مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 مطارحات العلاقة
إشكالية الأنا والآخر في الفكر العربي المعاصر 
محمد محفوظ


يمكننا ان نؤرخ للفكر العربي الحديث، وبحثه عن هويته، وثوابته العقائدية والفكرية، ومشروعه النهضوي، من خلال علاقاته بالآخر الحضاري _الغرب _ المتفوق والقاهر بدءاً من حملة نابليون بونابرت على مصر (1798م). لذلك فقد انطبعت هذه الحقبة بعناوينها الثقافية، ومشاريعها السياسية، وتطلعاتها المستقبلية.. لذلك أضحت أمهات القضايا التي عالجها الفكر العربي الحديث، منذ مطلع هذا القرن، حول مسائل مرتبطة بشكل أو بآخر بموضوع علاقة الأنا والآخر، والخيارات المعروضة تجاه هذه العلاقة. حوار، صدام، تعايش، قبول، رفض مطلق، توفيقية، انتقائية وما أشبه.
وفي هذه الفترة من الزمن، وبالذات بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وإنتهاء الحرب الباردة، بدأت هذه الافكار الثنائية، تطرح في الساحة الدولية تحت عنوان (الإسلام والغرب).. وقد كان لنظرية (صموئيل هنتنغتون) (صدام الحضارات) وهو واحد من أشهر علماء السياسة الأمريكية ويعمل مديراً لمعهد أدولن للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد والتي محورها ان الصراع في المستقبل سيكون بين الحضارات في المقام الأول، وليس صحيحاً أنه سيكون بين القوميات، أو بين المصالح الاقتصادية المتعارضة، ومن المرجح أن يصبح المحور المركزي في السياسات العالمية هو الصراع بين الغرب والحضارات الرافضة للهيمنة والقيم الغربية.. يؤكد هنتنغتون على عمق التحدي الحضاري الذي يمثله الإسلام، حيث وصفه بأنه اكثر العقائد والديانات صرامة.. ويشير إلى أنه في الوقت الذي اختفى فيه الانقسام الأوروبي الأيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية، فان الانقسام الأوروبي الثقافي بين المسيحية الكاثوليكية والأرثوذوكسية من ناحية والإسلام عاد للظهور ثانية في تلك القارة.. فالصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستمر منذ (13) قرنا ولا يبدو أنه في طريقه إلى التلاشي ولذلك شواهده عند الحدود الشمالية للحضارة الإسلامية.
فهذه النظرية وغيرها من النظريات والرؤى، ما زالت تسعى وتحاول الوصول إلى إجابة نظرية متكاملة حول علاقة الأنا والآخر في الفكر الغربي والفكر العربي الإسلامي.
ففي إطار مشروع النهضة العربية، ما زال السؤال المركزي الذي طرح في القرن الماضي، لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟، أو لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ يشكل النقطة الجوهرية لغالبية الجهود المعرفية والسياسية التي تحاول بلورة المشروع النهضوي، وتوضيح مقاصده، وتحديد آليات عمله وآفاقه المنظورة والبعيدة.
ولا شك أن السؤال التاريخي المتقدم، يطرح مسألة النهضة والحضارة باعتبارها تحققت لدى شعوب ومجتمعات، وما زال المسلمون والعرب بعد لم يصلوا إلى مستوى التقدم والتحضر الذي حدث في تلك المجتمعات والأمم. وعلى قاعدة هذه المسألة طرحت مسألة ترتيب العلاقة بين الأنا والآخر في الفكر العربي المعاصر، كشرط ضروري لتحقيق مشروع النهضة في الواقع العربي المعاصر.. ولهذا نجد أن المكتبة العربية مليئة بتلك الكتب والدراسات، التي تعكس في مضمونها وعناوينها هذه الإشكالية المطروحة على الفكر العربي تاريخيا وراهنا..
ومن الطبيعي أن تتعدد الآراء والإجابات على هذا السؤال الإشكالية، لاختلاف الأطر المرجعية لكل كاتب أو مدرسة فكرية أو بفعل تعويم وضبابية مصطلح الأنا والآخر في دائرة الفكر العربي والإسلامي.
لهذا فانه ينبغي في البدء تحديد من هو (الأنا) ومن هو (الآخر)، وما هي حدود كل طرف وامكاناته الحضارية والتاريخية.. وعلى ضوء هذا التحديد، يتم تصور العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الطرفين (الأنا والآخر).
تحديد الأنا:
بعيداً عن الأطر الجغرافية، التي تحبس المفاهيم والافكار والمضامين العقائدية في رقعة جغرافية واحدة، فإننا نرى، ان الأنا كما الآخر، ليس رقعة جغرافية، وانما نحن ننظر إلى الأنا باعتبارها مجموعة القيم الأصيلة، والمبادىء العليا التي جاء بها الدين الإسلامي، اضافة إلى التجربة التاريخية التي قام بها المسلمون، على هدى تلك القيم والمبادىء.. فحينما نستخدم مصطلح الأنا أو الذات فإن المقصود من ذلك هو القيم المعيارية المتعالية على الزمان والمكان مع تجربة إنزال تلك القيم المعيارية المطلقة على الواقع النسبي والمتحرك والمتغير.
تحديد الآخر:
والآخر الحضاري أيضا، ليس عنوانا هلاميا وانما يعني مجموع القيم والمبادىء الأساسية التي جاء بها الغرب الحضاري، إضافة إلى التجربة التاريخية، التي قامت بها شعوب العالم الغربي عموماً، انطلاقا من تلك القيم، وعملاً باتجاه انزالها في الواقع الخارجي..
إننا اذ نطرح هذه الإشكالية، لا نتجه في ثقافتنا وحركتنا الفكرية والإجتماعية إلى إخفاء حاضرنا وواقعنا المعاصر، إما بقناع الماضي المجيد، أو قناع حاضر الغرب الحضاري المتقدم.. لأنه في الحالتين تستمر الإشكالية، وتتولد العناوين تلو العناوين التي تعكس بشكل أو بآخر جوهر الإشكالية التاريخية.. وفي الحاضر لم يقف الفكر العربي والإسلامي، في وجه المتغيرات والتطورات التي أدخلها الغرب في عالمنا العربي والإسلامي، طالما كانت هذه التطورات في نطاق العلم الوضعي والتنظيم المجتمعي، أما المتغيرات التي تسعى إلى تشويه الأسس العقائدية والاخلاقية للمجتمعات العربية والإسلامية، فقد كان موقفه مختلفاً ورافضاً، لأنها ضد الذات الحضارية والأخلاقية للعرب والمسلمين.. وعلى هذا يمكننا النظر إلى اشكالية الأنا والآخر في الفكر العربي المعاصر من خلال منظورين أساسيين.
1_ منظور القيم والتطورات التي يجريها الغرب في فضائنا على حساب ذاتنا وقيمنا.
2_ منظور التطورات العلمية والإنسانية، دون المساس بالجانب العقائدي والحضاري.. وقد أشار إلى هذه المسألة المفكر العربي (برهان غليون) في كتابه (الوعي الذاتي) بقوله: "انه كما ينبغي ان ننطلق إذن من انفسنا ومن ثقافتنا مع الاعتراف بمحدوديتهما في سبيل تطويرهما. لا ينبغي أن يكون تعلقنا بالعصر والحضارة حافزاً إلى تدمير ذاتيتنا، وتهشيم أنفسنا، والتضحية بمستقبلنا كجماعة انسانية مستقلة، وكمدنية متميزة فاعلة ومتجددة في ساحة الصراع التاريخي".
فالتقدم الحضاري واسباب الحياة والعمران مبذولة للخلق على السواء، ومن يتمسك بأسباب العمران يبلغ إلى غايته وهدفه بصرف النظر عن إيمانه وكفره.. فأنجع دواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، هو أن يعلم ذلك المسلم، أنه ما تأخر بسبب إسلامه، وان غيره ما تقدم بعدم إسلامه، وأن السبب في التقدم والتأخر هو التمسك والترك للأسباب على حد تعبير الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1940م).
إن تكوين علاقة عادلة بين الأنا والآخر، وضمن الظروف والمعطيات المتاحة حاليا، لايتم أو لا يبدأ بما هو سياسي، لأن تاريخ العلاقة بينهما مليء بالمشاكل التي صنعتها الحوافز والمصالح السياسية، مستفيدة من المنطق الايديولوجي الجديد في أوروبا المتجه إلى القضاء على مكونات كل حضارة، وكل منطق ثقافي ينافس أو يعارض الحضارة والمنطق الغربي.
بمعنى ان وهن الأنا على المستوى الحضاري، وتحكم العقلية المركزية في ثقافة الآخر ومنطقه تجاه الامور والقضايا، هو الذي دفع بالمجتمع الأوروبي بمؤسساته المختلفة، بدءاً بمؤسسة الاستشراق وانتهاء بالمؤسسة العسكرية والأمنية، مرورا بما هو سياسي واقتصادي واجتماعي إلى الاستحواذ على الخارج أو الإفادة الكلية منه، لا على أساس الغلبة المجردة فحسب، بل حسب منطوق الإيدلوجيات الجديدة، حسب مبدأ أن العبء الأبيض يحتم تحديث كل ما هو خارجي على أوروبا، ولا يعني العبء تحمله من جانب صاحبه وحده، بل تحميل الآخرين مسئوليات الاستجابة ترغيبا وترهيبا، بشتى السبل والوسائل. وتداخلت في سبيل تحقيق هذا التطلع العنصري، والقائم على نفي التعدد، واقصاء الآخرين ثقافة وحضارة ووجودا، جميع الأساليب المتاحة والمتوفرة في الفضاء المعرفي والنفسي الغربي، فبدأت الحروب العسكرية ومؤامرات السياسة وخطط التخريب في حقل الاقتصاد والثقافة والاجتماع.
لهذا فاننا بحاجة لئلا ننظر إلى علاقة الأنا بالآخر من منظور ما يحتاجه الأنا من الآخر، ويجوز استيراده والاستفادة منه، لانه لا ضير في الاخذ من الشعوب والحضارات الاخرى، ولكن شريطة أن يتم أخذ ما يفيد ويطلق الطاقات وما تحتاج اليه مجتمعاتنا حقا.
ان إهمال الذات وتجاوز أطرها المعرفية. لا يؤدي إلى فهم الآخر فهما دقيقا، بل يؤدي إلى الانبهار به والتلقي الأعمى لكل ما ينتجه ويصدره وأن أصحاب هذا المنحى لا يدركون العلاقة الوثيقة التي تربط بين فهم الذات وفهم الآخر، وأن الطريق السوي لادراك الآخر حضاريا وفهم حركة تطوره وسيرورته التاريخية، لا يتأتى إلا بمصالحة الذات وسبر أغوارها، واكتشاف معدنها الأصلي..
والسؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: كيف ننظر إلى هذه الإشكالية في الفكر العربي المعاصر؟!
الآخر مدخل لوعي الذات:
في بداية الأمر نحن بحاجة، لأن نخرج من دائرة الانبهار التي نعيشها تجاه الغرب، دون اغفال الموقع الطبيعي والفعلي، الذي تتبوؤه الحضارة الغربية اليوم.. وهذه العملية لا تتم إلا بامتلاك أدوات معرفية نقدية ناتجة عن القراءة العميقة للتجربة الحضارية الذاتية، والتجارب الحضارية الأخرى مستنبطين من هذه القراءة تلك الأدوات المعرفية النقدية، التي تخرج نظرتنا من اسار الانبهار، وربقة التحيز المسبق. وبدون هذه العملية تبقى شعارات الاستقلال عن الغرب، وانهاء التبعية التي نعيشها، شعارات جوفاء، لا حقائق فعلية، لان غياب هذه الأدوات سيبقي عالمنا العربي والإسلامي على المستوى النفسي والحضاري أسير إختيارات الغرب واستراتيجياته الكونية.. وهذا ما دفع بعض مفكري النهضة إلى الاعتقاد والقول، بأن الفهم المرافق للغلبة السياسية، لابد انه يقود إلى هيمنة حضارية من قبل الآخر، ولا يمكن انهاء هذه الهيمنة إلا بحركة معرفية _نقدية في خطابات الآخر المعرفية وقناعاته الفكرية.. من هنا فإن وعي الآخر وعيا موضوعيا ونقديا، سيكون أحد المحفزات الأساسية لاكتشاف الذات فكرا وقيما وأنماطا حضارية.
الآخر ليس شرا مطلقا:
إن الآخر الحضاري يتضمن مجموعة من الإنجازات والمكاسب التي لا غنى للإنسان عنها. بمعنى أن الآخر الحضاري _ضمن هذا المنظور _ نحن بحاجة اليه لتطوير راهننا، وان من الخطأ الاعتقاد بأن طريق تمكن الأنا الحضارية في الواقع الخارجي، يمر عبر تدمير الآخر الحضاري لأننا نقف موقف الاحترام والتقدير والاستفادة من المنجزات العلمية والإنسانية الهائلة. التي حققتها الحضارة الحديثة في هذا العصر. لذا فان المنظور السليم الذي ينبغي أن ننظر من خلاله إلى اشكالية الأنا والآخر، هو أن الآخر لا يعتبر الشر المطلق الذي ينبغي التخلص منه. وهذه النظرة الموضوعية والواقعية إلى الحضارة الحديثة، هي التي تساعدنا على تحقيق معادلة واعية وعادلة في علاقة الأنا بالآخر على مستوى الفكر والممارسة العملية. وفي قبال هذه النظرة أيضا نقول: ان الذات لا تعتبر الخير المطلق.. لأنها تتضمن ايضا كتجربة تاريخية، الكثير من الاخفاقات والإشكاليات والمزالق والمخاطر، التي لا يمكن السكوت عنها أو القبول بها.
بمعنى آخر فالذات تتضمن العنصرين التاليين:
1_ القيم المعيارية الكبرى التي لا نختلف في أهميتها وضرورتها، وأنها هي القيم التي بامكان الإنسانية جمعاء ان تجتمع تحت مظلتها.. وهي قيم خالدة ومتعالية على الزمان والمكان، لذلك فهي قابلة للتطبيق في كل العصور والأزمان ولا شك أن هذه القيم الكبرى، تعتبر قيما مقدسة، ولا يمكن التنازل عنها. وهذا ما يصطلح عليه بـ (الإسلام المعياري).
2_ التجربة التاريخية التي خاضها المسلمون، وعملوا _كل حسب فهمه _ على تنزيل تلك القيم المطلقة على الواقع. فتفاوت حظ الناس في ذلك، وعلى هذا المستوى من التجربة التاريخية، لا يمكننا باي شكل من الأشكال أن ندعي أو نزعم، ان كل ما جرى فيها من احداث ومواقف وشخصيات هي المعادل الموضوعي للإسلام المعياري.. لأنه تجربة بشرية نسبية. سعى المؤمنون فيها إلى تنزيل القيم المعيارية المطلقة على الواقع النسبي. ولا شك أن عملية التنزيل على الواقع، ليست معصومة من الخطأ، أو بعيدة عن النقص. لهذا من الخطأ ان نقول: بأن التجربة التاريخية (الإسلام التاريخي) تشكل الإسلام في كلياته وتفاصيله.. ولكننا نقول إنها تجربة المسلمين في تطبيق الإسلام، وهذه التجربة، لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن ندعي بأنها تتماثل وتتطابق مع الإسلام في كل صغيرة وكبيرة..
ينبغي أن ننظر إلى اشكالية الأنا والآخر، وفق منظور أن الأنا ليست خيرا مطلقا، لأنها تتضمن التجربة التاريخية التي ارتكبت فيها المظالم، وابتعد البعض في السلوك والاخلاق عن متطلبات القيم المعيارية الكبرى، كما ان الآخر لا يشكل الشر المطلق، فهو يتضمن العلم والتطور التقني والتكنولوجي وثورة المعلومات والاتصالات والابداع الإنساني فيما يرتبط بالادارة والسياسة والعلوم الطبيعية كما يتضمن الاستعمار والاستغلال وتدمير الآخرين والحروب والمؤامرات وما أشبه.
إننا لا ندعو إلى مواءمة بين الأنا والآخر، وإنما ندعو إلى بلورة الأطر المناسبة للإفادة المتبادلة عن طريق الحوار والتفاكر المشترك بين الأنا والآخر.
-----------------------
المصدر : كتاب "الاسلام، الغرب، وحوار المستقبل"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة