موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

محمد رضوان
الحدود السياسية في التصور الإسلامي

 

يقترب الخطاب الاسلامي من نظيره القومي في موقفه من الوضعية الحدودية الحالية بالعالم العربي والاسلامي، بحيث يرفض هذا التصور وجود ظاهرة الحدود السياسية التي يرجعها _هو الآخر _ إلى مخلفات القوى الاستعمارية الاروبية بالعالم الاسلامي قصد تجزئته وإضعافه...
ولعل تحليل الخطاب الاسلامي المتعلق بظاهرة الحدود يكشف بجلاء أن هذا الخطاب تحكمه ثلاثة اعتبارات أساسية تتصل أولا بالتجربة التاريخية للتنظيم السياسي لإقليم الدولة في الإسلام، وثانيا بالانتاج الفقهي النظري المرتبط بما ينبغي أن يكون عليه إقليم الدولة الاسلامية، كما تتصل هذه الاعتبارات من ناحية ثالثة بطبيعة تفاعل العالم الاسلامي مع الحركة الاستعمارية التي اجتاحت منذ منتصف القرن الماضي.
إن التجربة التي خبرها المسلمون _منذ فجر الدعوة الاسلامية _ في مجال التنظيم السياسي والاجتماعي لا تتضمن ما يوحي بتعرف المسلمين على ظاهرة الحدود أو ما يشبهها في صيغتها الحالية. وإن كانت بعض التنظيمات السياسية التي عرفها التاريخ الاسلامي قد تضمنت بعض المفاهيم القريبة من أشكال الحدود كالتخوم والثغور التي كانت وظيفتها دفاعية بالدرجة الاولى.
كما شكلت التجربة التأريخية للمسلمين، التي تخللتها عمليات الفتوحات المتواصلة للعديد من الاقاليم إلى غاية عهد الحكم العثماني، عاملا تاريخيا آخر في عدم استقرار التنظيم السياسي للمجال الاقليمي لدى المسلمين، بحيث ظل المعيار الاساسي لانتماء المسلمين لا يمت بصلة إلى المجال الجغرافي أو الاقليمي وإنما ظل يتحدد باستمرار في الانتماء إلى المجال العقائدي والديني.
وهكذا، كان الخطاب الاسلامي يحرص على تكريس مفهوم الانتماء إلى "الأمة" بمفهومها الديني وليس إلى الاقليم، وذلك بهدف توحيد المجموعات البشرية المختلفة والمنتمية عبر الاقطار إلى العقيدة الدينية الاسلامية وإدماجها على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي فضلاً عن وحدتها الثقافية.
ويعود هذا الموقف إلى قناعة أصحابه بأن الاسلام كغيره من الديانات الاخرى، يعد مناهضا لكل أنواع التقسيم والتجزئة داخل نمط تنظيمه السياسي والاجتماعي، مما دفع البعض إلى تقديمه كفكر "يرفض الحدود" ويناهضها.
ومما يعزز رفض هؤلاء للحدود كذلك كون المسلمين عملوا _عبر مراحل التاريخ _ على توسيع قاعدة "الأمة" على أوسع نطاق جغرافي وبشري ممكن، وقاموا منذ نشوء أول دولة لهم بالمدينة بتعبئة الجنود لتمديد رقعة هذه الدولة الجديدة إلى أن أصبحت تمتد إلى أقصى غرب البحر الابيض المتوسط وأقصى مناطق آسيا كالسند وبخارى وخوارزم وسمرقند..
ويبدوا أن لحدود دار الاسلام وظيفة دفاعية مؤقتة، فوجودها ضروري ومؤكد وتحصينها وتقويتها واجب في أوقات الضعف والخوف في حال قوة ومناعة هذه الدار وقدرة أفرادها على التوسع والتغلغل في دار الحرب، ونظرا لهذا الدور الذي تلعبه الحدود، فإنها عرفت تنظيما ماليا وإداريا متميزا من التنظيمات والدول الاسلامية التي تعاقبت عبر التاريخ.
وقد كان قيام بعض الدويلات داخل البلاد الاسلامية أثناء عملية تفكك هذه الاخيرة، لا يعبر عن أي مظهر من مظاهر الانتقال إلى حالة التفتت الاقطاعي والتجزئة الشبيهة بتجزئة العصور الوسطى في أوربا، إذ كان الاتجاه الغالب _في ظل هذا الوضع المتفكك _ يتمثل دائما في حركة "الانجذاب نحو المركزة" وذلك ضمن سلسلة الانتقال من الوحدة إلى التجزئة ثم عودة الوحدة فالتجزئة فالوحدة... وهكذا دواليك.
وحسب هذا التصور، فإن البلاد الاسلامية التي ظلت في الغالب ممتدة "من المغرب على شاطىء الاطلسي حتى الخليج العربي تحت سلطة مركزية واحدة، ولم تكن هناك أية حدود سياسية فيما بين هذه الاقطار، "لم تعرف الحدود السياسية في أشكالها الحالية إلا على يد الاستعمار الغربي الذي قسم ديار الاسلام ووضع بينها الحدود المصطنعة والاسلاك الشائكة".
وتتعامل رموز الحركات الاسلامية المعاصرة مع إشكالية الحدود السياسية بنفس الموقف والمنظور الوارد في أدبيات الفقه السياسي التقليدي، مع توظيف مفاهيم حديثة عوض تلك التي كانت تستعمل في كتابات الفقه السلفية، فبدل الحديث عن وحدة دار الاسلام يجري الحديث في التصور الاسلامي المعاصر عن وحدة العالم الاسلامي، أو وحدة الوطن الاسلامي أو الجامعة الاسلامية.
وتحرص رموز هذه الحركات على التأكيد على أنه لا ينبغي الالتفات إلى الحدود السياسية القائمة حاليا ما دامت الدول الاسلامية "تعتبر كلها وطنا للمسلمين لا فرق بينها وهي في آسيا أو في إفريقيا أو في أي مكان آخر، إذ المسلمون أمة واحدة يجب أن تكون متآخية متشابكة، فهي تتجه إلى رب واحد وقبلة واحدة وتدين بدين واحد، وتتلو كتابا واحدا.. وهي أمة واحدة في المعترك الدولي.
وإذا كان تعدد الاوطان والدول الاسلامية يوحي بتعدد الحدود الفاصلة والمميزة لكل وطن على حدة، فإن المفهوم السياسي الحديث للوطن يعد هو الآخر مرفوضا في هذا التصور، وبالتالي فإنه لا ينبغي الحنين إلى هذا النموذج من التنظيم الذي يجسده مفهوم الوطن، والذي يعد من مفاهيم الفكر السياسي الغربي، كما لا ينبغي الدفاع عن مثل هذا التنظيم والارتباط به وحمل جنسيته والاخلاص والولاء له، بحيث إنه ليس هناك _حسب هذا التصور _ إلا "دار واحدة هي دار الاسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله وتقام فيها حدوده، ويتولى فيها المسلمون بعضهم بعضا، وما عداها فهو دار حرب، علاقة المسلم بها إما القتال وإما المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام".
إن هذا هو التعريف لما ينبغي أن يكون عليه "الوطن الاسلامي" وما يوحي به صراحة من عدم اعتراف بالحدود السياسية القائمة حاليا، وكذلك نفي المعايير الحديثة للمواطنة ما دام أنه "لا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوا في الامة المسلمة".
وهكذا، فإن تصور "وطن إسلامي" خال من الحدود يضم مجتمعا إسلاميا موحدا، ليس فقط مجرد صورة تاريخية مثالية يتم البحث عنها في ذكريات الماضي، وإنما أيضا حاجة ملحة وضرورة يفرضها الحاضر وأمل المستقبل، بحيث ينبغي تحقيق هذا الامل بنفس الطريقة التي أنجز بها في التاريخ الاسلامي القديم، أي عن طريق الدعوة والجهاد.
----------------------------
المصدر : منازعات الحدود في العالم العربي

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة