موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

صلاح الدين حافظ
الأحزاب الإسلامية وموجة التحول الديمقراطي

 

احدث الانقضاض الأميركي ـ والغربي ـ على العالم العربي والاسلامي‚ تأثيرات قوية وتحولات عميقة‚ في الحراك السياسي الاجتماعي الثقافي‚ وظهرت بوادره سريعة في اوساط التيار السياسي الاسلامي بشكل ادق‚ فلقد ادت المنازلة العنيفة بين بعض فصائل التيار الاسلامي الراديكالي والجهادي المسلح بقيادة تنظيم بن لادن ـ القاعدة ـ فضلا عن تنظيمات اخرى متناثرة في الشرق والغرب‚ وبين الولايات المتحدة الأميركية‚ عبر هجمات سبتمبر الانتحارية على واشنطن ونيويورك إلى فتح المعركة على مصراعيها وإلى استخدام الاسلحة المتاحة للطرفين من كل نوع‚ من المتفجرات والصواريخ إلى الضغوط السياسية إلى الحملة الاعلامية الشرسة‚ التي لم تفرق بين الاسلام والارهاب بل دمجتهما معا في تصرف تعسفي حاقد‚ فإن كانت هذه المنازلة قد انعكست على الشعوب خوفا وفزعا وثأرا وانتقاما حتى التوحش فقد انعكست على الشعوب والدول العربية والاسلامية سلبا ايضا خوفا وفزعا ولكن خضوعا واستسلاما للمتوحش الاميركي وعنف انتقامه‚ ورغبته في احداث تغييرات جذرية في هذه الدول‚ لا تسمح لتخلفها واستبدادها بان ينتجا ارهابيين جددا‚ وبقدر ما تمكنت موجة الانقضاض الأميركي المسلح‚ من قصم التنظيمات الراديكالية الاسلامية‚ وخصوصا القاعدة وطالبان‚ وتفكيك عدد من شبكات التطرف والارهاب في اكثر من دولة من باكستان واندونيسيا شرقا‚ إلى المانيا واسبانيا غربا‚ مرورا باليمن والصومال والسودان‚ بقدر ما اصيب التيار السياسي الاسلامي في عمومه بصدمة هائلة وحرج شديد‚ جاءته الصدمة والحرج من مصدرين أو ثلاثة‚ جاءته أولا من التنظيمات الراديكالية التي اعتنقت العنف ومارست الارهاب على مدى السنوات الماضية‚ من تنظيمات الجهاد والجماعة الاسلامية والتكفير والهجرة‚ إلى تنظيمات طالبان والقاعدة وجاءته ثانية من جراء حدة الانقضاض الأميركي التي وضعت الجميع ـ معتدلين ومتطرفين ـ في سلة واحدة وتحت مطرقة واحدة‚ وان اختلفت الضربات ثم جاءته ثالثا من جانب نظم الحكم القائمة‚ في الدول العربية والاسلامية‚ التي وجدتها فرصة مناسبة للاجهاز على حركة التيار السياسي الاسلامي في عمومه‚ والانتقال من مرحلة حصاره‚ واحتوائه إلى مرحلة القضاء عليه‚ باعتباره من اقوى التيارات السياسية الحركية النشطة القادرة على استقطاب مشاعر الناس باسم الدين والثاني المتحدية للحكم‚ وامام هذا الهجوم الثلاثي المكثف‚ وجد التيار السياسي الاسلامي ـ خصوصا الفصائل المعتدلة منه ـ نفسه في حرج تاريخي وموقف عصيب يحتاج إلى حنكة شديدة وسرعة تلبية عالية حتى يتمكن من التعامل مع هذه الضغوط والمتغيرات المحلية والخارجية من ناحية وحتى يتواءم مع نغمة الديمقراطية العالمية السارية والاندماج في اطارها من ناحية اخرى‚ ونظن ان النجاح الذي احرزته التنظيمات والاحزاب السياسية الاسلامية مؤخرا في اكثر من دولة‚ مثل تركيا والمغرب والبحرين وباكستان‚ بعد ان اندمجت في عملية التطور الديمقراطي يفتح الطريق امام نماذج اخرى في بلاد اخرى‚ ويلقى رضا وتأييدا حتى من الولايات المتحدة الأميركية‚ التي تقول انها تحارب التطرف والارهاب «الاسلامي» لكنها تشجع الاعتدال والتطور الديمقراطي «الاسلامي»! وقد نرى تكرارا لهذا النموذج قريبا في دول عربية واسلامية اخرى‚ تدفع بالتيار الرئيسي للحركة السياسية الاسلامية إلى خطوط الاعتدال والاندماج والتدجين‚ بدلا من التهميش والعزل ومن ثم اليأس فاللجوء للقوة والعنف نزولا إلى الارهاب‚‚ ربما تصبح اندونيسيا ـ اضخم دولة اسلامية ـ هي الهدف التالي في هذا الاتجاه لكن غيرها ليس بعيدا على كل حال‚ هكذا جاءت الاحداث العاصفة الاخيرة داخليا وخارجيا لتضع الحركة السياسية الاسلامية في مواقع التحدي ومواقف الضغوط والمحاصرة من ناحية‚ وفي مواضع الاغراء ومناطق الجذب من ناحية اخرى‚ وها هي تقف الآن في منعطف صعب للغاية‚ بين العودة للراديكالية والعنف المسلح‚ الذي جربته بعض فصائلها خلال العشرين عاما الماضية‚ وبين الاندماج في طريق التطوير والتحديث ـ الفكري والمنهجي ـ ومن ثم الاندماج في حركة المجتمعات العربية الاسلامية الساعية «طوعا» نحو الديمقراطية المحدودة أو المضغوط عليها بقوة من الخارج للتحول نحو الديمقراطية المفتوحة‚ والواضح ان اجتهادات متراكمة داخل هذه الحركة‚ قد ساعدت في التحول الملحوظ من مرحلة «الولاء المطلق للإمام أو الفقيه أو المرشد» بالقسم على المصحف طاعة في المنشط والمكره على نحو ما رسخه الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين عام 1928 وعلى نحو ما هو قائم في الحركة الشيعية اقدم تنظيم سياسي اسلامي منذ نحو 1400 سنة إلى مرحلة حرية الاختلاف وتعدد الاجتهادات والرؤى والرأي‚ كذلك هناك تباشير الانتقال من راديكالية العمل الاسلامي السياسي طلبا للحكم وسعيا لاقامة نظام اسلامي بديل للنظم الكافرة‚ على غرار ما حاولته نماذج الجهاد والجماعية الاسلامية في مصر‚ وجبهة الانقاذ والجماعة الاسلامية المسلمة في الجزائر وطالبان في افغانستان‚ والجبهة الاسلامية القومية في السودان وغيرها‚ وجربت خلاله كل اساليب العنف المسلح والقتل الدموي في صدامات مروعة على السلطات الحاكمة‚ إلى بوادر الانخراط من جديد في الحراك السياسي الاجتماعي العام‚ الذي يتأرجح فيما بين شواطىء التحول الديمقراطي الخجول ومراسي المركزية والتحكم والديكتاتورية السافرة أو المقنعة‚‚ وجاءت الاحداث الدولية والمحلية الراهنة فدفعت بالرياح في الشراع‚ الأمر الذي افرز امامنا احزابا سياسية اسلامية معتدلة‚ تحترف الانتخابات وتعلن ايمانها بالديمقراطية وتضع فلسفتها المعلنة في مربع «العدالة والتنمية» فتطرح نفسها بالتالي بديلا للحركة السياسية الاسلامية التقليدية‚ التي شاخت افكارها وقياداتها مثل الاخوان المسلمون ـ من ناحية وبديلا للتنظيمات الاسلامية الراديكالية التي جلبت المآسي السلبية على الاسلام والمسلمين عموما مثل القاعدة وطالبان والجهاد من ناحية اخرى! ونظن ان نجاح هذه التنظيمات والاحزاب المعتدلة في اكثر من دولة عربية واسلامية سوف يغرس في اماكن ودول اخرى‚ ويضع كذلك التيار العام للحركة السياسية الاسلامية في مواضع التحدي والاستجابة‚‚ فإما ان تظل متمترسة خلف رؤاها واساليبها وقياداتها التي ترهلت وشاخت وفاتها القطار‚ أو تعود فتنخرط في مهاوي العنف والتطرف واما ان تطور افكارها وتحدث اساليبها وسياساتها‚ فتنخرط في الحراك المجتمعي السياسي النازع نحو الديمقراطية والعدل والتنمية الانسانية التي تحفظ للانسان كرامته وحقوقه وحرياته وفق المعايير الدولية! وإذ نستثني الوضع الفلسطيني بتياراته الاسلامية والعلمانية المعتدلة والمتشددة‚ باعتبارها تخوض حرب تحرير واستقلال ومقاومة شرعية‚ ضد عدو صهيوني هو جوهر العنف والارهاب واساسه‚ فإن الحركة السياسية الاسلامية في غير ذلك من الدول العربية والاسلامية مطالبة من الآن فصاعدا باثبات رغبتها وقدرتها على التطور والاندماج‚ بعد عقود من العزل والانعزال‚ واذا كانت أميركا والغرب عموما‚ يحمل الدول والحكومات العربية والاسلامية المسؤولية الكاملة عن تفريخ الارهابيين وانتاج الإرهاب والعنف والتطرف بسبب سياسات التحكم والاستبداد والتخلف فإن تناسل وتوالد تنظيمات العنف والارهاب «الاسلامية الشعار» يتحمل جزءا رئيسيا من مسؤوليته التيار السياسي الاسلامي العام ايضا‚ من الجهاز الخاص للاخوان المسلمين‚ إلى ميليشيات الثورة الايرانية ومعه الجهاد والتكفير والهجرة‚ إلى طالبان والقاعدة‚ تلك التي مارست العنف المسلح‚ وصولا لمناطحة الوحش الأميركي الذي كان ينتظر فرصة الانقضاض على الجميع‚‚ وها قد جاءته الفرصة على طبق من ذهب فانقض بلا رحمة أو تمييز!! ولذلك فإن مواجهة هذا الانقضاض‚ المصاحب لحملة غربية عاتية ضد الاسلام‚ تحض على كراهية العرب والمسلمين‚ لن تكون سهلة باعلان التوبة عن العنف أو الرغبة في الاستفادة بالمناخ الديمقراطي حتى لو كان محددا‚ لكنها تحتاج إلى جراحات اساسية وتحولات جذرية في افكار واساليب الحركة السياسية الاسلامية تكسبها مصداقية ليس فقط لدى أميركا والغرب الهاجم‚ ولكن اساسا داخل مجتمعهاتها العربية والاسلامية المتخوفة والمتشككة! ومن بين هذه الجراحات الرئيسية المطلوبة اعادة صياغة البرامج السياسية للاحزاب الاسلامية‚ بدرجة تتواءم مع افكار ومفاهيم واساليب التطور الديمقراطي الذي صار حتميا في هذا القرن‚ وبطريقة تتلاقى مع المطالب الحياتية والمتاعب اليومية للشعوب خصوصا مقاومة زيادة مساحة الفقر والبطالة والكساد‚ والتعددية الفكرية والسياسية‚ وحقوق المشاركة ودور المرأة في مجتمعات مسلمة فقدت حتى حقوقها الاساسية التي جاء بها الاسلام‚ والواضح ان نجاح الاحزاب الاسلامية مؤخرا في اكثر من دولة كما سبق ان اوضحنا قد اعتمد على هذا التحول الجوهري‚ بديلا للشعار العام «الاسلام هو الحل» الذي كانت التيارات السياسية الاسلامية قد رفعته على مدى العقود الماضية‚ اضافة إلى ذلك فإن هناك تحديات اخرى امام هذه التيارات ان كانت راغبة في التأقلم والتعايش والمشاركة في التحول الديمقراطي المنشود اهمها تجديد الفكر السياسي‚ وتحديث الخطاب الديني‚ وتجديد شباب القيادات «التاريخية» التي شاخت‚ وتغيير القيادات «المغامرة» التي تورطت في العنف المسلح‚ وتقديم نماذج تيارية جديدة منفتحة على التطورات المحلية والعالمية‚ مستفيدة بموجة الديمقراطية وحقوق الانسان وحرياته التي تعم الدنيا بأسرها‚ ومستغلة ايضا وسائل الاعلام والاتصال التكنولوجية الحديثة التي زعزعت ـ ضمن تأثيراتها الهائلة ـ سياسة القبضة الحديدية‚ سواء من جانب النظم الحاكمة أو من جانب القيادات التاريخية «الاسلامية» المهيمنة الآمرة الناهية وفق مبدأ السمع والطاعة العمياء! ‚‚ واخيرا نحسب ان هذا الحديث يثير حساسيات شديدة‚ سواء لدى النظم الحاكمة المتوجسة من الحركة السياسية الاسلامية المتربصة بها‚ أو من جانب هذه الحركة ذاتها بحكم وقوعها هذه الايام تحت ضغوط وتحديات صعبة‚ ونحسب ان الطرفين المختلفين يقعان معا تحت ضغوط أميركية رهيبة تبدأ با
تهامهما معا بالمسؤولية المباشرة عن انفلات الارهاب والعنف والتطرف‚ ولا تنتهي بمطالبتهما باجراء اصلاحات جذرية ليس فقط في نظم الحكم وتوزيع الثروة‚ ولكن تطرفا حتى الحديث العلني عن «تحديث الاسلام» نفسه مع ما يثيره هذا من حساسية متزايدة! لكننا ننطلق هنا في معالجة بعض جوانب هذا الموضوع الشائك من منطلق مختلف‚ قوامه المطالبة القوية والسعي الحثيث لاصلاح احوالنا بأيدينا‚ استجابة لمطالب ملحة وحاجات ضرورية تنبع من داخل مجتمعاتنا التي تعاني الفقر والتخلف والاستبداد‚ والتي تختزن مشاعر الغضب والكراهية والتمرد‚ وليس الأمر مجرد استجابة لغضوط أميركية أو اغراءات غربية ترى ان من مصلحتها الحيوية‚ تعديل وتحديث وتطوير الاسلام والعرب والمسلمين ودفعهم بالقوة الجبرية نحو المسار الذي تريده هذه الضغوط والاغراءات! وفي هذا الاطار لا نستطيع ان نتجاهل الدور الجوهري الذي يمكن ان تقدم به الحركة السياسية الاسلامية المعتدلة والمستنيرة‚ باعتبارها مكونا رئيسيا من مكونات الحراك المجتمعي العام‚ جنبا إلى جنب مع باقي المكونات العديدة الاخرى وخصوصا الاحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات الاهلية والمدنية الساعية لفك العقدة المصطنعة بين الاسلام والديمقراطية‚‚ تلك العقدة التي اصبحت سلاحا هجوميا في ايدي صناع الكراهية ومنتجي العداء والتطرف في الغرب عموما هذه الايام! وفي هذه الحالة‚ لا يكفي ان نبادلهم عنفا بعنف ولا كراهية بكراهية انما المسألة اعمق والمسؤولية اكبر‚ تحتاج منا نحن إلى ما هو اهم واخطر‚‚ تحتاج كما اسلفنا إلى جراحات جوهرية في مسار حياتنا ومسيرة اوطاننا! ‚‚ خير الكلام: قال عمر بن الخطاب: عمَّر الله البلدان‚‚ بحب الأوطان

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة