مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

المؤسسات الاسلامية في الغرب
مكتبة الغازي خسرو بك.. ذاكرة المسلمين في البوسنة


مكتبة الغازي خسرو بك من أقدم المكتبات العامة في منطقة البلقان، تأسست سنة 1537م، عرفت ازدهاراً وإشعاعاً وتوسعاً، كما شهدت أحداثاً جساماً كادت تبقيها أثراً بعد عين، وماضياً مجهولاً بعد سالف العظمة، من تلك الأحداث العدوان الذي شنه النمساويون على سراييفو وتضررت من جرائه المكتبة أيما ضرر في سنة 1697م، عندما حاول النمساويون حرقها، كما تعرضت المكتبة لعملية نهب وسرقة منظمة لكنوزها في العهد النمساوي منذ سنة 1878 وحتى 1919م، وقد سرقت بعض المخطوطات وهي الآن في بريطانيا، والنمسا، وفرنسا، وكما نهب الاستعمار ثروات الشعوب فقد سرق الاستعمار ذاكرة الشعوب، واستمرت عمليات السرقة والنهب والإتلاف في عهد المملكة الصربية ثم الدولة اليوغسلافية 1945 _ 1990م، وخلال العدوان الصربي على البوسنة والهرسك وخاصة سراييفو 1992 _ 1995م، تعرضت المكتبة لنكبة كبرى، فقد وجه الصرب فوهات مدافعهم نحو المكتبة التي تمثل الذاكرة الثقافية للمسلمين في البوسنة والهرسك، وإحدى أهم ركائز هويتهم، في ذلك العدوان أحرقت 3000 مخطوطة، ولولا رعاية الله لأتت النيران على كل المخطوطات الموجودة بالمكتبة، حيث تمكن المسلمون بعون الله من إنقاذ 10,000 مخطوطة هي الآن في مكان أمين ووضع يتحسن يوماً بعد يوم.
حول مكتبة الغازي خسرو بك، وبمناسبة صدور المجلد الثامن لفهرسة المخطوطات فيها التقت مجلة المجتمع الكويتية عن قصة المكتبة والمراحل التاريخية التي مرت بها، وآخر ما وصلت إليه من مراحل إعادة البناء والتأهيل المتجدد.
*صدر مؤخراً المجلد الثامن لفهرسة المخطوطات بمكتبة الغازي خسرو بك... كيف تم هذا الإنجاز؟
أصدرنا قبل العدوان الصربي ثلاثة مجلدات: الأول سنة 1963م والثاني سنة 1971م والثالث سنة 1991م، أي قبل بداية العدوان الذي كان في أبريل سنة 1992م، وبعد توقف القتال، شرعنا في نشاطات عدة لحفظ المخطوطات وصيانتها بطرق عصرية، وقد تم حتى الآن إصدار خمسة مجلدات بعد توقف القتال، أي لدينا الآن ثمانية مجلدات اخرها كان في نهاية العام الماضي 2000م.
*هل انهيتم فهرسة مختلف المخطوطات بالمكتبة؟
كلا، في المكتبة عشرة آلاف مخطوطة، وكل ما قمنا به هو فهرسة 5200 مخطوطة، والعمل مستمر ومتواصل بكل نشاط ونحن بصدد طبع المجلد التاسع.
*ما أهمية هذه المخطوطات؟
أهمية المخطوطات تكمن في محورين، الأول كونها تراثاً إسلامياً عالمياً، فلدينا مخطوطات من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، سواء التي جلبها الأتراك من العالم الإسلامي إبان الخلافة العثمانية أو تلك التي أوقفها العلماء وطلبة العلم من البوسنيين أو من المسلمين الذين كانوا يزورون البوسنة والهرسك في العهد العثماني وما بعده، فقد كان الطلبة البوسنيون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وخاصة في اسطنبول، ينسخون المخطوطات ويأتون بها إلى البوسنة وهي من مختلف صنوف المعرفة، وبعض المخطوطات وصلت إلى البوسنة عن طريق الحجاج الذين يذهبون لأداء المناسك ويمرون بأقطار إسلامية شتى وكان بعضهم يهتم كثيراً بالمخطوطات ويقتني منها ما وسعه الأمر، من وقت ومال وبضاعة، وكان للتجار دور في جلب الكتاب الإسلامي للبوسنة والهرسك، فالأهمية الأولى تاريخية، تراثية، ترمز للوحدة الثقافية بين المسلمين من حيث أزمنتهم وأماكنهم. والأهمية الثانية هي أن الشعوب التي لها حظ في المستقبل هي التي تحتفل بذاكرتها الثقافية.
حفاظنا واهتمامنا بالمخطوطات التي لدينا أمر يشعرنا بالانتماء وخاصة أن جزءاً كبيراً من المخطوطات الإسلامية لأجدادنا من البوسنة والهرسك، وهي باللغات البوسنية والعربية والفارسية والتركية.
*قلت إن في المكتبة مخطوطات قديمة جداً، ما أقدم مخطوطة لديكم في المكتبة؟
تعود بعض المخطوطات للقرن الرابع والخامس الهجريين وهي كنوز عظيمة لم تكتشف بعد في عالم النشر، ولدينا مخطوطات من مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مشرقه ومغربه، ولدينا المخطوطات القديمة والجديدة.
*هل هناك إقبال على تحقيق المخطوطات سواء من داخل البوسنة أو خارجها، من العالم الإسلامي أو غيره؟
نعم أساتذة الجامعة وخاصة من كلية الدراسات الإسلامية، ومن كلية الاستشراق واللغات الشرقية، وكلية الفلسفة في سراييفو، ومن معاهد مختلفة في البوسنة، ومن بعض الكليات بيوغسلافيا السابقة، يأتون للمكتبة لتحقيق بعض المخطوطات والقيام بدراسات مختلفة منها ما هو لنيل درجات الماجستير والدكتوراه، والإقبال يزداد يوماً بعد يوم ولا سيما من قِبل أساتذة وطلبة كلية الدراسات العليا بسراييفو، كما جاء بعض الباحثين من دول مختلفة من العالم ومنهم غير مسلمين، يبحثون عن المخطوطات النادرة والتي لا توجد لها نظائر في مكتبات أخرى، وفي أثناء الحرب قَدِمَ باحث أمريكي وقام بتصوير أحد المخطوطات في التفسير وقام بإرسال نسخة من التحقيق للمكتبة.
*هل هناك إقبال عربي على تحقيق المخطوطات الموجودة في المكتبة؟
نعم، هناك باحثون عرب، وفي السنة الماضية كان لنا اتصال بوزارة التربية بالكويت قسم المكتبات الإسلامية، وزودناهم بصور من المخطوطات في مادة الفقه حسب طلبهم في ذلك الحين، كما زارنا باحثون وأساتذة من المملكة العربية السعودية، وقاموا بتصوير بعض المخطوطات وأخذوها معهم وأتتنا طلبات من السعودية عن طريق الهيئة العليا لجمع التبرعات، كما جاءتنا طلبات من الأردن ومصر وحتى من الكيان اليهودي في فلسطين.
*من اليهود! ماذا طلبوا منكم؟
نعم من اليهود، طلبوا المخطوطات التي تعني بالتجويد، ومخارج الحروف، وكان الطلب وارداً من الجامعة العبرية ببيرزيت.
*لماذا ؟
ربما للاستفادة منها في تدريس كتبهم، أو لغتهم أو لشيء في نفس يهود.
*كيف استطعتم الحفاظ على هذا الكم الهائل من المخطوطات كل هذه السنوات، وكيف كان وضعها أثناء الحرب؟
أنتم تعرفون أن الصرب أحرقوا المكتبة الوطنية في سراييفو سنة 1992م ومكتبة لمعهد الاستشراق، حيث أحرق الصرب أكثر من خمسة آلاف مخطوطة كلها ضاعت، وفي المكتبة الوطنية أحرقوا أكثر من مليون كتاب لكن في مكتبة الغازي خسرو بك كان الوضع مختلفاً نسبياً، رغم التلف والحرق الذي أصاب جزءاً من ذلك، ففي أبريل سنة 1992م نقلنا المخطوطات من المبنى القديم، ثم نقلنا الكتب، ثم تكررت عملية النقل من مكان إلى آخر ثماني مرات، ولم يكن أثناء الحرب أي مكان في مأمن من القذائف الصربية، وخاصة أن هناك صرباً داخل المدينة كنا ننقل المخطوطات من مكان لآخر كل ستة أشهر تقريباً وبذلك حافظنا على عشرة آلاف مخطوطة.
*ما سر معاداة الصرب للتراث وخاصة المخطوطات الإسلامية؟
لا أستطيع أن أفهم تحديداً ماذا كانوا يفكرون به ولكني أعلم أنهم كانوا يستهدفون كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين، حتى شواهد القبور طمسوها، وإذا كانت القبور هدفاً فهل تتصور أن كنوز المعرفة ورموز الهوية الحية كالمخطوطات والكتب ستكون في منأى من العدوان، خاصة وهو يستهدف اقتلاع المسلمين وجوداً ديمجرافيا ودينياً وثقافياً ومسح آثار كل ذلك، فالمخطوطات دليل على وجودنا في هذه الأرض منذ قرون وهذا لا يخدم أهدافهم العدوانية، فهم يزيفون التاريخ عن قصد عندما يعلنون أننا أتراك، فهل كنا أتراكاً كفاراً ثم أسلمنا في البوسنة سنة 1463، أم كنا بوشناقاً بوغمليين فلما قَدِمَ الأتراك دخلنا في الإسلام أفواجاً، كما دخلت في الإسلام أعداد كبيرة من الصرب والكروات، بل إن الإسلام دخل البوسنة قبل الأتراك ولكن العدد كان قليلاً، والبوغميلية كانت ديانة تؤمن بأن عيسى رسول الله، وكانت تطلق على أجراس الكنائس نواقيس الشيطان، وكان البوغميل يتعرضون لحملات عسكرية عاتية من قِبَل الأرثوذكس والكاثوليك لحملهم على اعتناق إحدى العقيدتين، فهما ليسا مذهبين وإنما عقيدتان مختلفتان، ولا يلتقيان إلا في إشراك عيسى في الألوهية بطرق غير متطابقة، فلما جاء الإسلام كان الأقرب إلى فطرتهم، وهذا أغاظ الأرثوذكس والكاثوليك ليوم الناس هذا، فيطلقون علينا لقب الأتراك والأغراب، رغم أننا جميعاً قدمنا للمنطقة في القرن التاسع الميلادي أي قبل مجيء الأتراك للبلقان بستة قرون تقريباً.
*عودة لموضوع المكتبة والصعوبات التي واجهتموها أثناء نقل المخطوطات من مكان لآخر ثماني مرات كما ذكرتكم؟
الصعوبات التي واجهناها كثيرة وكبيرة وخطيرة، فأثناء نقل الكتب والمخطوطات من مكان لآخر اضطررنا للمرور أحياناً بالقرب من خطوط النار وفي مرة كنا على مسافة مائتي متر من خنادق العدو، وكنت أثناء الحرب أسكن في منطقة كوبلا غلاوة (10 كلم عن وسط سراييفو) كنت آتي للعمل مشياً على الأقدام يومياً وبعض العاملين في المكتبة كانوا يقطعون أضعاف تلك المسافة لأنهم خارج سراييفو، ولم تكن هناك مواصلات ولم يكن هناك وقود للسيارات مما اضطر عدداً من العاملين لترك العمل ولم يبق سوى اثنين من المساعدين معي، ولم تكن هناك أماكن آمنة، والمهجرون قدموا بأعداد كبيرة لسراييفو، وطيلة فترة الحصار التي تعرضت لها سراييفو التي تجاوزت الألف يوم كان القصف العشوائي يأتي على مختلف المناطق، وبسبب ذلك كنا نتحين فرصة الهدوء النسبي، لنقل الكتب والمخطوطات من مكان لآخر على ظهورنا ولمسافات طويلة جداً، فكما قلت بدون أي وسائل نقل، وكنا مشفقين على الكتب والمخطوطات، فكل صباح نسرح للاطمئنان عليها من القصف ومن الحرق.
*يبدو أنكم الآن مطمئنون على وضع المكتبة، وهي الآن بحالة جيدة، كما يبدو، فماذا عن راهن المكتبة ومستقبلها؟
لقد قمنا بترميم المكان بمساعدة البنك الإسلامي للتنمية بعد زيارة الدكتور أحمد محمد علي لسراييفو، فهو شاهد الكتب والمخطوطات مكدسة على الأرض، فساءه ذلك، ووعدنا بالمساعدة وهو ما تم بعد شهرين من تاريخ الزيارة، والآن بحمد الله لدينا أجهزة الحاسوب المتطور، وعن طريقها تقع عملية فهرسة المخطوطات، التي توفر لها مكان مناسب ولائق للحفاظ عليها وفق المعايير العلمية المعروفة في العالم سواء فيما يتعلق بالرطوبة أو الحرارة، وإذا كان الحاضر واعداً فبدون شك، فإن المستقبل سيكون زاهراً بإذن الله تعالى.
*مما تتكون المكتبة؟
في هذا المبنى الذي هو من أملاك الأوقاف كانت هناك بعض المؤسسات الوطنية في فترة الحرب، وبعد توقف القتال أصبح المبنى فارغاً، فقد خرجت المؤسسات ومن بينها مؤسسة الجيش، فقد كانت إحدى كتائب الجيش وتدعى الفتح هنا أثناء الحرب، أما المكتبة فهي إلى جانب جناح المخطوطات، وعددها عشرة آلاف مخطوطة هناك 20 ألف عنوان تقريباً، ولدينا أرشيف الوثائق التاريخية المتعلقة بالفترة العثمانية في البوسنة والهرسك، وعدد الوثائق تقريباً 5 آلاف، ولدينا مجموعة الوقفيات وعددها 1400 وثيقة ومجموعة سجلات المحكمة الشرعية بسراييفو وعددها 86 سجلاً، وهذا ما يخص الأرشيف وهناك بعض الكتب التاريخية وعندنا مجموعة من المطبوعات باللغات الإسلامية، وأكثرها العربية وهي السمة الغالبة على مخطوطات المكتبة، وهي من مختلف العصور، أما التركية فهي محدودة بحدود زمن الخلافة وهي في التاريخ والأدب، أما الفارسية فهي في مجال الأدب الكلاسيكي وخاصة دواوين الشعر، ولدينا مجموعة المجلات والجرائد البوسنية كاملة وهي تعود إلى القرن الثامن عشر، ولم تتوقف إلى اليوم، فلدينا أرشيف كامل منها يحتوي على كم هائل من الجرائد والمجلات البوسنية التي كانت تكتب بالحروف العربية، ثم بعد الاحتلال النمساوي كتبت بالحروف اللاتينية وبعد الحرب العالمية الأولى وخروج النمسا، خضعت البوسنة والهرسك للحكم الصربي، فدخلت الحروف البيزنطية إلى جانب اللاتينية، ولدينا أيضاً مخطوطات بالإنجليزية والفرنسية، ومجموعات من الصور القديمة جداً والنقود والطوابع والبطاقات البريدية القديمة، إضافة للوحات الزيتية القديمة، كما يوجد بالمكتبة جناح للخرائط القديمة وجغرافية العالم السياسية والديمجرافية في عصر الإمبراطوريات العظمى.
*وماذا عن إدارة المكتبة؟
المكتبة من المعالم الإسلامية التابعة للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك التي تقدم رواتب الموظفين الخمسة عشر، وتدفع مصاريف المكتبة.
-------------------------------------
المصدر : مجلة "المجتمع" 15/9/2001
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة