإسلامي عن المعتقد المسيحي.
مثلاً على ذلك في بداية القرن العشرين وكما هو معلوم قد دار جدال في انكلترا وتركز موضوعه على نقطتين إثنتين ألا وهما: اليسوع أو المسيح؟ أما أن يكون يسوع الأبدي أو المسي اللاهوت العقائدي. وبما أن البروتستانت كانت لهم الغالبية الكبرى بين الحضور لذا فقد كانت نهاية الجدال بأن أكدوا على أن المسيحية إنما ترجع إلى يسوع ـ المسيح. في حين كان ممثلوا الحركة الكاثوليكية الحديثة يفرقون ما بين ((حقائق بالعقل ت عن ـ حقائق بالإيمان)). علاوة على أنهم يرفضون أن تكون الأولى على علاقة بالثانية.
وإذا كان هذا الأمر كذلك في جدال العقيدة المسيحية فإنه في العقيدة الإسلامية كل شيء مقطوع البت فيه من حيث الكتاب والسنة. ولذا لا يمكن أن يثار جدال ما إلا من باب التفهم للشيء في متطلبات الحياة لكل عصر وزمان. ومن أقدم الأمور التي تناقش للآن هي مسألة الخلاف على الخلافة. والصراع الذي دار بين علي ومعاوية وهذا ـ كما تلاحظ ـ ليس صراع أو جدال في عقيدة التوحيد المطلقة أو ما جاء به النبي محمد (ص). إنه صراع من أجل سلطة رغم أن بعض الأفكار قد استمدت مقوماتها من أقوال الله القرآنية وأحاديث رسوله محمد (ص). ومع كل هذا فإنه لم تفصل الدولة عن الدين ذلك لأن الدين فيه النظام الكامل للحياة.
على أية حال فإن تيار الإصلاح الديني نقل العقل الأوروبي إلى موقعه الذي يجب أن يكون فيه أعني للتفاعل الحضاري الإنساني. وبذلك بدأت الاتجاهات إلى دراسات فلسفات أفلاطون وأرسطو وباقي العلوم الأخرى. وكان الممر الوحيد لهم عبر قنوات الفكر العربي الإسلامي الذي حفظ علوم الأوائل من الأغارقة وتفاعل معها علاوة على العلوم العربية الصرفة.
يقول فردريك كومبلسون: قد ((كانت الفلسفة العربية إحدى القنوات الرئيسية التي بواسطتها كان أرسطو كامل التقديم إلى الغرب)).
أما جون باكوت كلوب (كلوب باشا 1898 ـ 1986) يتساءل بأن هل ((كان العرب آنذاك فقط الحاملين ورث ثقافة اليونان وروما. وبعدئذ أرجعوها إلى أوروبا؟ فقط جزئي لذلك. بالفعل هم عملوا على صون كتابة الإغريق القدماء ونقلوها عن أوروبا إلى داخل العربية لتكون ترجمت إلى اللاتينية. ومع ذلك فإنهم قد أضافوا سواء كان ذلك إسهاماً كبيراً أو قليلاً إلى الكل من المعرفة التي نقلت من خلال أيديهم)).
وكذلك جون لويس يقول: ((لقد أصبح أرسطوطاليس في غمار النسيان وعلى كل فقد كان خارج الدين. ولم يعرض فلسفته آنذاك إلا الفلاسفة العرب الذين حافظوا على الفلسفة حية ترزق في إسبانيا وشمال أفريقيا من القرن التاسع حتى القرن الثاني عشر في الوقت الذي كانت فيه أوروبا على درجة من البربرية والجهل جعلت من العسير عليها أن تتقبل الفلسفة)).
هذا وعن حركة الإصلاح الديني يقول الكاتب الانكليزي لرك هارت (1729 ـ 1797م) بأن: في القرون الوسطى كان النظر إلى باطن الإنسان وما حوله من الأشياء الخارجية بين النوم واليقظة قد سدل عليه ستار نسجه الدين والوهم والتعصب الأعمى منع الإنسان أن يرى العالم على ما هو عليه وما كان يحس الإنسان بنفسه إلا كفرد من جيل أو شعب أو حزب أو أسرة أو ((طائفة)) وما كان يحس لنفسه بشيء من الشخصية ورفع ذلك الستار أيام النهضة فرأى من الممكن أن يفكر فيما حوله من الأشياء سواء كان حكومة أو أي شيء في العالم. كما رأى من الممكن أن يفكر في نفسه واعتقد أنه فرد ذو روح حساسة. وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة وبمعارضته للسلطة وذويها. وذهابه شوطاً بعيداً في اعتبار العالم كله وطناً له. وهذه دلائل أعظم رُقي يصل إليه الناس في تقدمهم العقلي. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى. ولذلك يسمى العلماء الذي خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان عند القدماء ((الإنسانيين)) كما تسمى عقائدهم ومثلهم العليا ((الإنسانية)) وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون ((نمو الفردية)) وهو الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل. أي عصر المدرسي.
* الخروج عن الزمن
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة