مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 غالب حسن الشابندر
الاقليات المسلمة في الغرب من العزلة الى الاندماج الفاعل


تتصاعد الحاجة الى طرح نموذج اسلام اوربي ليس لقدم المسلمين وتزايدهم المطرد في هذه القارة وحسب، بل لضرورات تتصل بالقضايا الكبرى التي تهم الذكاء الانساني في هذه الأيام، فهناك دعوة جادة لتعميق الحوار بين الأديان، فعلى حد تعبير العلامة هانس كنغ في كتابه القيم "مشروع لأخلاق عالمية:
"لا سلام عالمياً بل سلام بين الاديان، ولا سلام بين الاديان بلا حوار بين الأديان، ولا حوار بين الأديان بلا دراسات جادة وأبحاث موضوعية. كما ان هناك رغبة عالمية صادقة وملحة لصياغة انسان جديد يؤمن بالتنوع الثقافي ويدعو الى الموازنة بين الروح والمادة، لمواجهة أمراض التكنولوجيا، وفي مقدمتها الغاء الهوية، وتفتيت وحدة الكيان الانساني، وتمزيق الطبيعة وتعميق الفروق الطبقية بين الناس والشعوب والأوطان".
وتتأكد هذه الحاجة مع تعالي الصيحات التي تدعو الى توكيد بل الى تأسيس ثقافة التسامح التي تتوقف بدورها على الاعتراف بثقافة الآخر، والتخلي عن كثير من المفاهيم الخطيرة والتي لا تستند الى أي مبرر علمي، مثل مفهوم المركز والأطراف، ومفهوم عقل ما قبل المنطق الذي يدّعي كثير من المفكرين الغربيين بأنه نوع من التفكير المرتبك، يتحكم بكل عقل لا ينتسب الى دائرة المجتمع الغربي، كذلك تلك الصورة الغريبة التي كونها الفيلسوف الفرنسي رينان، حيث يرى بموجبها ان العقل الشرقي لم يألف التفكير التحليلي ولم يقدر على المقارنة والموازنة، فضلاً عن تلك الصور السطحية التي تصور العرب والمسلمين مجرد طلاب لذة رخيصة، وأنهم مخلوقات متوحشة ضارية، لا تمتلك أي حسن جمالي وذوقي، أميون لا يعرفون حتى القراءة والكتابة!
ان ايجاد صيغة اسلامية أوربية حاجة ضرورية لنا نحن كمسلمين ايضاً، لأننا نريد ان نسهم في بناء أوربا الجديدة، من اجل خلق مستقبل أوربي أفضل يعمل على تسييد السلام العالمي وتحرير الشعوب من الخوف وتعميق الاحساس بالديموقراطية، اننا مواطنون أوربيون ونريد ان نعمل على خدمة الوطن انطلاقاً من مملكة الضمير الذي يؤمن بالقيم الروحية التي استلهمناها من الاسلام، وليس بوحي من منطق المادة فقط.
اننا نريد أن نبني ونخدم عبر شخصية واضحة المعالم، تحمل انتماءها الوطني والديني، فالشخصية المبهمة الغامضة الفاقدة للهوية لا تستطيع ان تقدم شيئاً رائعاً، فالمسلم في اوربا ينبغي ان يكون واضحاً، وهذا لا يتأتى من خلال الانعزال، حيث الخوف من المجتمع وقيمه ونواياه، كما انه لا يتأتى أيضاً من الذوبان الكامل، حيث تنسلخ الشخصية من هويتها الحقيقية، ففي كلا الحالتين تنتج شخصية هزيلة، لا تعطي الشيء الرائع، تعيش على هامش التاريخ، لا تحظى باحترام المجتمع، يعاملها بمنطق الشك او الاستصغار.
لقد أثبتت التجربة التاريخية الاسلامية الطويلة ان الجمع بين الثوابت الاسلامية والقيم الوطنية والقومية حقيقة ساطعة، ولقد كان هذا الدمج من أكبر عوامل استمرار التجربة، ولذا كان هناك الاسلام المشرقي والاسلام المغربي، وعليه ليس بدعاً الدعوة الى اسلام أوربي انها دعوى طبيعية وضرورية، خاصة اذا علمنا ان الثوابت الاسلامية بسيطة تتسم بالوضوح والعقلانية، هذه الثوابت لا تتعدى الأسس العقيدية من ايمان بالله والنبوة والمعاد وتلحق بها العبادات التي هي شأن شخصي، ومن ثم تأكيد المسؤولية الأخلاقية تجاه الذات والآخر، وبالأخير مجموعة قليلة من الاحوال الشخصية التي تنظم جزءاً من حياة الانسان المسلم كالزواج والطلاق والارث والارباح والملبس.
ان المسلم الاوربي لا يجد ما يمنعه من ممارسة الديموقراطية كقيمة سياسية، ومن الممكن أن يحمل لواء هذا الفكر كقيمة أخلاقية قبل كل شيء، وذلك في ضوء المعايير الاسلامية العامة التي تدعو الى المساواة، وأكثر الفقهاء يجوّزون الفائدة الربوية من البنوك الحكومية، وللمرأة حق الطلاق اذا اشترطت ذلك في العقد، والقوة قيمة رائعة شريطة انضباطها بمبدأ الرحمة، وهي لا تخلق الحق بل تحميه وتصونه من عبث الطغاة وهو ما يمكن ان نبشر به في المجتمعات البيضاء، والحرية ليست جزءاً عضوياً من التكوين الانساني بل هي حق علينا ان نناضل من اجله، ولكن من منطلق المسؤولية الاجتماعية التي من شأنها تعزيز التماسك الاجتماعي، بل اعادة هذا التماسك الى الواقع، فما لا شك ان المجتمع الابيض يعاني من نقص كبير في هذا الجانب ويمكن للعائلة المسلمة الاوربية ان تكون مثلاً حياً لهذا التماسك، وان يكون هذا الهدف من متبنياتنا كمواطنين نشعر من الأعماق بمسؤوليتنا ازاء الامة والوطن، وان لا نكتفي بالدعوة الصامتة. بل الحوار والطرح العلمي والنقاش على أعلى المستويات الأكاديمية، وليس من شك ان القيم المادية ليست مرفوضة في الدين الاسلامي، لأنها ضرورية لممارسة الحياة، والقرآن يدعو صراحة الى التزود الكامل من الحياة، ولكن بتأطيرها أخلاقياً ان الأخلاق تحول دون تأليه المادة، اننا لا ندعو الى اخلاق قمعية وانما الى اخلاق تهذب المادة وترشدها، وهي الدعوة التي يمكن ان نجد لها صدى في بعض مدارس الأخلاق المسيحية الجديدة، بل ونستطيع ان نقرأ أفكار ماكس فيبر من هذه الزاوية الحية، وقد كان المسلم يفكر وفق قواعد المذهب التجريبي حتى في القضايا الغيبية، مستفيداً في ذلك من توجيهات القرآن الملحة في دراسة الطبيعة، ولذا يمكنه ان يستلهم هذا التاريخ للانسجام مع العقلية الاوربية في هذا الاتجاه، وبهذا نحقق خطوة جبارة على صعيد التكامل، ومن منطلق حيوي خلاق، ذلك هو المنطلق الذي يتعلق بمنهج التفكير، وفي هذا الضوء سوف نركز على مبدأ التنوع في الكون وعلى أهمية الاختلاف في الرأي، والتعدد في الثقافات، سوف ننغمس في دراسة العلاقة بين الأشياء والحوادث، وكل هذا يهيىء فرصة الاندماج الفاعل، وبالتالي سنعطي شيئاً جديداً لهذا المجتمع... سنكون في الصميم وليس على الهامش.
اننا لا نريد ان نناضل من اجل مستقبلنا كمسلمين وحسب، ان من مهماتنا الرئيسية تحرير الانسان الأبيض من الخوف، الخوف منا كوافدين، وربما من حقه هذا الخوف، خاصة في الجزء الشمالي من القارة، لأن الهجرة بالنسبة اليه جديدة، وهناك جملة من التصرفات التي صدرت عن بعض المهاجرين قد أساءت، وللجو البارد اثره السلبي في زرع مبدأ الخوف من الآخر، وضعف القيم الروحية لا يساعد على مبدأ الثقة المتبادلة، من هنا يكون لزاماً علينا ان نعمل _كمسلمين أوربيين _ على رفع هذا الخوف.
ضرورة الاندماج... ولكن!
ان الاندماج الفاعل ضرورة مصيرية، ولابد ان نعمل لتحقيق أعلى درجة ممكنة من هذا الاندماج في نطاق الحفاظ على الهوية. ان سياسة العزلة تولد مزيداً من الخوف، وتجعل الطموح متدنياً وهابطاً، كما انها تكرس حالة الشك المتبادل، ومن هنا لا أرى فكرة المدرسة الاسلامية الخاصة مشروعاً ناجحاً لانه يكرس العزلة، كما ان التجمعات العرقية والدينية تساهم في توتير العلاقات بيننا، انها سياسة مغلوطة، لا تخدم المجتمع، وتساهم في توكيد مفاهيم الغربة والخوف، والدعوة الى تكوين أحزاب اسلامية يشكل استفزازاً واثارة في مجتمع قائم على مبادىء العلمانية.
ان البديل الفعال عن كل هذه المظاهر والمشاريع هو أيجاد المؤسسات الثقافية التي تعمل حقاً على صياغة الوعي الاسلامي الناضج، المؤسسات التي تربي على مبدأ التسامح العميق، وتغذي الأجيال بحب الوطن، وتمكن أبناءها من اللغة الأم، وتطلعهم على تاريخنا، خاصة في مجال الانجازات الحضارية التي كان لها الأثر الكبير على نهضة أوربا، ولكن بدون مبالغة واسفاف، مع الاشارة المركزة الى تاريخ الشعوب الاخرى، وبيان نقاط الاشراق في تاريخ هذه الشعوب، لكي نخرج بحصيلة تاريخية عالمية تساعدنا على مواجهة التحديات، وتمكننا من فهم الآخر من منظور ايجابي، مما يسمح بالتكامل الذي من شأنه صنع مجتمع حي.
ان الحفاظ على الهوية لا يتم من خلال العزلة، ان العزلة تسبب مزيداً من العقد، كما انها تقود الى التعصب، وتقتل كل فرصة للتفكير الموضوعي، ان الحفاظ على الهوية يتم من خلال الشراكة الاجتماعية، لان هذه الشراكة تتيح فرصة اكتشاف الذات، وبالتالي اكتشاف الهوية كقيمة وتعريف وتحديد، ان اكتشاف الهوية يحتاج الى الوسط المتنوع اكثر مما يحتاج الى الوسط المتجانس، من هنا نشدد على ضرورة التواصل مع الآخر، وذلك مهما كان دينه ولونه وايديولوجيته.
ان فكرة الاندماج الناضج توجب الاهتمام بالمسجد، اذ ينبغي تحويله الى مشروع ثقافي، يجب ان يكون المسجد الاسلامي في اوربا نقطة اتصال بين المسلم والمجتمع وليس بؤرة للتجمع الانهزامي، ان أكثر المساجد عبارة عن ملاجىء وليس ساحات للانفتاح على الآخر ثقافياً واجتماعياً.
ان ابرز مادة ثقافية ينبغي ان تضطلع بها المساجد في اوربا هي ثقافة التسامح، التسامح المستند الى تعاليم الاسلام وما اكثرها وما أعمقها، وليس من شك اننا لا نقصد بالتسامح هنا التهاون في تعاليم الدين، وخاصة الثوابت الكبرى، بل نعني قبول الآخر واحترام انجازاته والتنسيق معه لخدمة المثل العليا..
الذاكرة السوداء
لقد كانت هناك مواجهات غير ودية بين المسلمين والأوربيين، تبدأ بالقرن السابع الميلادي حيث خسرت أوربا الشرقية _لصالح الفتح الاسلامي _ ولايتها على مصر وسوريا وفلسطين _العزيزة على الاوربيين لاسباب معروفة _ وبعد ذلك كان القرن الثامن الميلادي، حيث بسط الاسلام وجوده في شمال افريقيا واسبانيا، ثم كانت هناك الحروب الصليبية التي استمرت طوال القرن الثاني والثالث عشر، فقد شن الاوربيون حملات متواصلة على المسلمين باسم المسيح، وتحت شعار تحرير المقدسات، فيما كانت الاسباب الحقيقية اقتصادية بحتة، وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر فتح المسلمون الاتراك القسطنطينية ومنطقة البلقان، الامر الذي ادى الى نقل الاسلام هناك، أي في قلب أوربا، وكانت المواجهة القاسية بين الطرفين في القرن التاسع عشر على اثر التوسع الاستعماري لأوربا، وما تزال المواجهة قائمة بشكل آخر. هذا التاريخ المؤسف ترك جروحاً من الصعوبة ان تندمل، وكثيراً ما تتحرك ذاكرتها في الضمائر، مما يجدد حالة الشك المتبادل، وهناك بعض الافكار الاوربية والشرقية التي تطرح هنا وهناك من شأنها تحريك الموروث التاريخي، وتكريس الموقف العدائي المستمر بين الطرفين، وذلك مثل فكرة دار الحرب ودار السلام لدى بعض الفقهاء المسلمين (وهناك رأي فقهي لا يتفق مع هذا التقسيم). ومثل فكرة نهاية التاريخ التي بشر بها المفكر الامريكي من اصل ياباني فوكوياما، وفكرة المركز الاوربي والهامش الشرقي، واخيراً ما طرحه صاموئيل هانتغتون مستشار البيت الابيض أي فكرة صراع الحضارات، وبالتحديد بين الاسلام الشرقي والمسيحية الغربية.
ان المسلمين الاوربيين مدعوون الى مواجهة نزعة الاثارة التاريخية، وبامكانهم ان يساهموا بقدر واسع من الفاعلية في نشر ثقافة جديدة في مجتمعاتهم الاوربية، تقوم على احترام الانسان في كل مكان وكل زمان، وتعتمد على تثمين الانجاز الحضاري للانسان مهما كان جنسه ومن الحقائق التي لا تقبل الشك ان الناتج الحضاري الاوربي الحالي هو حصيلة للتراث الانساني عبر العصور ولم يأت من فراغ.
لسنا وجوداً طارئاً
ان المسلمين الاوربيين مدعوون الى طرح مشاريع مشتركة مع نظرائهم في الوطن والقارة، كمواجهة الفكر العنصري، ومقاومة نزعة التطهير العرقي، ومحاربة المخدرات، والحد من سباق التسلح، ونشر مفاهيم الاسلام والتكامل، واشاعة ثقافة التسامح وغيرها من المشكلات الانسانية الاخرى، والواقع ان المسلم الاوربي اقدر من غيره على لعب مثل هذه الادوار الحساسة، لانه يحمل ثقافتين وتجربتين، وعلى صلة بأكثر من محيط جغرافي وبشري، فهو الانسان الغني بالفكر والتجربة، وهناك فرصة تاريخية في ان يتحول المسلمون الاوربيون الى جسر حضاري بين الشرق والغرب، حقاً انها فرصة تاريخية، ولكن هذا يتطلب مجموعة شروط جوهرية، منها ان لا نشعر بأننا وجود طارىء في اوربا، بل نحن وجود أصيل، لان معيار الأصالة هو العطاء وليس القدم الزمني، ولقد ساهمنا كمسلمين في بناء ألمانيا _تجربة الاتراك _ وهناك مئات من المسلمين يمارسون التعليم في جامعات امريكا وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا، منهم رواد في البحوث والدراسات في مجال الفضاء والفيزياء والطب والفلسفة، وقد حاز بعضهم على جائزة نوبل، وقاتل المئات من الجزائريين الى جانب قوات التحرير الفرنسية ضد الاحتلال النازي، وهذا ما نوه به جاك شيراك في حملته الانتخابية، وكثيراً ما يكون المسلمون والمهاجرون على العموم مادة انتخابية، اننا موجودون في قلب أوربا، لأننا كنا بناة حضارة رائعة انتقلت الى أوربا عبر الاندلس، ويكفي ان نشير الى شاهد يومي بسيط، ذلك ان نظام الارقام المعمول به في اوربا انما انتقل اليهم من خلال الحضارة الاسلامية، وقد أخذ شيء من الذوق الغذائي الشرقي طريقه الى المطبخ الاوربي، وكثير من الأكلات الشرقية أصبحت وجبات شعبية معروفة، وسرت بعض العادات الشرقية والاسلامية الى المجتمع الاوربي، وهنا في السويد، وفي مالمو بالذات تتميز المناطق التي يتواجد فيها المسلمون وعموم اللاجئين بالحيوية والنشاط والتنوع، ولو ان السلطات المسؤولة اهتمت بهذه المناطق وقامت بعملية تنظيم وتنسيق للنشاطات لأحدثت ثورة ثقافية في المجتمع. فينبغي للمسلم الاوربي ان يستذكر هذه الحقائق كي يشعر بوجوده الأصيل، وعليه ان يطالب بالفرصة التي تمكنه من البناء، فان خدمة الوطن من الواجبات، وهو من علائم الايمان على حد قول نبي الاسلام (ص).
الانعزالية الأوربية
ان ظاهرة الجيتو خطرة ومدانة ويجب محاربتها، وللأسف الشديد بمقدار ما تجد هذه الظاهرة من دعم من قبل بعض المسلمين، تلقى هوى لدى بعض البلدان وشركات السكن، وذلك تحت ذرائع واهية، وكل هذا لا يصب في صالح المجتمع المدني، بل يخلق مجتمعاً ممزقاً، والجهات المعنية تتحمل كامل المسؤولية عن مثل هذه النتائج المؤسفة، لقد ثبت بالتجربة ان الاختلاط _ولو في حدود بسيطة _ يخلق تفاهماً مشتركاً ويولد قيماً خلاقة.
ان دعاة الانعزالية من الاوربيين يتخوفون من مشروع الاندماج، ويدعي بعضهم ان ذلك يهدد الهوية الاوربية، وهو منطق غريب جداً، اذ ليس هناك هوية أوربية واحدة كما هو معلوم، وبشكل عام يترجم هذا التخوف نوعاً من الضعف والشك في قيمة الهوية بالذات، ان بامكان الهويات الاوربية ان تستوعب الاسلام الوافد، وتطبعه بروحها كما هو الحال مع الحضارة الفارسية والهندية فكان هناك المسلم الفارسي والمسلم الهندي، ثم هناك حوار جاد يؤكد ان أزمة الهوية في اوربا قائمة، وذلك بسبب هذه التحولات التقنية المذهلة، التي لا تسمح حتى بمراجعة الذات، وفي اعتقادي ان تطعيم الهوية بخبرات اخرى قد يساهم في مواجهة هذا الخطر الجاثم، ولعل تطلع الكثير من الشباب الاوربي الى الاديان والحضارات الهندية والصينية دليل على هذه الحاجة الماسة، هذا ونحن نؤكد ان الجيل المسلم الاوربي يحمل في ضميره مبادىء الثورة الفرنسية، وهو مشغول بأهم الافكار والمشاريع التي أفرزتها حضارة الغرب، وفي مقدمتها الديموقراطية على الصعيد السياسي وقيم السوق الحرة في المجال الاقتصادي وحقوق الانسان من الناحية المدنية، وجميع هذه الافرازات لها ما يؤيدها في الاسلام مع استثناءات جزئية لا تمس الجوهر، وبهذا يمكننا ان نخلق وجوداً اسلامياً أوربياً لا يشعر بعقدة نقص، ويساهم بفاعلية في بناء أوربا الجديدة، أوربا المتماسكة القوية، القادرة على قيادة البشرية.
ان هذا التخوف غريب وليس في محله لان هذا الاندماج يولد قيماً حضارية أغنى وأقدر على قيادة المجتمع، وكيف يتسنى لاوربا ان تقود العالم وهي حضارة ذات بعد واحد؟! انه منطق غريب، اننا لا نريد أوربا المستعمرة، أوربا الحروب الصليبية، أوربا القرن التاسع عشر، ولا أوربا القرن العشرين، بل أوربا القرن الواحد والعشرين، أوربا المتنوعة ثقافياً، ان مفهوم التنوع الثقافي اعمق من مفهوم التعدد الثقافي.
ان هذا التخوف ساذج لانه يتعامى عن كثير من الحقائق، فأجيال المهاجرين يتكلمون اللغات الاوربية بطلاقة، ومما يذكر هنا حقاً ان تفوز سويدية من اصل مصري بأفضل موضوع انشاء في كل انحاء السويد، اسم هذه المسلمة الاوربية خديجة، وهي مسلمة ملتزمة وقد سلمتها الجائزة الملكة بكل احترام وتقدير، وكان موضوعها عن الموت، وكيف يجب ان يكون واعظاً أخلاقياً لان هناك مسؤولية ما بعد الموت.
لا محل لهذا التخوف، لأننا نرى ان هذه الاجيال بدأت تتذوق الموسيقى الغربية، وتمزجها مع الموسيقى الشرقية لتخلق جديداً في هذا المجال الفني الخصب، كما اننا نرى هذه الاجيال تفضل الزواج من الاباعد وهو منحى أوربي، وفي الشريعة الاسلامية ما يؤيده، ومن الظواهر التي تبين مدى بساطة هذا التخوف ظاهرة الزواج المختلط، وقد حقق نسبة نجاح لا بأس بها، وهنا في السويد يكاد ان يكون زواج الرجل السويدي من المرأة الآسيوية ظاهرة ملموسة. ان هذا التخوف يتسم بنظرة ضيقة جداً لانه يتناسى منطق التفاعل العالمي الذي راح يشتد ويقوى بفضل ثورة الاتصالات، وللعلم ان الكثير من ساسة أوربا يرون ان الخطر الحقيقي الذي يهدد الهوية الاوربية هو الثقافة الامريكية الوافدة، وصرخة شيراك اكبر شاهد على ذلك، وفكرة الاتحاد الاوربي لا تنطلق من أسس اقتصادية في مواجهة الغول الامريكي بل من زاوية ثقافية ايضاً.
حقوق وأهداف
المسلم الاوربي مدعو الى تطوير ذاته لكي يدخل في صميم المجتمع ويساهم في بناء أوربا الجديدة، ينبغي ان يكون على مستوى رفيع من الثقافة، محيط بالفكر العالمي ومستجدات العقل البشري، ان العطل الثقافي يجرد الانسان من المعنى الحي للوجود ويحيل الحياة الى ملهاة أو صدفة فيما هي مسؤولية، ومن الضروري ان نفرق بين الهدف والحق، اذ لكل من المفهومين معناه الخاص، ان التأمين المعاشي والصحي والأمني حقوق، ولكن التفكير بانقاذ الانسان من الديكتاتورية او الجهل او نشر المثل العليا أهداف، والانسان الناجح لا يفكر في الحقوق فقط بل يجب ان تكون له اهدافه الانسانية، والمسلم الاوربي بل وكل مواطن في القارة، يجب ان يتحرك من دائرة الحقوق الى دائرة الأهداف، وللأسف الشديد اننا نفتقر الى المنهج التربوي الذي من شأنه خلق مثل هذا الشعور النبيل، وعلى امتداد هذه التصورات نرى ان من أسباب القوة الايجابية هو الوعي السياسي، أي فهم ما يدور في العالم واتخاذ موقف مشرف، ان المسلم الاوربي الوافد من العالم الثالث، وخاصة الشرق الاوسط غالباً ما يتمتع بهذا النوع من الوعي، في حين ان السياسة قيمة ثانوية في اهتمامات المجتمع الاوربي، وهو في تقديرنا خطأ، ويساهم في انعدام المسؤولية بشكل عام، ان الوعي السياسي الذي نعنيه يتجاوز سماع الأخبار ورؤية المشاهد السياسية من شاشة التلفزة، انه اعمق من ذلك بكثير، انه القدرة على اكتشاف أسباب الحدث السياسي، ومن ثم اتخاذ الموقف الذي تمليه المصلحة الانسانية، ان المجتمع البعيد عن ممارسة السياسة بوعي وعلم يتسم بالسذاجة مهما كان مستواه الاقتصادي عالياً، ان تحليل القوى التي تحرك العالم ومعرفة نظامها حاجة ضرورية للارتفاع بالانسان الى مستوى فاعل في صميم التاريخ، ان تنفير الناس من العمل السياسي مقصود في كثير من الاحيان، والهدف هو احتكار قيادة المجتمع، في حين ان لكل عضو في هذا المجتمع حقاً في تقرير مصير المجتمع بالذات، وليس من شك اننا كمسلمين سوف لا تكون لنا القدرة على تحريك المجتمع الذي ننتمي اليه، وسوف لا نحس بالقوة والكرامة اذا لم نكن قوة منتجة، فلابد ان نعمل، لابد ان نسعى لتحصيل كل الاسباب التي تجعلنا عاملين، وذلك من تحصيل أكاديمي وخبرات مهنية، وأنا أعلم ان هناك من يرغب وربما يخطط لابقاء المسلم والمهاجر بشكل عام عاطلاً، ففي هذا ابقاء لكل دواعي الاحتقار التي يبديها البعض تجاه المهاجرين، ومن هنا ينبغي ان ندخل في معركة دائمة في سبيل رفع هذا الحيف، اننا كمسلمين نشعر بان العمل قيمة حضارية، بل هو مصدر لكثير من القيم العظيمة، فالحب والاخلاص والعطاء من ايحاءات العمل، ونحن نريد ان نعمل كي نحافظ على أصالتنا لان البطالة تسلخ الانسان من كل انتماء ولأن المجتمع الذي تستشري به البطالة يستشري فيه النفاق، وفي الوقت ذاته نرفض ومن خلال الفكر والحقائق اجبارنا بشكل وآخر على الأعمال ذات المستوى المتدني، اننا نريد العمل الذي يتناسب وامكاناتنا، فهذا هو منطق الديموقراطية التي نعتبرها تراثاً اوربياً بالأساس، وهذا هو منطق المجتمع الحي. ولا اغالي اذا قلت ان من أهم مشاكلنا نحن المسلمين الاوربيين هو البطالة، ونحن نعاني من هذه المشكلة، لان البطالة في الخطاب الاسلامي مرفوضة وتعدّ علامة تخلف، وهي متضادة مع هدف الخلق، فالانسان وجد كي يعمر الكون، كما أننا نعاني من هذه المشكلة لأنها تسبب لنا احراجاً اجتماعياً، كما ان البطالة تضاعف من المشاكل الاجتماعية بل هي من عواملها الرئيسية، ان توفير العمل للمسلمين وكل المهاجرين يوفر فرص التكامل الاجتماعي، فرابطة العمل تتيح المجال لاكتشاف الآخر، وسوف يخلص المسلم الاوربي في عمله ويقدم نموذجاً متقدماً على الاخلاص، لانه يشعر بالرقابة الداخلية التي تجبره على اتقان المهمة، وفي الحقيقة ان الجهات المعنية في غفلة عن هذه الحقيقة الرائعة، ان المسلم الاوربي يشعر بمسؤولية مركبة، مسؤولية تجاه الوطن والامة والانسان، ومنبع هذه المسؤولية ليس رقابة خارجية، حيث تتبخر هذه المسؤولية بمجرد غياب هذه الرقابة، ان منبع هذه المسؤولية هو الضمير المستمد من الايمان بالله، ومن هنا نعتقد جازمين ان المسلم الاوربي عنصر أمان وعطاء، ولكن اذا أهمل هذا الانسان ومورس في حقه الظلم، فقد يسيىء استخدام هذه القوة، فيخسر المجتمع ثروة هائلة، ان العمل هو العنصر الاساسي للكسب في الخطاب الاسلامي، وهو المبرر الجوهري للوجود، ان المسلم الاوربي لا يتعامل بفرح مع المعونة الاجتماعية، لأنها مجانية، ولعل هذا الواقع المأساوي من أهم أسباب شعوره بالاستلاب، انه مستلب ليس لانه لا يتحكم بما ينتج، بل هو مستلب لانه لا ينتج أصلاً، فيشعر بالوجود الهامشي، ان أصعب لحظة في تاريخ هذا الانسان هي اللحظة التي يستجدي بها المعونة الاجتماعية، لأن تقاليده الدينية لا تحبذ له الأخذ المجاني، والجهات المعنية مسؤولة عن هذا الاحباط الذي يعاني منه المسلم الاوربي، لأنها لم تهيىء له فرصة العيش الكريم، انه يريد ان يعيش بجهده وليس على مائدة المعونة الاجتماعية.
ان المهمة الرئيسية للمسلم الاوربي هو التكيف مع المجتمع الحاضن، مع الاحتفاظ بمعالم الانتماء الاسلامي العامة كدين وحضارة وتاريخ، ومن ثم الاسهام الفاعل في بناء أوربا الجديدة، أوربا التي ينبغي ان تقود العالم نحو الديمقراطية والحرية المسؤولة والعدالة الاجتماعية، الاسهام في تحرير الانسان من خطر البعد الواحد، وسيكون من الهراء ان نفكر في تحويل الآخرين الى الاسلام او نفكر بتأسيس الحكومة الاسلامية، ان هذه الأوهام تقود الى مجتمع العنف والكراهية.
أبعاد الاسلامية الاوربية
الاسلام الاوربي يوفر الممكنات التربوية القادرة على تمرين العقل على التفكير في العلاقات بين الأشياء، وينطلق من كون أي شيء انما هو عبارة عن شبكة من العلاقات هذا من ممارسات العقلية الاوربية، وكتاب المسلمين (القرآن) يوجه الفكر الى العلاقة بين الموجودات، ومن ثم يكون هناك تأكيد التنوع الكوني والبشري والثقافي والحضاري، على ان تكون النظرة الى هذا التنوع قائمة على الاحترام، وليس من مهمات العقل الاسلامي الاوربي التفتيش عن طبيعة الأشياء، بل تكون مهمته التعامل مع خصائص الأشياء، ومراجعة بسيطة للقرآن تقودنا الى هذا النوع من التفكير، ان العقل في الثقافة الاسلامية الاوربية ليس جهازاً عضوياً بل هو وظيفة، وهو مجموعة المعارف والعلوم التي نكسبها بالبحث والدراسة فيما يخص الكون والحياة والانسان، ونحن نعرف جيداً ان العقلية الناقدة ساهمت مساهمة كبيرة في بناء الحضارة الغربية المعاصرة، والصيغة الاسلامية الاوربية يجب ان تتسلح بالنقد، تماماً كما هو العقل الاسلامي في القرون الأربعة الاولى من ظهور الدين الاسلامي، ان النقد في مفهوم الاسلام الاوربي لا يعني الكشف عن الايجابيات والسلبيات، فهذا هو المفهوم الساذج للنقد، وكثيراً ما يختلط بالقيم الايديولوجية، انما النقد في مفهوم المسلم الاوربي اضاءة الفكر والاضافة اليه، توسيع مدى المادة والقضية المنقودة، ومن علامات وخصائص العقلية الاسلامية الاوربية القراءة الاحتمالية للنص ولكن مع الايمان بمبدأ الترجيح، ان التفسير المؤجل للنص ينفي الانسان ويخلق فوضى فكرية.
ان الاسلامية الاوربية تؤمن ان التغيير من اهم ميزات الكون والحياة والتاريخ، ولكن في نطاق من القوانين الثابتة ولو في حدود نسبية، ان الماركسية نفسها تنطوي على القول بوجود ثوابت، رغم انها فلسفة الحركة والتغيير والتطور، وكل فلسفة تنطلق من ثابت معين مهما ادعت الثورة المطلقة على الثابت.
اننا كمسلمين أوربيين نؤمن بقدرة العقل الخلاقة، ولكن نرفض المبدأ الذي يقول: لنبدع كل ما نقدر عليه، فان هذا المبدأ يعرّض البشرية للفناء وهو يتناقض مع انسانية الانسان، اننا نقول: لنبدع كل ما هو في صالح الانسان، في صالح الحياة، في صالح الوجود، ونحن ننطلق في كل هذه التصورات من ايماننا بالله والدين والاخلاق.
المسلم الاوربي يؤمن بان الدين في خدمة الانسان وان الاخلاق ليست محتوى وانما هي اطار، والاخلاق يمكن ان تدرك عقلياً وتجريبياً، وان الخبرة البشرية برهنت على اصالة الاخلاق، ولكن المسلم الاوربي لا يتجاوب مع الاخلاق الخاملة، فالتسامح لا يتناقض مع الاصرار على الحقوق، والصبر لا يتناقض مع مكافحة الظلم.
ان أهم القيم التي يؤمن بها الانسان الاوربي هي الحرية والمساواة والديموقراطية والطموح والنجاح الذي يقاس بمقدار الدخل الفردي والاتجاه التجريبي في العلم ودقة المواعيد والفردية، ونحن كمسلمين أوربيين نؤمن بكل هذه القيم ولكن مع اضافة، نحن نتطلع الى الفردية ولكن التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، نعشق الديموقراطية، ولكن نتصورها مسؤولية أخلاقية قبل ان تكون حقاً فردياً، وعلينا ان نناضل من اجلها عالمياً وليس قارياً فقط، ونؤمن بالحافز المادي ولكن لابد من ضمير داخلي يدعونا الى اتقان العمل، والطموح جزء لا يتجزأ من الذات الفاعلة في منطق القرآن، ولكن ليس الطموح الذي من شأنه تدمير البشر بل الطموح الذي يحقق الذات ويحقق المجتمع في الوقت نفسه، ونهدف الى الرفاهية ولكن نرفض الاسراف والترف المبالغ فيه، والوفاء بالوعد واجب لانه يضبط مسيرة المجتمع ويعود عليه بالنفع ولكن في نفس الوقت، لان الوعد عهد الهي، ونعتمد التجربة ولكن نعتقد ان هناك مبادىء معرفية سابقة على التجربة، ومن اهمها بديهيات الاحتمال ومبدأ الذاتية الفلسفية.
ان المسلم الاوربي بهذه الصيغ والمعادلات يوجد ضابطاً يحول دون انهيار أوربا، ينقذها من أزمتها الروحية، ينقلها الى قلب الشرق كرسالة انسانية.
قضية الاصولية
الاصولية حالة مرضية تنكر الواقع وتتعامل مع الاوهام،لأنها لا تعترف بالآخر وتدعي امتلاك الحقيقة كلها وترى الجماعة الاصولية انها الوحيدة التي تمتلك الصفاء الروحي والوجداني، وانها الوحيدة المسؤولة عن انقاذ العالم، ومن هنا يحتل الانقياد اللا مشروط لقائد معين من احدى النتائج التي تترتب على مثل هذه التصورات، وتتسم الجماعات الاصولية بالقسوة الشديدة وقد تتخذ من الحذف والالغاء عقيدة لتطهير العالم حسب منطوقها، حيث تتعامل مع كل شيء بمقياس الأسود والأبيض ومن الغريب حقاً ان تنتشر الاصولية في هذا الوقت الذي يوصف بأنه عصر العقلانية والحداثة، وليس في المناطق المحرومة من العالم وحسب بل في الغرب أيضاً، وربما هناك نماذج من التفكير الاصولي في الغرب أشد مما هو في الشرق، وليس من شك ان تقسيم العالم الى مركز وأطراف مهما كان أساس التقسيم هو لون من الاصولية، كذلك اتخاذ بعض المجتمعات مادة لاكتشاف قوانين التخلف يصب في هذا الاتجاه، لا توجد اصولية من نوع واحد، فهناك اصوليون مسلمون ويهود ومسيحيون وشيوعيون ورأسماليون وقوميون ووطنيون وبوذيون وكنفوشيون.
أوربا مقبلة على تنوع عرقي وديني وطائفي وقومي وايديولوجي، هذا التنوع شديد وثري، وقد تشهد أوربا بسبب هذا التنوع موجات من الاصولية التي تهدد تماسك المجتمع، واعتقد من الصعب القول ان هذا التنوع في طريقه الى الذوبان في الحالة العامة للمجتمع، فان للانتماء الحضاري والديني والثقافي جذوره العميقة في الضمير الانساني، وليس من شك ان التفاعل الحي بين مفردات هذا التنوع يخلق أوربا الجديدة القادرة على الصمود، وقد تتحول بموجبه الى رسالة للبشر، بل ان هذا التفاعل قد ينقذ أوربا من المصير الذي توقعه لها اشبنجلر، وقد يوفر لها الحل الذي اقترحه المؤرخ البريطاني المشهور ارنولد توينبي، ذلك الحل الذي يقوم على فكرة المزاوجة بين الأخلاق والتكنولوجيا.
لا توجد حضارة او ثقافة تمتلك البرهان المطلق، ان العلوم الطبيعية بالذات تخلت عن ادعاء اليقين واتخذت من الاحتمال منهجاً للتعامل مع النتائج التي تتوصل اليها، فكيف بالمفاهيم والتصورات العقائدية والثقافية؟
ان كل حضارة تنطوي على انجاز عظيم، ومن الممكن خلق انجاز مركب من العطاءات الرائعة للبشر على مختلف انتماءاتهم الحضارية، لقد استطاعت البروتستانتية ان تبدل الايمان من علاقة بين الانسان والكنيسة الى علاقة رأسية بين الله والانسان، والكاثولوكية كانت وما زالت مصدر إلهام للثوار، ولاهوت التحرير في امريكا الجنوبية من الشواهد الحية على ذلك، والاسلام نقل العلم من اسلوب التأمل الذهني الى رحاب التجربة والكنفوشية أنقذت الانسان من الوهم ودمجته في صميم الواقع، والبوذية ركزت على نقاء الضمير، وهكذا مع كل حضارة وثقافة ودين.
أوربا المستقبل ينبغي ان تقوم على مبدأ التنوع الثقافي، وعلى الانظمة السياسية ان تدفع بهذا الاتجاه لتخلق أوربا الممتدة حضارياً وثقافياً، ولابد من توفير الآليات التي من شأنها تحقيق هذا الهدف العظيم، هذه الانظمة مدعوة الى تشجيع الجمعيات التي تنتمي الى الثقافات المتعددة، وتلزمها فكرياً على التعارف والتمازج، بل اعتقد ان هذه الأنظمة ينبغي ان تحاسب هذه الجمعيات على ما تقدمه الى ابنائها من ثقافة تقوم على التسامح وقبول الآخر.. ومن اجل تحقيق هذا الهدف الكبير، على الجهات المسؤولة ان تعرّف المجتمع بالانجازات المشرقة لكل حضارة، وليس من شك ان المشاريع الفنية والعلمية المشتركة تخلق فرصاً رائعة للتعارف والتثاقف. ان الالتقاء والتفاعل بين هذه الاديان والحضارات والثقافات على ارض اوربا سيخلق قيماً جديدة تفوق في تأثيرها القيم الاستهلاكية، وسوف تضع بين أيدينا نحن المسلمين الاوربيين امكانات التفاهم مع العالم عبر الفكر والمعاني وليس عبر القوة والسلعة، وهذه اللغة ابلغ في التأثير من لغة الرصاصة والبورصة. ان هذا التنوع الثقافي والحضاري الذي تنتظره أوربا يمكن ان يجعل من هذه القارة المعجزة نواة مركزة لتمثيل العالم كله، وهذا بطبيعة الحال يؤدي الى قيام اوربا القائدة والرائدة.
المرأة !
قد يتساءل البعض عن دور المرأة في الصيغة الاسلامية الاوربية، ومبعث هذا التساؤل في كثير من الاحيان الصورة المغلوطة لدى البعض عن موقع وحقوق المرأة في الاسلام، هذه الصورة الناتجة من الخلط المقصود أحياناً بين التقاليد والاسلام، في حين ان مراجعة سريعة للشريعة الاسلامية تكشف عن منظومة رائعة من الحقوق، وكثيراً ما يصاب الباحثون بالدهشة عندما نطرح بين أيديهم هذه الحقائق، فمن حق المرأة ان تستقل بحياتها الاقتصادية والفكرية والسياسية، وهي المسؤولة عن اختيار شريك حياتها، ولا يجب عليها في الدين الاسلامي ان تقوم بالواجبات البيتية من طبخ وكنس وتنظيف، الا تطوعاً منها، ولا يجوز للرجل اجبارها على الانجاب، كما لا يجوز للرجل ان يحرمها من هذا الحق اذا رغبت به، ويحق للمرأة ان تشترط قبل عقد الزواج ان يكون الطلاق بيدها وليس بيد الرجل، وقد شرع الاسلام الطلاق باتفاق الزوجين، وهو الصيغة التي سوف تسود الثقافة الاسلامية خاصة في اوربا نظراً لشيوع هذا النوع من الطلاق في القارة، ولانه أقرب الصيغ الى العقل والمنطق، وهذه من الامثلة التي تكشف عن امكانية التثاقف بين الاسلام واوربا، واذا أساء الرجل معاملتها فللقاضي حق تطليقها منه، وكل ذلك لان العقد المبرم بين الزوج والزوجة هو عقد زواج قائم على المعاملة بالمعروف والاحسان، وليس هو عقد عمل او اجارة او توظيف، وضمان الحب والمودة مدرج في صيغة العقد بشكل وآخر، وللعلم ان الرجل هو المسؤول أساساً عن نفقتها ونفقة الابناء ولكن الاسلام يشجع على الشراكة في المسؤولية، لان في ذلك ضماناً لتماسك العائلة ثم تماسك المجتمع، نعم الاسلام يوجب الحشمة لا اكثر ولا اقل. خاصة في ظروف الاختلاط، ومن الأمور التي نريد ان نشير اليها هنا ان هذا الدين لا يمنع الاختلاط الذي تحترم فيه العلاقات، وقد كان المجتمع الاسلامي حركة فاعلة قوامها الرجل والمرأة، لم تكن المرأة حبيسة البيت أبداً، تمارس الوظيفة المدنية، وتشترك في المسابقات العلمية والأدبية، والمرأة المسلمة تستعيد اليوم هذا الدور الرائد، فهي عضو في البرلمان وتقود المظاهرات الاحتجاجية وعميدة جامعة وناشطة سياسية وكاتبة ومفكرة، ومن الملاحظ انها متواجدة بفاعلية في قطاع التعليم والطب، وأخيراً لابد أن نوضح ان قانون تعدد الزوجات قانون استثنائي في الشريعة الاسلامية، فضلاً عن ان شروطه في الشريعة تعجيزية، والمسلم الاوربي من كلا الجنسين لا يتفاعل مع هذا اللون من الزواج، انطلاقاً من قراءة واعية لتعاليم الاسلام من جهة والثقافة الاوربية من جهة أخرى، كما ان المسلم الاوربي ينكر ويرفض ويستهجن الفوضى الجنسية، باسم الحرية ويدعو الى قيم الحب السامية، فالجسد قيمة كونية وليس كرة طائرة أو قدم.
النقطة المهمة في حقوق المرأة في الاسلام هو أن هناك بعض الخلافات بين الاتجاهات الاسلامية في هذا الخصوص، وهذا يصب في صالح أي محاولة لايجاد صيغة اسلامية أوربية، لان القائمين على هذه المحاولة يمكنهم اختيار الحقوق التي تنسجم مع متطلبات الاندماج في المجتمع، وهي عملية يسيرة لان سجل حقوق المرأة في هذا الدين متنوعة ومتجددة وثرية وثوابتها محسوبة، وهذا يفسح المجال الواسع لانتزاع صيغة اسلامية أوربية للمرأة المسلمة، فهذه المرأة غير ملزمة بالاتجاهات التي تمنع النساء من المشاركة السياسية ما دام بعض علماء الاسلام يطالب المرأة بالذات، يطالبون المرأة ان تساهم بفاعلية في العمل السياسي، ويعدون ذلك من علائم رشد المرأة ونضجها.
المرأة المسلمة في اوربا اكثر جرأة واقداماً وطموحاً، وهي متواجدة منذ زمن في اوربا، تحضر النشاطات الأدبية والفنية، وتحتل الكثير من المقاعد الدراسية، وليس من شك ان هناك بعض العراقيل التي يضعها بعض الآباء والأمهات أمام تطلعات الأبناء، وفي مقدمتها الاندماج في المجتمع، وذلك انطلاقاً من تقديرات يختلط فيها الجهل مع الخوف، وهي محاولات ساذجة، لان هؤلاء الآباء والأمهات لا يعرفون ان التيار الحضاري قاهر ولا يمكن كسره، فيما يمكن التفاعل معه مع الحفاظ على الثوابت، ولكن هذه العراقيل في طريقها الى التقلص وربما الى الزوال في المستقبل القريب أو البعيد.
المرأة المسلمة في اوربا يمكنها ان تساهم في خلق المجتمع الاوربي المتوازن، وذلك من خلال ما يزرع الاسلام في ضميرها من اخلاص وحب لبيتها وزوجها وابنائها، مما يساهم في استقرار الاسرة وتجانس المجتمع، وهما من الحاجات الملحة لاوربا الحاضر والمستقبل، ويمكنها ان تعطي نموذجاً متقدماً يجسد مبدأ الوسطية والاعتدال في كل شيء، والمرأة المسلمة بحكم تعاليم دينها والظروف التي مرت بها معروفة بعدم انسياقها مع قيم الاسراف والتبذير، الأمر الذي ينعكس بآثار ايجابية على الاسرة ومن ثم المجتمع، اقتصادياً وبيئياً واجتماعياً، وليس من شك ان ثقافة الوسطية ضرورة أوربية لما سببته نزعة الاستهلاك من تبديد في الدخول الاقتصادية وما قادت اليه من مشاكل عائلية وبيئية خطيرة.
المرأة المسلمة في اوربا تدرك جيداً ان الزواج مسؤولية كبيرة، ولذلك أخذت ترفض الزواج المبكر، ولم تعد تؤمن بالاسرة الكبيرة، ليس انطلاقاً من تقديرات اقتصادية وحسب، بل انطلاقاً من تقديرات تربوية، فالانجاب ليس حاجة غريزية فقط، وانما اضافة الى ذلك حاجة مرتبطة ببناء الحياة والمجتمع، ثم هي مسؤولية أمام الله.
ان الجهات المسؤولة في أجهزة التربية والاعلام في اوربا مدعوة الى تصحيح المعلومات الخاطئة التي يحملها الكثير من الاوربيين عن قضية المرأة في الاسلام، تلك المعلومات المستقاة من التقاليد أو من السوّاح العابرين او من الكتب الدعائية، وذلك حتى نتقدم خطوات على طريق التكامل والاندماج.
تجارب لا نريدها
ان المسلم الاوربي لا يريد ان يكرر تجربة روكننتان سارتر حيث لا يكتشف وجوده الا من خلال وحدته، اننا نريد ان نكتشف وجودنا من خلال العمل الخلاق، فالكون من حولنا لا يثير التقزز والملل، ولا نتفاعل مع الوجود الذي ينبثق بلا سبب، ونحن قادرون على التفاعل مع هذا العالم، نفهمه ونستثمره ونحافظ عليه ونقدمه للأجيال القادمة بأمانة، وبهذا سوف لا يكون التاريخ مجرد أيام تتكرر، بل كل لحظة هي تاريخ جديد، نحن كمسلمين أوربيين لا نريد أن نتأمل وجوهنا في المرآة وانما نريد ان نتأمل أرواحنا في العطاء، فمن تعاليم ديننا ان الانجاز الجيد هوية.
لا نريد ان نقدم تعريفاً عن أنفسنا، بل نريد ان نعرف غيرنا لا لنحطمه وانما كي نتلاحم معه، عندما تُفتقد الرغبة الطيبة في معرفة الآخر، نكون قد منحنا الآلة فرصة قتل الكلمة فنموت جميعاً.
ان المسلم الاوربي لا يريد ان يبقى رهين كودو، حيث تكون حياته دليلاً على عدم الفعل، ينتظر تحت شجرة ذابلة شيئاً مجهولاً حتى الموت، لا كلام... لا حدث... لان وجوده ليس صدفة، وهجرته ليست عبثاً، وانما من اجل اكتشاف الحياة في جو الحرية، وكثيراً ما يكون هناك هروب الى الحرية والجدية.
المسلم الاوربي لا يؤمن باختزال الانسان الى بعد واحد ذلك هو الجسد، بل هو روح وعقل وجسم وعواطف، ومن هنا ضرورة العلم والأدب والاخلاق والمادة والقيم في اطار واحد متفاعل من شأنه ايجاد الفرد المتوازن ثم المجتمع المتكامل.
ان المسلم الاوربي سوف لا ينسى تاريخه، ولكن سيقرأه ليضيف شيئاً الى وطنه الجديد، ولا يتخلى عن دينه، ولكن سينتقي من هذا الانتماء ما ينفع الانسان وينسجم مع التاريخ الجديد، وليس في ثوابته ما يتناقض مع التطور أو أي انجاز بشري فيه صالح للحياة، منحاز الى اوربا التي ترفع شعار تحرير الانسان والأوطان، ويحرص على تعلم لغة الأجداد كاضافة ثقافية وحضارية توسع تجربته في الحياة، يناضل عالمياً من اجل العدالة والسلام والديموقراطية، ولا تسمح له قيمه الدينية ولا الكثير من القيم الانسانية التي تلقاها في اوربا ان يكون وسيلة لاضطهاد الآخر.
ان المسلم الاوربي لا يرى النجاح بالتنكر لديه، اذ ليس في هذا الدين ما يعيق حرية الانسان، وليس من علائم النجاح التنكر للجذور، خاصة وهناك دعوة عالمية تركز على العودة الى الجذور، ولكن من منطلق التكامل الحضاري، وليس من منطق التفوق العنصري الذي اصبح ثقافة بالية. ان الدعوة الى الذوبان شكل من أشكال العنصرية المقيتة، فضلاً عن كونها تحرم الآخر من التزود بتجارب الآخرين.
المسلم الاوربي لا يؤمن بذلك المنطق الثنائي الغريب الذي يقول اما الذوبان او المواجهة، لان الاسلام _كما يقول مكسيم رودنسون _ يحمل قدرة هائلة على التكيف.
المسلم الاوربي سوف يحارب على جبهتين، الجبهة التي تدعو الى الانعزال والجبهة التي تدعو الى الذوبان، وهذا يستوجب ثقافة راقية، كما يفرض على الجهات المسؤولة ان تقدم العون الكافي لمثل هذه المشاريع.
المصدر :التوحيد/107 /2001 م
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة