مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

نقطة التحول عند المثقفين العرب في النظرة للغرب والاستشراق
د0محسن جاسم الموسوي


منذ أن ظهرت مقالة انور عبد الملك " الاستشراق في أزمة " في مجلة Diogenes عام 1963 والدارسون العرب داخل الوطن وخارجه يكثرون من دراسة الاستشراق والمستشرقين , متلمسين ما أضافوه الى حقول المعرفة بالحضارة العربية الاسلامية , معترفين بمنجزات بعضهم ومعترضين على مداخل الاخرين وسبل المناقشة والاستنتاج لديهم متوصلين الى قناعات تتفاوت في دقتها ولكنها تفصح عن اهتمام متصل جاد بالثقافة العربية الاسلامية ومصادرها وسمات الافادة منها حاضراً داخل الوطن وخارجه , في المحيط الاسلامي المباشر أو في الساحة العالمية الأوسع0 ورغم ان المقالة لا تعني ضرورة البدء بمناقشة الجهد الاستشراقي بمواصفاته الايجابية او السلبية بين المثقفين العرب وغيرهم من الدارسين المسلمين , الا انها ذات اهمية خاصة بحكم ما تنطلق منه من وعي موضوعي للظروف السياسية والثقافية وتغيرات العلاقة بين قوى القارات الثلاث والقوى الغربية المتنفذة سواء كانت أوربية أم أمريكية وبين هذه وبين الاتحاد السوفيتي سابقاً والدول الاشتراكية وغيرها , ولهذا كانت المقالة تنبئ ضمناً بما يعلنه لاحقاً مؤتمر المستشرقين التاسع والعشرين المنعقد في باريس تموز 1973 عن موت الاستشراق وحلول ( العلوم الانسانية ) المعنية بالشرق بديلة , رغم ان هذا الموت يعني ضمناً ولادة الاهتمام مجدداً مختلفاً في تاكيداته وحقوله مولياً ظهره لنصوص التراث وبعدما قيل ما قيل بشأن الثقافة الاسلامية أصبحت بعض مقولات الدارسين الغربيين وكأنها ثوابت لا محيص عنها تأي البحوث التالية منطلقة منها لا خارجةعليها , كما يعني هذا الموت تزايد الاهتمام بكل آسيا وافريقيا وبضمنها ما سمي بالحاح بالشرق الاوسط او الادنى000الخ0
ولم يكن مستغرباً , في ضوء تحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية وانبعاث حركة القومية العربية باتجاهاتها الجديدة , ان يجري التأكيد على (العلوم الانسانية في أسيا وافريقيا الشمالية ) كما لم يكن مستبعداً ان تجري مطالعة الجهد الاستشراقي , بما له وما عليه , لا من أجل محاكمته بل بقصد الافاده من مزاياه من جانب وتشخيص مثالبه من جانب اخر في سياق السعي الجاد لتلمس آثار هذا الجهد في صياغة الافكار الدارجة عن المنطقة العربية وانعكاساتها في السياسات ازاء الواقع الراهن 0 وهذا ما لا يمكن ان يتحقق دونما معرفة أدق بالذا ت اولاً وبطبيعة مكونات الواقع العربي الاسلامي وامتداداته الفعلية لا المتصورة في ماضيه وأصوله0 ولم يكن هذا الفحص والتمحيص ممكناً ايضاً دون وعي بعلاقة هذه المنطقة بخارجها , وهو ما سعى اليه منذ مطلع الستينات عدد من المفكرين العرب , أفادوا من حرية الحوار والجدل التي توفرت أمامهم عند دراسة الجهد الاستشراقي , ساعين نحو منهجية أدق ومعرفة أوسع بأساليب الدراسة الحديثة , متمكنين في أحسن الحالات من الخلاص من الاسقاط (الايديولوجي) أو الفكري الذي ينتجه غنى اللغة او اكتنازها بما يعني تغييب الواقع ومطابقته مع المتصور , مفيدين في مثل هذه الحالة من سبل الجدل المعرفي التي تعيد تفكيك النصوص , وبالتالي تفكيك الواقع الذي طرح كأنه مجموعة ثوابت , نحو معرفة شبيهة بتلك الآخذة بالتكون عن غيرنا من المجتمعات القديمة والحديثة0 وهؤلاء هم الذين تعنى بهم هذه الدراسة دون ان تقول عن أفتراضاتهم أنها نهائية , بل تريد أن توصل للقارئ احاطه بما تعده منطلقاً صحيحاً قابلاً للنمو منهجاً ومعلومات0
ولهذا السبب يمكن أن تعد مقالة أنور عبد الملك رائدة ليس لكونها قد أثارت اهتمام كتاب لاحقين من العرب وغيرهم ناقشوا الاستشراق ومروا بها متفقين او معارضين حسب, بل لأنها في حدود المنظور المتكافئ الذي أخذ بالتكون داخل الفكر العربي في مطلع الستينات حملت بذرة النزاع المعرفي في الاستشراق, رغم ان هذه البذرة ظهرت متفاوتة في قوتها ونموها منذ منتصف القرن الماضي0 لكن النزاع المقصود هو المنطلق من الحس بالتكافؤ نهجاً ومادة وليس من الاختلاف الديني او العرقي, ذلك لأن الاخير قائم منذ ان ظهر الاسلام والثقافة العربية الاسلامية واسعاً ومؤثراً ومواجهاً للثقافات الاخرى ومنذ ان توجهت جهود الكنيسة ضدهماتمهيداً للحروب الصليبية وما تلاها0 اما النزاع المعرفي والذي ميدانه الفكر وأداوته فإنه ينعكس بشكل أو باخر على ساحة الصراع السياسي وعلى امكانية ادارة هذا الصراع, ولهذا لم يكن عبثاً ان تتميز العقود الاخيرة بظهور الكتابة السياسية والميدانية والاجتماعية والاقتصادية عن المنطقة بغزارة لا تفهم دونما معرفة بمتغيرات السياسة الدولية0 كما لم يكن عبثاً أن تتكرر الاهتمامات او تزدوج بين الثقافة والسياسة والفكر لدرجة ان (مستشرق) العهد القديم او المرحلة التقليدية, ورجل العلاقات في الشعبة المختصة بالدائرة الاستعمارية, يترك اليوم مكانته امام المستشار او الدارس المختص الذي يبني استنتاجاته في طرائق التفاوض والعلاقة وتفجير الاوضاع او تهدئتها على ما قدمه السلف له من ثوابت وهي ثوابت تجمع حصيلتها من فقه اللغة الى دراسة الشخصية, ومن الأمثال الى الشرائع والتقاليد ,ومن معايشة النصوص العربية الى الاستئناس باراء الاخرين والتنصت اليهم, كما فعل دارسون متميزون من أمثال انتوني نتنغ0 ويقابل هؤلاء أيضاً عدد من الدارسين العرب الذين يجمعون الاهتمام السياسي بالثقافي ويرون انهم أصحاب مهمة في صياغة مستقبل بلادهم حتى عندما ترفض السلطات منحهم هذه المكانة0 ولا يعني هذا التقابل الاختلاف في كل شئ لكنه يعني تكافؤ الاهتمام والمعرفة, كما يعني ضمناً من الجانب من الجانب العربي الاسلامي عودة المثقف مؤثراً في تكوين الرأي العام ورأب الصدع بين العامة والخاصة من خلال متغيرات حتمها واقع الصدام النفسي والسياسي والاقتصادي مع الغرب, وهو صدام أضطرت فيه العامة الى الاستعانة بالمكونات الاساسية الجمعية لمواجهة الاهانة والتحقير والعدوان من خلال الرد السياسي (كما حصل في 56و67و 73 مثلا) والافادة من سبل التحديث دونما خشية من التغريب المطلق , كما يحصل عند التعامل مع التعليم ووسائل الاتصال أيضاً في الساحة العربية0
لكن مرحلة العقود الأخيرة تعني أيضاً ظهور نماذج الدارسين الامريكان والاوربيين المختلفين أتجاهاً ومعرفة, تماماً كما هو شأن الدراسين العرب والمسلمين, وكذلك الدارسين السوفييت واليابانيين000الخ0 اذ ان ساحة الاهتمام وجدت متنفسها الأوسع في سوح الاتصالات والنشر , وهكذا تكتسب المعرفة حريتها وقيودها في آن واحد من خلال لعبة تدفق المعلومات حسب القوى المتحكمة والمؤثرة رغم ان الانسانية تمتلك قدرة خاصة على تمييز الجوهر من الركام والطيب من الخبيث هو السائد, مجسداً في الأكاذيب والالاعيب ومجازر الموت والهلاك التي تدبر يومياً لضمان تنفيذ فكرة تتيح حماية قوة ما في المنطقة العربية وعلى حسابها, هو ما تشهده العقود الاخيرة أيضاً0 وبينما لا تعني الكتابات الغثة الطافية على السطح والخادمة للمصالح اللاانسانية العقول المثقفة والنيرة, فإت الكتابات صاحبة القضية, مختلفة او مؤتلفة, هي التي تهمنا في تكوين رؤية واضحة حول أتجاهات الدراسة والمعرفة 0 واذا كان أدوارد سعيد قد ذكر عشرات الاسماء التي ميزها من غيرها, من امثال ريمون شواب وشافر وكيرنان و نورمان دانيال و سندرسن, وذكر نديم البطار اسماء آخرين معنيين بالدراسات الانسانية عامة من ملاحظي ازمة الضمير او الذهن الغربي, فإن واقع الحال منذ عقود يؤكد عودة الاتجاه الأنساني ثانية في الفكر العالمي في الرد على النزعات النفعية التي قادت الفكر الى الحضيض محيلة أياه الى هوامش في خدمة المصالح الاحتكارية 00وهذه العودة الانسانية مهمة هي الاخرى عندما نريد دراسة المرحلة الجديدة في تعاملات المفكرين والمثقفين العرب مع حركة الاستشراق بمراحلها السابقة وماتلاها0 اذ مهما تمايزت اتجاهات الدراسة عند هؤلاء وغيرهم ممن وعوا مهمة الكتابة ودور المثقف في هذا العصر, فإنها على الأقل تمضي بعيدة عن الخدمة النفعية والسقوط العنصري0
لكن هذا التمييز بين مستويات الكتابة عن الثقافة العربية الاسلامية وآثارها ينسحب ايضاً , او ينبغي ان ينسحب, على نتاجات المثقفين العرب خلال هذه العقود الثلاثة ايضاً بعدما حتم واقع الحال جدية اكثر في دراسة نتاجات الاخرين وافكارهم, لا بقصد التصويب والاضافة حسب , بل بقصد اداء المهمة اللازمة في ميدان المراجعة الأوسع لمكونات الثقافة العربية الاسلامية واكتشاف نصوصها واعتماد السبل الحديثة في تكوين الرؤية المناسبة ازاءها0 واذ تشمل مراجعنا في دراسة هذه الثقافة اليوم عشرات الدارسين العرب الآن , فان العقود الاخيرة ما فتئت تشهد كتابات مبسطة او اعتيادية تعيد ما قدمه المصلحون والمفكرون في القرن الماضي وفي مطلق القرن العشرين, وهكذا لا يبدو كتاب الشيخ مصطفى السباعي الذي أعده ابنه للنشر مفيداً في دراسة الاستشراق وهو يدحض اصلاً ابرز فرضياته المضادة لحركة الاستشراق, اذ ان الاتهام المطلق ضد المستشرقين دارسين مختصين منهم او مستخدمين للمعلومات لصالح دوائر الخارجية في بلدانهم ليس صائباً , وهو ينهي المجادلة اويمنعها, كما انه يحيلها الى أداة للقمع0 ولم يكن مستغرباً ان نقرأ بعد حين ان المؤلف التقى المستشرق الفلاني فصحح له معلوماته, وعدل في وجهات نظره, بينما جاء بنص آخر الى شخص آخر , فما كان من الآخر الا الاعتراف بخطأه 00الخ0 وبكلمة أخرى فإن الكتابة الاطلاقية لها مثالبها, كما ان تصور الاحكام على انها نهائية له مشكلاته00بينما يبدو سياق كتاب آخر للدكتور السامرائي خاسراً هو الاخر رغم ميل صاحبه لتلمس تاريخ الجانب السياسي في الاستشراق, جراء خضوع المؤلف لاعتقاد مطلق بوجود تيار معاد اسمه (الاستشراق) يحتضن كل من كتب عن الاسلام والعرب0 وهكذا عد (كارلايل) من بين المستشرقين, ولك يعرف علاقته بالفلسفة المتسامية وعلاقات ذلك في حدود تصادم الفلسفة بالمدارس النفعية والوضعية في أوربا في النصف الاول من القرن الماضي0 أما المشكلة الأشد فتتعلق بذلك الميل الانتقادي لدى عدد من المثقفين العرب منذ خاتمة الخمسينات للاسراف في تحليل الذات تحت وطأة المناهج الاجتماعية, خالطين بين أحاسيسهم الاصلاحية وميلها الطبيعي لنقد المجتمع وبين مستلزمات الفصل بين هذه من جانب وبين الوقائع من جانب اخر0 وهكذا أصبحت معالجات سانيا حمادي وحامد عمار وهشام شرابي وصادق جلال العظم وصلاح الدين المنجد وعشرات الاسماء الأخرى مزيجاً من النزوع الاصلاحي والتحليل والاستنتاج الموضوع في خدمة الاحكام المسبقة, والتي سرعان ما لاقت استجابة حسنة لدى أصحاب الافكار المتكونة بشكل ثوابت ازاء المجتمع العربي وآفاته ومشكلاتهو وبينما تبقى بعض افكار الكتاب العرب على قدر من الموضوعية, إلا ان طرائق اخضاع المعلومات غالباً ما أدت الى عزل حس الكاتب بالنقد الذاتي ومهماته عن استنتاجاته, وهي استنتاجات عامة ومطلقة في أغلب الاحيان تؤيد نزعات متأسسة في الفكر السياسي المعاصر ازاء المنطقة العربية0 واذ ترتسم أمام المصلح حالة المجتمع العربي والعائلة في أشد مواصفاتها تخلفاً تندرج وصفات متلاحقة للوضع الاجتماعي على انه عشائري , اتكالي, متهرب, غير واقعي وغيبي0 واذ ينقطع التقييم عن ظرف التخلف والركود قبيل اشتعال فتيل الاحتراب, فإن هناك عشرات الامثلة والوقائع التي تسنده وتوهم الآخر بأنه حقيقة ثابتة0 وما يتكررر عند الدارس العربي أو زميله الاجنبي في مثل هذه الحالة عبارة عن حلقة متبادلة تتم داخلها الاحالة والاضافة والاعلان , لكنها حلقة شريرة لسوء الحظ عندما تصبح مادتها سبيلاً الى تقييم شعب او منطقة والتصرف نحوهما0 رغم ان النقد الذاتي هو السبيل الاول للاصلاح الا انه عند المبالغة والتعمييم وقصر النظر يتحول الى عقاب محزن يستهوي الآخرين ضرورة لكنه قلما يكون نافعاً0
---------------------------
المصدر:الاستشراق في الفكر العربي
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة