مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 التحديات الجديدة
الإسلام لمن لا يعرفوه 


لا شك أن ما حدث في نيويورك وواشنطن هو حدث إنساني كبير، يهم العالم بأسره، ولسوف يشكل منعطفاً تاريخياً حاداً، يصلح لأن يؤرخ به، ومن غريب المصادفة أن يأتي في السنة الأولى من الألفية الميلادية الثالثة، ليكون بداية لها، تؤرخ به.
ولا شك أن من حق كل إنسان يعيش على الأرض أن يدلي بدلوه في رسم حدود هذا المنعطف، ومعالم الطريق الذي سيضع الإنسانية عليه!...
فنحن نعيش عصر العولمة الذي اختزل القرى في قرية كونية واحدة، والغى ما بينها من أبعاد وحدود، وكسر كل الحواجز والسدود.
ونحن نعيش عصر المعلومات وثورة الاتصالات الذي بدل معايير ارتقاء الأمم وتقدمها من ثروة المال ومداخن المصانع وقوة السلاح إلى ثروة المعلومات وقوة المعرفة، فكسر بذلك جميع الاحتكارات، وأسقط كل الايحاءات، إذ المادة الأولية للمعرفة والمعلومات هي الفكر والعقل، وهي مادة مشاعة بين البشر يملكها الجميع بالتساوي. لا ينفرد بها عرق أو لون أو أمة أو شعب.. ولعل ما حدث يوم الثلاثاء وما حدث قبله من اختراقات إلكترونية على شبكة المعلومات لبرامج البنتاجون يؤكد هذه الحقيقة حقيقة شيوع المعرفة وكسر الاحتكارات.
فأين موقع الإسلام من الحدث. وما كان موقفه منه بوصفه المرشح الأول للمواجهة مع الغرب في صراع الحضارات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كما صوره هانتجتون، وصادق على هذه الصورة كثير من المفكرين الغربيين؟!
لم يتردد الأمريكيون فور وقوع الحدث في وضعه في قفص الاتهام، كأبرز أصحاب السوابق المشتبه بهم، كعادتهم كلما تلقوا ضربة، حتى لو تبين لهم أن بعض هذه الضربات لم يكن له يد فيها.
بل إنهم _هذه المرة _ تجاوزوا توجيه أصابع الاتهام، وعجلت ألسنة قادتهم _ربما لهول الصدمة _ بإعلانها حرباً صليبية، اتخذوا لها شعار النسر النبيل، وهو شعار الحملة الصليبية التي سبق للغرب أن شنها على الإسلام _كما نعلم _ ثم بدا لهم أن يعتذروا عما زلقت به ألسنتهم، تفادياً لإحراج حكومات يريدون أن تشاركهم حملتهم ضد الإرهاب.
ثم أطلقوا شعارهم الجائر: من لم يكن معنا في مكافحة الإرهاب على الطريقة التي نرسمها فهو ضدنا يقف في صف الإرهاب، متجاهلين كل حق للإنسان في الاختلاف واختيار الرأي الأفضل.
ويتطوع بعض الخطاب الإسلامي بتقديم الأدلة والبراهين على رعاية الإسلام للإرهاب.. فيطرح تارة ثنائية الايمان والكفر، ليستعدي أربعة أخماس سكان المعمورة على المسلمين، وتارة يطلق صيحات الجهاد والبيعة والنصرة بعيدة عن سياقها، مجردة عما قرره لها العلماء من ضوابط وشروط ومسوغات ويقف الإسلام إزاء هذه المواقف المتباينة:
مشفقاً من أن الإنسانية لم تدرك بعدُ رسالة السماء، ولم تسلك درب الأنبياء الذي لخصته الرسالة الخاتمة، وأودعت خرائطه في كتاب الله تعالى الأخير (القرآن العظيم).
واثقاً من أنها متجهة إليه، تحث الخطى نحوه، تحت سياط تجاربها المريرة، وفي سياق كدحها إلى الحقيقة (هذا نذير من النُّذرِ الأولى(56) أزفَت الآزفة(57) ليس لها من دونِ اللهِ كاشفة(58) أفمن هذا الحديثِ تعجبون(59) وتضحكونَ ولا تبكونَ(60) وأنتم سامدون(61) فاسجدوا لله واعبدوا(62)) (النجم).
متأكداً من أن الإنسانية سوف تقلع عن استخدام القوة وسفك الدماء وسيلة لحل المشكلات، وسوف تستبدل بها وسائل الحوار، والكلمة السواء التي دعانا إليها الإسلام.
ربما يحلو لبعض المتفيهقين من أدعياء الحداثة أن يدرجوا هذا الكلام في عداد الوعظ، ويصنفوه في نطاق لغة الأخلاق والمثاليات، التي يعسر تطبيقها في الواقع المعيش، كما يعسر قياسها بلغة الأرقام، لكنني أؤمن بأنها حتمية تاريخية تندرج في إطار القوانين الطبيعية التي سير الله تعالى بها الكون، وأن الإنسان بموجب قانون الارتقاء والاصطفاء وتجنب الأخطاء الذي سنه الله تعالى له، لا يزال يتدرج في معارجه منذ أخبر الله ملائكته (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) (البقرة) إلى أن يثبت صدق تقدير الله فيه.
آية ذلك ما نراه من إقبال الغربيين على اعتناق الإسلام كلما اتيح لهم أن يطلعوا على عظمته، تبرماً بمادية حضارتهم المغرقة وخوائها الروحي، وإعجاباً بما يحققه الإسلام للإنسان من طمأنينة ترضي تطلعاته إلى الحق، وتوازن لا يهمل بعده الروحي ومصيره.. حتى إنه بات يشكل الدين الأكثر انتشارا وتقدماً في العالم بفارق كبير يفصله عن سائر الملل والديانات.
يحدث ذلك من دون أية جهود دعوية تبذل، وعلى الرغم من النماذج التطبيقية السيئة، ومن التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي، مما يؤكد قدراته الذاتية على الانتشار من جهة، وفاعلية الكلمة وحتمية ظهور الحق على الباطل تلقائياً من جهة أخرى، وأن الإسلام يعتمد على هذه القوة الذاتية للحق.
فما هذا الإسلام؟ وما خطابه للناس؟ وكيف يتعامل مع الآخر؟ ومن الآخر في نظره؟ وما موقفه من الإرهاب والعنف؟!
أما الإسلام فهو الرسالة الخاتمة الجامعة لكل الرسالات، جاءت مكملة لها، ومعرّفة بها، مؤكدة وحدتها في المصدر والمنهج وأنها ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين: (قولوا آمنّا باللهِ وما أُنزلَ إلينا وما أُنزل إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النّبيّونَ من ربِهِم لا نفرقُ بينَ أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمونَ) (البقرة: 136).
وأما خطابه فقد جاء للناس كافة غير محدود بقوة أو لون أو عرق أو دين: (قُل يا أيُّها النّاسُ إنّي رسول اللهِ إليكم جميعاً الذي له مُلك السمواتِ والأرض لا إله إلاّ هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النّبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) (الأعراف: 158).
وأما وسيلته في دعوة الناس إليه فهي البلاغ المبين، والحجة البالغة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والحوار المفتوح دون مسلمات مسبقة، واستبعاد كل أساليب الإكراه (لا إكراه في الدين قد تبينَ الرُّشد من الغي) (البقرة: 256). (ما على الرَّسولِ إلاّ البلاغُ) (المائدة: 99). ويؤكد على رسوله (فما أرسلناكَ عليهم حفيظا إن عليكَ إلاّ البلاغ) (الشورى: 48) ويحذره من إكراه الناس على الايمان (أفأنتَ تُكرهُ النّاس حتى يكونوا مؤمنين) (يونس: 99).
ومن الطبيعي بعد كل هذا الإلحاح على تجنب الإكراه في الدين، أن يكون الإنسان حراً في اختيار دينه ورأيه، غير مضطهد، بسبب اختياره (فمن شاء فليؤمن ومن شاءَ فليكفر).
ومن الطبيعي كذلك ألا يكون الكفر والإيمان مدعاة للتخاصم والتقاتل بين المسلمين والكافرين، فقد اختص الله تعالى نفسه بالحساب عليهما ولم يأذن بذلك لرسوله (فإنما عليكَ البلاغُ وعلينا الحساب) (الرعد: 40).
إنما أذن الله للمؤمنين بالقتال دفعاً للظلم ودفاعاً عن النفس (اُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) (الحج: 39)، فعلة القتال المأذون به هي الظلم وليس الكفر (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكُم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللهَ يحب المقسطين) (الممتحنة: 8). (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلمَ فما جعل اللهُ لكم عليهم سبيلا) (النساء: 90).
وللإسلام موقف واضح من العدوان؛ فهو ينهى المسلمين عن ممارسته (وقاتلوا في سبيل الله الذينَ يقاتلونكم ولا تعتدوا إن اللهَ لا يحبُّ المعتدين) (البقرة:190).؛ كما ينهاهم عن التعاون عليه (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). وعن مجرد التناجي به فضلاً عن التآمر عليه (فلا تتناجوا بالإثم والعدوان) (المجادلة: 9).
وإنما دعا الإسلام إلى الجهاد بشروطه، فالكفر وحده لا يكون سبباً مسوغاً للجهاد، إلا إذا اقترن بأحد أمرين: الحرابة أي إعلان الحرب على المسلمين أو الظلم، فإذا تحقق أحد الشرطين وجب الجهاد واستنفر المسلمون له؛ وكانت دوافعه رد العدوان ودفع الظلم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (إنما ينهاكُم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون) (الممتحنة: 9). فتكون موالاة الظلم والسكوت عن ظلمه ظلماً بحد ذاته، ويقول أيضاً: (وما لَكُم لا تقاتلونَ في سبيل اللهِ والمستضعفينَ من الرجالِ والنساءِ والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا) (النساء: 75).
والقتل من غير مسوغ شرعي جريمة كبرى بحق الإنسانية كلها في نظر الإسلام (من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتلَ الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا النّاس جميعاً) (المائدة: 32).
والأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلام لا الحرب. فالسلام أحد أسماء الله تعالى الحسنى (المَلك القدُّوسُ السَّلام) (الحشر: 32) (واللهُ يدعو إلى دار السّلام) (يونس: 25) والرسول (ص) مأمور بالصفح والسلام (فاصفح عنهُم وقل سلام) (الزخرف: 89)، وعباد الرحمن (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (الفرقان:63). والمسلمون مدعوون للدخول في السلم كلما تحققت شروطه (يا أيُّها الذين آمنوا ادخلوا في السلمِ كافة) (البقرة: 208).
فهل بعد ذلك من ريب في نزوع الإسلام إلى السلم، ورفضه كل أشكال الإرهاب، واستعداده للدخول في أي مسعى يهدف إلى مكافحة الإرهاب، تضطلع به أيد نظيفة غير ملوثة بممارسة الظلم والقهر والعدوان والتطهير العرقي وطرد الناس من بلادهم وأوطانهم، ولا بمظاهرة الظالمين ودعمهم وتشجيعهم والسكوت على جرائمهم؟!، وتسلك لمكافحة الإرهاب والغي طرقاً تنأى بها عن الإرهاب والغي وقتل الأبرياء وتشريد المستضعفين، وتوطد العزم على أجتثاث جذور الإرهاب، وإزالة أسبابه ودوافعه، وتجفيف ينابيعه؟!.
---------------------------------------------------------
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية /العدد 1477- 2002/11/17

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة