موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

بقلم: د. محمد عمارة
الاستعمار الاستيطاني بين فقه الواقع وفقه النص


الفقه في معناه الأولى والأعم والأدق هو: الفهم والوعي. ولأن الإسلام دين الجماعة؛ ولأن شريعته -التي هي مرجعية الفقه الإسلامي- هي دين ودنيا، كان الفقه الإسلامي أكثر من مجرد وعي بالأحكام، وأكبر من مجرد فهم للنصوص والمأثورات الدينية؛ إذ لا بد فيه مع فقه "الأحكام" من فقه "الواقع" الذي تتنزل عليه هذه الأحكام، ومن الوعي بمصالح الجماعة والأمة، ومن عقد القران بين فقه الأحكام وفقه الواقع، أي تنزيل الحكم على الواقع، تحقيقًا للمصالح الشرعية المعتبرة لأمة الإسلام وجماعة المسلمين.
وهذا المنهاج الإسلامي في النظر الفقهي هو الذي يعصم الفقه الإسلامي من الفصام النكد بين النصوص والمأثورات والتراث، والواقع المعيش، وما يرتبط به من مصالح شرعية معتبرة لجماعة المسلمين.
وإذا كان هذا الفصام النكد قد أثمر في حياتنا الفكرية "فقهاء بالأحكام" لا دراية لهم بفقه الواقع الذي يعيشون فيه، و"خبراء بالواقع" لا دراية لهم بالشريعة التي أنزلها الله لتدبير وحكم حركة الواقع الذي يعيش فيه المسلمون، فإن التأليف الخلاق بين "فقه الواقع" و"فقه الأحكام" هو السبيل إلى إخراج حياتنا الفكرية وثقافتنا الإسلامية من هذا الفصام النكد الذي يشكو منه الكثيرون.
بل لا نغالي إذا قلنا: إن منهاج النظر الإسلامي إنما يدعونا إلى البدء بفقه الواقع حتى نبحث لمشكلاته عن الأحكام والحلول الملائمة في فقه النصوص والمأثورات. فالشريعة الإسلامية، ومطلق الدين إنما جاء هداية إلهية لتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة، والسعادة الإنسانية في المعاش والمعاد. ففقه الواقع، والبحث عما يحقق مصالح جماعة المسلمين هو نقطة البدء والانطلاق المعتبرة في الشرع وفي استنباط الأحكام العملية، وفقه الأحكام هو السبيل لضبط المصالح بضابط "الاعتبار الشرعي"، وذلك تمييزًا لهذه المصالح عن "المنفعة الدنيوية الصرفة" المنفلتة من ضوابط الدين.
المنهج الرباني ومشكلة الاستعمار
وإذا نحن طبقنا هذا المنهاج في النظر الفقهي على القضية الفلسطينية، وصراع الأمة العربية والإسلامية، فلا بد أن نبدأ بفقه واقع القضية الفلسطينية، والوعي بالحقائق الواقعية لهذا الصراع، وذلك حتى نبحث لمشكلات هذا الواقع عن إجابات على علامات استفهامه، وعن الأحكام الشرعية المحققة لمصالح الأمة في قضايا هذا الصراع.
فقه الواقع: معطيات التاريخ القديم
لفقه هذا الواقع، وللوعي بالحقائق التاريخية الصلبة والعنيدة والمستعصية على الخلاف والاختلاف، فإننا نسوق عددًا من هذه الحقائق والوقائع الحاكمة في فقه ووعي طبيعة هذا الصراع المفروض على أمتنا.
كل اليهود على أرض فلسطين لصوص ومحاربون حتى ولو لم يدخلوا الجيش أو يحملوا السلاح. فعرب فلسطين الحاليون هم الامتداد للكنعانيين الذين هم من أقدم الجماعات البشرية التي وعى التاريخ سكناهم لأرض فلسطين، وأصل الكنعانيين هؤلاء أصل عربي خالص؛ لأنهم جزء من الهجرات العربية التي خرجت من شبه الجزيرة العربية إلى أرض فلسطين التي سُميت لذلك في فجر تاريخها بـ"أرض كنعان".
ولقد وعت ذاكرة التاريخ هذه الحقيقة قبل 4500 عام من تفجر الصراع العربي الصهيوني، أو من دعاوى الحق التاريخي لليهود في فلسطين. كما وعت ذاكرة التاريخ أن "اليبوسيين" الذين سكنوا فلسطين قديمًا هم الآخرون عرب، وهم الذين بنوا مدينة القدس في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل ثلاثة آلاف عام من الوجود الهامشي لليهود العبرانيين على مقربة من القدس.
جـ- وإذا كان اليهود هم أتباع الشريعة اليهودية التي جاء بها موسى عليه السلام، فإن موسى قد وُلد، ونشأ، وبُعِث، ومات، ودُفِن، في مصر. ولم تقم بين اليهودية وبين فلسطين في ذلك التاريخ أدنى علاقة. فلا توراة موسى نزلت بالقدس أو فلسطين، كما هي علاقة الإسلام والقرآن بالحجاز مثلاً، وكما هي علاقة النصرانية والإنجيل بفلسطين، وإنما نزلت توراة موسى بمصر، وبلغتها الهيروغليفية.
ولقد رفض أتباع موسى -اليهود- دعوته لدخول الأرض المقدسة، أرض كنعان، فعاشوا وماتوا في التيه بمصر، دون أن تكتحل عين أي منهم برؤية القدس وفلسطين.
د- أما العلاقة اليهودية ببعض أرض فلسطين فعلاقة طارئة ومؤقتة، بدأت في عصر "يوشع بن نون" الذي غزا بعض أرض فلسطين بعد 1500 عام من التاريخ العربي المكتوب لفلسطين العربية الكنعانية، أي ما بين سنة 1000 ق.م وسنة 586 ق.م. ولم يدم هذا الوجود اليهودي بأرض فلسطين، والذي ظلَّ وجودًا قلقًا ومتشرذمًا سوى نحو أربعة قرون، أي نصف عمر الوجود العربي في بلاد الأندلس، ولقد شارك في إزالة واستئصال هذا الوجود اليهودي من أرض فلسطين كل من الآشوريين، والفرس، والفراعنة، والإغريق، والرومان، بينما ظلَّ الوجود العربي في فلسطين هو الراسخ والدائم منذ فجر التاريخ وحتى هذه اللحظات.
هذا عن التاريخ القديم، وما يرتب من حقوق، مع افتراض جواز توزيع خرائط وحدود الأوطان المعاصرة بناء على ذلك التاريخ القديم، ولو جاز هذا الافتراض لطالب المصريون بإمبراطورية رمسيس الأكبر (1290-1224 ق.م)، وطالبت إيران بمملكة قمبيز (529-521 ق.م)، وطالبت مقدونيا بإمبراطورية الإسكندر المقدوني (356-323 ق.م)، ولتحول العالم إلى صورة عبثية ليس لها نظير.
فقه الواقع: معطيات العصر الحديث
في العصر الحديث بدأت علاقة "المشروع" اليهودي-الصهيوني بأرض فلسطين كثمرة للغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة التي بدأت بحملة بونابرت الفرنسية على مصر (1213هـ=1798م) في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. فلقد أعلن بونابرت وهو في طريقه من مرسيليا إلى الإسكندرية عزمه على تجنيد عشرين ألفًا من أبناء الأقليات الدينية في الشرق الإسلامي؛ ليكونوا مواطئ لأقدامه الاستعمارية، وثغرات اختراق لوطن العروبة وعالم الإسلام. وفي إطار هذا المخطط، وسعيًا لتحقيق هذا العزم أصدر بونابرت نداءه إلى يهود العالم الذين ينحدر أكثر من 80% منهم من نسل يهود الخزر الذين تهودوا في منتصف القرن الثامن الميلادي، والذين لا علاقة لهم باليهود والعبرانيين ولا ببني إسرائيل. أصدر بونابرت نداءه إلى هؤلاء اليهود الذين نشئوا في آسيا الوسطى، والذين لا علاقة لهم بفلسطين، طالبًا منهم القيام بدور الشريك الأصغر في مشروعه الإمبريالي؛ لإقامة الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية التي كان يحلم أن تعيد سيرة الإمبراطورية الإغريقية الاستعمارية التي بناها الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي قهرت الحضارات الشرقية عشرة قرون حتى أزالتها الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي.
ولقد قال بونابرت في هذا النداء الذي أصدره إبان حصاره مدينة "عكا" سنة 1799م مخاطبًا الجماعات اليهودية: "أيها الشعب الفريد، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن، حاملة إرث إسرائيل. إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به قد اختار القدس مقرًّا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق التي استهانت طويلاً بمدينة داود وأذلتها، يا ورثة فلسطين الشرعيين، إن الأمة الفرنسية تدعوكم إلى إرثكم، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء"(1).
ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الشراكة بين قطاعات من الجماعات اليهودية وبين المشروع الإمبريالي الغربي ضد استقلال الأمة الإسلامية وتحررها وتقدمها.
وعندما تراجعت ريادة الاستعمار الفرنسي في هذا المشروع الإمبريالي الغربي، وتسلمت الإمبراطورية البريطانية قيادة هذا المشروع، تحول ولاء الجماعات اليهودية إلى الاستعمار الإنجليزي الذي تبنى مشروع الشراكة هذا، فسعت إنجلترا في العقد الرابع من القرن التاسع عشر الميلادي إلى إقناع السلطان العثماني سرًّا بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين؛ لإقامة كيان معاد لمشروع محمد علي باشا (1184=1265هـ-1771=1849م) الذي سعى إلى تجديد شباب الشرق العربي الإسلامي؛ للحيلولة دون سقوط أقاليمه في قبضة الاستعمار الأوروبي الذي كان يحرس أمراض دولة رجل أوروبا المريض، حتى يحين الحين لاتفاق إمبراطورياته الاستعمارية على توزيع ووراثة أقاليمها وولاياتها.
فالهدف الثابت من وراء زرع هذا الكيان اليهودي الغريب في أرض فلسطين هو - منذ بداية تفكير الاستعمار الغربي في هذا المشروع- إقامة عازل يهودي يمثل قاعدة استعمارية غربية، وامتدادًا للحضارة الأوروبية في قلب الشرق العربي الإسلامي؛ للحيلولة دون الأمة العربية الإسلامية والوحدة والحرية والنهوض.
وعندما غربت شمس الإمبراطورية البريطانية كنظيرتها الفرنسية، وتسلمت الولايات المتحدة الأمريكية زمام القيادة للمشروع الاستعماري الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت الشراكة وتحول الولاء اليهودي إلى الولايات المتحدة، على النحو الذي تجسده الوقائع المأساوية لهذا الصراع منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين (1367هـ=1948م)، وحتى كتابة هذه السطور.
وإذا كان فقه الواقع هو الفيصل في إقامة الحجة على انعدام مشروعية العلاقة بين اليهود وفلسطين في العصر الحديث، كما كان حال هذا الواقع في التاريخ القديم، فيكفي أن نشير إلى منطق الأرقام الذي يعلن أنه ليس ثمة شرعية ولا حق لليهود في أرض فلسطين، والذي يفصح عن أن علاقة اليهود الحديثة والطارئة بأرض فلسطين هي علاقة الاستعمار الاستيطاني الذي تم في ظلِّ هذه الشراكة بين الحركة الصهيونية والاستعمارين الإنجليزي والأمريكي.
ويمكن فحص ذلك الوجود من خلال تصفح الأرقام التالية:
أ- ففي سنة 1852م لم يكن الوجود اليهودي في فلسطين يتعدى 13.000 نسمة، أي نسبة 4% من سكان فلسطين.
ب- وعند قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914م كان عدد اليهود في فلسطين قد بلغ 60.000 نسمة، يحمل منهم الجنسية العثمانية 39.000 نسمة فقط، والباقون إما زوار، أو حجاج، أو متسللون غير شرعيين. ولقد حدثت هذه الزيادة بفعل الهيمنة الإنجليزية على السياسة العثمانية، وبسبب الضعف والفساد اللذين أصابا الإدارة العثمانية، وبالرغم من وعي السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1258-1336هـ=1842-1918م) بخطر الهجرات اليهودية على فلسطين.
وفي مقابل هذا الوجود الهامشي لليهود في فلسطين سنة 1914م كان تعداد الفلسطينيين في ذلك الوطن يومئذ 683.000 نسمة، منهم 602.000 نسمة من المسلمين، و81.000 نسمة من العرب المسيحيين.
جـ- فلما أعطت إنجلترا التي لا تملك لليهود الصهاينة الذين لا يستحقون وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917م، واحتلت جيوشها فلسطين سنة 1918م، واستأثرت باستعمارها تحت اسم الانتداب، وفق اتفاقات سان ريمو في إبريل سنة 1920م.
وقد أعطت عصبة الأمم لهذا الانتداب، ولوعد بلفور شرعية دولية في سنة 1922م فتحت إنجلترا أبواب فلسطين للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وللهجرات اليهودية ولبناء المستعمرات "الكيبوتزات"؛ فقفز تعداد اليهود في فلسطين من 55.000 نسمة سنة 1918م إلى 646.000 نسمة في سنة 1948م: أي من 8% من إجمالي سكان فلسطين إلى 31% من السكان. وبعد أن كانت ملكية اليهود للأرض في فلسطين لا تتجاوز 2% أي نصف مليون دونم، بلغت في سنة 1948م 6.7% أي 1.800.000 دونم من أرض فلسطين.
د - ومع كل هذا الذي صنعه الاستعمار الإنجليزي لليهود سكانًا وتملكًا للأرض، طوال ثلاثين عامًا من الحكم الاستعماري لفلسطين (1918-1948م) ظلَّ الوجود اليهودي في فلسطين هامشيًّا، وظلَّ حتى سنة 1948م 69% من سكان فلسطين عربًا و93.3% من أرض فلسطين مملوكة لسكانها العرب.
هـ - لكن قرار التقسيم لفلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة (القرار:181) في 29 نوفمبر سنة 1947م أعطى لليهود الذين لم يكونوا يملكون من أرض فلسطين سوى 6.7% الحق في دولة مساحتها 54% من أرض فلسطين، وقرَّر للعرب الذين كانوا يملكون يومئذ 93.3% من أرض فلسطين دولة مساحتها 45% من أرض فلسطين، واستثنى هذا القرار مدينة القدس 1% من مساحة فلسطين من هذا التقسيم.
ولم تكتفِ الصهيونية التي ضمنت لها الولايات المتحدة التفوق الحربي والحماية في المنظمات الدولية، لم تكتف بهذا السخاء الذي جاءها من الشرعية الدولية، فضمت بالحرب، وبخرق الهدنة المساحات الجديدة من الأرض والقرى والمدن الفلسطينية، حتى ارتفعت بما تحت أيديها من 54% من مساحة فلسطين إلى 77% من مساحتها، وفي سبيل ذلك ارتكبت عصاباتها المسلحة 34 مجزرة، وهدمت وأزالت 478 قرية فلسطينية محتها من الوجود، وسعت بالإعلام والفكر إلى محوها من ذاكرة التاريخ.
و- ورغم أن العرب داخل حدود الكيان الصهيوني الذي قام سنة 1948م يمثلون خمس السكان، مليون من خمسة ملايين، فلقد جرَّدهم الصهاينة من أرضهم، حتى أصبح خمس السكان هؤلاء لا يملكون سوى 3% من الأرض، بينما يملك اليهود 97% من الأرض التي احتلت سنة 1948م.
ز- أما القدس التي ظلت عربية ثم إسلامية منذ تأسيسها على يد العرب اليبوسيين في الألف الرابعة قبل الميلاد، أي قبل ثلاثة آلاف عام من الوجود العبري الطارئ والمؤقت على مشارفها، والتي لم يكن بها من اليهود في العصر الحديث سوى عدد ضئيل من العائلات، لم تتعدَّ ملكيتهم في القدس قبل سنة 1948م 18% من مساحتها، فلقد سيطر اليهود، وخاصة بعد سنة 1967م على 86% من مساحتها، وقفزوا بالوجود السكاني اليهودي فيها إلى 450.000 نسمة في مقابل 200.000 نسمة من العرب يعيشون تحت الحصار.
وامتدت المصادرات الصهيونية إلى القدس الشرقية لتشمل حائط البراق، وحي المغاربة، وأربعة أنفاق تحت الحرم القدسي تهدد وجوده، وذلك غير ما صودر من الأرض الفلسطينية حول القدس، والتي تحولت إلى حزام من المستعمرات التي ضمت إلى القدس الكبرى، وإلى عازل بين القدس والضفة الغربية التي احتلت سنة 1967م، وفوق ذلك تشكلت التنظيمات الإرهابية الصهيونية -25 تنظيمًا- التي تعمل بالدعم والإمكانات اليهودية والأمريكية لهدم الحرم القدسي، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه.
وغدا المشهد المأساوي لواقع هذا الاستعمار الاستيطاني الصهيوني-الإمبريالي على أرض فلسطين رهيبًا؛ فاليهود الذين كان تعدادهم في فلسطين سنة 1852م 13.000 نسمة أصبح تعدادهم في فلسطين اليوم أربعة ملايين، وبعد أن كانوا لا يملكون من أرض فلسطين سنة 1918م سوى 2% أصبحوا يملكون ويسيطرون الآن على كل أرض فلسطين.
ولقد أدى هذا الاستعمار الاستيطاني، والإحلال والاحتلال اليهودي لأرض فلسطين إلى طرد وتهجير ستة ملايين فلسطيني؛ منهم خمسة ملايين طُرد آباؤهم سنة 1948م، ومليون طُرد آباؤهم فيما بعد سنة 1948م يعيشون جميعًا في المنافي والمخيمات والمستنقعات على الصدقات، ويكونون أكبر كتلة من اللاجئين وأقدم مأساة للاجئين على النطاق العالمي، وأكبر ضحية لأبشع وآخر نماذج الاستعمار الاستيطاني عبر تاريخ هذا اللون من ألوان الاستعمار، والاقتلاع، والإحلال، والاحتلال.
أما الأربعة ملايين يهودي الذين حلوا محل هذه الملايين العربية الفلسطينية، فإن 96% منهم قد جيء بآبائهم وأجدادهم من مختلف بلاد الدنيا؛ ليغتصبوا الأراضي، والمنازل، والسيادة، والأمن، والماء، والهواء على أرض فلسطين(3).
نظرية الحق والاستعمار الاستيطاني
بفحص ما تقدم من أرقام، وأساليب وحشية في تحقيق الغلبة العددية الصهيونية يمكننا التأكيد على أن كل اليهود على أرض فلسطين "لصوص.. ومغتصبون.. ومحاربون"، حتى ولو لم يلبسوا ملابس العسكريين، أو يدخلوا الجيش، أو يحملوا السلاح.
فالتمييز هنا، والقسمة في هذا المقام هي بين محارب ومسالم، وليست بين عسكري ومدني. فالمستوطنون المغتصبون للأراضي، والمنازل، والديار، والأمن، والماء، والهواء هم محاربون، رجالاً كانوا أم نساء، وبصرف النظر عن الزي الذي يرتديه هؤلاء المغتصبون، وعلى تنوع السلاح الذي يحاربون به طائرات، أم دبابات، أم مدافع أيًّا كان هذا السلاح، أم جرافات ومحاريث وأفكارًا، فجميعها أسلحة فتَّاكة، يدعم بعضها البعض الآخر، وتتكامل جميعها في الاغتصاب، والاستعمار الاستيطاني لأرض فلسطين.
كما أن قِدم تاريخ السرقة والاغتصاب في الاستعمار الاستيطاني، لا يرتب شرعية ولا مشروعية ولا حقوقًا للصوص المغتصبين، وإلا لجاز "الإفتاء" بأن لأسبانيا حقوقًا مشروعة في أرض سبتة ومليلة العربيتين المسلمتين المغربيتين على الساحل الأطلسي للمغرب، وهما محتلتان ومستعمرتان استعمارًا استيطانيًّا منذ سنة 1415م وسنة 1497م، أي قبل أربعة قرون ونصف القرن من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لأرض فلسطين.
وإذا كان زنوج جنوب إفريقيا قد رفضوا الاستعمار الاستيطاني الأوروبي لبلادهم، والذي بدأته شركة الهند الشرقية الهولندية سنة 1652م، وظلوا يجاهدون قرابة أربعة قرون حتى أزالوا هذا الاستعمار الاستيطاني في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وذلك دون أن يظهر بين هؤلاء الزنوج من يفتي بأن للمستعمرين البيض حقًّا تاريخيًّا في أرض جنوب أفريقيا، أو أن هؤلاء المستعمرين هم مدنيون أبرياء، وليسوا محاربين؛ لأنهم لا يلبسون لباس العسكر، ولا يحملون الرتب العسكرية.
قياس من باب أولى
فغير معقول ولا مقبول أن يظهر بين أمة الإسلام، التي جعل رسولها -صلى الله عليه وسلم- الجهاد ذروة سنام الإسلام، وجعل رهبانية هذه الأمة الجهاد، وجعل هذا الجهاد بما فيه القتال فرض عين على كل مسلم ومسلمة إذا احتل العدو شبرًا من أرض المسلمين، وفلسطين ليست شبرًا، وإنما مساحتها 27.900 من الكيلو مترات المربعة، وهي ليست مجرد أرض، وإنما هي أرض مقدسة- من يفتي أن للصوص الاستعمار الاستيطاني حقًّا في أولى القبلتين وثالث الحرمين، والأرض التي بارك الله فيها عندما جعلها مسرى الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- ومعراجه إلى السموات العلى.
فالإفتاء الذي يستحق صاحبه حمل أمانة التبليغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن يبدأ بفقه الواقع، واقع الاستعمار الاستيطاني، القائم على اغتصاب أرض القدس وفلسطين، ذلك الذي تحالفت فيه الشراكة الاستعمارية- الصهيونية على اغتصاب المنازل، والديار، والأرض، والأمن، والماء، والهواء من أصحابها الشرعيين، فلا حرمة للص مغتصب.
وإذا كانت اتفاقات جنيف التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1949م قد جعلت إقامة المحتل للمستوطنات على الأرض المحتلة، وتغيير طبيعة هذه الأرض المحتلة جريمة حرب ضد الإنسانية، فإن الكيان الصهيوني بكامله جريمة حرب كبرى ضد الإنسانية؛ لأنه ليس أكثر من استعمار استيطاني، منذ أول مستعمرة أقامها الصهاينة على أرض فلسطين إلى أحدث المستعمرات التي أقاموها هناك.
جـريمة حـرابة مركَّبة
إننا بلغة الفقه الإسلامي أمام "جريمة حرابة مركبة" مستكملة لأبشع جرائم الحرابة التي عرفها التاريخ. فالله تعالى يقول: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (المائدة: 33-34).
وإذا كانت الصراعات ذات العمق التاريخي، والتي تختلط وتجتمع فيها الأبعاد والعوامل الوطنية والقومية والدينية، والتي تتداخل فيها المصالح المحلية والإقليمية بالأطماع الدولية، وفي المقدمة منها، وكنموذج لها الصراع العربي- الصهيوني، فإن حل مثل هذا الصراع نادرًا ما يتم دفعة واحدة، وخاصة في الفترات التي تشهد اختلالات في موازين القوى بين أصحاب الحق وقوى الهيمنة والاغتصاب كما هو حادث الآن بين أطراف هذا الصراع.
التسوية المرحلية لا تعني عودة الحقوق
وإذا كان السلام الحق لا يمكن أن يقوم إلا بتحقيق كامل العدل الذي يعيد كامل الحقوق إلى أصحابها الحقيقيين، فلا بد أن تميز الفتاوى والاجتهادات والسياسات بين التسوية المرحلية التي تحقق خطوة أو خطوات نحو السلام العادل والدائم، وبين السلام الحق الذي يعني المصالحة التي تكرس ما ينتهي إليه الحل العادل للصراع.
فالتسوية المرحلية أقرب إلى الهدنة منها إلى حقيقة السلام. فلا سلام مع بقاء الاغتصاب لأي حق من الحقوق؛ حتى ولو أطلقت لغة الدبلوماسية على هذه الهدنة مصطلحات الصُّلح، والسلام.
وقديمًا أطلق المسلمون في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي على معاهدة الحديبية التي عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع مشركي قريش سنة 6هـ اسم "صلح الحديبية"، مع أنه كان هدنة موقوتة بعشرة أعوام بين المسلمين الذين ظلموا والمشركين الذين ظلموهم بإخراجهم من ديارهم، وبفتنتهم في دينهم، فلقد كان هذا الصلح هدنة مرحلية في إطار الصراع الممتد بين المسلمين المظلومين والظلم القائم الذي أوقعه بهم المشركون، ولم يكن سلامًا يكرس المظالم القائمة بحال من الأحوال.
وإبان الحروب والحملات الصليبية (489-690هـ=1096-1291م) التي شنَّها الغرب الأوروبي على الشرق الإسلامي على امتداد قرنين من الزمان، تداولت أطراف هذا الصراع، القتال والهدنة عدة مرات، حتى كان الاقتلاع الكامل والإزالة التامة لكل آثار الاستعمار الاستيطاني الذي أقامه الصليبيون على أرض فلسطين والشام.
ولقد وعى العقل المسلم في الفتاوى والاجتهادات والسياسات هذه المعايير الموضوعية والدقيقة في التعامل مع الأعداء في هذه الصراعات، ولهذا الوعي يحتاج العقل المسلم المعاصر وهو يتعامل مع الصراع العربي- الصهيوني الذي هو في الجوهر والأساس "استعمار استيطاني" تستخدم فيه الأساطير والأيديولوجيات والدعاوى التاريخية للتبرير ولإخفاء الوجه القبيح لهذا الاستعمار.
المصدر:اسلام اون لاين

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة