مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

المسلمون في الغرب
المسلمات في هولندا.. طموح يراعي الهوية
د.خالد شوكات- هولندا


ربما تختزل صورة المسلمة لدى الهولنديين - وسائر الغربيين عموما - في مشهد امرأة ترتدي زيا فضفاضا، وتضع غطاء على رأسها، وتمشي على بعد خطوات وراء زوجها، ولا يسمح لها بالخروج إلا نادرا خارج منزلها، وهي داخل المنزل المضطهدة التي يضربها زوجها المتوحش بسبب أو بدون سبب، ولا تزيد وظيفتها على العناية بالأطفال والبيت وانتظار عودة زوجها في المساء‍‍‍!!
وهناك من الهولنديين من يعتقد أن الدين الإسلامي هو السبب في محنة المرأة المسلمة، فيما يرى الأقل تشددا بينهم أن عادات وتقاليد المجتمعات المسلمة في البلدان الأصلية التي قَدِمَ منها المهاجرون المسلمون إلى هولندا، وسواء استقر عندهم أن الإسلام هو السبب أم المسلمون، فإن الثابت بالنسبة للهولنديين هو أن المرأة المسلمة كائن بشري مضطهد ومهزوم.
السير في الطريق المزدوج
وتنشط منذ سنوات أطراف هولندية كثيرة حكومية وغير حكومية، من أجل التدخل في شئون النساء المسلمات، مستغلة الذريعة ذاتها، ومصرة على تجاهل الكثير من الإنجازات والنجاحات التي سجلتها المرأة المسلمة في هولندا، على كافة الأصعدة، وتكريس معالجة فوقية قائمة من جهة على نظرة ثقافية استعلائية ترى في وضع المرأة الغربية غاية ما يمكن أن تطمح إليه امرأة في العالم، ومرتكزة من جهة ثانية على فلسفة اجتماعية يرى فيها المسلمون -والمتدينون عامة- خطرا حقيقيا على قيم العائلة والروابط الأسرية.
وتعتقد كثير من الناشطات المسلمات في هولندا، أن التحدي الحقيقي المطروح على المرأة المسلمة هو النجاح في تحقيق عمل مزدوج يجمع فيه بين معالجة مشاكل اجتماعية عويصة تعاني منها النساء المسلمات في مجالات شتى، ولا يجب التنكر لوجودها أو تجاهلها، وفي الوقت ذاته محاربة الأحكام السلبية المسبقة التي يحملها المجتمع الهولندي عن المرأة المسلمة، التي يجب أن تؤكد اعتزازها بانتمائها الديني والثقافي والحضاري.
وقد أكدت المرأة المسلمة في هولندا إلى حد الآن تشبثها بالسير في الطريق المزدوج، هذا الجامع بين الهوية والطموح نحو الأفضل على كافة المستويات، وضربت خلال العقدين الأخيرين أكثر من مثال يثبت صحة هذا المسار ومصداقيته، وهناك كثير من النماذج يمكن سوقها لنساء مسلمات لفتت نجاحاتهن الانتباه، وأصبحت أسماؤهن تتردد في الأوساط السياسية والإعلامية.
الجيل الثاني.. في البرلمان
"خديجة عريب"، "نباهات بيرقار" اسمان لسياسيتين: الأولى من أصل مغربي، والثانية من أصل تركي، لقد عرفت هولندا إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية سنة 1998، دخول أول نائبة مسلمة لأول مرة في التاريخ السياسي لهولندا - وللدول الغربية قاطبة- قبة البرلمان، حيث نجحت كل من "خديجة عريب"، "نباهات بيرقتار" في الفوز بمقعدين في الغرفة الثانية (مجلس النواب) على لوائح حزب العمل الاشتراكي الحاكم.
وتنتمي كلتا السياسيتين المسلمتين إلى الجيل الثاني المنحدر من جيل العمال المسلمين الأوائل الذين قَدِموا إلى هولندا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، للعمل في ورشات البناء ومصانع الصناعات الثقيلة والمتوسطة، قبل أن يقرروا لاحقا استقدام عائلاتهم من دولهم الأصلية والاستقرار بشكل نهائي في هولندا، بعد أن تغير قانون التجمع العائلي الهولندي أواسط الثمانينات، وأصبح يسمح للمهاجرين بإلحاق عائلاتهم بهم.
وقد تربت "خديجة عريب" -كما تذكر- في وسط عائلي مغربي محافظ على تقاليد وعادات المغاربة المسلمين، بالرغم من سكنه العاصمة أمستردام، وتزوجت باكرا كما هو شأن الفتيات المسلمات في الدول الإسلامية، وهي اليوم إلى جانب عضويتها في البرلمان الهولندي، زوجة وأم تحرص على القيام بواجباتها في بيتها كأي أم وزوجة مسلمة.
أما "نباهات بيرقتار" فقد وُلدت -كما تقول- لأب مهاجر من أصل تركي، وقد جاءت إلى هولندا صغيرة لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات، وتربت ودرست في مدينة روتردام العاصمة الاقتصادية الهولندية، في إطار أسري تركي مسلم، متشبث بحميمية العلاقة بين أفراد الأسرة، وخصوصا بين الأبناء والآباء.
التواصل بحسب القومية
وتظهر كل من "عريب" و"بيرقتار" حرصا كبيرا على التواصل مع الأقلية المسلمة، كل منهما بحسب الخلفية اللغوية والقومية التي تنتمي إليها، فعريب مشدودة أكثر لهموم المغاربة ومشاكلهم، فيما تعتني بيرقتار بالأتراك، ويكون المغاربة والأتراك كما هو معروف ثلاثة أرباع الأقلية المسلمة التي يناهز تعدادها مليون نسمة.
ويبقى الجامع الأقوى بين السياسيتين المسلمتين إجماعهما في موقفهما السياسي والثقافي على أهمية تمسك الأجيال المسلمة الناشئة بالقيم العائلية التي يحض عليها الدين الإسلامي، واعتبار العائلة العمود الفقري للمجتمع الصالح، وهو تفكير يختلف بوضوح مع الأيديولوجية السائدة اجتماعيا في هولندا، والتي ترى الفرد أولى بالعناية.
وعلى الرغم من أن بعض المسلمين يعتقد أن النائبتين المسلمتين في البرلمان الهولندي، لم تشعا بالقدر الكافي، ولم تشاركا في معارك سياسية للأقلية المسلمة صلة بها، فإن غالبية المسلمين يلتمسون لهما العذر، حيث يتفهمون طبيعة التجربة الأولى وخصوصيتها، وعدم وجود تراث سابق يمكن أن يعينهما، فضلا عن طبيعة النظام السياسي الهولندي التي تربط مصير النواب بأحزابهم، وهو ما يقلل من فرص الحركة والمناورة أمامهما.
"فاطمة".. مستشارة وزير الداخلية
تُعد المسلمة من أصل مغربي "فاطمة العتيق"، أشهر امرأة مسلمة في هولندا، فعلى الرغم من حداثة سنها حيث لم تتجاوز الخامسة والثلاثين بعد، إلا أنها قامت بتقلد العديد من المسؤوليات السياسية الهامة خلال السنوات الأخيرة، من بينها مستشارة وزير الداخلية السابق "ديك ستال" لشئون الأقليات، وعضو المجلس البلدي للعاصمة أمستردام.
ولعل جزءا من شهرة فاطمة العتيق، مرده إصرارها على ارتداء الحجاب، وسعيها المتواصل لإثبات خطأ الأحكام المسبقة التي يحملها الهولنديون عن المرأة المسلمة المتحجبة: "فالحجاب -برأي فاطمة- العتيق دليل على ضمان الإسلام حق المرأة في العمل والمشاركة وبرهان على أسبقية الدين الحنيف في تكريم النساء ودعوتهن للاضطلاع بمسؤوليات في الحياة العامة، لأن المرأة لا تحتاج ارتداء الحجاب في بيتها".
وقد ترأست فاطمة العتيق خلال العقد الأخير الكثير من الهيئات والمنظمات الإسلامية، لعل أبرزها "هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسلامية في هولندا" (NMO)، كما شاركت في العديد من المؤتمرات واللقاءات التلفزيونية، وأجرت معها كبريات الصحف الهولندية حوارات ظهرت في جميعها بصورتها المعتادة، كامرأة مسلمة متحجبة، وهو ما شجع عددا كبيرا من فتيات الجيل الثاني والثالث على التمسك بالحجاب.
وتقول العتيق: "إن قدرة المرأة المسلمة في هولندا على العطاء والحركة والنجاح، مرتبط باستقرارها وتوازنها النفسي والعقلي والثقافي، وهو توازن لا يمكن أن يتحقق للنساء المسلمات بالذات إلا إذا ارتبطن بمرجعيتهن الدينية والحضارية، وفهمن الإسلام فهما واعيا ومستوعبا لحقيقته كشريعة محررة للمرأة وضامنة لاحترامها".
طبيبة ومحامية و...
وفضلا عن النماذج السابقة، فإن الزائر العادي حاليا لأي جامعة أو مدرسة عليا في هولندا، لا يمكنه إلا أن ينتبه للعدد الكبير والمتزايد للطالبات المسلمات، وخصوصا تلك الشريحة من بينهن، المتمسكة بارتداء الحجاب، والتي تنحدر في غالبيتها من جيل العمال المسلمين الأول، وبمعنى أن هؤلاء الطالبات لم يأتين إلى هولندا كبيرات، بل غالبيتهن وُلدن في هولندا، وتابعن دروسهن في مدارس أساسية وثانوية هولندية.
ويتوقع المسلمون في هولندا أن تلج بناتهن الطالبات في الجامعات حاليا سوقَ العمل في أدق اختصاصاته وأكثرها رفعة من الناحية العلمية، فالطالبات المسلمات موجودات بأعداد بارزة في كليات الطب والهندسة والحقوق، وسيأخذن مواقعهن كطبيبات ومهندسات ومحاميات أو قاضيات خلال السنوات القليلة القادمة.
وستساعد المدارس الثانوية الإسلامية، التي بدأت في الانتشار تدريجيا بعد تأسيس المدرسة الأولى في روتردام سنة 1999 ـ الطالبات المسلمات المتحجبات على تجاوز الكثير من المعوِّقات والعراقيل التي كانت تعترض طريقهن في سعيهن للوصول إلى الجامعة، حيث كانت المدراس الأخرى تفرض عليهن شروطا لا يرضونها، ومنها ممارسة الرياضة بشكل مختلط والانخراط في نشاطات مدرسية يرون أنها لا تتفق مع ثقافتهن الإسلامية.
ويلاحظ المهتمون بشئون الأقلية المسلمة أن الطالبات المسلمات أكثر تفوقا من الطلاب، وأنهن أكثر اجتهادا ومثابرة، وأكثر وصولا للمراحل التعليمية العليا، ومن ضمنها التعليم العالي، وهو ما سينعكس في المستقبل على سوق العمل، حيث ستكون نسبة العاملات المسلمات فيه أكثر من نسبة العمال المسلمين، خاصة في المجالات التي تتطلب شهادات عليا وتخصصات دراسية راقية.
ولا شك أن كل نجاح تحرزه المرأة المسلمة في هولندا، وتحديدا تلك التي تظهر الاعتزاز بجذورها الدينية والثقافية، سيشعل شمعة في طريق حوار الحضارات والثقافات المظلم للأسف من جراء تمسك البعض بالقوالب الجاهزة والتحليلات البسيطة المتعالية على الآخر والمحتقرة لخصوصيته وطريقة تفكيره وتقديره المختلفة.
-------------------------------------------------
المصدر : اسلام اون لاين

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة