موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. ابراهيم بيضون
رؤية الدولة في نهج البلاغة



مدخل:
جاء في "لسان العرب" في معنى الدولة، منسوباً إلى الجوهري: "في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى"، ولكنها اقترنت عموماً في الإسلام الأول، بالفيء، فقيل: "صار الفيء دولة بينهم يتداولونه مرة لهذا ومرة لهذا". كما جاء فيه أن "الدولة" (بضم الدال أو فتحها)، تعني "الحرب والمال على السواء"، وهي تقارب هنا ما ورد في سورة "آل عمران" عن مداولة الأيام التي يفسّرها الفقهاء بتعاقب الشدة والرخاء.
والدولة كمصطلح لم تُستخدم إلا في وقت متأخر في الإسلام، ولم يرد ذكرها في السياق القرآني سوى مرة واحدة (سورة الحشر، الآية7). بالإضافة إلى عبارة "نداولها" في السورة السالفة. على أن مدلول كل من الكلمتين ليس بعيداً عن المضمون الحديث للمصطلح، خلافاً للشورى التي اقتصرت لفظاً على ثلاث آيات في سور ثلاث، ولكنها معنى جاءت ملتبسة أو غائمة، ولا تعبّر عنها بدقة، النظرية السياسية التي واكبت بيعة السقيفة، وحاولت ربطها بهذا السياق القرآني. ففي الآية من سورة الحشر، تظهر بوضوح تجليات الدولة بالمعنى الشمولي، تأسيساً على قاعدة التنظيم الإقتصادي (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) وعلى قاعدة التنظيم الإجتماعي (كي لا يكون دُوَلة بين الأغنياء منكم)، وعلى قاعدة التنظيم السياسي والتشريعي للمجتمع (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) بما في ذلك مبدأ الطاعة، استناداً إلى الجزء الأخير من الآية الكريمة التي هي بمجملها، اختصار لنظرية الدولة على صورة الإسلام، والنموذج المعبّر عنها في تجربة الرسول بالمدينة.
ولذلك يرى الفقهاء المسلمون أن "الدولة" قامت كمضمون في ذلك الوقت المبكر، متوازية بهذا المعنى مع هجرة الرسول، حيث كانت بعض عناصرها واضحة في المدينة. ولقد أشار أبو الحسن التلمساني (781ه‍) إلى هذه العناصر في تعداده لمعاوني الرسول من نواب ووزراء وقضاة وحجاب وحرّاس وسفراء وتراجمة وعرفاء على القبائل وأمراء على الحج والنواحي والغزوات إلخ... وذلك حين يخرج غازياً من المدينة... هذا على الرغم من أن البيئة التي انطلق منها الإسلام، لم تعرف الدولة التي كان نمطها اليمني في جنوب شبه الجزيرة العربية قد تلاشى. ولا نستثني من ذلك مكة التي أفصح أحد زعمائها (الأسود بن المطلب بن زمعة)، أن "قريشاً لقاح لا تملك ولا تُملك"، في معرض التصدي لمحاولة عثمان بن الحويرث الأسدي، لربط مكة بالسيادة البيزنطية. وفي مقدمة ما يعنيه ذلك أن "الدولة" التي كانت حاضرة كمضمون في المجتمع الإسلامي الأول، من خلال الصحيفة وما تفرّع عنها من تنظيمات إدارية واقتصادية وعسكرية، كانت تمثل نمطاً مختلفاً عمّا قبله من صيغ القبائل التعاقدية، وغيرها من أنماط الممالك العربية القديمة.
ولكن هذه "الدولة" أو السلطة، بعد وفاة الرسول، على الرغم من اكتناه التراث والتماهي مع التجربة الرائدة، ظلّت أسيرة القلق الذي رافقها منذ بيعة السقيفة، وأعجزها بالتالي عن بلوغ الصيغة التي تتوازى بمعناها الكامل، السياسي والإداري، مع المعنى الذي اكتسبته تجربة الرسول في هذا المجال، خصوصاً على مستوى الصيغة، وما واجهته من ارتباك أمام تحديّات المرحلة. فقد تمّ التداول بالخلافة في التعبير عن الدولة، انطلاقاً من التصوّر الفقهي، أن المسلمين أمة النبي المستخلف على النبوة، وأن رئيسهم يصبح، وفقاً لهذا المنظور، الخليفة الذي انتقلت إليه قيادة "المشروع الإلهي" الذي هيّأهم الله له، وهذا ما دفع أبا بكر إلى أن يسمى نفسه "خليفة رسول الله"، باعتباره نائباً له في تطبيق هذا المشروع، بوجهتيه الدينية والزمنية.
وإذا كان للاستخلاف مدلوله "الرسالي" الغالب، بشأن تطبيق شريعة الله، دون أن تكون واضحة فيه المسألة التنظيمية، مما انعكس جدلاً فيما بعد حول السلطة في الإسلام، فإن هذه المسألة بدت محسومة منذ أيام الرسول الذي حفلت منجزاته بما هو سياسي واقتصادي وعسكري، إلى جانب المسألة الدينية. كما أن حركة الردّة في عهد أبي بكر، لم يكن الموقف منها محكوماً بتوقف القبائل عن أداء الزكاة، وما يمسّ من خلال ذلك علاقتها بالدين، وإنما بالخروج على وحدة الجماعة وإرادة السلطة. كما أن تسمية عمر بن الخطاب نفسه بأمير المؤمنين، لا يتعدى هذا المفهوم، باعتبار أن الإمارة لها صفة سياسية في المقام الأول، فضلاً عن الإجراءات التنظيمية التي قام بها هذا الخليفة، والتي جاءت أكثر مقاربة لمعنى الدولة، بعد أن قطعت كمضمون شوطاً بعيداً في هذا الاتجاه السياسي على عهده.
ولكن الذي بقي ملتبساً، ليس هذا الجانب السياسي الذي كان قائماً بالضرورة، وإنما جوهر الصيغة المرتبكة وإخفاقها في إرساء قواعد ثابتة للمجتمع، على نحو يتكامل فيه السياسي مع الديني، ويحول دون اختراق هذا المجتمع من خارج الصيغة، أو بمعنى آخر، فإن هذا المجتمع، برغم الهالة التي أحاطت بخلفاء رسول الله، لم تستطع "نظرية الأمر الواقع" أن توفّر له الحصانة على المدى الطويل. وليس أدلّ على ذلك من اختلاف طرائق البيعة للخلفاء الأربعة الراشدين، مفتقدة بأجمعها وبصورة عملية إلى الشورى التي كان من مفارقاتها أن بيعة علي، كانت أكثر تعبيراً عنها.
وإذا كان ما حققته التجربة الراشدية من نجاح للخلافة، استمدته عملياً من تمثيلها للأمة المقترنة بالشرعية، وهو موروث تواصل عبر الحركات السياسية اللاحقة التي صاغت برامجها على أساسه، فإن "الدولة" كمضمون عبّرت عنه الخلافة، لم تكتسب هذه الشرعية، الأمر الذي جعلها عرضة للتفكك عند أول حادث مسّ تلك الهالة التي اكتسبت منها ديناميتها حتى اغتيال عمر بن الخطاب.
ومن هنا كان الرفض الضمني مسوغاً من جانب علي لهذه الصيغة، التي أسّست ربما عن غير قصد لسلطة قريش في الإسلام، وليس للدولة الإسلامية مجسّدة طموح الأمة على مستوى الرسالة، ذلك الذي أخفقت فيه التجربة الراشدية، حين كان الخليفة هو المحور (أبو بكر، عمر بن الخطاب)، وكانت الخلافة هو وأسرته (عثمان). ولم يكن هذا الرفض أو التحفظ موجهاً ضد شخصية أبي بكر الذي كان واحداً من النخب البارزة في الإسلام. وما ردّدته الروايات التاريخية عن "الأفضلية"، إنما كان الجانب الأهم فيها لدى علي، ما يرتبط بمشروع الدولة التي يمكن القول إنه كان أول المعلنين، وإن بصورة غير مباشرة، لها، وذلك في ردّه على مقولة الخوارج بصدد التحكيم:
"نعم إنه لا حكم إلا لله.. وإنه لابدّ للناس من أمير بَرّ أو فاجر، يعملُ في إمرته المؤمنُ، ويستمتعُ فيها الكافرُ ويبلّغُ اللهُ فيها الأجل، ويُجمَعُ به الفيءُ ويقاتلُ به العدوُّ، وتأمنُ به السبلُ، ويؤخذُ به للضعيف من القوي، حتى يستريحَ به برَّ ويُستراحَ من فاجر".
فهو (أي الإمام علي)، يرى في السلطة (الدولة)، ضرورة للدين وتطبيق أحكام الشريعة، بما يحفظ حقوق المسلمين ويرعى شؤونهم الحياتية، محدّداً إلى ذلك مهام "رئيسها" الإمام، ومسؤولياته التي تتمثل أساساً في المحافظة على وحدة الأمة (جمع الأمر)، وتوزيع الثروة (الفيء)، وإحقاق العدل (الانتصاف للضعيف من القوي)، والدفاع عن حدودها (مجاهدة العدو).
وفي ضوء هذا المفهوم المتقدم لوظيفة "الدولة" يتبلور الفكر السياسي الشيعي في أواخر القرن الأول الهجري، على قاعدة "أن الإمامة من مقتضيات الدين أو ضروراته"، فيما يصبح واقعها هو الضرورة لدى الفقهاء الذين ساندوا السلطة بعد انهيار الخلافة الراشدية. ولقد تشكلت الرؤية الشيعية للإمامة (الدولة) على هذه النظرية، باعتبار أنها أساس الحياة السياسية والاجتماعية، متضمنة شروطها الصعبة التي حالت دون الانخراط في التسويات أو الحلول التوفيقية، وما انطوت عليه من تناقض في الرؤية بصدد "الشورى" و "الإجماع". فالإمام حين تصدى للأمر بناء على نص "الوصية"، إنما كان يتفاعل معه من منطق هذه الضرورة الدينية، وليس من مجرد الطموح الشخصي الذي هو من منظور سياسي، حق لكل الصحابة المتطلعين إلى السلطة في ذلك الوقت. ولذلك كانت البيعة لأبي بكر، خرقاً _برأي علي _ لقرار نبوي كان معروفاً لدى الصحابة الكبار، مقدماً نفسه ليس على أساس القرابة (واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟)، وإنما لأنه المؤهل لها إيماناً وتقوى وعلماً وجهاداً (إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمُهم بأمر الله)، وهو ما جعله استناداً إلى ذلك جديراً بهذه "الوصية"، تلك التي يفصح عنها بصورة مباشرة، في معرض الردّ على مبادرة الأنصار في "السقيفة": "لو كانت الإمارة فيهم، لم تكن الوصية بهم"، يريد بذلك القول أن الرسول أوصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، من يؤول الأمر إليه بعده. ولذلك حين يتصدى لمسألة الخلافة، إنما يخوض فيها بناء على هذه الأفضلية التي تقررها صفاته وطبيعة موقعه.
***
أ_ في الفكر السياسي: كان من بين ما تميز به علي، هو سعة العلم الذي كان موظفاً بإتقان لمصلحة الرؤية السياسية البعيدة والمتماسكة، واكتناه التاريخ بعمق، مما جعله مكتسباً تلك الفرادة على مستوى الأمة،التي ما انفكت منطوية على رواسب الماضي وعصبياته (يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا [...] كأن كل امرىء منهم إمام نفسه). ولم تستطع إلاّ قليلاً مجاراة فكره والانخراط في حركته، فبدا خارج سربه، ومسحة من المعاناة ظاهرة على خطابه السياسي.
ويبقى في هذا الخيار المدخل الدائم إلى قراءة الفكر السياسي والاجتماعي للإمام الذي لم يحد عن خطه الرفيع، وظل هاجسه حتى أمام المواقف المعقدة التي رأى بعض أصحابه أن تؤخذ مرحلياً بالقليل بالمرونة. وكانت ما تزال هذه "طريقته" التي وصفها عمر بن الخطاب بـ "الحق"، والتي كان من تعبيراتها قبل أن يلي الخلافة، دعوته بعيد اغتيال عمر إلى محاكمة ابنه (عبيد الله)، لقتله متّهمين بالمؤامرة. ولكن عثماناً آثر أن يطوي ملف القضية، متهيباً إقامة الحدّ على إبن الخليفة السابق. وكما أن المبدأ لا يتجزأ، فإن المساواة تكون أيضاً في العقاب، سواء طالت التهمة الأسماء الكبيرة أم العادية من الناس. وفي ظل هذه الرؤية، يقوم علي في اليوم التالي لبيعته بمصادرة "قطائع" عثمان، على أساس أن كل ما أخذ من بيت مال المسلمين يجب أن يُردّ إليه: "والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق".
والعدل لا ينفك مندرجاً وعلى انسياب تام في تلك الثنائية اللافتة التي تجذّر الخيار، منتشرة على مساحة واسعة في نهج البلاغة:
_ الجنة والنار (كل نعيم دون الجنة فهو محقور، وكل بلاء دون النار عافية).
_ الخير والشر (إذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فاعرضوا عنه).
_ حزب الله وحزب الشيطان (حزبنا حزب الله والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن سوّى بيننا وبين عدونا ليس منا).
_ الباطن والظاهر (إن لكل ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه).
_ العدل والظلم (يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم).
_ العلم والجهل (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا).
ولعل هذه الثنائية تختصرها ثنائية مركزية، كانت ما تزال عنوان السلطة في الإسلام على مستوى الممارسة، متمثلة بالعبارة المألوفة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، تلك التي انبثقت عنها وظيفة "المحتسب" الشهيرة. غير أن فرادتها لدى علي، في اكتسابها تلك الرهافة في تطبيق الأحكام، مستنداً إلى إيمان عميق وعلم واسع هيأ له السبيل إلى التشريع المناسب (الذي كان من الأمثلة المبكرة عليه في عهده قتال أهل القبلة في معركة الجمل).
هذا ما صارح به علي، الخليفة عثماناً بعدما ظهر من سياسته ما قطع بينه وبين ذلك الحبل:
"فلا تكونن لمروان سَيّقة، يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر".
لقد كان طموحه في الواقع، بحجم القضية التي حملها مبكراً، وهي الإسلام، مختزلاً فيه جوهر الدور وكل تفاصيله، فكان يتراجع هو ليتقدم الدين، ويزهد بالمنصب ليحفظ له وحدته، ولا يعنيه أن يكون خليفة، إلا إذا أقام العدل وصان الجماعة وحافظ على الرسالة التي تستوجب نضالاً مستمراً على مستوى الذات والموضوع، ومن أجل ترسيخ المواطنية السليمة في المجتمع كما في قوله: "إن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل".
وفي ضوء ما سلف، يمكن الدخول إلى عالم "الدولة" التي حاول أن يؤسس لها علي، مستلهمة كتاب الله وسنة الرسول، ومحصّنة بالعدل والتقوى من الانحراف والسقوط في مهاوي الغرائز والمصالح الشخصية. فهي "دولة" تنطلق من تراث غني في الفكر السياسي المتميز بدينامية على الصعيد التربوي وإعداد الإنسان الصالح الذي من دونه تبقى مهددة ومشرعة على الخطر. و "نهج البلاغة"، تكتنفه في الحقيقة نماذج عديدة من الأفكار والقيم الموجهة إلى هذا الإنسان المؤمن الطليعي، لا سيما في هذا القول: "أيها المؤمنون، إنه من رأى عدواناً يُعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبَرَىء، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونَوّر في قلبه اليقين [...] أما أعمال البرّ كلها والجهاد في سبيل الله عند الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا كنفثة في بحر لُجّي. وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقرّبان من أجل، ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلّه، كلمةُ عدلٍ عند إمام جائر".
ولم تخفت هذه النبرة، حتى وهو يستقبل الموت، فتكون وصيته الاخيرة، تتويجاً للثواب الراسخة وتكريساً للخيار الصعب الذي لم تنل منه المعاناة والانكسارات، حيث يتوجه إلى ولديه الحسن والحسين قائلاً:
"أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا الحق واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".
لقد احتلت المسألة السياسية، كما رأينا حيزاً بارزاً في نهج البلاغة، مستمدة ثوابتها من القرآن الكريم، ونموذجها من تجربة الرسول، وديناميتها من العلم الذي كان سبيل علي إلى تلك الشفافية في القراءة السياسية الراقية للمرحلة والإمساك بزمام تفاصيلها. كان ذلك ما هيّأ له التفرّد في السير على "طريقته"، وعلى امتداد الخطّ الرفيع الذي يميّز المعروف عن المنكر، وما يتفرّع عنهما من ثنائيات متضادة، حفل بها القرآن الكريم وتراث الإسلام الأول.
***
ب_ في الفكر الإداري: قامت النظرية الإدارية في مشروع علي، كما النظرية السياسية على أساس أن الدولة، هي دولة الإسلام، حاملة فكره ورسالته وتجربته، دون أن يعني ذلك أنها دولة دينية، حتى وإن كانت الإمامة أصلاً من أصول الدين. فمنذ البدء كان الجانب السياسي غير منفصل عن الجانب الديني في الإسلام الذي كانت قراءته في ذلك التكامل والاتحاد بين الجانبين: الرسالة التي تحدّد العلاقة مع الخالق، والنظام الذي يستلهم منها القوانين والنظم، لمصلحة البشرية وتفعيل الدور الإنساني بهدي من المبادىء والقيم التي جاءت بها الرسالة.
وفي ضوء ذلك كانت العقيدة حاضرة في كل تفاصيل المشروع الذي كان في صدده، من أجل إقامة الدولة العادلة. وهذا ما يتجلى على الخصوص في وصاياه لعماله، بالحرص على تجسيد الوجه الساطع للإسلام، وفي مقدمة ذلك، القيام بفرائض الدين، ليكونوا القدوة والمثال في ولاياتهم، فكان مما قاله لعامله على مصر محمد بن أبي بكر:
"فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، وأن تنافح عن دينك، ولو لم يكن لك إلاّ ساعة من الدهر [...] صلّ الصلاة لوقتها المؤقت لها، ولا تعجّل وقتها لفراغٍ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال".
وكانت فلسفة الإدارة تقوم على إسعاد الناس، وليس قمعهم وأخذهم بالشدة.
"وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
كما تقوم على المساواة بين الناس في العطاء.
"لو كان المال لي لسوّيت بينهم... ألا وإن إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف".
وتقوم أيضاً على مبدأ الثواب والعقاب ومدى التزام العمّال والموظفين بهذا النهج. فالناجحون في مهامهم يستحقون الثناء، وربما الارتقاء إلى مهمات أكثر دقة، كما حدث لعامل البحرين (عمر بن أبي سلمة المخزومي) الذي نال ثقة الإمام، فاستدعاه إلى الالتحاق به حين قرّر السير إلى الشام، مُطرياً عليه بقوله:
"فلقد أحسنت الولاية وأدّيت الأمانة، فاقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم [...] فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين".
وكانت المراقبة الشديدة على "الموظفين" والاطلاع على أحوالهم وعلاقتهم بالرعيّة، مما يترتب على "الإمام" القيام به ومتابعته عن كثب، فضلاً عن اختيارهم الذي يخضع لمعيار أساسه الكفاءة والورع وممارسة الفرائض.
ولذلك باستثناء عبد الله بن العباس وأخيه قثم اللذين تمّ اختيارهما على أساس هذه القاعدة أيضاً، فإنه تفادى "استعمال" بني هاشم، كما المهاجرين بشكل عام، مستعيناً بصورة خاصة، بشخصيات من الأنصار واكبت تجربته حتى نهايتها، وأظهرت مصداقية عالية في مهامها.
وإذا كان علي قد كافأ عامله المخزومي وأظهر التقدير لنزاهته، فإنه يظهر امتعاضاً مما وصله عن قاضي الكوفة (شريح بن الحارث) وشراء دارٍ له، وتشكيكاً باستغلال منصبه، فاستدعاه وقال له:
"فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة".
وبوحي من هذا الموقف يوجّه كتاباً إلى أحد عمّاله، طالباً منه تقديم كشف لحسابه، بعدما بلغه من أخبار عن سوء أمانته وإثرائه على حساب منصبه:
"بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس".
وكان على "العامل" برأي علي أن تكون مسافة ما بينه وبين الرعية، لأن التوسّع في الاختلاط بهم، يمسّ من هيبة السلطة ويجعل الحاكم أسير هذه العلاقة، ولذلك يأخذ على عامله (عثمان بن حنيف) تلبيته لوليمة أقامها رجل من البصرة. فالعامل بشرٌ، ويجب أن يكون محصناً إزاء المغريات، وكل ما يمسّ سلوكه القدوة، ومن هنا كان عليه، التنبّه للمنافقين "الذين يلتمسون الحق بالباطل"، وعليه حسن اختيار الأعوان لأن "للوالي خاصة وبطانة فيهم استثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة".
***
ج_ في الفكر الحربي: برز علي مقاتلاً شجاعاً في حروب الإسلام ضد المشركين واليهود، وبذلك أتى إلى الخلافة ومعه تجربة غنية في الحرب، هذه التي وجد نفسه في أتونها، حين الفتنة ذرت قرنها وعصف الانقسام بالمسلمين. فخاضها على غير رغبة منه أو حماسة، ليتقي فقط الانهيار، ويتصدى للبغي والباطل. على أن الحرب لم تدفع به إلى التطرف، وهي تفرض في العادة مثله، خصوصاً إذا كان القتال من أجل المبدأ، بما يصاحبه من فرز للمواقف وحسم للخيارات، وإنما كان هاجسه الدماء التي تُهرق في غير موضعها، وخارج القضية الأساس للإسلام. ومن هنا كانت حرب البصرة من أصعب القرارات لدى الإمام، تلك الحرب التي أشعل نارها من عُرفوا بالناكثين الذين دفعوا بالفتنة إلى جبهة المهاجرين، بما يعنيه ذلك من اقتتال بين الروّاد في الإسلام، وما تركه ذلك من شرخ عميق في المجتمع الذي فقد تماسكه منذ ذلك الحين.
ولابد للمتتبع لمعركة الجمل التي وقعت في مستهل عهد علي، أن تتبدّى له معالم المنهج الذي يستعيد في ظله المؤرخ، صورة الصراع مع المنافقين في المدينة، دون أن يعني ذلك المقارنة المجرّدة بين هؤلاء وبين "الناكثين"، ولكن المقارنة تصبح جائزة بين أسلوب كل من الرسول والإمام، في مواجهة الفتنة، وإبقاء باب الحوار مفتوحاً حتى اللحظة الأخيرة، توخياً لهدف أساسي وهو إنقاذ وحدة الأمة.
وبهذا المعنى تكون معركة الجمل من أخطر الأزمات الداخلية التي عصفت بالمسلمين، ولقد خاضها علي بروح عالية من المسؤولية، وموقف شجاع غير متأثر بالاعتبارات الشخصية والسياسية، وخاضها أيضاً بفكر لمّاح يستنبط حلولاً صعبة للمسائل المعقدة، فكان قراره، إزاء تجربة ليست لها سابقة، مما رهص به فكره الحربي في تلك المرحلة. ويتسامى هذا الفكر متجاوزاً النكث للعهد والدماء، ومنتصراً على الأحقاد، فيصبح قتل الخصوم مثار حزن وأسى، وليس مبعثاً للابتهاج كما في قانون الحرب، ومراعياً حرمة البيوت والمرأة التي كان لها محل في معركة الجمل.
وبهذه الروح العالية، حارب علي معاوية، فلم يكن القتال على هذه الجبهة الداخلية، سوى وقفٍ لعدوان وإتقاء لفتنة، وبوحيها يوصي أحد قادته (معقل بن قيس الرياحي) حين أرسله إلى الشام طليعة لقواته:
"اتق الله الذي لابد من لقائه ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من قاتلك".
وكان يختار قادته وفقاً للمعيار الذي رأيناه في اختيار الولاة والقضاة، وهو يقوم على التقوى، مصحوبةً بالجرأة والإقدام الإنضباط. ففي كتاب له إلى اثنين من القادة ينبئهما بتعيين الأشتر قائداً للجيش يقول:
"قد أمّرتُ عليكما وعلى من في حيّزكما مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا، واجعلاه دِرعاً ومِجَنّاً، فإنه ممن لا يُخافُ وَهنُهُ ولا سقطتُهُ، ولا بُطؤهُ عما الإسراعُ إليه أحزَمُ، ولا إسراعُهُ إلى ما البُطْءُ عنه أمثلُ".
والجهاد من هذا المنظور، يجسد مرحلة يرتقي بها الإنسان إلى مستوى نخبوي، يؤهله للانخراط بكلّيته في القضية التي يقاتل من أجلها ويتفاعل معها بعقله وإحساسه، سواء كان النصر ما ينتظره أو الشهادة. ولذلك يقوّم الإمام الجهاد بأنه "باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه". ولما أيقن ضياع هذه النخبة وانطوائها على قلة صغيرة، حاول عبثاً تحريض أصحابه على الجهاد، لا سيما في خطبته الشهيرة التي تحمل هذا العنوان، وتخوض في موضوعه ببلاغة وعمق. ولكنه أدرك أخيراً أن هؤلاء القوم _وهم سواد قبائل الكوفة _ الذين فرضت الأحداث أن يكونوا جمهوره الأساسي، إنما كانوا يقاتلون في سبيل قضية، لم يكتنهوا _باستثناء قلّة _ عمقها ومداها، إلا أنها لم تعد تأثيراً على تكوينهم القبلي الذي تراجعت فيه العصبية، بالمقارنة مع عصبيات الشام المتماسكة، مما أدى إلى زعزعة انضباطها في هذا المجال أيضاً، وحدا بعلي في النتيجة إلى تتويج خطبته بالقول المأثور: "لا رأي لمن لا يطاع".
ولأن الحروب التي خاضها علي كانت موجّهة ضد الباطل والبغي، فقد عاشها بعقله وأحاسيسه، وحرص على أن تكون كذلك لدى قادته وجنوده، مشدّداً على إبراز الهدف الذي يقاتلون من أجله، والتمييز بين قضيته وقضية العدو، فضلاً عن التحريض الدائم من أجلها على القتال. وإذا أردنا الدخول في التفاصيل سنجد أن مسألة الجهاد تتخذ حيزاً بارزاً في نصوص "النهج"، حيث تتبدى واضحة حوافز الإمام، وهو مقبل على الحرب بمشاعر صادقة وإيمان عميق بتحقيق النصر:
"فلما رأى الله صدقنا، أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه ومتبوئاً أوطانه".
ولكن هذا النصر، كان دونه الصبر على الألم والجدّ في "جهاد العدو"، ولذلك كان علي يعدّ للحرب عدتها، بما فيها تحشيد المقاتلين، والظهور بأتم اللياقة والتنظيم، وإحداث الجلبة، وغير ذلك مما يعكس رهبةً لدى العدو. كما يهتم بالاستعداد النفسي للجنود، على نحوٍ يجعلهم أكثر قدرة على القتال والانخراط المطلق فيه:
"عضوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة، وقلقوا السيوف في أغمادها قبل سلّها".
أما بشأن القيادة، وإن مارسها علي بصورة مباشرة، متقدّماً الصفوف في حرب دُفع إليها ضد الباطل، وقضت أن يكون على رأسها، فإن القاعدة في "نهج البلاغة"، ألا يكون "الإمام" قائداً للجيش في الحرب، لأن ذلك في حال وقوعه، ينعكس خطراً على المرجعية في "الدولة". ومن وحي هذا المفهوم، نصح الخليفة عمر بن الخطاب، أن لا يسير بنفسه إلى "غزو الروم"، قائلاً:
"إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقَهُم فتُنكب، لا تكن للمسلمين كانِفَةٌ دون أقصى بلادهم، ليس بَعدَكَ مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مُجَرباً، واحفِزً معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تُحِبُّ، وإن تكن الأخرى كنتَ ردءاً للناس ومثابة للمسلمين".
***
د_ في الفكر الاقتصادي: كان من الطبيعي، والحرب أخذت جل وقت الخليفة (علي)، أن ينعكس ذلك على نصوص نهج البلاغة، فبدا الجهاد مستأثراً بنصيب كبير، وفي سياقه كان الاهتمام بمسائل الإدارة والسياسة. وعدا ذلك فإن مسائل أخرى بدت على الهامش منها، لا سيما المسألة الاقتصادية التي اقتصرت على أمور العطاء وملكية الأرض والخراج، وشواهد خافتة على هذا الجانب الهام في "دولة" علي، ولكنها لا تعدم في النهاية ضوءاً على السياسة المالية في هذه الأخيرة، متّسقة في ظل التجربة وخصوصيتها في تلك المرحلة.
وبالعودة إلى المصادر التاريخية، نجد الإمام علياً يلتزم القاعدة التي انطلق منها الخليفة عمر بن الخطاب، بشأن إقطاع الأرض وإبقائها ملكاً للأمة، وهي سياسة أثارت على الخليفة الأسبق قريشاً وبعض صحابتها، كما أثارت قادة الأمصار الذين استفزهم منح الخليفة عثمان قطائع لهؤلاء ولأقربائه، وهو ما يبدو أنه كان أحد حوافز القادة للثورة على الخليفة. ولذلك كان استرداد هذه "القطائع"، جزءاً من الحركة الإصلاحية التي استهدفت من جانب علي مجمل نهج الخليفة السابق، على كافة الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية.
كانت نظرة علي إلى الخراج الذي يرتبط عضوياً بالعطاء، خصوصاً بعد توقف الغنائم إثر ركود جبهات الفتوح. وهي نظرة تؤسس لعلاقة إيجابية مع شعوب البلاد المفتوحة، بما يسهم في عمرانها وتعزيز انتمائها للأمة. لذا يرى ضرورة إصلاح أمر الخراج، بما يتعدى الجباية، إلى المسألة الاقتصادية برمّتها، حيث يشكل الخراج المصدر الأساسي لها في ذلك الوقت، وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في عهده للأشتر، فيوصيه قائلاً:
"تفقد أمر الخراج بما يُصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لِمَن سِواهم ، ولا صلاح لمن سِواهم إلا بهم، لأن الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغَ من نظرك من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً".
وبهذا الكلام يستشرف الإمام علي، المصير الذي سارت إليه دولة الأمويين، من خلال نظرتها القصيرة إلى الخراج، مقترناً لديها بالاستغلال، ذلك الذي ألبَّ عليها شعوب البلدان المفتوحة.
وخلافاً لذلك، حرص علي على تكريس الشعور بالمساواة لدى هذه الشعوب، محذراً من استغلال أهل الخراج، وموصياً بالتالي أن يؤخذوا باللين والحوار والمودة. ولعل كتابه إلى عمّال الخراج، يشكل نموذجاً في هذا المجال، محدداً وظيفة الخراج وطبيعتها وصفات العامل عليه ورسالته. وقد جاء فيها:
"فانصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خُزّانُ الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طِلبتهِ، ولا تبيعُنَّ للناس في الخراج كسوةَ شتاءٍ ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً، ولا تضربُنَّ أحداً سوطاً لمكانٍ درهم، ولا تمسُّن مال أحد من الناس مُصَلَّ ولا مُعاهَدٍ، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعتدى به على أهل الإسلام".
ومما يلفت في هذا المجال، أن علياً عمد إلى فصل وظيفة الخراج، كذلك بيت المال، ضبطاً لمالية الدولة، وحتى لا تكون السلطات محصورة بكاملها في يد الوالي الذي قد يلجأ إلى استغلال نفوذه الواسع. ولقد روى اليعقوبي أن علياً كتب إلى قرظة ابن كعب الأنصاري، يأمره بشق نهر كان قد عفا في أرضٍ لأهل الذمة، خاتماً رسالته بالقول:
"فلعمري لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا".
وهكذا يأتي تشجيع الزراعة في خدمة الاستقرار، ويقترن الخراج بعمارة الأرض وإصلاحها، ولعل هذه السياسة، وإن وجدها البعض "شديدة"، لا سيما المتضرّر من المساواة، حفرت بعمق أمام الإسلام لينتشر بتلك السرعة في البلاد المفتوحة. على أن علياً شأن أسلافه رفض توزيع الأرض في السواد الذي أخذ يتحول إلى مطلب حيوي لقادة الأمصار، ويشكل مصدر للخلافة الراشدية.
كما لفت علي في نهج البلاغة إلى أهمية دور الصنّاع والتجار في الحياة الاقتصادية، فأوصى بهم خيراً، ولكنه لا يغفل عن سلوكهم الذي ينبغي أن يكون تحت مراقبة العمال، حتى لا يشتطوا في الطمع والجشع، وهو ما ينطوي عليه خصوصاً أحد كتبه إلى الأشتر:
"واعلم _مع ذلك _ أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشُحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة وعيب على الولاة".
فمن مسؤولية العامل أن يراعي أوضاع الفئات الفقيرة، أو من يسميهم الإمام بالمساكين وأهل الزّمنى الذين لا حيلة لهم، وأن يحميهم من الاستغلال والاحتكار. وهو ما يوجب التدخل لضبط الأسعار ومراقبة الموازين والمكاييل، حتى لا يكون إجحاف بالفريقين (البائع والمبتاع)، فضلاً عن استخدام القمع نحو المخالفين من التجار:
"فَمَن قارفَ حُكْرَة بعد نَهيكَ إياه، فنكل به وعاقبه في غير إسراف".
***
ولعل علياً الذي انخرط مبكراً في الإسلام، وأبحر فيه بتقواه وعلمه، ومن ثمّ وجد نفسه في موقع قيادي على مساحته، كان يرى برغم التحديات وجوب متابعة هذا الدور، بغية إرساء دعائم الدولة التي تجلّت ملامحها في عهد الخليفة عمر، قبل أن تعصف بها المؤامرة. ومن هذا المنظور، لم يكن علي بعيداً عن تجربة هذا الخليفة الذي تشير الروايات التاريخية إلى استشارة الأخير له في الأمور الصعبة، فضلاً عن تعيينه نائباً له عند خروجه إلى الشام (17ه‍)، بل كان يجد في ما أنجزه، نواة لهذه الدولة التي خالجت صورتها الإمام، وسعى إلى استكمالها بعد أن آلت إليه الخلافة. وقد نجد أصداء هذه العلاقة الإيجابية بين الإثنين في نهج البلاغة، مثنياً _أي علي _ على عمر بوصفه بعد اغتياله أنه "قوَّمَ الأود وداوى العَمَد وخلّف الفتنة، وأقام السنة. ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرّها. أدّى إلى الله طاعته واتّقاه بحقه. رحل وتركهم في طريق متشعبة، لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي".
لقد جمعت قواسم عديدة مشتركة بين الاثنين في رؤيتهما للدولة، مع الفارق أن الأول (عمر) وجد أنه باستطاعته تحقيق هدفه من خلال صيغة توازنية واءمت المرحلة (أصاب خيرها وسبق شرها) ربما أسهمت المرحلة في نجاحها النسبي على الأقل، فيما كان الثاني (علي) بجذريته في الأساس، وأمام تغيّر الظروف عمّا كانت عليه، محكوماً بالخيار الصعب، دون أن تكون مجديةً في ذلك الوقت، العودة إلى المعادلة السابقة لو شاء الإمام ذلك. فقد شهدت مرحلة علي فرزاً لم يكن قائماً بهذا الوضوح من قبل بين تيارين: أحدهما يمثل الإسلام الجذري، وآخر يسعى إلى التوفيق مع شعاراته، مستمداً قوته من القبائل التي لم تكن بمعظمها قد انخرطت تماماً في حركة الإسلام أو استوعبت مفاهيمه بما يتعدى الشعار.
وهكذا، فإن الدولة التي أخفقت على الأرض، كانت تصوغ نموذجها بهدوء في الوقت نفسه على صفحات نهج البلاغة، وترى إلى أن تصبح حقيقة في يوم، قرب أم بعد. كان ذلك هاجس علي في مراهنته على النخبة، وفي أن تكون للإسلام دولة على صورته، ليست _كما جاء في السياق القرآني _ لفئة أو عشيرة أو طبقة، وإنما هي لجميع المؤمنين بالتساوي، حقوقاً وواجبات. ولعل هذه "الدولة" أعلنها فعلاً في نصّه المتعلق بالخوارج، مختصراً وظيفتها على كافة الصعد السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية والحربية.
المصدر :الامام علي في رؤية "النهج"و"رواية"التاريخ .

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة