موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

السيد محمد حسين فضل الله
العلاقات الاسلامية المسيحية

 

نقاط لا بد منها للحديث عن العلاقات بين المسلمسن والمسيحيين
النقطة الاولى: إن هناك في القرآن في الكلمات المتداولة، حديثاً سلبياً عن أهل الكتاب، من حيث نعتهم بالكافرين تارة وبالمشركين تارة أخرى، فكيف ينسجم ذلك مع الحديث عن لقاء الإيمان بالله الواحد، وعن التكامل في الدعوة الى القيم الروحية الإيمانية؟. وقد يتابع البعض الحديث بأن النظرة القرآنية منطلقة من نماذج نصرانية في عهد الدعوة لا تلتقي في مفهومها الديني بالنصرانية أو المسيحية المعاصرة، لأن القرآن يتحدث عن النصارى الذين يقولون: (المسيح ابن الله)، ويؤكد النفي بالتأكيد على الحقيقة التوحيدية لديه (أنى يكون له ولد ولم يكن له صاحبة). أو (لم يلد ولم يولد)، ليكون الموقف الحاسم في نفي نبوة المسيح على أساس مفهوم النبوة الحسية من خلال المضمون الجسدي للكلمة في ما تعبر عنه كلمة "الولادة". بينما لا يتلزم المسيحيون بكلمة، "ولد الله". بل يتحدثون عن "ابن الله" ليؤكدوا أن مفهوم النبوة لا يتصل دائماً بالصاحبة أو ما الى ذلك. فهو ينفي ما لا يثبته المسيحيون لأنهم يتفقون مع النظرة الاسلامية في نفي الوالدية والمولودية بالمعنى الحسي، لتكون النبوة مرتبطة بالجانب المعنوي الذي هو سر الله ليكون الابن من الاب كالكلمة من المتكلم، والفكرة من الفكر في تعددية لا تنفي الوحدة.
ويحدثونك عن الآية الكريمة (لا تقولوا ثلاثة انتهوا.. إنما هو إله واحدٌ سبحانه ان يكون له ولد). وذلك على أساس تفسير الجلالين الذي يتحدث عن الثلاثة في الآية ان المقصود بهم "الله وعيسى وأمه"، وعن الآية الكريمة الاخرى في سورة المائدة (إذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله)، ليقولوا إنهم ليسوا معنيين بهذه الآية، لأن احداً من المسيحيين لم يتخذ مريم إلالهة، وقد يكون بعض العرب قال هذا... فلا يجوز ان نحمّل المسيحية وزر هذا الزعم في المطلق.
***
ونجيب عن ذلك للتوضيح لا للجدل، أن كلمة الكفر لا تنطلق من نفي ايمان المسيحيين بالله، لأن القرآن يؤكد هذا الايمان عندما يتحدث عن الكلمة السواء وعن توحيد الله في مضمون هذه الكلمة، بل تنطلق من الكفر بالرسول محمد باعتبار أن المسيحيين لا يؤمنون به كرسول من قبل الله. مع ملاحظة أن الكفر بالرسول يجعل الانسان كافراً من هذه الناحية. لأن الكفر والايمان عنوانان نسبيان، فهناك كفر أو ايمان يتنوع حسب تنوع موارده. فقد يكون الانسان كافراً بالنسبة الى شيء، ومؤمنا بالنسبة الى شي آخر، فنحن نؤمن بالله ونكفر بالطاغوت.
هذا من جهة... ومن جهة أخرى، فإن القرآن الكريم قد تحدث عن ربوبية السيد المسيح على اساس نظرية التجسد أو التجلي أو نحو ذلك، بحيث يختزن الانسان في وعيه صورة الله في صورة السيد المسيح، واعتبر ذلك كفراً، لأنه يخالف الحقيقية التوحيدية، من وجه المفهوم القرآني _الذي ينكر التجسد الالهي، أو التجلي في بعض خلقه، وبذلك فإن هذه العقيدة تخالف بساطة المفهوم العقيدي للتوحيد، مما يجعله كفراً فلسفياً في التفاصيل بلحاظ الصفات. تماماً كما هو الرأي الكلامي أو الفقهي الذي يرى المجسمة في الدائرة الاسلامية كافرين بالمعنى العميق.
وفي ضوء ذلك فإن الكفر لا يتصل بالمبدأ، تماماً كما هي نسبة الصفة للكافرين بالله المنكرين وجوده، ولكنه كفر فلسفي، أو نسبي، بالمعنى الذي يفقد الإيمان بالمعنى التوحيدي في حقيقته بحسب المفهوم القرآني.
أمّا الحديث عما توحي به الآية الكريمة (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)، فليس كما يتصور بعض علماء المسيحيين في ظهورها في وجود جماعة تقول بألوهية العذراء مريم عليها السلام. مع أن هذا القول لا أساس له، كما ان المسيحية الحاضرة لا تعرفه، ولا تؤمن به من قريب أو بعيد.
أما هذا الحديث الذي يحاول صاحبه الإيحاء بأن الآيات القرآنية لا تتحدث عن مسيحية معروفة، مما يجعل المسألة في حديث الاسلام عن المسيحية غير ذات موضوع، فيرده.
صاحب تفسير المنار يقول: "إن عبادتها كانت متفقاً عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الاسلام بعدة قرون.." ثم يقول: "إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (ع)، منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صياح ينسب اليها وسمي باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، وباعتقاد السلطة الغيبية لها، التي يمكنها بها في اعتقادهم ان تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بواسطتها او بواسطة ابنها. وقد صرّحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم اطلاق كلمة "إله" عليها بل يسمونها "والدة الاله"، ويصرّح بعض فرقهم أنّ ذلك حقيقة لا مجاز".
***
النقطة الثانية: إن بعض علماء المسيحيين يأخذون على علماء المسلمين، أنهم يتحدثون مع المسيحيين عن كون المسيحية لا تتضمن في داخلها نظاماً للدولة وشريعة للحياة، بينما يتضمن الاسلام ذلك كله. ولذلك فإن الاسلام _الدولة، لا ينفي المسيحية في هذا الجانب ولا يتعارض معها، فلا مانع للمسيحي، من وجهة نظر دينية، أن يعيش في داخل الدولة الاسلامية، ويتحرك في داخل نفوذها القانوني من دون مشكلة في طبيعة الإلتزام الديني.
ويعلقون على ذلك بأنهم لا يوافقون على قدسية النظام الاسلامي الذي يعتبره المسلمون منزلاً، بينما يعتبره المسيحيون نظاماً بشرياً خاضعاً لظروف تاريخية معينة في تفاصيله القانونية التي قد تكون عناوينها العامة إلهية، كالعدالة التي تمثل إرادة الله في واقع الانسان، ولكن جزئياتها التطبيقية في الشريعة الاسلامية قابلة للنقاش والتغيير والتبديل تبعاً للمصالح الانسانية المتغيرة تبعاً لتغير الظروف في الزمن.
ويضيفون إلى ذلك أن فقدان المسيحية للنظام التفصيلي والشريعة الثابتة لا يمثل نقطة ضعف فيها، بل يُعتبر نقطة قوّة. لأن ذلك يعني احترام الإرادة الانسانية في تنظيم أوضاعها، وتلبية حاجاتها، وحل مشاكلها من دون ضغط قانوني يحصرها في نطاق النصوص الثابتة لعالم متغيّر. ولذلك فإن النظام المسيحي العام هو الخط الانساني العام المتحرك في قضايا الانسان في اجتهاداته القانونية المنطلقة من حركة الحياة في واقع الانسان القائمة على احترام الناس في تنوعاتهم وأوضاعهم المختلفة.
***
اننا نعلّق على ذلك، بالقول إننا لم نتحدث عن هذه المسألة من موقع التأكيد على إلهية النظام كخيار إيماني في واقع المسيحيين الذي يعيشون في داخل الدولة الاسلامية، لأننا نعلم أن ذلك ليس وارداً في الايمان المسيحي الذي لا يعترف بتفاصيل الإيمان الاسلامي في بعض شؤون العقيدة وكل شؤون الشريعة. ولكننا نقول: إن الخضوع او الانسجام مع النظام الاسلامي لا يتعارضان مع الايمان المسيحي في واقع الالتزام ولا يمثلان حالة مضادةً لنظام آخر. بينما يتعارض الإيمان الاسلامي، في الشريعة والمنهج في الواقع القانوني، مع أيّ نظام علماني وضعيّ يختلف عن الشريعة الاسلامية في التفاصيل أو في المبدأ، مما يمثل مشكلةً للإنسان المسلم الذي يعيش الإزدواجية العملية بين ما هي الشريعة، وبين ما هو القانون، باعتبار أن مخالفة الشريعة حرام على المسلم حتى في الواقع القانوني غير الاسلامي في الدولة العلمانية.
واذا كان المسيحيون _في إيمانهم الديني _ يلتزمون بكلمة الله، فإنهم يختزنون في داخلهم، ككل المؤمنين، حقيقة قوامها أن ما يشرعه الله هو المصلحة. ولذلك نراهم يلتزمون وحدة الزوجة، وينكرون التعدد، ويحرمون الطلاق إلا في ظروف معينة.ويحرّمون الإجهاض، ويلتزمون بالوصايا العشر، مما يؤكد الالتزام بهذه القوانين باعتبارها منطلقة من إرادة إلهية بعيداً عن مسألة الحرية، وهكذا في المسائل الإيمانية.
***
النقطة الثالثة: إن الدولة الإسلامية التي يختزن المسلمون مضمونها الفقهي في وعيهم الديني، إن هذه الدولة _المشروع، لا يرتاح إليها المسيحيون لأنها لا تمنحهم المساواة في الحقوق والواجبات. فهم مواطنون من الدرجة الثانية، لأنهم لا يشاركون في صنع القرار، ولا يساهمون في عملية التشريع، ولا يشرعون _من الناحية القانونية _ بالوضع الطبيعي لوجودهم، على أساس أنهم في ذمة المسلمين وعهدهم، لا على أساس أنهم يمثلون انسانيةً مستقلّة. وهذا ما لا يرتضونه لأنفسهم كبشر أحرار يحبون العيش في دولة حرّة لا تفرّق بين المواطنين.
ولكن المسألة ليست بهذه الصورة القائمة، فالدولة الاسلامية لا تفرق بين مواطنيها في مواطنيتهم إلا بالمدى الذي يلتزمون فيه بالخط العام للدولة، في الفكر الذي يرتكز عليه اساسها. ولهذا فإن الذين لا يلتزمون بفكرها العام لا دور لهم في القرارات المصيرية القائمة على هذا الفكر، على مستوى العلاقات والتشريعات التي لابدّ أن تنطلق من القناعة بالأساس الذي ترتكز عليه الدولة. ولكنهم يعيشون مواطنيتهم مع الآخرين في الحقوق والواجبات، بحيث يشاركون في القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في ما عدا الجوانب العسكرية التي قد تصطدم بقناعات هؤلاء، لأنها قد تدخل في حرب مع الذين يرتبطون معهم بدينهم، فلا تكون الحرب شرعية في وجدانهم الديني. وبذلك تتحول القضية إلى واقعية إنسانية بدلاً من أن تكون ضد ذلك. ومع ذلك، فإنها لا تمنعهم من المبادرة للاشتراك فيها مع الضوابط الأمنية العامة لحركة الحرب وأمن المحاربين.
أما مسألة الذمة والحماية، فإنها تمثل انفتاح الدولة على مسؤوليتها في الحفاظ على إنسانيتهم من كل عدوان، وعلى تنظيم علاقاتهم بالناس الآخرين الذين يلتقون معهم في المواطنية، ولكنهم يختلفون عنهم في القاعدة الفكرية الدينية، في دلالاتها وإيحاءاتها وأوضاعها العامة. فلا تريد لهم الدولة الاسلامية أن يتعقدوا في داخلها مما قد يحدث لهم من الناس الذي يختلفون معهم في الدين، تماماً كما هي مسؤولية الدولة _بقواها الذاتية _ عن كل مواطن في داخلها ليكون في حمايتها ورعايتها وفي ذمتها وعهدها، باعتبار أن المضمون الإسلامي للدولة هو ميثاق بينها وبين رعيتها في أن ينسجموا مع نظامها في مقابل كفالتها تدبير أمورهم وحمايتهم من كل عدوان داخلي أو خارجي عليهم، من دون أن ينتقص ذلك من إنسانيتهم.
***
النقطة الرابعة: إن هناك حديثاً يتردد بين علماء المسيحيين حول حرية البحث والمناقشة في تفاصيل النص القرآني من الناحية الفكرية في مفاهيمه العامة، أو من الناحية التاريخية في تقريره لبعض الأوضاع الكونية، مثل خلق السماوات والارض في ستة أيام، ليؤكدوا أن المسيحيين قبلوا المناقشة التاريخية في هذه النظرية الواردة في الكتاب المقدس على أساس النظريات العلمية التي تنفي ذلك أو تناقشه. وقالوا: إن أيام الخليفة ليست ستة ايام، وإن الكون حسب النظريات السائدة _وُجد منذ أربعة عشر أو ستة عشر مليار سنة، وأن كل كلام غير هذا الكلام هو كلام شعري لا علاقة له بالعلم، فهذا هو سبيل النقد التاريخي بمعنى التحليل في السياق التاريخي.
ويتساءلون _بعد ذلك _ هل يمكن أن نطبق النقد التاريخي على القرآن الكريم كما نطبقه على الكتاب المقدس ليكون الحوار حراً في الدائرة العلمية الدقيقة؟
نلاحظ في ذلك، أن علماء المسلمين دخلوا في مناقشات علمية في مفاهيم القرآن أكثر حدّة وقساوة على الايمان من المناقشة في الجانب التاريخي فيه. وذلك في المسائل المتعلقة بالإيمان، كالتجسيم والجبر ونحو ذلك، فانطلقوا في خط التأويل للظواهر في المسائل التي تختلف مع العقل القطعي، او الحجة الفكرية، مما يجعل مناقشة التاريخ القرآني ممكنةً في المنهج العقلي الاسلامي الذي يعمد الى التأويل المنسجم مع السياق المجازي للقرآن على أساس القواعد العربية البلاغية العامة.
وإذا كنّا نركز على مسألة عمر الكون، فإن من الممكن تحديد اليوم بما يزيد على حجمه الزمني في عرفنا الوجداني، فإذا كان الله يتحدث عن يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، أو كان مقداره خمسين ألف سنة في يوم القيامة، فمن الممكن أن يكون الحديث في بداية الكون عن يوم يمثل ملياراً أو أكثر من السنين. لا سيما أن الشمس لم تكن مخلوقةً في ذلك الدور، فلا مجال لتحديد اليوم بلحاظها، وبهذا لا يكون التحليل التاريخ العلمي مناقضاً للنص القرآني.
-------------------------------
المصدر : قراءات مرجعية

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة