موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

فهمي هويدي
لغز الحل الاسلامي

 

عندما عزلنا الدين عن الحياة، بدت عبارة الحل الاسلامي غريبة على الأسماع والأفئدة. وعندما صرفنا همّ المتدينين إلى عمارة الآخرة، وأغرقناهم في عالم الغيب، فإنهم هجروا عمارة الدنيا، وسقطوا ـ من ثم ـ في عالم الشهادة. ومنذ صار الخطاب الديني موعظة وتنويعاً على النصوص من قرآن وسنة، بات مثيراً لدهشة البعض أن يتحدث الاسلاميون عن التنمية والدعم والمشكلات الحياتية الملحة. إذ يحث هؤلاء عن (نص) يفصل في مسألة بقاء الدعم إلغائه، أو عن إشارة في مصنفات الأقدمين إلى موضوع التنمية، فلما لم يجدوا، احتاروا وتكدروا، وأكثرهم أنكروا!.
هكذا بدا الحل الاسلامي عنواناً سهل الإلقاء والتداول، ممتنعاً عن الفهم والتناول. وصار مهماً وحيوياً، في هذه المرحلة بالذات، أن يفسر العنوان، وأن يجري الحوار حول كيف يكون ذلك الحل، وإلى أين يقودنا؟.. ولئن جرى مثل هذا الحوار في مناسبات عدة، بالأخص عندما أثير موضوع تطبيق الشريعة، وكان لنا إسهام متواضع فيه، إلا أن دائرة التساؤل حول موضوع الحل الاسلامي باتت أوسع بكثير هذه المرة. خصوصاً بعدما حمله الاسلاميون على أكتافهم أثناء المعركة الانتخابية، حتى كان ما كان من صخب وضجيج واعتراض، لا يزال صداه قائماً إلى الآن.
ولسنا بسبيل توجيه الخطاب هنا إلى الناقمين والكائدين، الذين تقف كلمة الاسلامي في حلوقهم، ويصليهم حديثه بالغصة والمرارة والحساسية الزائدة، لكنا نوجه الخطاب إلى من يريد أن يفهم أو يحاورن وإلى من التبس عليه الأمر أو استبدت به الحيرة. ولئن بدا أن الأولين هم أصحاب الصوت العالي، أو المتصدرين لمختلف المنابر، إلا أن الأخيرين هم الأغلبية الساحقة من الناس، الذين ترطب كلمة الاسلام قلوبهم، وتستثير فيهم مدد الخير والعطاء والتأييد، برغم كل حيرة وأي التباس:
نحن معهم في طرح السؤالين: كيف وإلى أين، ليس فقط لأن من حقهم أن يتعرفوا على تصور الاسلاميين للحل الذي يعرضونه، صيغته وحدوده ومجالاته ومنتهاه، ولكن أيضاً لأن الراية الاسلامية حملها آخرون وروجوا لها، ثم أساؤوا إلى دينهم وإلى شعوبهم، فضلاً عن أن هناك تطبيقات وحلولاً إسلامية مطروح في الساحة الآن، ومن حق الناس أن يسألوا عما إذا كان الحل المأمول ينتسب إلى الحل المعمول، وما درجة القرابة أو وجه الشبه بينهما؟!
سنحاول هنا أن نجيب على السؤال: كيف؟ مستهلين الإجابة بإيضاحات ستة هي:
ـ أولاً: أنه ليس هناك شيء واحد اسمه الحل الاسلامي، ولكن هناك حلولاً عديدة تنبع من رؤية الاسلام وتصوره للكون والحياة. وبالتالي فإن الحدود تتعدد بتعدد المشاكل بمعنى أن رؤية الاسلام وموقفه هما العنصر الجامع، أما الحلول المرتكز على هذه الرؤية والنابعة منها فهي غير متناهية، لأن وقائع الحياة غير متناهية بطبيعة الحال.
ـ ثانياً: أن الحل الاسلامي لا يشترط فيه أن يكون مذكوراً في الكتاب والسنة أو في مدونات الفقه وكتب السلف، لكنه يكتسب صفته تلك إذا لم يتعارض مع نص أو قيمة اسلامية، وإذا كان يحقق مصلحة مرجوة لمجتمع المسلمين. في هذا الصدد نستحضر حواراً ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بين ابن عقيل وعدد آخر من الفقهاء، حول السياسة الشرعية. إذ قال أحد الفقهاء أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول (ص) ولا نزل به وحي. ثم أضاف: فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة.
وقد انحاز ابن القيم لرأي ابن عقيل، وانتقد من قال إن السياسة هي فقط ما نطق بها الشرع، حتى اتهمهم بأنهم ضيعوا حقوق الناس وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد. وقال قولته الشهيرة: إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه
ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر.. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. (أعلام الموقعين ج 4 ص 372)
ـ ثالثاً: أنه على تعدد الحلول الاسلامية لمختلف المشكلات، إلا أن هذه الحلول ليست لها صفة الثبات، وإنما هي متغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والعوائد والأحوال. وهذا المبدأ مستقر عند فقهاء الأصول. ومعروفة قصة الإمام الشافعي الذي غير من مذهبه عندما انتقل من العراق واستقر في مصر، حيث اختلفت الأحوال والعوائد، فكان طبيعياً أن تختلف الاجتهادات والأحكام. وغنى عن البيان أن حديث المتغيرات منصرف إلى المعاملات دون العبادات، التي تتسم بالثبات والأصل فيها هو الاتباع، في حين أن الأصل في الأولى هو الابتداع، كما قال بعض الفقهاء.
ـ رابعاً: أن اختلاف الحل الاسلامي عن غيره ليس مطلوباً وليس ضرورياً. إذ ليس مفترضاً أن يكون الحل الاسلامي أمراً فريداً في بابه، ليس مسبوقاً ولا ملحوقاً. فالاسلام جزء من تيار البشرية، والمسلمون ناس من الناس. وإذ حدث واتفقت القيم أو المصالح بين المسلمين وغيرهم، واتفقت الحلول النابعة من تلك القيم أو المنجزة لتلك المصالح، فذلك مما لا ينبغي أن يثير اعتراض المسلمين أو حفيظتهم. إذ الأمر الجامع هو إنجاز مصالح الخلق، حتى قال فقهاء عديدون ـ العز بن عبدالسلام وابن القيم والشاطبي في مقدمتهم ـ بأن كل ما يحقق المصلحة ويقيم العدل والقسط، فهو من السياسة الشرعية يقيناً.
يتصل بذلك أن استبدال الحلول التي لا تصدر نصاً ولا تخدش قيمة اسلامية، يظل أيضاً من حسن السياسة الشرعية، التي تتقصى الحكمة حيث كانت، لتوظفها في خدمة مصلحة الأمة.
ـ خامساً: أنه إذا لم يكن ضرورياً أن يختلف كل حل لأي مشكلة في الواقع الاسلامي عن غيره من الحلول، وإذا كان تماثل الحلول وارداً عند المسلمين وعند غيرهم، فإنه يظل هناك هامش للتميز ينبغي أن يكون ماثلاً في الأذهان، لا يقوم على طبيعة الحل، ولكنه يقوم أساساً على وظيفته ومنتهاه. إذ تقوم فلسفة الحل الاسلامي على ركائز عدة، منها أن الانسان خليفة الله في أرضه، أي أنه يؤدي رسالة في إعمار الكون، يتعبد بها لله سبحانه وتعالى، وإذا كان لها مردودها المقصود في الدنيا، فلها مردودها المرصود في الآخرة.
أياً كان منبع الحل أو مضمونه وعلى فرض تطابق القيم التي ينطلق منها أو يخدمها ذلك الحل، فإن (المصب) في التصور الاسلامي يظل مختلفاً غاية الاختلاف. بمعنى أن الحل الاسلامي تدور فيه الجزئيات حول محور الرسالة وخلافة الله في الأرض المنوطة بالانسان. بحيث تصبح الحركة جزءاً من نظام كلي يقوم على الوصل، بين الدنيا والآخرة، وبين الأرض والسماء، وبين الانسان والله.
ـ سادساً وأخيراً: أن الحل الاسلامي ليس موجهاً إلى السلطة ومؤسساتها وحدها، ولكنه موجه أيضاً إلى كافة المكلفين في مجتمع المسلمين. أعني أن الالتزام بتعاليم الاسلام وقيمه والسير على النهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للناس وبلغه عنه رسوله. ينتظم كافة المسلمين، بقدر ما ينظم مختلف شؤونهم. وإذا كان لنا أن نرتب الأمر حسب أولوياته، فقد نقول إن التزام المسلمين كأفراد بالحل الاسلامي، هو نقطة البدء وهو الأساس في إقامة ذلك الحل على صعيد الدولة أو الأمة.
وربما جاز لنا أن نعرف الحل الاسلامي ـ من الناحية النظرية ـ بأنه ((تدبير شؤون الخلق وفقاً لتعاليم الاسلام، أو استلهاماً لقيمه، بما يحقق المصالح والمقاصد المعتبر في الدنيا والآخرة)).
وعلى صعيد الواقع، فإننا نجد أكثر من صيغة لتصور الحل الاسلامي. والتعدد أو التفاوت هنا ناشئ عن اختلاف درجة الاستيعاب وزاوية الرؤية، وطبيعة التحدي الظاهر الذي تستدعي الشريعة لصده ومواجهته. وفي هذا الإطار، فقد نزعم أن هناك تصورات خمسة للحل الاسلامي، نوجزها فيما يلي:
ـ مستوى حضاري، يتعامل مع الحل الاسلامي بحسبانه الصيغة الوحيدة التي تكفل للأمة استقلالها في وعاء حضاري متميز، يثبت خصوصية الأمة ويرد إليها ذاتها واعتبارها، ويعتقها من أسار الانسحاق والتقليد. ونحن نجد في دعوة السيد جمال الدين الأفغاني إلى الثورة والتمرد على سلطان الآخر، صدى لهذه الفكرة. غير أن المفكر الجزائري مالك بن نبي يعد أبرز رواد هذا التيار، الذي بدأ يتبلور في ستينيات وسبعينيات القرن الحالي (مرحلة الاستقلال الوطني). وتعكس كتاباته اهتماماً واضحاً بقضية الخلاص من التبعية وانشغالاً دائماً بمسألة البعث الحضاري. وهو ما نلمسه في كتب مثل: شروط النهضة، مشكلة الثقافة، بين الرشاد والتيه، في مهب المعركة.
وقد أصبحت هذه الدعوة تستوعب عدداً لا بأس به من مثقفينا حتى نلمح لها بصمات واضحة في كتابات عدد من الباحثين المصريين اللامعين، من أمثال طارق البشري والدكتور محمد عمارة وعادل حسين. ومن أحدث ما ظهر في مصر من أبحاث في هذا الصدد كتاب الدكتور سيد دسوقي حسن (أستاذ الهندسة)، الذي صدر أخيراً بعنوان: مقدمات في البحث الحضاري.
وربما كانت إحدى ميزات هذا الطرح الحضاري للحل الاسلامي أنه يمكن أن يشكل نقطة التقاء بين المسلمين والمسيحيين، بحيث يتعامل معه المسلمون من منطلق عقيدي، ويتعامل معه غير المسلمين من منطلق ثقافي وسياسي. الأمر الذي دفع باحثاً مسيحياً كبيراً مثل الدكتور أنور عبدالملك إلى أن يعلن انحيازه إليه.
ـ مستوى (أصولي) يرى في الحل الاسلامي إحياء لحقيقة الدين، واستدعاء للتعاليم لتحتل مكانها الحاكم في المجتمع، بحيث تظلل علاقات الناس بالله، وعلاقات الناس بالناس. الأمر الذي يؤذن برفع الحصار المضروب على الدين لإبقائه محبوساً في المساجد والموالد. وإطلاق سراحه ليؤدي دوره الفاعل في حاضر الناس ومستقبلهم. بحيث يتجاوز التدين حدود العلاقة القلبية بالله سبحانه وتعالى، إلى محيط الواقع المعيش، فيترجم إلى مواقف وسلوكيات ونظم تضبط إيقاع الحياة، وقيم تتسيد مختلف الأنشطة الانسانية.
وكتابات الأستاد حسن البنا، ومدرسة الإخوان المسلمين بعامة، هي التي تبنت هذا الطرح للحل الاسلامي، منذ تأسيسها في سنة 1928. وإن كنا لا نستطيع أن نفصل هذه المدرسة عن محاولات الإحياء الديني التي شهدتها مصر منذ بداية القرن، على يد محمد عبده وتلاميذه الذين يقف رشيد رضا في مقدمتهم، إلا أنه يحسب لمدرسة الإخوان أنها نقلت دعوة الإحياء من مجامع المثقفين ومنتدياتهم إلى الشارع. بحيث أصبحت هناك حركة اسلامية تتبنى هذا التصور وتدعو إليه. حتى اصبح هذا التراث الفكري أحد المنابع التي تستمد منه ظاهرة الصحوة الاسلامية الراهنة زادها الأساسي.
ورغم أنه لم يتح لفكر الإخوان أن ينمو، لأسباب يعرفها الجميع، بحيث يصبح أكثر استجابة للتحديات المطروحة في الثمانينيات. وأكثر وضوحاً في مواجهة المشكلات الراهنة، إلا أن الأساس الذي وضعه الأستاذ البنا لا يزال يؤدي دوره الفاعل إلى الآن. وبناء عليه صاغ الدكتور يوسف القرضاوي رؤيته فيما يسميه (تيار الوسطية الاسلامية)، وانطلق الشيخ محمد الغزالي يبشر بفكرة الإحياء الواعي للدين في طول العالم العربي وعرضه، ومضى آخرون ـ بجهود فردية خارج الإطار الحركي للجماعة ـ يدعون إلى رؤى عصرية ومستقبلية للحل الاسلامي، تنطلق من ذات المفهوم الشاملة للتعاليم، نرصد من هؤلاء الدكتور كمال أبو المجد، والدكتور جمال عطية رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر، والدكتور فتحي عثمان الذي نقل نشاطه الفكري إلى خراج مصر منذ عشرين عاماً، والأستاذ عبدالحليم أبو شقة الذي عاد إلى مصر منذ سنوات قليلة، محاولاً بث أفكاره وتجديد الدم في شرايين العمل الاسلامي، من خلال سلسلة مطبوعات بدأ في إصدارها تحت عنوان (آفاق الغد).
عن الحل التشريعي:
ـ مستوى اعتقادي، يرى أن الحل الاسلامي ينبغي أن يرتكز أولاً على سلامة الاعتقاد وأنه لا سبيل ولا مجال الآن لأي حديث عن إقامة نظام أو نظم اسلامية، أو حلول من أي نوع، لأن الاعتقاد ذاته لم يثبت بعد، وبالتالي فإن الأساس الذي ينبني عليه الحل مصاب بالخلل والضعف. وفيما نعلم. فإن الأستاذ سيد قطب هو من طرح هذا الرأي من المعاصرين، وتبنته جماعة الجهاد المصرية فيما بعد، ولا يزال هذا منطلقها الفكري إلى الآن.
في كتب (الظلال)، ومعالم في الطريق، وخصائص التصور الاسلامي، والاسلام ومشكلات الحضارة، يقرر الأستاذ قطب أننا نعيش مجتمعاً جاهلياً، يرفض حاكمية الله تعالى ولا يعترف بمنهجه ضابطاً للحياة، ولا يسلم ولا يفهم معنى (لا إله إلا الله)، ركيزة الإيمان وعموده الفقري. وبالتالي فإن أي طرح لحلول أو اجتهادات إسلامية في ظل هذا الواقع، هو من قبيل العبث أو الهزل. وهو يصف الخائضين في مثل هذه الأمور بعبارة (المخلصين المتعجلين)، ويتهمهم (بالهزيمة الداخلية) لأنهم قبلوا أن يتعاملوا مع الأوضاع الراهنة، في حين ينبغي أن يدعى هذا الواقع إلى الدخول في عقيدة الاسلام أولاً، ورد الحاكمية لله في أمر الناس كله.
ـ مستوى تشريعي، يتصور الحل الاسلامي دعوة للالتزام بالنظم القانونية التي جاء بها الاسلام، سواء في المجالات المدنية أو الجنائية أو الأحوال الشخصية، فضلاً عن الميدان الاقتصادي. أي أنها رؤية فوقية للحل، تعني بإقامة النظام الاسلامي على سطح المجتمع وهيكله الخارجي، وتعتبر الشريعة مرادفاً للقانون، وليس مجموعة النظم التي شرعها الله وأنزلها ليلتزم بها الانسان في مختلف ميادين الحياة، كما يقول الشيخ شلتوت.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن هذا هو المفهوم الأكثر شيوعاً لفكرة الحل الاسلامي، ربما لأنه الأسهل، وربما لأنه يجسد الحل في قوانين تصدرها السلطة التشريعية، ولا يوسع من محيطه ليصبح نظاماً للحياة، تتوزع التكاليف والالتزامات فيه على الأفراد ومختلف المؤسسات التربوية والإعلامية والسياسية والدستورية. وربما كان شيوع هذا المفهوم تعبيراً عن شوق المسلمين إلى إقامة كيان إسلامي ملموس، على أي نحو كان. فالحديث عن تربية إسلامية أو أخلاق وقيم وسلوك قد يصبح شيئاً هلامياً يتعذر الإمساك به، فضلاً عن أنه يؤتى ثماره بعد حين، يطول أو يقصر. أما الحديث عن قوانين ولوائح فإنه ينصب على صيغة يمكن تلمسها، وأمور واضحة المعالم ووقائع محكومة.
ـ مستوى عبادي أو أخلاقي، يتصور الحل الاسلامي صيغة لتوثيق الصلة بالله وحصناً يحمي الأخلاق والفضائل، وسبيلاً إلى مقاومة البدع وتطهير الاعتقاد من الانحرافات ومختلف صور الضلال.
ويتعلق بهذا الحل مختلف الفصائل الاسلامية التي تتعامل مع التدين في حدوده القلبية والمسجدية، إذا جاز الوصف، من أمثال جماعة التبليغ والدعوة، والجمعية الشرعية، والطرق الصوفية، وبعض التيارات السلفية.
ويلتقي على هذا المفهوم الذي يربط بين (الحل) وبين القلب والضمير جماعات العالمانيين الذين ينادون بشعار فصل الدين عن السياسة، ويرفعون لافتة (الدين لله)، ولا تستوعب مداركهم سوى المفهوم الكنسي للتدين، والتاريخ السيئ للسلطة الدينية في أوروبا.
لعلنا لا نبالغ في التقدير إذا قلنا بأن المستويين الأصولي أولاً والحضاري ثانياً، في فهم الحل الاسلامي هما الأقرب إلى التعبير الصحيح عن رسالة الاسلام وروحه، وإن كان تيار (الحل التشريعي) هو الأكبر، وربما تساوي معه في الحجم تيار التصور العبادي والأخلاقي لمفهوم الحل، في حين نحسب أن القائلين بجاهلية المجتمع، الداعين إلى حل عقيدي له أولاً، هم أقلية لا تكاد تذكر في خريطة الواقع الاسلامي المعاصر.
ولا غضاضة في تعدد مفاهيم الحل الاسلامي، ولا ضرر في تنافس تلك الأفكار في الساحة. فقبولنا لمبدأ التعددية في العمل العام، يستتبع قبولاً مماثلاً للتعددية في داخل المحيط الاسلامي ذاته. ومن المفيد، ومن الصحي، أن يعرض كل ما عنده، بضاعته وحجته، ليكون الرأي العام الاسلامي هو الفيصل والحكم في نهاية الأمر.
ويهمنا هنا أن ننبه إلى أن القائلين بالحل الاسلامي التشريعي، يتحدثون عن محتوى حوالي 5% فقط من النصوص القرآنية، ولا يعنون بالقدر الواجب بالنسبة المتبقية، التي تصل إلى 95% من جملة النصوص، ذلك أنه إذا كان مجموع آيات القرآن الكريم في حدود 6236 آية، وإذا كان مجموع آيات المعاملات 250 آية تقريباً، فإن حصر الحل الاسلامي في إطار التشريعات التي تنظم المعاملات يغدو اختزالاً مخلاً لمفهوم الحل، وابتساراً منكوراً للشريعة المنزلة.
يهمنا أيضاً أن نلفت النظر إلى النهج الذي اتبعه النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى (الحل) في المجتمع الاسلامي الأول. وهو النهج الذي يقدم الدعوة على الدولة، ويطبق الحل على مرحلتين، أولاهما (مكّبة) امتدت ثلاثة عشر عاماً، وفيها انصب الجهد على تطبيق الاسلام على المستوى الفردي، بتربية الضمير المسلم وتهيئته وإعداده، أي على وضع الأساس القوي للبناء. والمرحلة الثانية (مدنية) استغرقت عشر سنوات، وفيها جرت إقامة الدولة ونزلت التكاليف وشرعت الحدود.
وهو وضع يختلف عن دعوة الداعين في زماننا إلى الدخول في العقيدة من جديد، الذين يتهمون المجتمع بالجاهلية، لأن مرحلة التربية والتطبيق على المستوى الفردي في مكة أخذت مكانها واتباع النبي على الاسلام، أي بعد انتقالهم من الشرك إلى الإيمان. في حين أن دعاة جاهلية المجتمع يردوننا إلى ما قبل الاسلام.
لم يكن ذلك نهجاً نبوياً فقط، ولكنه نهج قرآني في حقيقة الأمر، بحيث أن الآيات التي نزلت في مكة ركزت على التربية والإعداد، بينما كان محور الآيات المدنية هو التطبيق على مستوى الدولة.
ولسنا ندعو إلى إنفاق سنين طالت أم قصرت في تربية المسلمين، لننتقل بعد ذلك إلى تطبيق النظم الاسلامية، لكنا نلح على أهمية إعطاء الأولوية للتربية، على أن يمضي القدر الممكن من التطبيق بالتوازي، وبالتدرج الذي التزم به القرآن في تناول الأمور وتقويم ما هو معوج من أوضاع الخلق. فتطبيق بغير تربية، هو بمثابة إقامة صرح على غير أساس أو نسج ثوب بخيوط العنكبوت!
قد لا يشفى هذا العرض غليل الباحثين عن إجابة السؤال: كيف يكون الحل الاسلامي! فرصد التصورات المتعددة لفهم هذا الحل لا يكفي، لأننا حتى إذا سلمنا بن المفهوم الحضاري للحل أو المفهوم الأصولي هما الأصح والأصدق تعبيراً عن رسالة الاسلام، فإن السؤال يظل وارداً. ومن حق أي أحد أن يعيده علينا قائلاً: إذا وافقنا ـ جدلاً ـ على أن الحل الاسلامي هو سبيلنا إلى الانعتاق من التبعية وإلى التميز الحضاري. أو إذا وافقنا على أن الحل الاسلامي يعني إقامة نظام الحياة على نسق الاسلام ووفقاً لتعاليمه وقيمه، فكيف يكون ذلك؟
ردى على السؤال هو: أن الإجابات تتعدد أيضاً على هذا الشق، ومن المهم أن تحدد الفصائل أو التجمعات التي تتبنى هذا الطرح أو ذاك أولويات العمل ونقطتي البدء والانتهاء. وإذا كان لي أن أحدد موقفاً. فقد أعيد ما سبق أن عرضته في هذا الصدد، وهو أن مدخلنا الأوفق والأسلم للتطبيق الاسلامي هو باب الشورى ـ إعمال التطبيق في المجال السياسي ـ مما يثبت قيم الحرية والديمقراطية، ويهيئ مناخاً مواتياً للتقدم بعد ذلك في أمان.
قلت أيضاً إن أول حجر نزع من أساس الصرح الاسلامي في العصر الأموي تمثل في الشورى، مما أدى إلى خلخلة البناء كله. ومن المهم الآن أن ننتبه إلى خطر هذه الثغرة، فتتجه أولى خطوات التطبيق إلى سدها، لكي يستقيم الأساس ويستعيد عافيته، ويصبح قادراً على أداء الدور المنوط به .
----------------------------------------
المصدر : كتاب ( حتى لاتكون فتنة) _ فهمي هويدي

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة