موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د.حيدر إبراهيم علي
شكل الدولة: دينية أم مدنية أم إسلامية؟

كان سقوط الخلافة العثمانية وإلغاء الخلافة واقعياً، حيث تبين من تطور الأحداث استحالة عودة الخلافة، وأن السعي لإصلاح الحكم هو السبب في ظهور اتجاهات جديدة تحاول التنظير لدولة إسلامية تعيش متغيرات العصر الظروف المستجدة التي تطالب المفكرين الإسلاميين عموماً بالوصول إلى نظرية للحكم والسلطة والدولة تتسم بخصوصيتها وحداثتها معاً. مثل هذه النظرية تحتاج إلى اجتهاد جديد يتجاوز الحديث حول ضرورة وجود شكل للحكم وتنظيم البشر، وبالتالي اعتبار الأشكال التقليدية، مثل القبيلة أو الخلافة ، هي نواة دولة أو نسخة بدائية للدولة، أي اجتهاد حديث لا بد له من الانطلاق من فرصية أن الدولة الوطنية الحديثة ذات فلسفة ونظم وآليات تختلف نوعياً عن كل الأشكال التي سبقتها، حتى تلك التي وجدت في التاريخ الأوروبي. لذلك نلاحظ أن كتابات ما بعد الحرب العالمية الأولى حرصت على إبراز التمايز والمعاصرة في الفكر الإسلامي. وأعتقد أن البحث عن مفاهيم خاصة بالمجتعمات الإسلامية كان من المساهمات المتميزة رمزياً. بمعنى تأكيد الخاص الذي يحدد الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر، إذ يصعب الحديث عن خلافة أو إمامة أو سلطنة، وفي الوقت نفسه قد لا تتسق الليبرالية والديمقراطية والقومية تماماً مع مثال الدولة الإسلامية الصحيحة أو الأصيلة.
توصل الشيخ حسن البنا إلى مفهوم للدولة الإسلامية المعاصرة يرتكز على فكرة شمولية الإسلام، لذلك استعمل مصطلح "النظام الإسلامي". وتحت هذا العنوان بحث قضايا الحكم والاقتصاد والمجتمع، وركز على هذه القضايا في مجموعة الرسائل ضمن الجزء المعنون "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي". ولم يستعمل كثيراً مفهوم الدولة الإسلامية في كتاباته، بل استعمل كلمة "حكومة" مجردة، ولم ينسبها إلى الإسلام، بل اكتفى بمفهوم النظام الإسلامي. وبحسب أحد الباحثين، "يرجع أصل مفهوم الدولة لدى البنا إلى الإسلام ذاته، فطبقاً لما سماه الفهم الشامل للإسلام أو ما أطلق عليه إسلام الإخوان المسلمين، يصبح تصور الدولة ركناً من أركان فهم الإسلام. ويحدد البنا دعائم الحكم الإسلامي في عمومية وغموض يعكسان غياب التنظير السياسي لدى الإسلاميين عموماً: "والحكومة في الإسلام تقوم على قواعد معروفة مقررة، هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي ... فهي تقوم على مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها". ويضيف: "والنظام الإسلامي في هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحكم صالحاً بدونها، ومتى طبقت تطبيقاً يحفظ التوازن بينها ولا يجعل بعضها يطغى على بعض. ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم". يلاحظ عدم الدخول في تحديد ضمانات موضوعية خارجية، فالضمان ذاتي تماماً، كما عرف الواقع عدم توازن القواعد، فكثيراً ما تتعارض وحدة الأمة مع احترام إرادتها، أو الاثنين معاً مع مسؤولية الحاكم. لذلك وجود إمام فاسق خير من الفتنة، كما أن وحدة الأمة مقدمة على الاختلاف والتعددية التي قد تكون مظهراً للديمقراطية وحرية الرأي. سوف نبين لاحقاً أن وحدة الأمة الإسلامية أولوية تطغى على الخيارات الأخرى لدى جماعات الإسلام السياسي.
يرى أحد دارسي فكر البنا "أن الدولة الإسلامية ليست واجبة لذاتها، وإنما هي واجبة لغيرها، أي أنها أداة ووسيلة غاية". ويجد منطقاً إسلامياً بسيطاً لهذا الفهم للدولة: "أنه إذا كان الله جل شأنه قد خلق الخلق أجمعين لعبادته، والكدح الدائم لملاقاته بعد الانتقال إلى الآخرة، فإن هذه الحياة الدنيا ـ بكل ما فيها ـ إن هي إلا معبرة ـ وسيلة للمرور إلى الآخرة، فهي مؤقتة، ولكن لابد منها، ولا تخرج الدولة كأحد أشكال التنظيم السياسي، عن هذا الحكم. ويفرق الباحثون بين الدولة المحايدة والدولة الغائية، على رغم أن لأية دولة غاية، ولكن الدولة المحايدة غالباً ما تجعل غايتها الصالح العام وقيمة الفرد، بينما في الدولة الغائية قيمة الفرد تقاس بحسب توجيهها نحو تحقيق غاية الدولة أو أهدافها التي قد لا يكون الأفراد مقتنعين بها. والدولة الغائية هي في كثير من الأحيان دولة إيديولوجيا مطلقة تسعى لتطبيقها مهما كانت التكلفة البشرية. ويؤكد الإسلامويون غائية الدولة الإسلامية بالرجوع إلى النص القرآني، إذ نجد آيات مثل: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)، كذلك نقرأ: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). ومن هنا: "طوّر دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية نظرية المقاصد والأهداف التي تجسد غاية الدولة بشكل واضح وكبير".
تكاد كتابات الإسلام السياسي تتفق حول غائية الدولة الإسلامية وتحاول تحديد هذه الغايات، وعلى رأسها إقامة الدين ونشر الدعوة من خلال السلطة والتربية، ومن الملاحظ أن أنصار الإسلام السياسي لا يهتمون بالفروق المذهبية، مثل اختلاف السنة والشيعة، ويغلبون اتفاقهم حول ضرورة عودة الإسلام قوياً في مواجهة قوى الاستكبار، وهذا غير ممكن من دون دولة إسلامية حقيقية، فوظيفة الدولة عند المفكرين الإسلاميين عموماً وبمختلف مذاهبهم، هي في الأساس، حفظ بيضة الإسلام. وفي الواقع المعاصر صارت الدولة الإسلامية ضرورية للدفاع وحفظ الدين. يقول السيد محمد حسين فضل الله: "إن التحديات الخطيرة، التي تواجه العالم الإسلامي، في عقيدته، وشريعته، وثورته وسياسته، واقتصاده وثقافته، وأمنه، تفرض على المسلمين، التطلع إلى إقامة دولة، أي دولة، تلتزم مواجهة هذه التحديات، من موقع الفكر الإسلامي قاعدة وشريعة وحركة، بحيث يكون النهج الإسلامي في استنتاج الفكر، هو المتبع الاجتهاد الفكري، بشرط أن تنطلق في حركتها السياسية من هذا الواقع [......]. ومن هنا فإن المفروض أن يفكر الإسلاميون على مستوى مراجع التقليد أو على مستوى الحركات الإسلامية، بإن الوقوف مع هذه الدولة الإسلامية، يمثل الوقوف مع حركة الدعوة الإسلامية وموقع متقدم، لأن الدولة تعطي الدعوة للإسلام، حركة عالمية من قاعدة القوة الكبيرة [...] كما تمثل الفرصة الكبيرة، لتطبيق الأحكام الشرعية المنطلقة من اجتهاد إسلامي، قد يختلفون معه في بعض نتائجه، أو في بعض تطبيقاته، ولكنهم لن يختلفوا في الإقرار بأنه ينطلق من القواعد الإسلامية المقررة".
أسهبت في الاستشهاد السابق، لأنه من أكثر النصوص تمثيلاً لفكرة الدولة الإسلامية الغائية. فهي دولة عالمية مسرحها العالم وليست دولة ـ وطنية قطرية لأنها تتبنى وتساند الدعوة غير المحددة بمكان معين. والهدف الثاني هو تطبيق الشريعة وأحكامها التي لا يصح الاختلاف حولها مبدئياً حتى لو شابها بعض جوانب القصور في التطبيق أو تسببت في بعض المشكلات المباشرة أو الجانبية بسبب هذه الأحكام. وهنا يبرز سؤال الأولوية: هل تظهر الديمقراطية كأولوية في هذه الأهداف والغاية؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فإنني أعتقد عدم وجود نقص في الرؤية، على أساس أن كل إيديولوجيا تتميز بخصائص معينة ليست بالضرورة متشابهة أو متطابقة مع الإيديولوجيات الأخرى. فقد ترفع إيديولوجيات من قيمة الحرية الشخصية والفردية، وقد ترفع أخرى من قيمة وحدة الأمة. وهنا قد تتداخل الأمور، فقد يرى بعضهم أن تحقيق غاية معينة قد يقود إلى تحقيق غايات أخرى. فقد يرى مفكر مسلم أن وحدة الأمة الإسلامية هي الطريق إلى تحقيق الحرية الفردية مثلاً. وكثيراً ما تفسر الآية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). ويحاول بعض الباحثين إيجاد توفيق وتلاؤم بين غائية الدولة وما يعنيه ذلك من تضحية بالفرد من أجل المثل العليا، وبين القيمة الإنسانية للفرد. فالدولة الغائية يصعب عليها إلا تكون استبدادية، إذ تفرض عليها بعض الظروف أحياناً أن تنزع أو تصادر أو تقيد الحريات. وهنا يقدم المسلمون معادلة دقيقة للدولة الإسلامية الغائية: "تختلف الدولة الإسلامية عن الدولة الاستبدادية في كونها تحافظ على حق الإنسان في تقرير مصيره، باعتبار كائناً حراً ومسؤولاً. كما تختلف عن الدول الديمقراطية الليبرالية في كونها ذات غايات، وليست محايدة، إزاء القيم الأخلاقية والإنسانية". هذا على مستوى التنظير، ولكن هل من الممكن تطبيق هذه المعادلة على أرض الواقع؟ أي الحفاظ على الحريات وتحقيق غايات الدولة؟
يبرز السؤال الذي يدور حوله جدل طويل لم ينته بعد: هل يعني أن الدولة التي تسعى لتحقيق غاية نشر الدعوة وتطبيق أحكام الشريعة هي دولة دينية؟ أو ما هي أوجه الاختلاف بين الدولة الدينية والدولة المدنية في الفكر الإسلامي؟ أو هل يمكن لدولة أن تجمع بين الفلسفتين: الدينية والمدنية من دون تناقض أو تعارض؟ وأي نقاش حول دينية السلطة يصبح مجدياً فقط حين نجيب عن الأسئلة الخاصة بمصدر السلطة في الدولة: من أين تستمد هذه الدولة سلطتها أو شرعيتها؟ والسؤال الثاني هو: ما هي وظيفة هذه الدولة؟ أي أن ينطلق من مصدر السلطة ووظيفة السلطة أو غايتها لتحديد دينية، أو مدنية، أو خصوصية هذه الدولة في الإسلام. هناك اتجاه عريض ضمن الإسلام السياسي يرفض هذا التساؤل من البداية، فنجد فهمي هويدي يسميه "السؤال الغلط"، حيث يقول: "إذا أردنا أن نحسن الظن بالذين وصفوا الدولة الإسلامية بأنها دولة دينية، ثم اعتبروها نقيضاً للدولة المدنية، فلن يكون أمامنا سوى مخرج واحد هو: إعذارهم باعتبارهم لا يعرفون دلالة تلك المصطلحات، الأمر الذي أوقعهم في الغلط، وأوردهم موارد الضلال من حيث لم يحتسبوا". ويتناول الجابري السؤال من زاوية مختلفة، فضمنياً يعني السؤال وجود فصل للدين عن الدولة أو للدولة عن الدين، وبالتالي ستعني عبارة فصل الدين عن الدولة أو العكس، وبالذات داخل المرجعية التراثية: "إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، وإما حرمان الإسلام من السلطة التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام" أو الاثنين معاً. ويمكن إقناع شخص يفكر من داخل المرجعية التراثية بأن المقصود ليس إنشاء دولة ملحدة ولا نزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع. ولكن من الصعب إقناعه بأن فصل الدين عن الدولة ليس معناه حرمان الإسلام من السلطة التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام، "وإذن يجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية وبين الهيئة الاجتماعية المسماة: الدولة. لماذا؟ لأن الدين في نظرة يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ، وأن الدولة هي "السلطة" التي يجب أن تتولى التنفيذ". لذلك يطالب بإعادة صياغة ووضع السؤال القائل: هل الإسلام دين ودولة؟ لأنه "لا يجد معناه الإسلامي، أي القابل لأن يجاب عنه من داخل التجربة الحضارية الإسلامية إلا إذا أعدنا صياغته بأن وضعنه فيه كلمة "أحكام" مكان كلمة "دين" وكلمة "سلطة" مكان كلمة "دولة". ويكون السؤال: "هل الإسلام أحكام (شرعية) وسلطة؟"، لأن الشكل الثابت الوحيد في التراث الإسلامي الذي يمكن أن يجيب عن السؤال، "هو أن هناك أحكاماً ينص على القرآن وتحتاج إلى "ولي الأمر" ليتولى تنفيذها نيابة عن الجماعة الإسلامية. ومفهوم "ولي الأمر" مفهوم متسع، إذ يصدق على رئيس العائلة وعلى رئيس القبيلة، كما يصدق على العلماء والفقهاء وعلى الحاكم المسلم في دار الإسلام، سواء كان والياً أو أميراً أو خليفة.
وقد أطلق شعار البنا "الإسلام دين ودولة"، الأسئلة والنقاشات من صندوق "باندورا" الفكري، ولكنها ليست كلها شريرة، وإن بقيت مفتوحة تترك مشكلات جديدة، وتتناسل أسئلة جديدة عوضاً من تقديم أجوبة مقنعة، وفي كثير من الأحيان، تتجاوز مثل هذه الشعارات الإيديولوجية الظروف التي أوجدتها، وتكتسب قدرة هائلة على التجدد والتحول بحسب أوضاع أخرى. فشعار البنا أوجدته ظروف العقد الثاني من هذا القرن، ولكنه تجدد ضمن ظروف مواجهة جديدة مع الغرب والضعف الداخلي. ونلاحظ أن هذا الشعار يدمج مدنية ودينية الدولة في الإسلام بطريقة تثير كثيراً من الالتباس. فهو يفسر أو يفهم من قبل بعضهم بأنه إقرار بدينية الدولة بشكل مطلق وكامل لا يمكن تلطيفه، ويرى عادل ضاهر في هذه المقولة ـ الشعار، أنه "لم يكن القصد منها الإشارة إلى وجود علاقة تاريخية بين الإسلام والسياسة، بل الإشارة إلى علاقة جوهرية مزعومة بين الاثنين. إن هذه العلاقة جوهرية إلى حد ما في نظر بعضهم، بحيث علينا أن نعتبر الدولة داخلة في الإسلام". إن الفهم السابق يتردد بين العلمانيين، ولكن للمفارقة، حتى الإسلامويون، من منظورهم، أعطوا الشعار تفسيراً يؤكد دينية الدولة، على رغم النفي المستمر لذلك. فقد اعترض بعض علماء الأزهر، مثل الشيخ نوار، على استعمال البنا التعبير بهذه الصيغة، على أساس أن استعماله واو العطف لا يفي بالمعنى المطلوب: "فإن هذا الاستعمال قد يوحي بوجود مغايرة بين الإسلام والدولة، بينما المطلوب، في نظر المعترضين، هو أن ندلل على أن الإسلام يتضمن، بحكم ماهيته، الدولة ولا يرتبط بها ارتباطاً موضوعياً أو واقعياً وحسب". فالعلاقة بين الإسلام والسياسة في رأيهم ـ بحسب ضاهر ـ هي أكثر من علاقة تاريخية أو موضوعية، بل هي علاقة منطقية أو مفهومية. والفرق بين التصنيفين هو أننا حين نقول علاقة تاريخية، فهذا يعني "أن الظروف التاريخية التي نشأ الإسلام في كنفها، وليس أي شيء يتعلق بطبيعة الاعتقادات الدينية للإسلام، هي التي أوجبت اتجاهه نحو إقامة دولة لغرض ترسيخ الدين".
ولكن هل يكتفي الإسلاميون عموماً بتاريخية العلاقة، أو يعتبرون أن علاقة الإسلام بالسياسة أو الدين بالدولة متضمنة في أصل الدين، وبالتالي تصبح مقولة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان أو مقام؟ إن اختيار المعنى الأخير، يعني، بالضرورة، دينية الدولة مهما كان النفي أو المبرر. ويتسم الفكر الإسلامي المعاصر عموماً (ويتضمن ذلك علماء الدين والفقهاء والدعاة وعناصر الإسلام السياسي، أي الإسلامويين، والمجددين والعصريين) بثنائية تصل إلى حد التناقض عند محاولة الإجابة عن سؤال أكانت الدولة التي يتصورونها دينية أم مدنية؟ فعلى سبيل المثال، يفلسف أحدهم كما يلي: ".. فإنه عندما قال لي قائل ذات يوم: "إنكم تريدونها دولة دينية" كان ردي بالنفي والإيجاب في آن واحد، حيث اعتبرت أنها ليست دينية قياساً على المفهوم السائد للمصطلح، ولكنها دينية، بمعنى أنها تقوم على أساس من الالتزام بمبادئ الإسلام". ولكن الأمر لا يقف عند حد الالتزام بمبادئ الإسلام، إذ يرى غالبية الإسلاميين، إن لم يكن جميعهم ولو بطريقة غير مباشرة، أن تأسيس هذه الدولة واجب أو فرض ديني، وأحياناً ركن من أركان الإسلام. ويمكن للمناقشة الآتية أن تدعم هذا الرأي، فقد كتب عمارة ـ وهو من أنشط الكتاب الإسلامويين وكثيف الإنتاج ـ يقول بأن الدولة، وليست فقط الخلافة، لا تعتبر ركناً ولا أصلاً من أركان الإسلام وأصوله. ولكنه يستطرد مستدركاً: "فكون الدول ليست ركناً الدين لا يعني انتفاء العلاقة بينهما على نحو ما يفهم العلمانيون. [...] فالقرآن الذي لم يفرض على المسلمين إقامة الدولة ـ كواجب ديني ـ قد فرض عليهم من الواجبات الدينية ما يستحيل عليهم القيام به والوفاء بحقوقه إذا هم لم يقيموا دولة الإسلام. فهناك من فرائض الإسلام وواجباته الدينية، حدود لابد لقيامها وإقامتها من الولاية والدولة والسلطة العامة والسلطان". ويرد عليه إسلاموي آخر بغضب: "... نقرر على الرغم من أن ذلك بديهية منطقية وقرآنية، أن إقامة الدولة (الإمامة) للمسلمين واجب ديني على الأمة الإسلامية لا تساس أمور دينهم ودنياهم إلا به، نقول هذا درءاً لأي مقال يصدر عن أي شخص يستهدف التهوين من المسؤولية الواجبة على المسلمين في إقامة هذا الحكم، أي الإمامة أو الدولة الإسلامية". ويتساءل عن الذي يعنيه عمارة بأن إقامة الدولة ليست ركناً من الدين لأنها لم تأت من أركان الدين الخمسة، ويشرح: "مع أن الحديث عن هذه الأركان الخمسة للإسلام يتعلق بإسلام الفرد لا الجماعة، لأنه من غير المعقول أن يقال للفرد المسلم إنه من أركان إسلامك كفرد إقامة الدولة، فهذا أمر لا يتوجه الحديث به إلا لجماعة".
إن مسألة دينية الدولة في الإسلام تثير إشكاليات منهجية عديدة، فعلى ماذا يرتكز المؤيدون أو الرافضون الفكرة؟ يدور منطق الرافضين لدينية الدولة الإسلامية حول خصوصية التاريخ الإسلامي ومبادئ الدين الإسلامي التي تختلف عن المسيحية كدين، والكنسية كمؤسسة، ودور رجال الدين، ولكن المؤيدون لدينية الدولة ينطلقون من المرجعية نفسها، فمن الواضح أن المناقشة تفند أو تدعم من خلال الاستشهاد والرجوع إلى الأصول، أي الكتاب والسنّة، أو إلى الفقه والتراث، أي التاريخ الديني، أو الواقع المعاصر والتأثيرات الخارجية. وهذا التقسيم لا يعني استبعاد اختيار ما، بل تتداخل عملياً العناصر الثلاثة في التحليل. فقد لاحظنا اللجوء إلى القرآن، ليس في آيات الشورى أو الحكم بما أنزل الله فقط، بل في الاستدلال بآيات استخلاف الإنسان والتمكين في الأرض. أما بالنسبة إلى السنة، فعمل الرسول نفسه، وليس أحاديثه، دليل على دينية الدولة. أما التاريخ والتراث، فيعطينا شواهد لا تنضب على خلفاء يؤكدون دينية الدولة، على سبيل المثال لا الحصر: هذا هو أبو جعفر المنصور على منبر عرفة، وفي يوم عرفة يقول في خطبته: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلاً: إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني". أما بالنسبة إلى التاريخ المعاصر، فالنقاش يدور أساساً حول المقارنة بين الدولة الدينية كما عرفتها المسيحية، والدولة الإسلامية، مع تركيز على مصطلحات مثل الثيوقراطية (Theocracy)، أي السلطة الدينية والزمنية حين تدمجان في سلطة واحدة. كذلك النقاش حول العلمنة كمقابل للدولة الإسلامية، وهذا تطور جديد، إذ يرى الإسلامويون أنفسهم في عيون الآخرين، من دون وعي أحياناً، حين يصرون على دحض المقارنة بين الدولة الإسلامية وبين الثيوقراطية أو العلمانية، فيمكن أيضاً أن نقول إن الدولة الإسلامية كانت دولة دينية، ولكنها تختلف عن دينية المسيحية والكنيسة. فكونها دينية لا يعني بالضرورة أنها صورة طبق الأصل عن الإمبراطورية الرومانية مثلاً. لذلك فإن نفي التشابه مع الدولة الدينية المسيحية (الثيوقراطية) لا يعني حتماً أن الدولة الإسلامية التاريخية مدنية بالمعنى المعاصر أو على الأقل غير دينية، إذا تجنبنا مصطلح مدنية الذي قد يفسر بالعلمانية. فهي في النهاية دولة دينية بطريقتها الخاصة، والتي تبحث عنها لتجعلها متميزة، وهي بالفعل متميزة في دينيتها التي قد تنشأ في ظروف معقدة مختلفة عن عهد مجتمع المدينة.
حين ينفي الأسلامويون عن الدولة المرجوة صفة الدينية والمدنية معاً، يحق لنا أن نتساءل: ما هي إذن؟ ردهم البدهي والسريع أنها إسلامية، ولكن هذا لا يكفي، لأنها تُنسب إلى دين يشمل السياسة وغير السياسة. ونحن هنا إزاء مصطلح سياسي هو الدولة، إذ لا بد أولاً من أن نحدد مضمونة السياسي الجوهري أو الأساسي، ثم ننسبه بعد ذلك إلى دين أو منطقة أو أسرة حاكمة مثلاً. لذلك نجد آراء عديدة تحاول تفسير وفهم هذا الشكل الخاص الذي يُدعى "الدولة الإسلامية"، من خلال نفي دينية الدولة، ومع ذلك تنسب إلى الدين الإسلامي. وتقوم هذه الفرضية المعقدة على أساس اختلاف الإسلام عن المسيحية، واقتصار المسيحية على العقيدة فقط. ويرتكز هذه الفكرة على تفسير قول للمسيح، غالباً ما ينتزع من سياقه التاريخي والأسباب المباشرة لقوله . فالقصة تذكر أن بعض الفريسيين أرسلوا إلى المسيح تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: "يا معلم، نَعلم أنك صادق وتُعلِّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن؟ أيجوز أن تعطي جزية لقيصر أم لا؟" فعلم يسوع خبثهم، وقال: "لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية". فقدموا له ديناراً. فقال لهم: "لمن هذه الصورة والكتابة؟" قالوا له: "لقيصر". فقال لهم: "أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله". فلما سمعوا وتركوه ومضوا. ويبدأ الإسلامويون في نفي الدينية عن الإسلام من هذه النقطة: "إن الإسلام: الدين لم يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أي لم يعتزل أمور الدولة والسياسة والمجتمع...وأيضاً هو لم يضع لدولة المسلمين النظم والقوانين والنظريات، وإنما اتخذ لنفسه موقفاً وسطاً في هذا الميدان ـ متسقاً في ذلك مع المنط الحضاري الذي يتميز به في العديد من الأمور". والكاتب هنا تصل إلى مصطلح جديد يفسر به إسلامية الدولة، ففي الإسلام لا يوجد لا فصل ولا وحدة في علاقة الدين والدولة وإنما تمييز، بمعنى أنه لم يضع النظم والنظريات والقوانين، إنما تركها للعقل والتجربة، ولكن وضع الفلسفة والمعايير والمقاصد التي تؤطر هذه النظريات والقوانين.
يواجه التفسير السابق سؤالين مهمين: فهل فصلت المسيحية حقيقة بين الدولة والدين؟ وهل ميزت الدولة الإسلامية تاريخياً بين الديني والمدني؟ السؤالان متداخلان، فكلا الإسلام والمسيحية لم يفصل بين الدين الدولة في الواقع. وفكرة التمايز في التطبيق الإسلامي أراد بها المنظرون الإسلامويون نفي التشابه بين المؤسسة الدينية الإسلامية والكهنوت المسيحي كما مثله نظام الإكليروس (Clergy). كذلك أرادوا تجنيب، الإسلام أخطاء رجال الدين الذين تسببوا في الإصلاح الديني، ثم العلمنة في ما بعد. ولكن التشابه أو التطابق قائم طالما ظل الاعتقاد بأن المسيحية دين سماوي. وهنا يعترف أحد منظري الإسلام السياسي بأن بداية المسيحية لم تختلف عن الإسلام: " والحق أن أوروبا ـ التي أثمرت سيرتها الحديثة مذهب عزل الدين عن السياسة، ثم بسطته في العالم قوة نفوذها السياسي ـ لم تجرب تناقضاً بين مقتضيات الإيمان الصحيح وحاجات الحياة العامة، وإنما عرفت صراعاً متطاولاً انتهى إلى طلاق بائن بين الكنيسة ـ من حيث هي المؤسسة التي يتمثل فيها الدين كله ـ والدولة بما هي مؤسسة سياسية تتمثل في الحكومات الملكية والجمهورية. وقد نشأ هذا الصراع في ظل النصرانية التي يرجع أصلها إلى بعثة المسيح عليه السلام. وإنما جاء المسيح داعياً إلى توحيد الله وتوحيد منهج الحياة عبادةً له وإسلاماً". ويرجع الفصل إلى دور الكنيسة كمؤسسة شوهت الدين واستغلت تعاليمه في سبيل تقوية سلطة رجال الدين في الإمبراطوريات والدول التي قامت. فلو آمنا بالأصل الواحد للمسيحية والإسلام كأديان توحيدية، فهذا يعني عدم الاختلاف بينهما في أساسيات عقدية.
إن أية محاولة للتعمق في فهم المسيحية يظهر أنها لم تفصل الدين عن الدولة. ونبدأ مع تساؤل العروي: "ألا يحق لنا أن نقول إن النصرانية دين ودولة؟ أو ليست ديناً يعيش في جانب دولة في نطاق مؤسسة مستقلة؟". ويصل إلى أسباب التمييز ويرجعها إلى خطأ في استعمال معنيين متباينين في تحديد كل دين. فالمستشرقون مثلاً، "عندما يقولون النصرانية دين فإنهم يعنون المعتقد، وعندما يقولون الإسلام دين ودولة، فإنهم يعنون الحضارة الإسلامية.. لو عنوا بالنصرانية حضارة محددة لوجب عليهم الاعتراف بأنها دين ودولة، كنيسة وإدارة، بابوية وإمبراطورية، ولو عنوا الإسلام المعتقد لوجب القول إنه دين فوق الدولة وما سواها". بالفعل، كانت المسيحية في البداية مجرد معتقد يتفادى الاصطدام مع السلطة السياسية، لذلك كان الحديث عن سلطتين، زمنية ودينية كما يدل على ذلك قول المسيح المأثور ـ الذي سبق ذكره عن قيصر ـ ورفض المسيح تقسيم إرث بين إخوة مختلفين قائلاً: "ومن أقامني بينكم قاضياً لأقسم بينكم الميراث؟"، كذلك يقول في موضع آخر: "وكل معاقب عليه في الأرض معاقب عليه في السماء". لذلك كانت المسيحية في البداية هي محاولة توفيق بين سلطتين: إحداهما زمنية، والأخرى دينية. ولكن الكنيسة طالبت المسيحيين بطاعة ولي الأمر، لأنه ما من سلطة إلا مصدرها الله، وعندما نطيعها إنما نطيع الله. وهذا ما استُند عليه في تبرير شرعية السلطة بدعوى أنها تستند إلى الحق الإلهي (Divine Right). واكتفت الكنيسة بالسلطة الروحية، ليس تماشياً مع أصوليات الدين، ولكن فرضت ذلك مقتضيات الواقع وميزان القوى ـ كما تقول لغة السياسة والحرب ـ عند بدايات ظهور المسيحية: "فالدولة لا تزال وثنية، وليس من تأثير للمسيحية عليها، كما ليس عليها من مآخذ، لاسيما أن هذه الدولة لا تهتم إلا بالأمور الدنيوية، في حين أن ما يهم المسيحيين هي أمور دينية محضة، وليس في ذهنهم أو في برنامجهم نظام سياسي معين يستبدلون به النظام القائم". فقد قبل المسيحيون بدور الدولة المنفصلة عن رعايتهم باعتبارات النظام الطبيعي، أي وجود سلطة تحفظ الأمن وتمكن المسيحيين أنفسهم من أداء شعائرهم الدينية. ولكن الأمور تتغير بعد أن اعتنق الإمبراطور المسيحية ولم تعد السلطة وثنية، فبعد أن كان المسيحيون يطيعون أوامر السلطة، ويصلون ويدعون للإمبراطور والإمبراطورية، فإن المرحلة التي أعقبت ذلك "ستتميز بأنها مرحلة محاولة رجال السلطة استمالة رجال الكنيسة إلى جانبهم، وكذلك محاولات رجال الكنيسة لانتزاع السلطة والقيادة من رجالات الدولة"، إلى أن وصل الوضع في القرون الوسطى إلى مطالبة بدمج السلطتين بهدف الوصول إلى مجتمع مثالي مسيحي من خلال التنسيق الكامل بين السلطتين الروحية والزمنية. وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في ما قاله البابا غريغوار الكبير (590-604): "ليست العبرة في أن يكون هناك ملك، لأن هنالك كثيراً من الملوك في العالم، وإنما العبرة في أن يكون هذا الملك كاثوليكياً، ولا قيمة ولا قوة للسلطة الزمنية إلا في كونها ترتكز على مبادئ دينية". وهذه هي الفكرة التي طورها القديس أوغسطين (354-430) في كتابه مدينة الرب الذي يقول فيه بإمكان تحويل العالم إلى "مملكة سماء" لاهوتية منظمة ومجتمع روحي من "المؤمنين المقدور لهم الإيمان منذ الأزل".
يتضح جلياً من التطور التاريخي للمسيحية عدم وجود خلاف بين رؤية المسيحية أو الإسلام للعلاقة بين الدين والدولة، أو السلطة السياسية. ويبدو لي أن هذا الاتفاق سببه عالمية الدين وضرورة انتشاره بين البشر، وهنا لابد من وجود سلطة منظِّمة ومحاربة ومدافعة عن وجودها. إن اصطدام وصراع الكنيسة مع المجتمع والدولة، أو العكس أيضاً، جاء بسبب التطور الاجتماعي في أوروبا، وبالذات صعود البرجوازية القادرة على انتزاع حقوقها من الكنيسة. ومن هذه الحقوق، حق العلم والتفكير وحق الملكية، وحق الحرية عامة. ومن هنا تعارض العلم مع العقيدة الدينية، وفصل السلطات مع الحق الإلهي، وقيام الدولة الوطنية مع حدود الإمبراطورية ومملكة الرب، وهكذا. ولذلك يبدو وكأن الإسلامويين ـ كما أسلفنا ـ يرفضون مصطلح الدولة الثيوقراطية على رغم وجود كثير من التشابه بين الدولتين الإسلامية والمسيحية. كما توجد بعض الاتجاهات في الفكر الإسلامي عموماً تقبل المصطلح مع التحفظات أو الإضافات والتعديلات في المضمون والمعنى. فالمودودي يفترض وجود شكلين للحكومات: ديمقراطية أو ثيوقراطية، ويبدو أنه انطلق من محاولة تحديد مصدر السلطة وطبيعتها وطريقة التشريع. فبعد أن يعدد خصائص الديمقراطية، يقول المودودي: "فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيراً كلمة الحكومة الإلهية (Theo -cracy)، ولكن الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافاً كلياً. فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة (Priest Class) مخصوصة، يشرعون للناس قانوناً من عند أنفسهم بحسب ما شاءت أهواؤهم وأغراضهم ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية".
وعلينا التوقف عند نظرية المودودي عن الثيوقراطية الإسلامية، لأن المودودي يعتبر مرجعية أساسية عند كل الحركات الإسلامية دون استثناء ـ مع بعض التعديل والتحوير عند من يسمون بالمعتدلين. فهو يعرف ويصف الثيوقراطية الإسلامية كما يلي: "أما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشائخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة الثيوقراطية الديمقراطية(Theo - democracy) أو الحكومة الإلهية الديقراطية". ويرى أن هذا "الطراز من الحكم يخول فيه للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة (Limited Popurlar Sovereignty)، وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب". ومن ناحية أخرى، "لا تتألف السلطة إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من منصبها، وكذلك جميع الشؤون التي لا يوجد عنها في الشريعة حكم صريح لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين". يلاحظ أن المودودي الذي يكتب بغير العربية، كثيراً ما يجد نفسه مضطراً إلى استعمال مفاهيم غربية لها تاريخها وتحددت واقعياً على مستوى الممارسة. ولكن الكاتبين باللغة العربية يستغلون مرونة العربية وثراءها في المترادفات والمتشابهات، فيوردون كثيراً من الكلمات وقليلاً من المفاهيم، أو يرد فيها كلام كثير وأفكار قليلة. ويلاحظ أن الكتابة باللغة الفارسية تقدم بدورها معاني تختلف عن العربية أو الإنكليزية أو الأوردية، وبالتالي ظل هذا المفهوم، أي الدولة الدينية (الثيوقراطية) من أكثر مصطلحات الفكر السياسي الإسلامي إبهاماً وغموضاً على رغم هذا الكم الهائل الذي كتب حوله.
رفض الفكر الإسلامي عموماً وصف النظام الإسلامي بأنه ثيوقراطي، على رغم تأكيد الطابع الديني المتميز للدولة الإسلامية. ويقوم هذا الرفض والنفي على المقارنة بين النظام الكهنوتي ـ الكنسي في المسيحية، وبين دور رجال الدين أو العلماء والفقهاء في الإسلام. كذلك البحث عن مصدر السلطة في الدولة الإسلامية والمسيحية، وبالتالي موقع التفويض الإلهي أو الحاكمية في هذه السلطة، تسعى كل محاولات تفسير العلاقة بين النظامين الغربي والإسلامي إلى نفي الثيوقراطية عن الدولة الإسلامية، وذلك من خلال انتقاء ـ مقصود أو غير مقصود ـ لجوانب معينة في الثيوقراطية لا يخلو منها الإسلام. فالسيد فضل الله مثلاً يرى الاختلاف في كون "الحكم الإسلامي ليس حكماً إلهياً مطلقاً بالمعنى الغربي"، ويشرح ذلك: "إن السلطة في الإسلام، لا تعني الحكم الإلهي الذي عرفه الغرب، باعتبار أن الحاكم يحكم باسم الله من خلال مزاجه وذاتيته، فالحاكم يحكم من خلال ما جعله الله له من موقع، ولكن ضمن البرنامج الذي وضعه الله فيه، والذي لا يستطيع أن يزيد في كلمة أو ينقص فيه كلمة". فنحن لا نتبين اختلافاً كبيراً لأن الضمانات في الحالتين ذاتية، ففي الحالة الأولى، أي الغربية، يمكن أن يوظف الحاكم تفويضه الإلهي في خير أمته. وفي الحالة الثانية، يمكن أن يحكم الخليفة بحسب نزواته وأهوائه، ثم ينسب ذلك إلى البرنامج الإلهي، كما ظهر في كثير من شواهد التاريخ الإسلامي. كذلك تضعف فكرة الحاكمية لله أو نظرية ولاية الفقيه، التمييز بين الثيوقراطية الغربية والدينية الإسلامية، بسبب تماهي الحاكم بالبرنامج.
يرى بعضهم أن مصدر السلطة يُميَّز بين النظام الثيوقراطي الغربي والنظام الديني، ففي الأول يتلقى الحاكم سلطته أما من رجال الدين أو من الحق الإلهي بوصفه ظل الله على الأرض. والمقصود بهذا عند كثيراً من الإسلاميين هو ادعاء شخص أو مؤسسة الحق في تفسير الدين وفهمه، مما يكسبهما حقوقاً سياسية وقانونية على أساس ديني. وهذا ما عناه الشيخ محمد عبده بقوله: "ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج "ثيوقراطي"، أي سلطان إلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى الإيمان، فليس للمؤمن الحق ما دام مؤمناً أن يخالفه". وهنا يبرز اتجاه قانوني واضح ضمن الفكر الإسلامي يحاول تفسير إشكالية التمايز، على رغم دينية الدولة الإسلامية، إذ يكتب كمال أبو المجد: " سوف نلاحظ أن خلطاً كبيراً قد وقع في الفكر العربي والإسلامي تداخلت بسببه قضية سند "شرعية السلطة" وأساس الطاعة التي يستحقها الرعاة على الرعية مع قضية النظام القانوني الذي يخضع له المجتمع المسلم بحكامه ومحكوميه، وهو نظام الشريعة الإسلامية". وهذا منهج ـ كما يقول صاحبه ـ يقوم على ضرورة التمييز بين قضية سند السلطة وقضية طبيعة النظام القانوني، ويهدف بذلك إلى نفي الدولة الدينية، وأن رضاء الشعب أو الأمة هو مصدر شرعية السلطة في الإسلام، ونجد الفكرة تأخذ المعنى التالي عند هويدي: "الفرق الأساسي بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية هو أن الأولى تقوم على فكرة أن الله هو مصدر السلطة، بينما في الثانية ـ الإسلامية ـ فإن الله مصدر القانون، بينما الأمة هي مصدر السلطة. ومن ثم فلا حصانة ولا عصمة لحاكم، وإنما القانون فوق الجميع، والحاكم في المقدمة منهم". ويفرق أيضاً بين مصدر السلطة ومصدر القانون بحسب المفهوم الإسلامي. وتتعدد الآراء في هذه الوجهة التي يوصف كتابها بالاعتدال في الموقف أو الاستنارة في الفهم، ولكنهم في النهاية يمثلون صفوة أو نخبة داخل حركة الإسلام السياسي، ولا يمتد أثرهم عميقاً أو بعيداً. وهنا أيضاً يقول محمد سليم العوا: تطبيق الشريعة لا ينبغي النظر إليه من زاوية علاقة الدين بالدولة، بل من زاوية علاقة الدين بالقانون، ذلك لأن إطار القانوني في أي بلد لا يجوز أن يخرج عن أو يخالف الإطار العام للقيم والأصول الدينية للمجتمع. وتنتهي هذه الآراء إلى القول بأن "الحكومة الإسلامية لا تستمد سلطتها من الله، بل من الجماعة الإسلامية التي تنصبها وتعزلها، متى أخلّت بشروط التعاقد، فهي مقيدة برأي الجماعة".
-----------------------------------------------
المصدر : التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة