مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 تأثيرات المسلمين في الحضارة الغربية
إضاءات من حركة الترجمة الى اللاتينية والاسبانية في بلاد الاندلس 
عبد الرحمن بدوي


تمت عملية الإخصاب بين الفكر العربي البالغ كمال تطوره وبين العقل الأوروبي، وهو بسبيل يقظته وتلمس طريقه في البداية، تمت عملية الإخصاب هذه في منطقتين: الأولى أسبانيا وفي مدينة طليطلة منها بخاصة، والثانية صقلية، وجنوب إيطاليا، خصوصاً في عهد ملوك النورمان وأشهرهم رجار الثاني المتوفى سنة 1157 وفردريك الثاني المتوفى سنة 1250م. فقد كانت هاتان المنطقتان نقطتي التلاقي بين الثقافة العربية الإسلامية الزاهرة وبين العقلية الأوروبية الناشئة، لأنهما على الحدود بين دار الإسلام وبين أوروبا.
يبدأ هذا التبادل بالرحلة التي قام بها جربير دي أورياك Gerbert d'Aurillac الذي أصبح فيما بعد بابا باسم البابا سلفستر الثانيSilvestre II، رحلته إلى قرطبة، "طلباً للحكمة". ولم يعد الجادون من المؤرخين يشكون في قيامه بهذه الرحلة التي شهد بها معاصره المؤرخ ادمار دي شابان Ademar de Chabannes خصوصاً ومن الثابت أنه زار أسبانيا وأمضى بها ثلاث سنوات من سنة 967 إلى سنة 970، بجوار أسقف فتش Vich، فماذا عسى أن يطلب العلم في قطالونيا خلال هذه السنوات الثلاث؟ لم يكن في قطالونيا من العلم آنذاك ما يشغل ذهن هذا الراهب ثلاث سنوات، لهذا فمن المؤكد أنه رحل من قطالونيا إلى حيث مركز العلم والثقافة في ذلك الحين، أعني إلى قرطبة الزاهرة في عهد الحكم الثاني (المتوفى سنة 366ه‍). فكان لهذه الرحلة أثرها البالغ في اهتمام جربير بالعلم العربي ومحاولة نشره في أوروبا المسيحية.
وبلغ هذا التبادل أوجه في طليطلة بعد أن استردها الأسبان سنة 1085، فأصبحت على الحدود بين الدولة الإسلامية في الأندلس وبين الدولة النصرانية في سائر أسبانيا. وكانت مدينة جليلة الشأن منذ عهد بعيد إذ كانت عاصمة مملكة القوط الغربيين. وفي عصر ملوك الطوائف بلغت مكانة كبرى على أيدي ملوكها من بني ذي النون إلى أن استولى عليها الفونس السادس سنة 478ه‍.. فقد امتازت بمكتباتها العظيمة، خصوصاً وقد انتقل إليها آلاف المجلدات من المشرق. وكان فيها ثلاث طوائف قوية تعيش إلى جوار بعضها: المسلمين والنصارى واليهود. وتولت الطائفة الثالثة التوسط بين الطائفتين الأخريين، سواء في التجارة أو في نقل العلوم. وشجع على قيام حركة نقل الكتب العربية إلى اللاتينية _إما بتوسط اللغة العبرية أو اللغة الدارجة الرومانية _ مطران طليطلة ريمدندو Raimundo (1126 _ 1152). وتلاه خلفاؤه من المطارنة، حتى استمرت هذه الحركة طوال أكثر من قرن. ولقد اعتاد المؤرخون أن يتحدثوا عن "مدرسة المترجمين" في طليطلة ولكن ليس المقصود وجود مدرسة بالمعنى المادي، أي هيئة وبناء يضمها يتولى القيام بالترجمة، مثل بيت الحكمة الذي أنشأه الخليفة المأمون للمترجمين من اليونانية أو السريانية إلى العربية في سنة 215ه‍، بل كان هناك جماعة حرة من المترجمين يعملون في طليطلة في نفس المكتبات، وبنفس الطريقة، وفي ميدان واحد هو العلوم العربية.
لكن أول ما اهتم به هؤلاء المترجمون هو العلوم العربية المنقولة عن العلوم اليونانية. ذلك أن أوروبا كانت قد أقفرت أو كادت من العلم اليوناني، وانحصرت بضاعتها العلمية في متون جافة عقيمة، هي تلك التي وضعها مارشيانو كابلا Marciano Capella الذي عاش في شمال أفريقية في عهد الوندال في القرن الخامس، أو التي وضعها بوتيوس Boece في القرن السادس في إيطاليا في عهد القوط الشرقيين، أو تلك التي كتبها القديس "ايسيدور" الذي عاش في أسبانيا في القرن السابع على عهد القوط الغربيين، وأخيراً في القرن الثامن ما كتبه بيد Bede الموقر الذي عاش في بريطانيا. وهذه المتون كانت مجرد خلاصات شاحبة لآثار ضئيلة من العلم اليوناني، فبقيت الدراسة في أوروبا تافهة كل التفاهة، محصورة في فئة نادرة من الرهبان. وما كان يمكن هذه الدراسة أن تغير مجراها إلا إذا أمدها مصدر خصب جديد، فكان هذا المصدر هو العلوم العربية، وبخاصة ما تنطوي عليه من علوم اليونان. لهذا اتجه المترجمون إلى نقل الكتب العربية التي تتضمن علوم اليونان أولا.
وكان على رأسهم الشماس دومنجو غنصالبه Domingo Gonsalvo المتوفى حوالي سنة 1180. وبرز نشاطه في الفترة ما بين سنة 1130 وسنة 1170م، ويعد أشهر رجال الترجمة في العصر الوسيط من العربية إلى اللاتينية عن طريق الأسبانية العامية. فقد كانت الطريقة في الترجمة أن يقوم يهودي مستعرب بترجمة النص العربي شفوياً إلى اللغة الأسبانية العامية، ثم يتولى "غنصالبه" الترجمة إلى اللاتينية. ومن بين ما ترجمه "غنصالبه" على هذا النحو بعض مؤلفات "للفارابي" و "ابن سينا" و "الغزالي" و "ابن جبيرول". وشاركه في الترجمة أحياناً "خوان بن داوود" إذ اشتركا معاً في ترجمة كتاب "في النفس" لابن سينا. ويخلط أحياناً بين "ابن داوود" هذا وشخص آخر هو "يوحنا الأسباني" الذي ترجم من العربية إلى اللاتينية عدة مؤلفات في الفلك والنجوم، من بينها كتب للخوارزمي، بفضلها انتقل الحساب الهندي إلى أوروبا والنظام العشري في الحساب؛ حتى عرفت العمليات الحسابية باسم Alguarismo. والغريب أننا ترجمناها حديثاً باسم "اللوغاريتمات" وهي في الأصل منسوبة إلى الخوارزمي!! والصحيح أن نترجمها ب‍ "الخوارزميات" أو "الجداول الخوارزمية" بدلا من الترجمة المضحكة: "اللوغاريتمات" أو "جداول اللوغاريتمات" كما تسمى في كتب الطلاب في المدارس الثانوية في البلاد العربية، ومن كتب الخوارزمي عرفت أوروبا "الصفر"، وهو في العربي ترجمة للكلمة الهندية سونيا Sunya أي "خال، خاو"، والصفر هو الخالي أو الخلوى، وقد نقلت كلمة "صفر" العربية إلى اللاتينية هكذا: Cifra Cifrumبمعنى "الصفر"، ثم أطلقت من بعد على العدد عامة، كما نجد في اللغات الأوروبية: chiffre في الفرنسية و cifra الأسبانية. ومنها أخذت كلمة "السفرة" في الدبلوماسية أي اللغة الرمزية، لأنها تقوم على أرقام.
ومن المرجح أن أول الأوربيين غير الأسبان الذين استفادوا من حركة الترجمة هذه من العربية إلى اللاتينية هو "أدلهرد أوف باث" Adelhard of Bath. وكان رحالة وعالماً، جال خلال فرنسا وصقلية وقليقية وسوريا حوالي سنة 1115؛ وقد ترجم من الأسبانية سنة 1126 الزيج الذي وضعه الخوارزمي وعرف باسم "السند هند" وفي أوروبا باسم Tablas Astronomicas وقد أصلحه "مسلمة المجريطي".
أما المركز الثاني للتبادل الثقافي فكان كما قلنا في صقلية بعد أن استولى النورمان عليها 484ه‍. وكان العرب قد فتحوها سنة 212ه‍ على يد الأغالبة فكأنها ظلت تحت حكم العرب 272ه‍ سنة. وأما التأثير العربي فقد ظل طوال عهد النورمان، "فروجار الثاني" تأثر في كل مظاهر بلاطه بمظاهر الخلافة الفاطمية في مصر، فكان يظهر وعليه عباءة فاخرة مكتوب عليها بالحروف العربية الكوفية، وأنشأ أكاديمية كان يعمل فيها العلماء النصارى واليهود جنباً إلى جنب، وأحسوا بالحاجة إلى ترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية، فبدأت حركة مناظرة لحركة "طليطلة" وان تأخرت عنها بعشرات السنين.
ففي عهد "جيوم الأول"، ابن روجار الثاني، نشطت حركة الترجمة ليس فقط من العربية بل وأيضاً من اليونانية، حتى أن وزيره المشهور "انريكو ارستبو Enrico Aristippo" ترجم "الآثار العلوية" لأرسطو من اليونانية وكذلك ترجم محاورتين لأفلاطون، كما ترجم هو و "الأميرال يوجنيو دي بالرمه" Eugenio de Palermo كتاب "المجسطي" لبطلميوس من العربية إلى اللاتينية حوالي سنة 1160، وترجم يوجينو أيضاً كتاب "المناظر" لبطلميوس من العربية. كما اشترك في حركة الترجمة من العربية مترجم إيطالي فذ هو "جيرردو الكريموني" Gerardo de Cremona (1114_1178) الذي رحل إلى طليطلة طمعاً في دراسة العلوم الفلكية، وعنى خصوصاً بكتب الفلك لبطلميوس، وعلى رأسها "المجسطي"، وهي كلمة يونانية تعني في أصلها: "الأعظم"، وقد أطلقها اليونانيون على أكبر كتب بطلميوس في الفلك، وعربها العرب كما هي: "المجسطي". فقام "جيرردو" بترجمته إلى اللاتينية سنة 1175 وهو لا يعرف أن الكتاب قد ترجمه أيضاً "أرستيبو"؛ على أن ترجمته هي التي حظيت بالشهرة الأوسع. كذلك ترجم "جيرردو" أكثر من سبعين كتاباً عربياً في الفلك والجبر والحساب والطب.
واستمرت حركة الترجمة في طليطلة في القرن الثالث عشر وأمَّ طليطلة علماء أوروبا الكبار مثل "ميخائيل أسكوت" الذي شارك أيضاً في حركة الترجمة فترجم لابن سينا. ومن بين كبار المترجمين نذكر "ماركوس" شماس طليطلة الذي ترجم من العربية بعض مؤلفات "جالينوس" الطبية كما ترجم القرآن الكريم وبعضه الكتب في علم التوحيد. كما نذكر خصوصاً هرمانوس المانوس Hermannus Alemanus الذي ترجم شرح "ابن رشد" على الأخلاق "لأرسطو" سنة 1240، وتلخيص الخطابة "لابن رشد".
وفي عهد "الفونسو الحكيم" انتشرت حركة الترجمة من العربية إلى الأسبانية الناشئة. فترجمت "كليلة ودمنة" و "مختار الحِكَم" للمبشر بن فاتك، وعشرات من كتب الفلك من اللغة العربية إلى اللغة الأسبانية، فكان لهذا أثره العظيم ليس فقط في تقدم الدراسات العلمية في أسبانيا ومنها إلى أوروبا كلها، بل وخصوصا في قيام اللغة الأسبانية.
ومن هذا كله نتبين مدى حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغتين اللاتينية والأسبانية، مما سيكون له أخطر الأثر في بعض العلم والأدب في أوروبا.
--------------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الاوربي"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة