مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
كيف نتعامل مع التطرف الديني؟
بقلم العالم السويسري الشهير: هانس كينج


تقديم المترجم: ثابت عيد
كاتب هذا المقال _ البروفيسور هانس كينج _ هو أشهر شخصية دينية سويسرية في عصرنا هذا. ولد في لوزرن بسويسرا سنة 1928, ودرس الفلسفة وعلم اللاهوت في روما, ثم حصل على الدكتوراه في اللاهوت من باريس سنة 1957. ويعمل كينج كأستاذ كرسي في جامعة تيبينجن في ألمانيا منذ سنة 1960. والأستاذ كينج هو شخصية عالمية مرموقة في حقل حوار الأديان, وقد ألقى محاضرات في جامعات كندا وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا. وبلغت مؤلفاته أكثر من 45 كتاباً, من أهمها:
1_ الله والألم (1967).
2 _ الكنيسة (1967).
3 _ حرية المسيحي ( 1971).
4 _ حوار يهودي _ مسيحي (1976).
5 _ المسيحية والأديان العالمية (1984).
6 _ فرويد ومستقبل الدين (1987).
7 _ اليهودية (1991).
وقد ترجمت معظم أعماله إلى عشرين لغة مختلفة من لغات العالم, كما ظهرت حتى الآن ست دراسات عنه.
ومن أهم آراء كينج التي عبر عنها في كتاباته, نظرياته الشهيرة الخاصة بعلاقة الدين بالسلم والحرب, فهو يرى أنه:
1 _ لا سلام عالميّاً بلا سلام بين الأديان.
2 _ ولا سلام بين الأديان بلا حوار بين الأديان.
3 _ ولا حوار بين الأديان بلا دراسات جادة, وأبحاث موضوعية.
ومقال هانس كينج هذا, لا يخص التطرف في الإسلام فحسب, بل يعالج _ باختصار _ ظاهرة ا لتطرف في الديانات السماوية الثلاث. ولعل أهم ما يشير إليه كينج في مقاله هذا هو ضرورة السعي لفهم دوافع التطرف, وأسبابه, لأننا لن ننجو من نار التطرف إلا عندما نعالج الأسباب التي أدت إلى ظهور التطرف.
ونود أخيراً أن نشير إلى أن الموضوع الذي نتحدث عنه هو " التطرف ", أما لفظ " الأصولية " الذي يستخدمه بعض الكتاب فهو ترجمة ركيكة وخاطئة للفظ (fundamentalismus) بالألمانية, أو ما يقابله في اللغات الأوروبية الأخرى. وهذه الترجمة الركيكة تينا مدى وصلنا إليه من تبعية للغرب المتقدم, واضمحلال فكري رهيب. ولنرَ الآن ما يقوله البروفيسور هانس كينج عن التطرف:
1 _ الأديان بين الاتفاق والاختلاف
من المؤسف له أن أصحاب الأديان السماوية الثلاثة, لم يحتفظوا في ذاكرتهم حتى يومنا هذا بما يربطهم ويؤلف بين قلوبهم, بقدر تذكرهم لما يفرقهم ويباعد بينهم.
فالمسيحيون واليهود لهم أصول مشتركة, ولكن المسيحيين يتذكرون اليوم في المقام الأول رفض " اليهود " لنبيهم عيسى. وبالطبع يتذكر اليهود تعقب " المسيحيين " لهم, وما تعرضوا له من اضطهاد على أيديهم لقرون طويلة في جميع أنحاء أوروبا, وهم لا ينسون على الإطلاق إبادة ستة ملايين يهودي.
واليهود والمسلمون عاشوا في سلام جنباً إلى جن لقرون طويلة ( في مصر, وأسبانيا, و استانبول ), ولكنهم يتذكرون اليوم قبل كل شيء النزاع حول فلسطين ( وهو نزاع حديث بدأ في هذا القرن ).
والمسيحيون والمسلمون, على الرغم من أنهم يعتبرون أنفسهم _ مثل اليهود _ أبناء سيدنا إبراهيم, إلا أنهم لا يتذكرون إلا مواجهاتهم الخمس:
1 _ المواجهة الأولى: في القرن السابع الميلادي,حين خسرت الإمبراطورية الرومانية الشرقية المسيحية ولاياتها المسيحية: فلسطين, ومصر, وسوريا, من خلال الفتح الإسلامي.
2 _ المواجهة الثانية: في القرن الثامن الميلادي, حين فتح المسلمون شمال أفريقيا بأكمله, وأسبانيا.
3 _ المواجهة الثالثة: في القرنين الثاني عشر, والثالث عشر: أعاد المسيحيون من خلال هجومهم المضاد _ المتمثل في الحملات الصليبية _ سيطرتهم على فلسطين, والقدس, لفترة محدودة.
4 _ المواجهة الرابعة: في القرنين الخامس عشر, والسادس عشر, فتح الأتراك المسلمون القسطنطينية ( سنة 1453 ) والبلقان, مما نتج عنه أسلمة هذه المناطق, واعتناق شعوبها الإسلام, وبقاؤهم عليه حتى اليوم.
5 _ المواجهة الخامسة: في القرنين التاسع عشر, والعشرين, حيث انتهكت القرى الاستعمارية الأوروبية المسيحية القانون الدولي, وسيطرت في نهاية الأمر على الدول الإسلامية في شمال أفريقيا وشرقها, والشرق الأوسط, والشرق الأقصى, حتى إيران والهند.
2 _ هل سيظل السلام بين الديانات وهماً؟
وبالنظر إلى هذا المواجهات والحروب, التي استمرت لعصور طويلة, يطرح السؤال التالي نفسه: من كان من الممكن أن يكون أعظم رجل دولة في عصرنا هذا, أو الحكيم الأعظم الذي باستطاعته أن يقيم السلام بين المسلمين والمسيحيين واليهود؟ وخاصة السلام بين العرب واليهود, أو بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ أمهل ينبغي أن يبقى السلام وهماً إلى الأبد؟.
إن القتلى يتساقطون في البلقان, وفي الشرق الأوسط تطلق النيران بصورة يومية, هل لا نفعل شيئاً, ونقف مكتوفي الأيدي, انتظاراً لحرب سادسة بين العرب وإسرائيل؟
وعلى الرغم من ذلك, يتساءل الكثيرون: إذا كان قد أمكن تحقيق السلام بين الكاثوليك والبروتستانت بعد كل ما دار بينهم من حروب باردة, ومواجهات ساخنة, فلماذا لا يمكن تحقيق ذلك تدريجياً بين اليهود والمسيحيين والمسلمين؟.
وإذا كان السلام قد أمكن تحقيقه بين الفرنسيين والألمان, الأعداء الألداء, فلماذا تظل إمكانية تحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين مستبعدة؟(1)
(1) السلام الذي تحقق بين الكاثوليك والبروتستانت, وكذلك بين الألمان والفرنسيين, تحقق عندما تخلى كل طرف عن محاولات " نفي الآخر ", بينما المشروع الصهيوني قائم على نفي الوطن الفلسطيني المستقل, وحرمان أهل فلسطين من حقهم الفطري والطبيعي في تقرير المصير. فاستحالة السلام _ هنا _ قائمة في طبيعة المشروع الصهيوني, وليس في الإسلام أو اليهود. المشرف على الكتاب د. محمد عمارة
3 _ التطرف الإسلامي
ولكنى أسمع أحياناً الاعتراض القائل: كيف يمكننا التعامل مع المتطرفين المسلمين الذين يمكنهم التعامل مع وسائل الحضارة الحديثة ( وليسوا رجعيين, أو متخلفين عن المدنية الحديثة, كما يدعى البعض ), وباستطاعتهم الظهور بمظهر متمدن جدّاً من عدة وجوه ( كاستخدامهم للتكنولوجيا الحديثة, ووسائل الإعلام, ووسائل المواصلات, والمعاملات المالية)؟
فيما يخص مسألة المسلمين المتطرفين _ أو الإسلاميين كما يسميهم المسلمون _ فينبغي أن نقول:
1 _ ليس الإسلام ديناً متطرفاً كلية, ففي الإسلام أيضاً كان _ وما زال _ هناك حركات إصلاحية كثيرة.
2 _ والمسيحية بدورها ليست ديانة متسامحة كلية, فالتطرف موجود أيضاً في المسيحية في أصل البروتستانتية والكاثوليكية ( المثال الحديث: بولندا), والتطرف موجود أيضاً في اليهودية ( في داخل إسرائيل, وخارجها).
3 _ لا تنحصر جذور التطرف على الناحية الدينية فحسب, بل تمتد لتشمل أيضاً النواحي الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية, فالمتطرفون المسلمون يشيرون إلى أوجه قصور الحضارة الحديثة, وهي ملاحظات ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد, حتى إذا رفضنا الحلول التي يقدمها المتطرفون. ولذلك فمن الصحيح:
4 _ أنه لا يمكن التغلب على التطرف _ كظاهرة دينية _ عن طريق الهجوم المباشر, ولكن من خلال الفهم الصحيح له, وتخيل أنفسنا في مكان هؤلاء المتطرفين. والأهم من ذلك عن طريق معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا التطرف.
4 _ التطرف على مستوى الديانات العالمية
ماذا يمكننا إذن أن نفعل تجاه التطرف في جميع الديانات؟ هناك خمس نقاط هامة نود ذكرها في هذا المقام:
أولاً: من ناحية, ينبغي لفت نظر المتطرفين إلى الأصول الخاصة بالحرية, ومبدأ التعددية, والانفتاح أمام الآخرين, وذلك في تراث كل فريق منهم: في التوراة والتلمود عند اليهود, وفي الأناجيل و الكتابات المسيحية عند المسيحيين, وفي القرآن والسنة عند المسلمين.
ثانياً : من ناحية أخرى ينبغي أيضاً تنبيه التقدميين إلى ضرورة ممارسة النقد الذاتي فيما يخص كل المحاولات الواهية للتكيف مع روح العصر, والعجز عن رفض ما يجب رفضه. وكذلك فيما يخص كل أوجه القصور المتعلقة بالجوهر الديني, والمذهب اللاهوتي, والالتزام الأخلاقي, وذلك فيما يتصورونه من ديانة ليبرالية حديثة, ليس لها قوانين تحكمها, ولا حدود توضحها.
ثالثاً: إيجابيّاً, لا بد من انتهاج طريق روحاني جديد, وممارسته بصدق وأمانة, وخاصة من قبل هؤلاء الذين لا يقبلون سلطة الكنيسة الكاثوليكية, ولا حرفية الكنيسة البروتستانتية, ولا تقاليد الكنيسة الأرثوذكسية, أو أولئك الذين لا يرضون بالتيارات الرجعية ذات الأصل اليهودي, أو الإسلامي.
رابعاً: على الرغم من كل الصعوبات والتناقضات, فلا بد أيضاً من السعي لفتح حوار مع المتطرفين, بل لا بد من التعاون معهم, ليس فقط في المجالات السياسية والاجتماعية, بل أيضاً في مجال العلوم الدينية.
خامساً: ولكني إذا قام تحالف بين التطرف من ناحية, والقوة السياسية, والعسكرية _ البوليسية, من ناحية أخرى ( كما هو الحال في بعض الدول الإسلامية, وموقفها من سلمان رشدي), أو بين التطرف من ناحية, والسلطة الدينية من ناحية أخرى أو بين التطرف من ناحية, والسلطة الدينية من ناحية أخرى (ولنذكر الفاتيكان كمثال لذلك, وما يقوم به من أعمال ضد بعض رجال الدين, والأساقفة, والنساء ) في مثل هذه الحالة ينبغي مقاومة التطرف بصورة حازمة وشديدة, وذلك على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وهكذا لعل الديانات السماوية الثلاث تجد تجريجياً _ في هذا العصر الصاخب, الممتلئ بالخلافات الدينية, والنزاعات العنصرية الحديثة _ طريقاً وسطاً بين الحداثة بلا أساس (1), والتطرف بلا عصرية, وبلا نقد ذاتي , وبلا تسامح, ولا استعداد للحوار والمناقشة. طريق وسط بين التحرر والانغلاق, بين التنبلة والنشاط.
5 _ التأثير المزدوج للدين
ولكن مهما يكن مصير التطرف, فمن المؤكد أن الجانب الديني كثيراً, بل غالباً, ما يلعب
دوراً هامّاً في أي نزاع بين الشعوب, أو الأجناس المختلفة, فالدين _ باعتباره ظاهرة إنسانية _ له تأثير مزدوج, تماماً مثل الموسيقى, والفن, اللذين أسيء, ومازال يساء
(1) أي الحداثة التي أقامت قطيعة مع الموروث, فأصبحت بناء لا أساس له من الموروث. (م ع).
استخدامهما بشدة. ذلك أن الأديان هي أيضاً أنظمة حكم وقوة, تحرص على توطيد دعائم الاستقرار, وتوسيع مناطق نفوذها. والأديان باستطاعتها أن تشعل الحروب, ولكن يمكنها أيضاً أن تقيم السلام, فالدين من الممكن أن يكون عامل إثارة وتهييج, أن يسبب الحروب, ويضرم نيرانها, ويطيل أمدها, ولكن الدين يستطيع أيضاً أن يمنع اندلاع الحروب, ويقصر من وقتها إن اندلعت.
فالسلام بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا قد وضع أساسه مسيحيون ( وكاثوليك ) متدينون: شارل ديجول, وكونراد اديناور, وروبرت شومان, والسيد دي جاسبيري.
كذلك فقد مهدت مذكرة من الكنيسة البروتستانتية الطريق أمام السلام بين بولندا وألمانيا, والثورات السلمية في بولندا, وألمانيا الشرقية, وتشيكوسلوفاكيا, وأيضاً في جنوب أفريقيا والفلبين, قد أثبتت أن الدين يمكن أن يلعب دوراً مؤثراً في تثبيت دعائم السلام في العالم.
وباعتباري من رجال الدين المسيحي, فإني مقتنع تمام الاقتناع بأن الإسلام أيضاً يمكن أن يساهم بدور فعال في نشر السلام في العالم, إذا استغل ما لديه من فاعلية ومقدرة على توطيد السلام, وذلك من خلال تراثه الديني العظيم.
-------------------------
المصدر : " الإسلام في عيون غربية "
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة