موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. محمد شحرور
مفردات قاموس الثورة النبوية الأصالة الثورية

1_ الطرح الايديولوجي والفلسفي الشمولي للكون والحياة والإنسان. وهذا الطرح جاء في مكة في القرآن حيث أن معظم الآيات التي تبدأ بـ "ياأيُّها النّاس". هي مكية وهي من هذا الطرح الشمولي، لذا قال عن القرآن أنه "هُدىً للنّاس" وعن الكتاب بأنه (هُدىً للمتّقين). حيث غطى هذا الطرح الوجود كله: الله، الكون، الإنسان، ونظرية المعرفة الإنسانية، أصل الإنسان، الحياة، الموت، الساعة، البعث، اليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب، قوانين جدل الطبيعة وجدل الإنسان، قوانين التاريخ، حرية الإنسان "القضاء والقدر" ونظرية الدولة والشعب والأمة والقومية والأخلاق. لأن أي طرح ايديولوجي وفلسفي لا يمكن أن يكون إلاّ إنسانياً (ياأيُّها النّاس).
2_ هذا الطرح الذي جاء في مكة والذي جاء بلسان عربي مبين، والذي فهموه فهماً نسبياً حسب أرضيتهم المعرفية واللسانية، وذلك من خلال خاصية التشابه، كان طرحاً متقدماً على كل ما هو موجود عند العرب وعند غيرهم وذلك في إطار فهمهم النسبي للقرآن ومقارنته مع ما هو موجود فعلاً في ذلك العصر. وعلينا نحن الآن أن نفهم القرآن ضمن الأرضية المعرفية السائدة في القرن العشرين ومقارنته مع ما هو موجود وسائد عندنا، فنراه طرحاً متقدماً على كل ما هو سائد عند العرب والمسلمين.
3_ لقد كان هذا الطرح قوياً في مضمونه حسب ما فهموه في ذلك الوقت، لكنه كان ضعيفاً في مواجهته المادية مع الخصم إذ كان دون أنصار لأنه كان جديداً كل الجدة على المجتمع السائد.
4_ انطلاقاً من هذا الطرح تشكل تنظيم قريب الشبه بما يسمى اليوم بالحزب الطليعي.
5_ كانت بدايات التنظيم الطليعي سرية "مرحلة دار الأرقم بن أبي الأرقم".
6_ بعد المرحلة السرية انطلق هذا التنظيم إلى العلنية ملتزماً التزاماً كلياً بالنضال السلبي "السلمي"، أي أنه كان يطرح الأفكار ويتلقى الصدمات دون أن يرد على العنف بالعنف المضاد. لذا ففي المواجهات الفكرية العقائدية كان المشركون يهربون من المسلمين ولا يحبون مواجهتهم حتى أنهم سموا محمداً ساحراً سحر شبابهم. أما في المواجهات القتالية فقد كان المسلمون يهربون من المشركين لعجزهم عن المواجهة حتى أنهم كانوا يضطرون للهرب في بعض المواقف "الهجرة إلى الحبشة" علماً بأنه كان هناك بعض المسلمين الذين طلبوا من النبي (ص) الرد على العنف بعنف مضاد ولكنهم منعوا من ذلك (أَلم تَرَ إلى الذين قيلَ لهم كفُّوا أيديِكُم...). (النساء/ 77) وذلك لأن الشروط الموضوعية لتلك الفترة لم تكن تسمح بذلك.
7_ لقد استعمل أعداء الطرح الجديد (الملأ) كل أساليب القمع والتعذيب الجسدي والنفسي وكانت قمة المواجهة السلبية هي الحصار الإقتصادي حيث تم هذا الحصار في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات ولم يستطع المسلمون مواجهته إلاّ بالصبر والإيمان بقضيتهم حيث لم يستطيعوا الحصول على الطعام إلاّ بالمساعدة السرية من بعض أصدقائهم من مكة. وهذا السلاح ما زال موجوداً حتى يومنا هذا وفعّالاً ولا يمكن مواجهته إلاّ بالصبر والإيمان بالقضية التي حوصر الناس من أجلها.
8_ لقد استعمل التنظيم الجديد في دعوته كل الوسائل المتوفرة في عالم الحقيقة آنذاك فكان النبي (ص) والمسلمون يذهبون لدعوة الناس ومجابهتهم ومناقشتهم ضمن كل الأطر المتوفرة آنذاك مثل "دار الندوة" وأسواق العرب مثل "سوق عكاظ" ومواسم الحج. كل هذا مع تفادي الصدام العنيف مع أعدائهم. علما بأنه بعد انتصارهم ألغيت دار الندوة وسوق عكاظ وبقي موسم الحج بعد تعميمه فريضة تعبدية.
9_ اللجوء إلى كل "وسائل الإعلام" الممكنة آنذاك مثل الشعر للرد على وسائل الإعلام المعادية.
10_ اللجوء إلى كل أساليب الخدعة والهرب والتمويه كي يخففوا عنهم ضربات الأعداء مع كل الحفاظ على القيم الأخلاقية فلم يمارسوا السبي وقتل النساء والأطفال والسرقة.
11_ المرونة في المناقشة والطرح "التكتيك" "المواقف السياسية" "صلح الحديبية" مع الصلابة في المواقف العقائدية المبدئية (قُل ياأيُّها الكافِرونَ* لا أعبدُ ما تَعبدونَ). (الكافرون1_2).
12_ البحث عن أرض ضمن شبه جزيرة العرب يمكن إقامة مجتمع صغير عليها مُسَيّس طبقاً للطروحات الجديدة، وكانت هذه هي الغاية الأساسية من الهجرة إلى يثرب إذ كان الحصول على الأرض الآمنة وإقامة المجتمع المسيس هو نقطة انعطاف كبرى في مسيرة الثورة. حيث أنه لا ثورة دون أرض ومجتمع مسيس على هذه الأرض.
13_ بعد الحصول على الأرض وإقامة المجتمع المسيس انتقلت الثورة من مرحلة النضال السلبي إلى مرحلة النضال الإيجابي وبدأت الحرب الأهلية فعلاً وانتشرت حتى سيطرت على شبه جزيرة العرب كلها لإقامة الدولة الواحدة (أُذِنَ للذينَ يقاتَلُونَ بأنّهم ظُلموا وإنّ الله على نصرِهم لقدير). (الحج/ 39)
14_ كذلك في مرحلة النضال الإيجابي استعملت كل أنواع الخدعة والتمويه مع الحفاظ الكامل على القيم الثورية الإسلامية فلم يقتلوا امرأة أو طفلاً أو أعزل من السلاح وحافظوا على عهودهم ووعودهم وأحسنوا معاملة الأسرى.و..و..
15_ عدم إغفال العلاقات الدولية بعد إقامة المجتمع المسيس "رسائل النبي (ص) إلى كسرى وهرقل والمقوقس".
16_ الحفاظ على وحدة أرض شبه جزيرة العرب من الأعداء الخارجيين "غزوة مؤتة، غزوة تبوك" أي بعد انهزام العرب في معركة مؤتة خشي النبي(ص) من هجوم الروم على شبه جزيرة العرب، فذهب على رأس جيش بنفسه إلى تبوك.
17_ بداية التشريع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأحوال الشخصية في المدينة حيث أن الآيات المدنية في معظمها تشريع وتبدأ بقوله تعالى (يا أيُّها الَّذين آمنوا) في حين أنّ الآيات المكية إنسانية تبدأ في معظمها بقوله تعالى: (يا أيُّها النّاس).
18_ استثمار كل المزايا العربية الإيجابية مثل الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف والعفو عند المقدرة والنزعة إلى الحرية حيث استثمرت إلى أبعد الحدود كل المزايا الإيجابية للقومية العربية "تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" "صحيح مسلم ج4، ص 1958".
19_ الاعتماد على أكثر الناس تحضراً بالنسبة لمجتمع شبه جزيرة العرب "قريش والأنصار" في قيادة العمل الثوري حيث كان المهاجرون "من قريش" والأنصار من "يثرب" هم النواة الأساسية للتنظيم الثوري، ولا عجب بأنهم كانوا القادة السياسيين والعسكريين للدولة وتحت قيادتهم جرت حروب التحرير الكبرى لأنهم كانوا أكفاء عن غيرهم في المناورة والتكتيك واتخاذ القرار ضمن الالتزام العقائدي الكامل، إذ أنهم عاصروا الرسول (ص) من أوائل أيام دعوته حتى وفاته وكانوا هم ذراعه الأيمن ومستشاريه في جميع الأمور التي لا تتعلق بالوحي.
20_ التفريق في القيمة بين القيادات وعامة الناس والتسوية في المعاملة (قالتِ الأعرابُ آمنّا قل لَم تؤمنوا ولكن قُولوا أسلمنا ولمّا يدخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُم). (الحجرات/ 14). هذه النقطة الخطيرة التي يمكن أن تقع فيها أكبر الثورات وتعتبر من نقاط المقتل في العمل الثوري. أي أن السابقين في الإسلام والذين تحملوا أقسى أنواع المشاق والموثوقين في التزامهم العقائدي والذين يقال عنهم الآن القيادة السياسية هم أعلى في القيمة من الناس العاديين الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة (إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ* ورأيتَ الناسَ يدخُلونَ في دينِ اللهِ افواجا). (النصر 1_2) ولكنهم متساوون مع الناس العاديين في الحقوق وأحكام القانون.
21_ السلطة السياسية هي أعلى سلطة في الدولة. فقد كان النبي(ص) في الأمور التي لا تتعلق بالوحي هو القائد السياسي وهو رأس القضاء، ولكنه لم يتول القيادة العسكرية إلا في الأمور الكبيرة "كقائد أعلى للجيش". هذه السنة التي سنها النبي(ص) والتي تشربها الصحابة والعرب معهم وهي أن القيادة السياسية هي أعلى سلطة في الدولة وإليها ترجع القرارات الاستراتيجية "العسكرية والمدنية وتقدير المواقف" كانت هذه السنة واضحة أشد الوضوح بعد وفاة النبي (ص) وهذه السنة تتمثل في الأمور التالية:
أ_ إن السلطة السياسية يجب أن تكون من أناس لهم ماض معروف وملتزمين وليسوا نكرات أي أنهم مارسوا النضال والقيادة قبل الوصول إلى هرم السلطة وهذا واضح في الخلفاء الراشدين والقواد العسكريين والمستشارين بعد وفاة النبي(ص) إذ كانوا من المهاجرين والأنصار.
ب_ إن القيادات العسكرية كانت خاضعة خضوعاً كاملاً ومطلقاً للقيادة السياسية حتى أن هذا الأمر كان طبيعياً جداً عند العرب بعد وفاة النبي(ص). مثال على ذلك عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد عن قيادة الجيش وتولية أبي عبيدة بن الجراح. وأمر الخليفة أبي بكر لخالد بن الوليد بترك العراق والذهاب إلى الشام. ومحاكمة خالد بن الوليد من أجل صرف المال دون أن تشفع له كل أمجاده العسكرية. وقد استمرت هذه الظاهرة حتى أوائل العهد العباسي حيث كان الخليفة الأموي هو رأس السلطة السياسية الفعلي وكان القواد العسكريون ملتزمين بكل قراراته دون أي مخالفة "قتيبة بن مسلم الباهلي" "موسى بن نصير" ولم تضعف الدولة العربية الإسلامية إلا حين انعكس الأمر أي حين أصبح الخليفة الذي هو رأس السلطة السياسية يعين من قبل القادة العسكريين الذين سيتحكمون بالتالي بجميع القرارات والاتجاهات الكبرى للدولة.
ج_ ان القرارات التكتيكية متروكة للقادة العسكريين أنفسهم دون تدخل السلطة السياسية بأحداث المعارك أو توزيع الفرق والألوية ومواضع مبيتها وأوقات تنقلاتها.
22_ بعد وفاة الرسول مباشرة فصل القضاء عن السلطة السياسية فحتى حين تولّى أبو بكر الخلافة كان القضاء من مهام عمر بن الخطاب. ونلاحظ هنا أن أهمية القضاء تأتي بالمرتبة الثانية بعد رئاسة الدولة بالنسبة للسلطة السياسية وقد تطور هذا المفهوم بعد ذلك بظهور الفقه حيث كان الفقهاء يمثلون السلطة التشريعية "اللوائح القانونية" ومن هنا نرى أن الأوائل من الفقهاء كان لهم دور رئيسي في قيادة الدولة من الناحية التشريعية وقد كان الفقهاء الخمسة منارات هدى مضيئة ناصعة عظيمة في الحضارة العربية الإسلامية ولكنهم اجتهدوا لمجتمعهم ولم يجتهدوا لنا وإنما تكمن مشكلتنا الآن في استمرارية الاعتماد عليهم.
إلاّ أنه بعد عصر الفقهاء الخمسة أدى الفقهاء اللاحقون وخاصة مع بداية عصور الانحطاط دور تحنيط التشريع ودور تجميد الفكر والحؤول دون تحركه ونشاطه.
23_ وجود المرجع المعرفي والأخلاقي والجمالي الواحد لكل من السلطة والناس وهذا مما أتاح الجو لبداية بذور الديموقراطية السياسية حيث كان أي إنسان من الناس ذكراً كان أم انثى له الجرأة في سؤال الخليفة عن سلوك ما، ولولا وجود المرجع لما حصل هذا لأن الديموقراطية لا تقوم دون هذا المرجع.
24_ إعطاء المرأة حقوقها طبقاً للظروف الموضوعية السائدة ونسبة إلى العالم المحيط بها وذلك يعتبر بداية تحرير المرأة حيث ما حصل للمرأة في حياة النبي (ص) هو بداية التحرير وليس التحرير بكامله.
25_ بداية التغير في العلاقات الإنتاجية. هذه النقطة من أهم نقاط بحثنا، وتعتبر نقطة حاسمة في السلوك الاقتصادي الثوري وهو أنه لا يجوز إحداث تغيير مفاجىء في العلاقات الإنتاجية وفي وسائل الإنتاج. هذه النقطة التي استغلها اليسار الطفولي وهي: لماذا لم يأت التشريع الإسلامي في القرن السابع على تحرير كامل ونهائي للرق وإنهاء هذه المشكلة وإنما بدأ بحلها؟ جواب هذا السؤال تم اكتشافه في القرن العشرين فقط وهو أن إحداث تغييرات مفاجئة في وسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية يؤدي إلى كوارث قد تقصم ظهر الدولة. وكان الرق هو العمود الفقري للإنتاج. ثم تأتي العمالة بعد ذلك لتحل محل الرق. فالحل الأخلاقي في الرق كان ضرورياً، والاقتصادي كان متدرجاً. وقد حدث الحل الجذري للرق في عام 1860 في أمريكا فنتج عن ذلك حرب أهلية كادت أن تفتت الدولة علماً بأن هذا الحدث حصل بعد ما يزيد على 12 قرناً من ظهور الإسلام "القرن الثالث عشر الهجري". أما الحلول الجذرية فيمكن اتخاذها فيما يتعلق ببنية الدولة وفي إدارتها وفي سياستها بشكل خاص لأن من مهمات الثورة بعد مرحلة نجاحها وتسييس المجتمع، التنظير لتطوير مفاهيم المجتمع وفق الظروف الموضوعية المستجدة والتناقضات الجديدة وعلاقات التأثير والتأثر المتبادل الجديدة وذلك لخلق حركة دفع دائمة التطور حفاظاً على عجلة التقدم في المجتمع، ولتحاشي النكسات والتجمد والتحجر، مما يبرر الضرورة الدائمة للتغيير في البنية والإدارة والتشريع وحل التناقضات الجديدة التي لا تنتهي أبداً والشورى "الديموقراطية" وحرية التعبير عن الرأي هي أساس الأسس في هذا التطور.
26_ الالتزام الكامل بالوعود التي تقطعها الثورة للناس وعدم النكال بها "أي تطابق الأقوال والأفعال".
27_ إبرام معاهدات مرحلية من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي وخفض عدد الأعداء إلى الحد الأدنى "معاهدة النبي مع يهود يثرب لأن المعركة الأساسية كانت مع مشركي العرب" "صلح الحديبية".
28_ اعتبار القتال آخر حل يمكن اللجوء إليه، وفي حال وجود حلول أخرى لكسب المعركة فإنها هي التي تتبنى "المؤلفة قلوبهم".
29_ ممارسة الديموقراطية "الشورى" في كل أبعادها الممكنة في ذاك الوقت في الأمور التي لا تتعلق بالوحي (وأَمرُهُم شورى بينهم). (الشورى/ 38). (وشاورهُم في الأمر) (آل عمران 159). حيث أن عقيدة التسبيح "التطور" في الوجود والحركة بين الحدود في التشريع هي أساس الوحدة الوطنية التي تحتمل الديموقراطية في المعرفة وفي التشريع.
30_ عدم اللجوء إلى الإجراءات الانتقامية عند النصر والتمكن من العدو، لأن الدول لا تبنى على الحقد والانتقام (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم بهِ ولئن صَبَرتُم لَهُوَ خيرٌ للصّابرين). (النحل 126)
ونرى هذا في أن النبي (ص) عفا عمن آذاه في حال الإمكانية.
31_ صياغة مفاهيم وطنية تأخذ كل إيجابيات القومية العربية في الجاهلية مضافاً إليها مفاهيم الإسلام في العقيدة والمعاملة والأخلاق.
--------------------------
المصدر : الكتاب والقرآن قراءة معاصرة

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة