موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علم الحديث

د. صبحي الصالح
حول تدوين الحديث

لن نغلو في وصف العرب ـ قبيل الإسلام ـ بجهل الكتابة وعدم التمرس بها، لندرة أدواتها المتيسرة لديهم وتعويلهم على الذاكرة في حفظ آثارهم ورواية آدابهم، فمما لا ريب فيه أن شمال الجزيرة العربية عرف الكتابة والقراءة، وأن مكة بمركزها التجاري الممتاز شهدت من القارئين الكاتبين قبيل البعثة اكثرَ مما شهدت المدينة؛ وإنا لنستبعد ألاّ يكون في ذلك الحين بمكة ـ كما جاء في بعض الأخبار ـ "إلا بضعة عشر رجلاً عشر يقرؤون ويكتبون" لأن هذه الأخبار إذا صحت أسانيدها لا تبلغ أن تكون إحصاء دقيقاً أو استقراء شاملاً، فما فيها إلا دلالة ظنية غامضة لا يحسن مع مثلها القطعُ في هذا الموضوع الخطير،غير أننا لا نملك من الحجج والبراهين، العقلية والنقلية، ما نؤكد به الكاتبين في تلك الفترة من حياة العرب؛ ولا شيء يدعونا إلى الغلوّ في أمر الكتابة واعتقاد كثرتها في شبه الجزيرة العربية إلا أن يصيبنا من الجهالة العمياء ما يغرينا باتباع المستشرقين الذين يزعمون أن وصف العرب "بالأميين" في القرآن لا ينافي معرفتهم القراءة والكتابة، فما الأمي عندهم إلا الذي يجهل الشريعة الإلهية، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم "أمياً" إلا لأنه نبيّ هؤلاء "الأميين" الوثنيين "الذين لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم".
والواقع أن هذا الربط المضطرب بين "الأمي" عندما يوصف به النبي عليه السلام وبين "الأميين" وصفاً للعرب، ليس من المنطق في شيء، لأنه تجزئة لا مسوغ لها في أصل اللغة ولا وحي السياق للفظ قرآني واحد ينبغي تفسيره بمعنى واحد لا بمعنيين متباينين: فأما أن يكون الأمي هو الذي يجهل الشريعة الإلهية، أو هو الذي يجهل القراءة والكتابة؛ ومن هنا يكبر خطـأ المفسرين الذين أولوا "الأميين" العرب بجَهَلة الشريعة الإلهية على حين أولّوا النبيّ "الأمي" بالذي لا يعرف القراءة والكتابة. أما خطأ المستشرقين فمركب مضاعف، لأنهم عولّوا فيه على ضعيف شطروه شطرين، ثم آمنوا ببعضه وكفروا ببعض وجاؤوا على الأثر برأيهم الصبياني: فأمَّا العرب ـ بزعمهم ـ فهم أميون لجهلهم الشريعة الإلهية، وأما النبي فأميّ نسبةً إلى هؤلاء الجاهلين، لتعليمه إياهم شريعة الله، فهو نبي هؤلاء الجاهلين، أو نبيّ هؤلاء الأميين!
فهل بعد هذين التفسيرين من تناقض!
إنما ينقذنا من هذا الهذيان وضوحُ النص القرآني، فهو أصرح من أن يؤول، ولفظ "الأمي" فيه سواء أكان وصفاً للعرب أم للنبي صلوات الله عليه لاَ يعْني إلا الذي يجهل القراءة والكتابة، وهو ما فهمه جمهور المفسرين وما عليه علماء الأمة إلى يومنا هذا. وحينئذ لا يكون في وصف العرب "بالأميين" غلوّ في جهلهم الكتابة، إذ الأمية بهذا المعنى كانت غالبة على كثرتهم، وإنما يكون الغلوّ يقيناً في ادعاء كثرة الكتابة وأدواتها بين العرب، وفي الزعم القائل أنهم لم يجهلوا الكتابة بل جهلوا شريعة الله، لأن أحداً من الباحثين لم يأت ببرهان على هذا الرأي العقيم.
أسباب قلة الكتابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
وأيّاً ما تكن معرفة العرب للكتابة قبيل الإسلام، فأن الكاتبين كانوا أكثر عدداً في مكة منهم في المدينة، يشهد لذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأسرى "بدر" المكيين بأن يَفْدي كل كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة. وحسبنا أن كَتَبَةَ الوحي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم أربعين رجلاً، وأن كثيراً منهم كانوا مكيين، وهم الذين كتبوا القسم المكي من القرآن قبل هجرته عليه السلام إلى المدينة. بيد أن المسلمين ما كادوا يستقرون في المدينة حتى بُدّلت الحال غير الحال، فكثر فيهم الكاتبون مذْ أنشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده صُفّةً كان الكاتب المحسن عبد الله بن سعيد ابن العاص يعلّم فيها الراغبين الكتابة والخط.
وأكبر الظن أن المساجد التسعة التي كانت بالمدينة على عهد رسول الله عليه السلام اتخذت مدارس لنشر العلم، يزيدنا اعتقاداً بهذا أن رسول الله كان يأمر الصبيان أن يتدارسوا في مسجد حيهم. ومن المعلوم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر في السنة الأولى للهجرة بإحصاء المسلمين في المدينة رجالاً وأطفالاً، ذكراناً وإناثاً، ورواية البخاري في (باب كتابة الإمام للناس) من صحيحه صريحة في أن الإحصاء كتب ودُوّن: فقد قال عليه السلام: " اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفاً وخمس مئة رجل".
فإذا رأينا ـ بعد ذلك ـ أن تعويل الصحابة في حفظ الحديث إنما كان على الاستظهار في الصدور لا على الكتابة في السطور، صار لزاماً علينا أن نلتمس لتعليل ذلك غيرَ الأسباب التقليدية التي يشير إليها الباحثون عادةً كلما عرضوا لهذا الموضوع: فما نستطيع أن نتابعهم فيما يزعمونه من أن قلة التدوين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعود بالدرجة الأولى إلى ندرة وسائل الكتابة، لأنها لم تَكُ قليلة إلى هذا الحد الذي يبالَغ فيه. وهي ـ على كل حال ـ قلة نسبية قد تكون أحد العوامل في إهمال تدوين الحديث، ولكنها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الأدوات صحابةَ الرسول من تجشم المشاق وركوب الصعاب في كتابة القرآن كله في اللخاف والعُسُب والأكتاف والأقتاب وقطع الأديم.ولو أن بواعثهم النفسية على تدوين الحديث كانت تضارع بواعثهم على كتابة القرآن حماسةً وقوة لاصطنعوا الوسائل لذلك ولم يتركوا سبيلاً إلا سلكوها؛ بيد أنهم ـ من تلقاء أنفسهم وبتوجيه من نبيهم ـ نهجوا في جمع الحديث منهجاً يختلف كثيراً عن طريقتهم في جمع القرآن.
كانوا من تلقاء أنفسهم منصرفين إلى تلقي القرآن، مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جُلّ أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم، وحديث رسول الله حينئذ أكثر من أن يحصوه، فله في كل حادثة قول، وفي كل استفتاء توضيح، وفي كثر من الوحي القرآني تبيان وتفسير، فأنَّى للكَتَبَة منهم الوقتُ لمتابعة الرسول عليه السلام في كتابة جميع ما يقوله أو يعمله أو يقرّ الناس عليه! وإذا اندفع الكاتبين إلى تقييد جميع ما سمعه ورآه من النبي العظيم، فهل يمكن أن يتماثلوا كلهم في هذا الاندفاع بحيث لا يفوت أحداً منهم شيء؟
إن الأقرب إلى المنطق والصواب أن أفراداً منهم وجدوا من البواعث النفسية ما حملهم على العناية بكتابة أكثر ما سمعوه ـ وربما كل ما سمعوه ـ وأقرهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُمِنَ التباسُ السنة بالقرآن، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب لكنه مشغول بالقرآن شغلاً لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أمي يحفظ من القرآن والحديث ما تيسر له في صدره، وهو ما كان عليه أكثر الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره.
وانصراف الصحابة إلى القرآن جمعاً له في الصدور والسطور، واشتغالهم به عن كل شيء سواه، كان جزءاً من التوجيه النبوي الحكيم لهؤلاء التلامذة الخالدين من الأميين والكاتبين: وهو توجيه متدرج مع الحياة والأحياء، متطور مع الأحداث التي تعاقبت على المجتمع الإسلامي، فما كان لهذا التوجيه أن يجمد على صورة واحدة، بل رُوعي فيه الزمان، ورُعيت الأشخاص. فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة الأحاديث أول نزول الوحي مخافة التباس أقواله وشروحه وسيرته بالقرآن، ولا سيما إذا كُتِبَ هذا كله في صحيفة واحدة مع القرآن، وقال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآني فليمحُه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليْتبوأ مقعده من النار"، تم أذن بذلك إذناً عاماً حين أكثر الوحي وحفظه الكثيرون وأمن اختلاطه بسواه فقال عليه السلام "قيدوا العلم بالكتاب"، وحُفظ عنه صلوات الله عليه المنعُ من كتابة أحاديثه بوجه عام، لأن كلامه كان موجهاً إلى عامة أصحابه، وفيهم الثقة والأوثق، والصالح والأصلح، والضابط والأشد ضبطاً، والحافظ والأمتن حفظاً، وأذن في الوقت نفسه لبعض أفرادهم إذناً خاصاً، لتظاهر الكتابة الحفظَ إن كانوا ضابطين أو تساعدَهم على زيادة الضبط إن خيف نسيانُهم ولم يوثق بحفظهم، فكان إذنه لهؤلاء وأولئك أشبه بالاستثناء الذي به عليه السلام نفراً من أصحابه لأسباب وجيهة قدّر أهميتها تبعاً للظروف والأشخاص.
والقول بالنسخ في هذا الموضوع ـ أعني القول بنسخ أحاديث الإذن بالكتابة لأحاديث النهي عنها ـ لا يراد منه إلا ما أشرنا إليه من التدرج الحكيم في معالجة هذه القضية البالغة الخطورة. وتخصيص بعض الصحابة بالإذن في وقت النهي العام لا يعارض القول بالنسخ لأن إبطال المنسوخ بالناسخ لا علاقة له ولا تأثير في تخصيص بعض أفراد العام قبل نسخه. وعلى هذا الأساس نجمع بين الآراء والتوجيهات المختلفة التي يخيل إلى الباحث السطحي أنها متضاربة، مع أن التوفيق بينها سهل ميّسر كما رأينا، فالعبرة بما انتهى إليه الموضوع آخر الأمر واستقرت عليه الأمة، وهو اتفاق الكلمة بعد الصدر الأول على جواز كتابه الأحاديث. ولقد قال ابن الصلاح: "ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولو لا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة.
------------------------------------
المصدر: علوم الحديث ومصطلحة

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة علم الحديث