مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
تأثيرات الفيلسوف والطبيب المسلم ابن سينا في الثقافة الأوربية
صبيح صادق


ليست تأثيرات ابن سينا في الفكر الأوربي إلاّ جزءاً من أثر الحضارة الإسلامية على أوربا، بالرغم من أن كثيراً من المتعصبين يحاولون جاهدين التقليل من دور الحضارة الإسلامية، فيأتي دور ابن سينا ليثبت أن للمسلمين حضارة بلغت من الخلق والإبداع أن أثرت في الفكر الأوربي..
ترجمة كتبه
في القرن الثاني عشر قام جيرار دي كريموني Gerard de Cremone بترجمة كتاب القانون لابن سينا إلى اللاتينية. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاهتمام به حتى إذا ما جاء عصر الطباعة كان من أوائل الكتب التي طبعتها المطبعة، فلاقى انتشاراً واسعاً حتى أنه طبع ست عشرة مرة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر.
ومن أقدم الطبعات الأوربية طبعة (ميلانو ـ1743) وطبعة (بادوا ـ1476) و(البندقية ـ1483). وقد طبع كاملاً في البندقية (1595- 1582- 1542). ومن الطبعات الجزئية طبعة باريس (1657) وهال (ألمانيا ـ 1796)، وفريبورج (1844).
كما وقام ناتان هامئتي بترجمته إلى العبرية في روما سنة 1279، وطبع في بابلي (1491).
أما التعليقات باللغتين اللاتينية، والعبرية واللغات الأخرى فمما لا حصر لها.
وهناك ترجمات جزئية حديثة للقانون، منها ترجمة جرونز الذي ترجم الجزء الأول مع دراسة للكتاب. وترجم دي كوننج القسم الخاص بالتشريح (1903)، وترجم هر شبرج ولبرت القسم الخاص بالرمد (ليبزج 1902).
أما أول طبعة باللغة العربية فقد كانت سنة 1593 في روما، ثم تبعتها طبعات أخرى منها طبعة بولاق في القاهرة عام 1877.
وترجم كتابه (النجاة) ترجمة جزئية جند يسالفيGundisalvi.
وتوجد كذلك ترجمة لاتينية جزئية حديثة للقسم الثالث من كتاب النجاة.
أما كتابه (الشفاء) فقد ترجم ترجمات جزئية كذلك؛ من ذلك ترجمة ماكس هورتن Max Horten (1907-1909).
وترجم فورجية J.Forget كتاب الإشارات والتنبيهات وطبعه في ليدن عام 1892.
أثر كتاب القانون في أوربا
لقد بقي كتاب القانون يدرس في أوربا مدة طويلة، وظل المرجع العام للطب ستة قرون كاملة. أما في الشرق فقد بقي حتى القرن العشرين..
ولهذا فان كتاب القانون يعتبر بحق اعظم كتاب طبي انتشر في العالم كله.. حتى أن المجمع الطبي عام 1340 قرر الأولية لجالينوس وابن سينا. وفي سنة 1500 حكموا بالسبق لابن سينا في خمس سنوات محاضرات من أصل عشر ولجالينوس في أربع ولابقراط في واحدة!!.
ويتبين من مناهج جامعة (لوفان) سنة 1617 أن الطب فيها اعتمد على كتب الرازي وابن سينا. وقد وافق البابا كلمنت الخامس سنة 1309 على أن تكون كتابات ابن سينا والرازي ضمن الكتب التي يجب أن يمتحن فيها الطالب إجبارياً للحصول على إجازة الطب من جامعة (مونتبليه).
وقد قام أحدهم بمحاولة إحصاء التأثير العربي، واليوناني على طبقة المثقفين آنذاك، والتعبير عنه بشكل أرقام كأي إحصاء عادي، فانتقى كتاباً للنبيل فراري دوغرادو De Grado الأستاذ في (بافيا) في إيطاليا وكان قد جمعه بفضل ملاحظته الخاصة فطالعه محصياً فيه أسماء العلماء العرب، واليونانيين بدقة ووصل إلى النتائج التالية: ذكر سينا ما ينيف على ثلاثة آلاف مرة، والرازي وجالينوس ألف مرة وأبو قراط مائة وأربعين مرة!.
وقد أدلى السير هيو لينستن رئيس الاتحاد الدولي للصيدلة في المؤتمر الصيدلي العربي الثامن الذي أقيم. في القاهرة عام 1962 أدلى بأن مجمع الصيدلة في إنجلترا أراد أن يختار أعظم اثنين تدين لهما علوم الصيدلة بالفضل، فوقع اختياره على جاليت اليوناني وابن سينا.
ويقال أنه كان في المكتبة الأهلية بباريس جوهرتين ثمينتين هما كتاب جالينوس في الطب العام وكتاب القانون لابن سينا!
وكان الأطباء الأوربيون يفخرون بألقاب مثل Anima Avicenne أو Avicennista Insignis أي روح ابن سينا.
أثره في الطب الأوربي
ويدين علم الطب في أوربا بالكثير لابن سينا، بل وان ابن سينا قد سبق بعض أطباء أوربا في اكتشافاته، ومن جملة تلك الإنجازات التي حققها ابن سينا في مجال الطب اكتشاف الانكلستوما، وسماها الدودة المستديرة قبل أن يكتشفها العالم الإيطالي دوبيني سنة 1838 أي بتسعمائة عام تقريباً.
وابن سينا هو أول وصف إعراض حصى المثانة السريرية. وكان من المهتمين بمرض السكر. وأول من أدخل أمراض الشيخوخة وذلك في رسالته "رعاية المسنين والشيوخ".
وأول من قال بقابلية الأعضاء الصلبة في الجسم كالعظام للالتهاب والتضخم والأورام، مخالفاً بذلك التعاليم اليونانية. وميز بين التهاب المنصف الصدري (أو الحيزوم) وبين ذات الجنب، ونص على أن السحاف ينتقل بالعدوى. وقال بأن عدوى الأمراض تسري بواسطة الماء والتراب.
واستعمل المخدر في الجراحة؛ كاستخدامه الخمرة الممزوجة مع بعض العقاقير، كما واستخدم الإبر للحقن تحت الجلد في علاجه.
وقد شرح ابن سينا قبل بوتال Botal الخصائص التشريحية الفيزيولوجية التي تميز بها الجنين، حيث قال "أن الشريان والوريد النافذين من القلب والرئة لما كان لا ينتفع بهما في ذلك الوقت في التنفس منفعة عظيمة، صرف نفعهما إلى الغذاء، فجعل لأحدهما على الآخر منفذاً ينسد عند الولادة، وأن الرئة إنما تكون حمراء في الأجنة لأنها لا تتنفس هناك بل تتغذى بدم أحمر لطيف ..." وفي ذلك شرح دقيق لآلية الدوران وآلية التنفس أثناء الحياة داخل الرحم "المنفذ" هنا ليس إلا القناة الشريانية بين الوتين والشريان الرئوي، وقد نسب هذا الاكتشاف خطأ إلى بوتال Botal الذي جاء بعد ابن سينا بمئات السنين".
***
دوره في الطب النفسي
وقد ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار ابن سينا أباً للطب النفساني.. حيث استعمل طريقة التحليل النفسي Psychoanalysis واستعمل فيها طريقة تداعي الأسماء Association قبل استعمالها في أوربا.
وقد وضح ابن سينا العلاقة التفاعلية الوثيقة بين الجسم والمؤثرات النفسية حيث يقول "تأمل حال المريض الذي توهم أنه قد صح، والصحيح الذي توهم أنه مرض، فان كثيراً ما يعرض من ذلك أن يكون إذا تأكدت الصورة في نفسه وفي وهمه، انفعل فيه عنصره (أي جسمه) فكان الصحة أو المرض، ويكون ذلك ابلغ مما يفعله الطبيب بآلات ووسائط. فالصور إذا استحكم وجودها في النفس واعتقاد أنها يجب أن توجد، فقد يعرض كثيراً أن تنفعل عنها المادة التي من شأنها أن تنفعل".
والتوهم الذي يشير إليه ابن سينا هو الإيحاء Suggestion "أما تأكد الصورة واستحكام وجودها في النفس" فهو عين عملية التطبع والتكيف Conditioning.
كما جاء بها بافلوف، وقد أعطى ابن سينا هذه العملية أساساً وانفعالاً مادياً على خلاف الأساس النظري كما هو الحال في مدرسة فرويد، فيكون ابن سينا أقرب إلى النظرية المادية في الانفعالات النفسية، وهو الاتجاه الأكثر إقناعاً وقبولاً في يومنا هذا.
وبالإضافة إلى ذلك فان ابن سينا قد تقدم بنظرية اللاوعي.. أو اللاشعور وأعطى هذا الكيان من حياتنا العقلية قوة دافعة.
بل وأن ابن سينا قد سبق فرويد بألف سنة في بحثه في الأمراض النفسية وقد يكون فرويد نفسه قد أطلع على مؤلفات ابن سيناء، ذلك أن فرويد ـ وهو يهودي الدين ـ قد قرأ التراجم العبرية لكتاب القانون وبهذا افتتح الباب في بحوثه واكتشافاته في الأمراض النفسية.
***
وقد ذكر ابن سينا الكثير من العقاقير التي دخلت في علم النبات، وعلم الصيدلة الأوربيين، وظل الكثير منها بأسمائها العربية في اللغات الأجنبية كعنبر Ambra، والزعفران Safaran والكافور Kampfer، والتمر الهنديTamar inda وعود الندAloe والحشيش Haschisch والمسك Muskat والصندل Sandelholz وغيرها..
***
أثره في الجيولوجيا
وفي علم الجيولوجيا تؤكد جميع الأبحاث على أن ابن سينا قد أثر على أوربا في هذا المجال حتى أن ماكس مايرهوف Max Meyerhof يقول "نحن مدينون لابن سينا برسالته في تكوين الجبال والأحجار والمعادن".
تكلم ابن سينا عن منشأ الجبال، فقال بان الجبال تنشأ عن سببين؛ فأما أن تكون نتيجة ارتفاع في قشرة الأرض بفعل أحد الزلازل الشديدة مثلا، وأما أن تكون نتيجة عمل الماء بان يشق طريقاً جديداً، ويحفر أودية، ويحدث جبالاً، وذلك لأنك تجد صخوراً لينة ذات صلابة، فيذهب الماء والريح بالصخور اللينة، ويترك الأخرى سليمة، وهكذا تحدث اكثر التلال..
كما ووضح أن الزلازل: حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض هو أما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع، وأما جسم مائي سيال، وأما جسم هوائي، وأما جسم ناري، وأما جسم أرضي، والجسم الناري لا يكون ناراً صرفة وفي حكم الرياح المشتعلة. ويقول أن الدليل بأن اكثر أسباب الزلزلة هي الرياح المحتقنة أن البلاد التي تكثر فيها الزلزلة إذا حفرت فيها آبار وقنى كثيرة حتى كثرت مخالص الرياح والأبخرة قلت الزلازل بها، واكثر ما تكون الزلازل في بلاد متخلخلة غور الأرض متكاثفة وجهها أو مغمورة الوجه بماء يجري، أو ماء غمر كثير لا يقدر الريح على خرقة...
وقال "وربما احتسبت الأبخرة في باطن الجبال فانعقدت وجمدت فحدث منها الجواهر المشفة التي لا تنطرق، وأكثرها تكون مختلفة بالمائية، وربما انعقد كذلك على ظاهر الأرض لطبيعة الموضع والأدخنة التي تحتبس داخل الأرض، ربما اضطرها شدة حركتها وما تتكلفة من شقها الأرض، أن تشتعل وتخرج ناراً.
وأشار ابن سينا كذلك إلى المتحجرات وقال بان المعمورة يغلب أن تكون في سالف الأيام غير معمورة بل مغمورة في البحار فتحجرت ولهذا كثيراً ما يوجد في كثير من الأحجار إذا كسرت أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها.
وكان لهذه الآراء أثرها على طابع الفكر الجيومور فولوجي الحديث.
بل وان هذه الآراء كان لها الأثر الواضح على العالم الإيطالي ليونار دو دافنشي Leonardo da Vinci أخذها عن ابن سينا ليبدأ به علم الجيولوجيا.
***
أثره في الفلسفة
وأثر ابن سينا في الفلسفة الأوربية كذلك، حيث ترجمت كتبه الفلسفية إلى اللغات الأوربية.
ويعود الفضل في ترجمة كتب الفلسفة العربية إلى اللغة اللاتينية إلى رئيس أساقفة طليطلة مونسنيور دريموند حيث أنشأ في طليطلة من سنة 1130 إلى سنة 1150 دائرة لترجمة الكتب العربية. وكانت كتب ابن سينا هي أهم الكتب التي ترجمت آنذاك..
وقد أثارت كتب ابن سينا وشروحه بعد ترجمتها، جدالاً بين المفكرين والفلاسفة.. حتى حرم الاكليروس سنة 1215 تلخيصات ابن سينا على ارسطو. وحمل غليوم دوفرن على فلسفة ابن سينا خاصة، والفلسفة العربية عامة. أما اللاهوتي البير الكبير فقد اعتبر ابن سينا أستاذاً له!!.
وقد خلف ابن سينا آثاراً واضحة في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية، وتبدو أشد ما تكون لدى جندسا لينوس، وغليوم الافرني، والبرت الكبير، والقديس توماس الاكويني، وروجر بيكون، ودنس سكوت.
فقد اخذ البرت الكبير على الفارابي، وابن سينا، كثيراً من الآراء؛ كنظرية الفيض وما تستبعه من القول بوجود عقل فعال تفيض من المعاني على النفوس الإنسانية.
أما توماس الاكويني فقد اعتمد على أقوال للرد على ابن رشد. وكذلك في تعريفه للنفس اعتمد على ابن سينا.
ولا يبعد أن يكون ديكارت قد تأثر بابن سينا ذلك أن كتاب الشفاء طبع باللغة اللاتينية ثلاث مرات بين سنتي1546 -1496 في البندقية أي قبل خمسين سنة من ولادة ديكارت.
وإذا لم يكن ابن سينا قد أثر في ديكارت فانه قد سبقه في بعض ما توصل إليه في فلسفته، فقد ذهب ديكارت إلى الإيمان بوجود النفس عن طريق الشك، يقول ديكارت "... اقتنعت من قبل بأنه لا شيء في العالم بموجب على الإطلاق. فلا توجد سماء، ولا أرض، ولا نفوس، ولا أجسام، وإذن فهل اقتنعت بأني لست موجوداً كذلك؟ هيهات فأني أكون موجوداً ولا شك أن أنا اقتنعت بشيء، أو فكرت في شيء". ويضيف قائلاً كذلك "لا أسلم الآن بشيء، ما لم يكن بالضرورة صحيحاً، وإذن فما أنا على التدقيق إلا شيء مفكر، أي ذهن، أو روح، أو فكر، أو عقل... فأنا إذن شيء واقعي وموجود حقاً، ولكن أي شيء؟ لقد قلت أنني شيء مفكر".
بينما قال ابن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات "أرجع إلى نفسك وتأمل إذا كنت صحيحاً، بل وعلى بعض أحوالك غيرها، بحيث تفطن للشيء فطنة صحيحة، هل تغفل عن وجود ذاتك، ولا تثبت نفسك؟ ما عندي أن هذا يكون للمستبصر، حتى أن النائم في نومه، والسكران في سكره، لا تعزب ذاته وأن لم يثبت تمثله لذاته في ذكره. ولو توهمت ذاتك قد خلقت أول خلقها صحيحة العقل والهيأة، وفرض أنها على جملة من الوضع والهيأة بحيث لا تبصر أجزاؤها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة، ومعلقة لحظة ما في هواء مطلق، وجدتها قد غفلت عن كل شيء، إلا عن وجود انيتها"

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة