مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 التحديات التجديدة
احتلال العقل
د. رفعت سيد أحمد


عاصر وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، بامتداد المائتي عام الأخيرة من تطورهما الحضاري، شتى صور الاستبداد التي مورست ضدهما من جميع الاتجاهات، أحياناً من داخلهما، وفي أغلب الأحيان من خارجهما، من بلاد ما وراء البحار، بلاد الغرب الأوربي، والأمريكي، لكن المؤرخ المحايد يلحظ تجاه تاريخ (الاستبداد الغربي) أنه قد ظل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تغلب على آليات حركته وأساليبها السمة العسكرية الاقتصادية. وما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى دخل (الاستبداد الغربي) مرحلة جديدة ـ نسبياً ـ عما سبقها، وهي المرحلة التي تعمدت الولوج إلى العقل العربي المسلم أولاً، قبل التسلسل إلى الأرض والاقتصاد ثانياً، انطلاقاً من مسلمة أساسية، مفادها أن (احتلال العقل أشق بمراحل من احتلال الأرض) فالذي يملك هذه الأرض بإمكانه أن يقاتل حتى يحصل على أرضه، أو يموت دونها، أما إذا ما امتلك عقله (الذي يرسم له خطط القتال) سهلت السيطرة عليه.
من هنا، وتحديداً في منتصف هذا القرن، بدأت الاستراتيجية الغربية (الأوربية الأمريكية على وجه الخصوص) تخطط لعملية تحكم واسعة النطاق في العقل السياسي والثقافي العربي، مستخدمة خبرتها الطويلة في استعمار العالم، وأحدث وسائل السيطرة التقنية، والسياسية والثقافية، وما يسمى بالبحوث الميدانية المشتركة بين علماء البحث العلمي ومؤسساته الغربية ذات الصلة الوطيدة بأجهزة المخابرات وصناعة القرار السياسي الغربي (والإسرائيلي) من جهة وبعض العلماء العرب ومؤسسات البحث السياسية والاجتماعية من جهة أخرى، وأتت هذه (الحالة) لتمثل واحدة من أنجح وسائل الاستراتيجية الغربية خلال الثلاثين عاماً الماضية من تاريخنا، للتحكم والسيطرة والتغلغل في العقل العربي، داخل كل قطر على حدة، ووفق خطة مبرمجة ومتعددة الأدوار والأدوات
فماذا حدث على وجه اليقين؟ وهل لدينا نماذج محددة لهذا المخطط الغربي طويل المدى، ولأدواته، وأهدافه؟ وإلى أين تتجه خطاه؟
ويأتي احتلال العقل العربي امتداداً مباشراً لما سمي (وظيفة العلم، والعلماء) في الاستراتيجية الغربية، وإعداداً لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين أصبح (العلم) ـ داخل الدولة الغربية وخارجها ـ أداة للاستثمار والاشباع، تماماً كالسلعة، فلقد وجد العلم هناك أساساً لخدمة الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، للمجتمعات الصناعية المتقدمة، فهو يمثل عائداً نفعياً. ولنتأمل ما يقرره (فريتز مشلوب) من أن أنشطة المعلومات والمعرفة أسهمت في عام 1958 بما يعادل 29% من معدل الانتاج القومي لهذه السنة، ويرى أن نسبة الزيادة السنوية لمعدل إسهام هذه الأنشطة تعادل مرتين ونصف مرة معدل نمو مكونات الانتاج القومي الأخرى.
أي أن المقولات الغربية التي تصدر إلينا من قبيل (العلم للعلم)، و (العلم للإنسان)، مقولات لا معنى لها، وليست سوى غطاء يخفي تحته العديد من الأهداف السياسية والاقتصادية. وتتضح هذه الحقيقة أكثر إذا ما علمنا أن جملة ما أنفقته ـ مثلاً ـ وزارة الدفاع الأمريكية على البحوث العلمية المختلفة في عام واحد هو عام 1981 قد بلغ 17 بليون دولار، أي حوالي 10% من ميزانية الدفاع الكلية في ذلك العام التي بلغت 160 بليون دولار، بل إن مخصصات البحث العلمي للبنتاجون ارتفعت بمقدار 20% خلال عام واحد هو عام 80/ 1981 وأنها في عام (1987) وصلت إلى حوالي 30%، بل إن وكالة المخابرات الأمريكية كانت خلف إنشاء العديد من الجامعات في دول العالم الثالث واستمرارها مثل كلية مكومبي الدولية في زامبيا، وبعض جامعات إكوادور، وأرجواي، والمكسيك، والجامعة الأمريكية بأنقرة وبيروت والقاهرة.
عندما نعلم ذلك، فإن الهدف من احتلال العقول، ومحاولات الغزو الفكري والثقافي إجمالاً تتشابك، وتتداخل مع الأهداف التوسعية والاستعمارية القديمة والحديثة التي تمثلها الشركات متعددة الجنسية، ويصبح البحث العلمي، والعلم، والمشتغلون به، مجرد أدوات طبيعية للسيطرة، داخل تلك الأوطان وخارجها.
وتذكر بعض الدراسات أن وكالة المخابرات الأمريكية ـ مثلاً ـ يعمل بها 16500 موظف، وأن حجم ميزانيتها 750 مليون دولار، بالإضافة للمعونات المنتظمة للشركات الاحتكارية، مثل فورد وموتورز وروكفلر، وأن جزءاً من هذا الهيكل الوظيفي والمالي يخصص للبحوث السيكولوجية والسيكوبيولوجية والاجتماعية في أنحاء العالم، وعلى الأخص الوطن العربي والعالم الثالث، وذلك يتم من خلال تمويل منظمات وجمعيات علمية عالمية، مثل الجمعية النفسية الأمريكية، وجمعية علوم بيئة الانسان، وشخصيات علمية بارزة. يذكر أحد العلماء البارزين الذين مولت المخابرات الأمريكية أبحاثهم بـ ف ـ سيكفر ـ أنه قد تم تمويل كتابه (الحرية والشرف) بخمسة ملايين دولار ويذكر هذا العالم (أن تمويل المخابرات الأمريكية للدراسات والبحوث العلمية يبغى أساساً تطوير تكتيكاتها المختلفة التي تمكنها من الاضطلاع بدورها كأداة لتحقيق التوسع الأمريكي).
ولأن لاحتلال العقل في العالم أجمع أدواته المختلفة، فإن (الصحافة) تأتي في مقدمتها جنباً إلى جنب مع البحوث الممولة والمشتركة، ولقد فجر هذا الجانب ضبط (نيكولاس دانيلوف) مراسل مجلة (يو، إس، نيوز أند وورلد ريبورت) في موسكو متلبساً بالتجسس لصالح المخابرات الأمريكية.
وفي ظل غياب السياسات القومية الواعية تجاه موجات الغزو الثقافي وأدواتها الكثيرة. يسهل ـ ولا شك ـ وقوع الاحتلال العقلي، ففي بلد مثل مصر ـ على سبيل المثال ـ كان بها خلال عامي 86 و 1987 (40 ألف باحث). من الحاصلين على درجة الماجستير والدكتوراه في التخصصات والفروع العلمية المختلفة ولا يجدون فرصة عمل. في دولة كهذه، وفي حال مثل تلك، من المتوقع أن يذهب هذا الجيش من الباحثين. أو على الأقل نسبة منه إلى تلك الجهات التي تستطيع توظيفه، وتقديم الدعم المادي له، وما أكثرها داخل مصر، وهي جهات في أغلبها تخدم عن وعي وباستراتيجية بعيدة المدى خطط احتلال العقل في مصر وبلدان الشرق إجمالاً.
في سبيل السيطرة على العقل العربي، وعقل العالم الثالث استخدمت الاستراتيجية الأوربية والأمريكية ركائز مهمة للانطلاق خلال الثلاثين عاماً الماضية، وللتغلغل النشط في أحشاء مجتمعاتنا يمكننا حصر أهمها:
ـ مؤسسة فورد فونديشن وهي تعمل في المنطقة منذ عام 1952.
ـ مؤسسة روكفلر وهي تعمل منذ الحرب العالمية الثانية.
ـ مؤسسة رائد وهي قديمة نسبياً إلا أن نشاطها برز في السبعينيات من هذا القرن في مجال الدراسات الإسلامية والفلسطينية.
ـ مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية ولجنة الشرق الأدنى والأوسط المنبثقة عن المجلس وهو يعمل في المنطقة منذ منتصف الستينيات.
ـ جماعة أبحاث الشرق الأوسط وهي تقوم منذ عام 1966 بالتخطيط والتنسيق بين وحدات شبكة الأبحاث الأمريكية.
ـ جامعة جورج تاون التي قامت فقط في نوفمبر 1985 وكنموذج لنشاطها قامت بعمل مسح شامل في 12 قرية مصرية، بالاشتراك مع كلية الآداب بجامعة الزقازيق.
ـ وكالة التنمية الأمريكية، ويذكر أنها رصدت خلال عامي 81 و 1982 للبحوث المشتركة بين مصر وإسرائيل في مجال البحوث الميدانية الزراعية مبلغ 15 مليون دولار فقط، وأنها مولت مشروع ترابط الجامعات المصرية خلال عام 84 و 1985 بمبلغ 28 مليون دولار، بغرض تمويل البحوث الاجتماعية والسياسية بمصر!!
ـ مركز هارفارد للشؤون الدولية، ومركز برنستون للدراسات الدولية، ومركز شيكاغو لدراسة السياسة الخارجية والعسكرية ومعهد بيركلي للدراسات الدولية، وجميعها ترتبط عملياً ومالياً بوكالة المخابرات الأمريكية.
ـ مؤسسة فريدرش إيبرت، وفريدرش نومن الألمانيتان اللتان تربطهما وشائج قوية ببعض مراكز البحوث في مصر ودول المشرق العربي.
ـ المركز الأكاديمي (الإسرائيلي) بالقاهرة، وهو يقوم بدور خطير في مجال اختراق العقل المصري والعربي، وسوف نورد فيما بعد بعضاً من أهم أعماله، بالإضافة لأجهزة السفارة الإسرائيلية ورجالها.
وهذه المجموعة من المؤسسات الأوربية والأمريكية والإسرائيلية تنسج ـ مجتمعة ـ شبكة عميقة التأثير، وهي تنسق فيما بينها على أعلى درجة من الترابط والدقة، منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً على الأقل، وإن كان نشاطها قد ازداد في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. تقوم بعملية مزدوجة، فتقدم المعلومات (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية) لصانع القرار الأوربي أو الأمريكي أو (الإسرائيلي) هذا من ناحية! ومن ناحية أخرى تقوم بمحاولة زرع مفاهيم وقيم فكرية واجتماعية جديدة داخل الأرض العربية، وفي أحشاء عقلا، وذلك من خلال سياسة ما يسمى بالبحوث العلمية المشتركة التي تهدف إلى استبدال القيم الأصلية في العقل الجماعي العربي والمسلم، بقيم ومفاهيم غربية. وفق خطط طويلة الأجل، متعددة الأدوات، ولعل في استعراض عينات من أبحاث تلك الشبكة الخطرة ما يقدم دليلاً حياً على صدق ما نقول.
إن من أهم المؤسسات في وطننا العربي وأخطرها ذلك المركز الذي أنشأته (إسرائيل) بالقاهرة عام 1982 ـ ونحن هنا ننبه الباحثين العرب آملين أن تصل صرختنا هذه إليهم لمحاصرة نشاط هذا المركز ـ واسمه (المركز الأكاديمي الإسرائيلي)، فالمركز ـ كما سبق القول أنشأ عام 1982، عقب اتفاقات كامب ديفيد، وتولى رئاسته كل من (شيمون شامير) ثم (جبرائيل وأربورج) وهما من الباحثين اليهود الذين تدربوا على أيدي الموساد. ونظرة سريعة على الأبحاث السياسية والثقافية والاجتماعية التي قام بها المركز منذ إنشائه حتى اليوم تبرز لنا بوضوح عمق الخطر الذي يمثله كأداة متقدمة (للموساد الإسرائيلي) تجاه العقل المصري والعربي، فهو ـ مثلاً ـ يبحث في الأصول العرقية للمجتمع المصري، وفي كيفية تفتيت مصر طائفياً، وفي الوحدة الثقافية والعقائدية بين اليهودية والإسلام، وفي الشعر العربي الحديث، وقضايا التعليم والزراعة والميكنة الزراعية واستصلاح الأراضي، وفي توزيع الدخل، وحياة البدو والبربر، وكيفية السيطرة عليهم، وفي تأثير السلام على العقل العربي، وغيرها من الأبحاث المهمة.
قامت (إسرائيل) أيضاً ببعض الأبحاث المهمة في مصر، من خلال المركز الثقافي الأمريكي بواسطة اليهودي الأمريكي الشهير (ليونارد بايندر)، وهي أبحاث حول (رؤى الصراع العربي ـ الصهيوني) والجماعات الإسلامية في مصر، وبحث عن بدو مرسى مطروح.
أما الولايات المتحدة، فلقد قامت من خلال مؤسساتها السابقة بالعدد من الأبحاث المهمة والندوات الأكثر أهمية، نذكر منها على سبل المثال:
ـ أبحاث قام بها البروفيسور (ناداف سفرات)، المسؤول عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد، يهودي الديانة، مصري الأصل، حول (السعودية كمجتمع متفجر) و (الإسلام والسياسة في العالم المعاصر). وأنه قد حصل على 145 ألف دولار مقابل الندوة البحثية الأخيرة، أخذها (عدا ونقدا) من وكالة المخابرات الأمريكية، وتسبب كشف النقاب عنها في فضيحة مدوية في الأوساط العلمية الغربية والعالمية.
ومن الأبحاث الأخرى المهمة التي قامت بها المؤسسات الأمريكية في الوطن العربي (الصراع بين التيارات العلمانية والتيارات السلفية ـ التغير الاجتماعي في بلدان الشرق الأوسط ـ النظرية السياسية الإسلامية ـ العلاقات المدنية العسكرية في الوطن العربي ـ القومية الفلسطينية ـ التنبؤ بحركات التمرد في المنطقة العربية ـ المؤثرات في الأقليات بالوطن العربي ـ المهام السياسية للصفوة العسكرية العربية ـ مسار المنطقة العربية ومدى تأثرها بالتغيرات ـ المثقفون والوطن العربي الحديث ـ موقف المثقفين العرب في الصراع مع (إسرائيل) ـ المجتمع والبناء السياسي في الوطن العربي ـ آفاق العلاقات بين مصر و (إسرائيل) والأقطار العربية الأخرى ـ الفكر السياسي للعمال المصريين ـ دراسة عرقية لبدو النوبة في مصر ـ الحشود المصرية على الحدود الليبية، واستطلاع رأي الطلبة بالجامع الأمريكية بالقاهرة ـ ظهور الإسلام كعنصر من عناصر الصراع العربي (الإسرائيلي) ـ الشيوعيون والشيعة ـ تطور النظام التعليمي في مصر ـ تتطور الناصرية ـ النساء في المجتمعات الإسلامية).
هذه هي أبحاثهم ـ ترى، لماذا يهتمون بهذه الجوانب على الأخص؟! ولماذا يتغلغلون في أحشاء المجتمع العربي إذا لم يكن هدفهم أبعد من مجرد الاحتكاك العلمي البريء، والتعاون الثقافي؟
---------------------------------
المصدر: الاسلام والغرب
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة