مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
الربط الاستشراقي لصوم المسلمين بالصيام في الشريعة اليهودية
فؤاد كاظم المقدادي


تتكرّر دعوى إقتباس النبي محمد (ص) من اليهودية والنصرانية، في الموسوعة الاستشراقية الأكبر "دائرة المعارف الاسلامية" بشكل ملفت. وآية ذلك ما ورد في مادة "صوم" التي كتبها "بيرك G.G. Berg" كما في المقاطع التالية: "أمّا "الصوم" [بمعنى الامساك عن الطعام والشراب] فيجوز أن يكون مأخوذاً عن الاستعمال اللغوي اليهودي _ الآرامي _ لما عرف محمد (ص) وهو في المدينة شعيرة الصوم عن كثب".
ويستمر في هذه الدعوى فيقول في موضع آخر من نفس المادة: "ويدل على ظهور الصيام باعتباره رياضة اختيارية غايتها قهر الشهوات بين المسلمين الأولين في مكة ما يغلب على الظن من أن محمداً (ص) وهو في أسفاره الكثيرة، لاحظ هذه العبادة عند اليهود والنصارى".
ويقول أيضاً في نفس المادة: "... لكن محمداً (ص) لم يكن على كل حال عارفاً بالتفصيلات لأنه لم يأمر بصوم يوم عاشوراء إلاّ بعد الهجرة لما رأى اليهود يصومونه".
ويذهب "بيرك" الى أكثر من ذلك في ادعائه هذا، فينقل آراء آخرين تحت نفس المادة فيقول: "وفيما يتعلّق بمسألة السبب الذي من أجله اختار محمد (ص) شهر رمضان بالذات والمصدر الذي أُخذت عنه شعيرة الصوم الاسلامية، قيلت آراء عديدة، ويقول الإسلام انه هو الصوم الذي فرضه الله على اليهود والنصارى لكنهم أفسدوه، فأعاده محمد (ص) الى صورته الصحيحة، ويذهب المستشرق سپرنكـر الى انه تقليد للصوم الاربعين عنـد النصارى؛ و "نولدكه وشفالي Noldek-Schwally" يشيران الى مشابهة الصوم الاسلامي لنوع الصوم عند المانوية".
إن إثارة بيرك: "... لكن محمداً (ص) لم يكن على كل حال عارفاً بالتفصيلات لأنه لم يأمر بصوم يوم عاشوراء إلاّ بعد الهجرة لما رأى اليهود يصومونه" ففيه:
أـ أن عاشوراء على وزن فاعولاء، مختومة بالألف الممدودة، وتصحّ بالألف المقصورة بلا همزة: عاشورى، فهي صفة مؤنثة لليلة العاشر من الشهر القمري العربي، وغلب إطلاقها على الليلة العاشرة من أوّل تلك الشهور وهو محرم الحرام، ولا يوصف بها اليوم، فلا يقال: اليوم العاشوراء. وقد اشتهر استعمال هذه الكلمة في ليلة العاشر من محرم الحرام، ذكرى شهادة الامام الثالث من أئمة أهل بيت النبوة الطاهرة (ع) الحسين بن علي (ع). مع العلم أن اللغويين قد نصّوا على أنّ هذه الكلمة "اسم إسلامي" "لم يعرف في الجاهلية". وعلى هذا فمن أين جاءت دعوى وجود يوم باسم يوم عاشوراء لدى اليهود وأنهم كانوا يصومونه؟!.
ب_ لعل دعوى "بيرك" بوجود مثل هذا اليوم لدى اليهود وأنهم كانوا يصومونه، قد استندت على بعض الروايات الضعيفة سنداً، والمتناقضة دلالة والتي وردت في بعض كتب الحديث، وأدناه نستعرض مجموعتين منها مع الإشارة الكلية إلى ظروف وملابسات اختلاف هذه الأحاديث ونسبتها كذباً الى رسول الله(ص):
المجموعة الأولى:
1_ عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله (ص) يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
2_ عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي(ص) يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان، كان رمضان الفريضة. وترك عاشوراء، فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه.
3_ عنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل ان يُفرض رمضان، وكان يوماً تستر فيه الكعبة، فلما فرض الله رمضان قال رسول الله(ص): من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه.
فكيف التوفيق بين هذا وبين ما مرّ من نصوص اللغويين على أن اسم عاشوراء اسم اسلامي لم يُعرف في الجاهلية؟ وإذا كانوا يصومونه لأنه كان يوماً تُستر فيه الكعبة، فلماذا أضيف الى وصف الليلة "عاشوراء" كما مرّ؟ ولم تكن الكعبة تُستر في الليل طبعاً قطعاً. وهل وصفوا اليوم المذكّر بصفة التأنيث؟ فالعجب من العرب كيف غاب عنهم هذا؟!
وهنا نتساءل:
بما أن الجاهلية هي عهد ما قبل الاسلام، فإذا كان النبي يصوم يوم عاشوراء في الجاهلية فلماذا تركه بعد الاسلام؟ فلو كان تركه لمخالفة المشركين فلماذا رجع إليه بعد الهجرة؟
المجموعة الثانية:
1_ عن ابن عباس قال: قدم النبيّ (ص) المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى. قال: أنا احقُّ بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه.
2_ عنه قال: إن النبي لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوماً (يعني يوم عاشوراء) فقالوا: هذا يوم عظيم، وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصام موسى شاكراً لله. فقال: أنا أولى بموسى منهم. فصامه وأمر بصيامه.
3_ عنه قال: لما قدم النبيّ المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني اسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له. فقال رسول الله: ونحن أولى بموسى منكم. فأمر بصومه.
4_ عنه قال: قدم النبي المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم، فصوموا.
5_ عنه قال: لما قدم رسول الله المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبيّ: نحن أولى بموسى منهم.
6_ عن أبي موسى الأشعري قال: دخل النبي المدينة وإذا اُناس من اليهود يعظّمون عاشوراء ويصومونه، فقال النبي: نحن أحق بصومه، فأمر بصومه.
7_ عنه قال: كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً، فقال النبي: فصوموه أنتم.
وهذه المرويات عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري لا نجد فيها أن اليهود كانوا يسمونه عاشوراء، أمّا ما هي حقيقته عند اليهود؟ فهذا ما تبينه لنا دائرة المعارف البريطانية بالانجليزية والفرنسية والألمانية حيث جاء فيها:
إن احتفال اليهود بنجاة موسى وبني اسرائيل يمتدّ سبعة أيام لا يوماً واحداً فقط.
أمّا صوم اليهود فهو في اليوم العاشر، ولكنه ليس العاشر من المحرم، بل من شهرهم الأول: تشري، ويسمّونه يوم "كيپور" أي يوم "الكفّارة" وهو اليوم الذي تلقّى فيه الاسرائيليون اللوح الثاني من ألواح الشريعة العشرة، ولم يكن ذلك يوم نجاتهم من فرعون، بل بعد نجاتهم من فرعون، وميقات موسى (ع) وابتلائهم بعبادة العجل إلهاً لهم، ورجوع موسى من الميقات إليهم، وإعلان اشتراط قبول توبتهم بقتل بعضهم لبعض، وبحصولهم على العفو من رفقائهم، ولذلك فقد خُصّص اليوم قبل "كيپور" بتبادل العفو فيما بينهم، وخُصص يوم "كيپور" للصيام والصلاة والتأمّل كأقدس أيام اليهود.
والتقويم اليهودي المستعمل اليوم عندهم شهوره قمرية، ولذلك فعدد أيام السنة في السنوات العادية 355 أو 354 أو 353، ولكنهم جعلوا سنواتهم شمسية بشهور قمرية، ولذلك فلهم سنوات كبيسة، ففي كل سنة كبيسة يضاف شهر بعد آذار الشهر السادس باسم آذار الثاني فيكون الشهر السابع، ويكون نيسان الشهر الثامن، وعليه تكون أيام السنة الكبيسة 385 أو 384 أو 383.
مناقشة ما ورد في روايات المجموعتين:
أـ يلاحظ بخصوص خبري أبي موسى الأشعري:
أنه في الأول يقول: "وإذا اُناس من اليهود يعظّمون عاشوراء ويصومونه، فقال النبي: نحن أحق بصومه. فأمر بصومه" بلا ذكر لوجه تعظيمهم ليوم عاشوراء وصومه، ولا ذكر لوجه أحقيّة المسلمين بصومه.
وفي الثاني يقول: "كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً. قال النبي: فصوموه أنتم" بلا ذكر لوجه كون يوم عاشوراء عيداً عندهم، ولا ذكر لوجه أمره (ص) بصومه، وكأنه يقابل بين الأمرين: بين صوم المسلمين فيه وعدّه اليهود عيداً، دون الأولوية.
ب_ يلاحظ في الخبرين أيضاً:
أنه قال في الأول: "وإذا اُناس من اليهود يعظّمون عاشوراء" وقال في الثاني: "كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً" فعلّق وصف العيد وتعظيم اليهود على يوم عاشوراء، ولا وجه لذلك. وقد مرّ نص اللغويين على أنه اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهلية أي قبل الاسلام، وعليه فكيف عرف اليهود عاشوراء قبل الاسلام؟!
وقال في الثاني: "قال النبي: فصوموه أنتم" وقال في الأول: "فقال النبي: نحن أحق بصومه. فأمر بصومه" وجوباً أم استحباباً؟ وظاهر الأمر الوجوب كما قالوا، وعليه فيخلو الخبر عن ذكر مدى هذا الأمر الى متى كان أو يكون؟ وكذلك تخلو منه أخبار ابن عباس.
ج_ وذكرت المدى أخبار عائشة: "فلما فرض الله رمضان قال رسول الله: من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه".
وقد ذكروا بلا خلاف أنّ فرض الله صيام شهر رمضان كان بنزول القرآن به لمنتصف السنة الثانية للهجرة، أي أنه لم يكن بين هجرته وبين نزول القرآن بفرض رمضان غير عاشوراء واحد، واذا كان قد أمر بصيامه مواساة لموسى(ع) شكراً لنجاته على قول يهود المدينة له بعد هجرته جواباً عن سؤاله عن صومهم يوم عاشوراء، إذن فعاشوراء الاُولى قد مضت ولم تأت الثانية ليصوموا يومها حتى نزل القرآن بفرض رمضان فما معنى "كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان"؟ وكذلك ما عن عائشة أيضاً قالت: كان عاشوراء يُصام قبل رمضان، فلما نزل رمضان من شاء صام ومن شاء أفطر.
وعنها قالت: كان رسول الله أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وكأنه أمر بالصيام فقط ولم يصوموه.
د_ وهناك خبر آخر عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على منبر يوم عاشوراء عام حجّ يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله يقول: هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر.
فهذا يتضمن تنكّراً لصيام قريش في الجاهلية، ولصيام اليهود كذلك، وينص من أول يوم على الندب والاستحباب دون الوجوب. ولكن يلاحظ عليه أمران:
الأول: أنه يتضمن اعترافاً بعدم علم علماء أهل المدينة بالحديث عن رسول الله.
الثاني: أفكان هذا قبل الهجرة؟ أم بعدها؟ أم بعد فتح مكة؟ فمتى سمعه معاوية؟ وإذا كان لليهود تقويم عبري يخصّهم يختلف تمام الاختلاف عن التاريخ العربي القمري، وإذا لم يكن يوم عاشوراء يوم نجاة موسى (ع) وبني إسرائيل من فرعون، فلا يصحّ ما جاء في بعض كتب الحديث مما نسب إلى رسول الله(ص) من أخبار في عاشوراء تتضمن أنه يوم نجاة موسى وبني إسرائيل من الفراعنة فهو يوم عيد الخلاص. وإلى جانبه ذكريات أخرى منها: أنه يوم خلق الأرض والجنة وآدم (ع) فهو عيد الخلق، وهو يوم نجاة نوح من الغرق، ونجاة إبراهيم من الحرق.
أما علّة وضع هذه الأحاديث فقد روى الشيخ الفقيه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، مسنداً عن جبلة المكية قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: "والله لتقتلنّ هذه الامة ابن نبيّها في المحرم لعشر مضين منه، وليتخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإن ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم بذلك بعهد عهده إليّ مولاي أمير المؤمنين.
قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن علي (ع) يوم بركة؟!
فبكى ميثم، ثم قال: سيزعمون _بحديث يضعونه _ أنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم (ع) وإنما تاب الله على آدم في ذي الحجة. ويزعمون أنه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوحٍ على الجودي، وإنما استوت على الجودي يوم الثامن عشر من ذي الحجة.
ويزعمون أنه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني اسرائيل. وإنما كان ذلك في شهر ربيع الأول.
ويزعمون أنه اليوم الذي قبل الله فيه توبة داود، وإنما قبل الله توبته في ذي الحجة. ويزعمون أنه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة.
وقول "بيرك": "وفيما يتعلّق بمسألة السبب الذي من أجله اختار محمد(ص) شهر رمضان بالذات... قيلت آراء عديدة" لا مورد له، لأن الله سبحانه قد أظهر سرّ عظمة هذا الشهر في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي اُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان) فجعل أداء هذه الفريضة العظيمة في الشهر العظيم فقال سبحانه (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
-------------------------
المصدر : الاسلام وشبهات المستشرقين
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة