مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 الدور الزمني
العلاقات بين المسلمين والنصارى
عبد العزيز الثعالبي


اندلعت الحروب الصليبية وأخذت تظهر لدى المسلمين آثار تعصّب النصارى الرهيب، في ذلك العصر.
ولئن انجرّ لا محالة عن الحروب الصليبية ما شهدته أوروبا من تقدّم حضاري، نتيجةً للاتصال المفروض بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية خلال الحرب، فقد كانت النتائج عكسيّة بالنسبة إلى المسلمين الذين كانوا مغرمين بالبسالة والمجد والمآثر الحربية ومعجبين بدون تحفّظ بشجاعة الفرسان الصليبيين التي لا تقهر وميلهم إلى سفك الدماء، فأخذوا يسعون إلى محاكاتهم.
ومن ناحية أخرى فقد كان كلّ مسلم معتبراً في نظر الصليبيين، مارقاً عن الدين وكافراً وفاقداً للإيمان، وهو لا يستحق أية شفقة ولا رحمة ويتحتّم قتله مهما كان الأمر. ومن باب ردّ الفعل كان من الضروري أن يعامل المسلمون كلّ صليبي _ بل كلّ مسيحي_ بالمثل.
وبذلك ندرك مدى الغبطة والحماس اللذين كان المسلمون يتقبّلون بهما كلّ تفسير يعمد إلى تحريف النصوص وإبراز ما تعبّر عنه من حقد وتعصّب تجاه غير المسلمين.
ومما تجدر الإشارة إليه أن المؤلفات التي هي من هذا القبيل كانت تعدّ بالآلاف في عصر الحروب الصليبية.
وقد آل الأمر بالمفسرين إلى الاصداع بالمبدأ الذي رفعوه إلى مستوى الحقيقة الدينية:
"يجوز للمسلمين أن يبرموا مختلف معاهدات التحالف والحماية مع كافّة الشعوب والأجناس، ما عدا النصارى، فمن واجبهم اعتبار أنفسهم في حالة حرب معهم. كما يحجّر عليهم زيارة أقطارهم والتعامل معهم وربط علاقات تجارية معهم".
ولقد انجرّت عن ذلك المبدأ الحملات العسكرية الإسلامية الموجهة ضدّ الأقطار المسيحية وهجومات القراصنة المتواصلة.
فعلى إثر الحروب الصليبية اندلعت الحروب بإسبانيا وشنّ المسيحيون على المسلمين حرباً ضروساً بلا رحمة ولا هوادة، وصارت الأقاليم الإسلامية المحتلّة خاضعة لسلطة محكمة التفتيش أثناء فترات الهدنة أو الفترات الموالية لمعاهدات السلم. فكانت تلك المحكمة تعذب المسلمين وتحرقهم وهم أحياء لكونهم مسلمين وتصادر أملاكهم وتطردهم من بلادهم ومسقط رؤوسهم. وهكذا فقد أجبرَ الإسبانيون المسلمون _أو الأندلسيون كما نسميهم اليوم _ على مغادرة إسبانيا والإلتجاء إلى بعض الأقطار الأخرى ولا سيما المغرب والجزائر وتونس.
وهكذا فقد تمّ عزل المسلمين في افريقيا وآسيا ولم يتمكّنوا من البقاء في القسم الأوروبي من تركيا إلا بحدّ السيف. ولم يعد بإمكانهم حتى التحوّل فرادى إلى أوروبا، لأنهم كانوا يخشون أوّلاً مخالفة أو انتهاك الشريعة الإسلامية، وكانوا يخشون التعرض للتعذيب من قبل محاكم التفتيش من جهة ثانية.
وبناء على موقف النصارى من المسلمين وما كانت تحدو هؤلاء من روح الانتقام، فقد أغلقت أبواب "الإسلام" واعتزل المسلمون في ديارهم وانصرفوا إلى شؤون دينهم.
إلا أنّنا نلاحظ في الأقطار الأوروبية أثناء القرون الوسطى إلى غاية القرن الثامن عشر من الميلاد، أنّ الفلاسفة والعلماء الذين يتجرّأون على الإعلان عن إحدى الحقائق العلمية أو الفلسفية المنافية لمبادىء الإنجيل أو المخالفة لتعاليم الدين المسيحي، يتعرّضون هم أيضاً للحرق ويعاملون معاملة المتطاولين على الدين.
والجدير بالملاحظة أن المسلمين قد حافظوا على نفس تلك التقاليد. فكانت كلّ روح تحرّرية محكوماً عليها بالإعدام، إن لم يكن على أيدي الجلادين في الساحة العمومية، فبواسطة السخرية.
أما في العصر الذي نعيش فيه اليوم وفي الوقت الذي بلغت فيه الحضارة أوج تطوّرها وفي حين أصبح التقدم مطرداً وصارت البشرية متضامنة مع بعضها بعضهاً تسعى إلى الاعتماد على الجهود الفردية لفائدة المصلحة المشتركة، فهل يمكن، عن طيب خاطر، استثناء أربعمائة مليون مسلم من تلك الحضارة؟ وهل يجوز إقصاؤهم، لا بالنسبة إليهم ولا بالنسبة إلى ما يمكن أن يستخلصوه من تلك الحضارة من خير لهم، بل باعتبار أن المسلمين الذين أظهروا خلال العصور الإسلامية الأولى مدى قوّتهم وتقدّمهم الفكري وما أسفر عنه ذلك من نتائج، وباعتبار أن المسلمين الذين حقّقوا تقدّم الحضارة والرقيّ والتسامح والحرية، تقدماً لم تعرف له مثيلاً لا أوروبا ولا العالم بأسره الذي ما زال معجباً بذلك، وباعتبار أن المسلمين يستطيعون اليوم، إذا ما أزالوا كل تلك الأفكار الخاطئة التي أملاها عليهم بعض المفسّرين والعلماء والفقهاء، وإذا كانوا جديرين بتلقي ثقافة متماشية مع مبادىء الرقيّ والحضارة بفضل تطبيق مبادىء التحرّر التي نلاحظها في كلّ آن وحين من خلال كل آية من آيات القرآن الكريم، نقول: إن المسلمين يستطيعون تحقيق ما وعدوا به في الماضي والحاضر، لأنهم لا يمثلون جنساً هو دون الأجناس الأخرى من حيث الذكاء، كما أنهم يستطيعون المساهمة في تقدّم الحضارة البشريّة.
---------------------------
المصدر : روح التحرر في القرآن
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة